حين يصبح العلم ضميرا وخلقا
شاع مؤخرا ما يطلق عليه “الثقافة العلمية”, واختلطت الأمور على كثيرين فى تعريف الثقافة, وأيضا فى إعادة تعريف العلم. ومنذ أنشئت فى المجلس الأعلى للثقافة لجنة سميت الثقافة العلمية والإشكال قائم حول تعريف هذا المفهوم (الثقافة العلمية), الذى يبدو وكأنه جديد. ومن خلال هذه المراجعة وتلك المناقشات, استبعد أن يكون هذا المفهوم هو مرادف لتبسيط العلم, أو تسويق المعلومات, أو التنبيه على ضرورة استعمال معطيات العلم الحديث, وما ترتب عليه من وسائل تكنولوجية أحدث.
مهمة الثقافة العلمية هى الإسهام فى تشكيل الوعى بحيث يصبح العلم – بمفهومه المتسع المتطور – متغيرا فاعلا فى صياغة الحياة اليومية وتطوير الجنس البشرى. من هذا المنطلق, فإن دور منظومة القيم السائدة فى تشكيل الوعى لا يمكن أن يستبعد أو يختزل تحت زعم أن العلم نشاط متعادل لا علاقة له بالأخلاق اللهم إلا فيما يتعلق بطريقة استعمال نتاج معطياته.
من هنا جاءت هذه الفكرة لمزيد من توضيح ماهية الثقافة العلمية, وعلاقتها بالقيم.
منطلق:
تنجح الثقافة العلمية فى مهمتها حين يصبح تواجدنا (أو تواجد أغلبنا) فى هذه الحياة, فى هذا الوقت من الزمان, متسقا مع ما هو علم بالمعنى الأشمل, فنجد أننا نتناول الأمور من منطلق “التفكير النقدى، والحوار المرن, وإمكانية المراجعة أو التراجع” وأننا نبتعد ما أمكن عن نقيض ذلك, أى عن الجمود الثابت, والخطاب الأحادى، وتقديس المعلومة, واختزال الوجود. هل هذه القيم قيم علمية , أم ثقافية, أم أخلاقية ؟ سبق أن أوضحنا اجتهادنا فى علاقة الأخلاق بالتفكير السليم, والبحث العلمى، فإذا جئنا إلى هذا المفهوم الأشمل, وفى نفس الوقت, الأكثر غموضا, فإننا يمكن أن نتبين كيف ارتبطت الأخلاق بالثقافة, بالقيم, بالمنهج العلمى، أكثر وأدق.
لا يكون الإنسان مشاركا فى الانتماء إلى ما هو ثقافة علمية بقدر زيادة معلوماته, أو أبحاثه, أو أرقامه, أو إحصاءاته, هذا دور العالم والمعلم.
”المعرفة القيمة” غير “المعرفة المعلومات”, غير “المعرفة المنهج”.
حين يصدر الإنسان قراراته, ويختار أسلوبه, ويطلق مسار نموه وهو فى رحاب المعرفة بمعنى الكشف فالتقييم فالمراجعة فالعود على بدء , فى إطار من المرونة والحوار, يصبح ممارسا يوميا لما هو ثقافة علمية . يصبح نوع تفكيره بهذه الطريقة أسلوبا تلقائيا يجرى وكأنه الطبيعة البشرية المتميزة, يصبح أمرا بديهيا أن تكون “أخلاق المعرفة والكشف” هى سمة من سمات الحياة الطبيعية, لاتكتمل الصيغة البشرية إلا بها.
كيف يكون ذلك؟ كيف يكون هذه المنهج الملتزم المتجاوز فى آن خلقا تلقائيا للأفراد فى حياتهم اليومية؟
إنما يكون العلم خلقا لا قشرة خارجية, ولا أداة رفاهية, ولا تفاخر موسوعية إذا تغلغل فى وجودنا, منذ الطفولة بطريقة سلسة ومتصاعدة حتى يصدر سلوكنا مصطبغا بقوانينه دون أن ندرى.
كيف يكون ذلك فعلا؟ ممارسة وتجليا وتفعيلا ؟
دعونا نتذكر أولا أن العلم هو أكبر بكثير مما يتصوره الشخص العادى، بل ربما يكون أكبر أيضا مما يتصوره العالم المتخصص نفسه, وهو كذلك أكبر من المعلومات التى تحتويها مختلف العلوم.
كذلك دعونا نتذكر أن العلم هو موقف فى الحياة, وهو طريقة فى التفكير ومنهج تعامل, وعملية كشف وراءها كشف, فمراجعة, فحوار فمراجعة وكشف, بلا نهاية.
ثم نتذكر أيضا علاقة العلم بالوعى وبالجمال .
ألا يضعنا كل ذلك فى بؤرة إشكالة ما هو علم , وما هو ثقافة علمية بالأخلاق؟
إن الثقافة هى شبكة الوجود المتغلغل فى لحم الحياة لمجموعة من البشر بحيث تسمح وتساعد أن يتصف كل (أو أغلب) أفراد هذه المجموعة بما يميزها.
إذا كانت هذه الشبكة مصنوعة بطريقة علمية, بمنهج علمى، وكان نسيجها من موضوعية المعرفة المرنة بحيث تحقق استمرارية التناسق القلق, والحركة البناءة والنقد المراجعة, فإن ما ينشأ منها ويعيش فى رحابها من خلق هو علم لا يتميز عن الخلق, وخلق لا ينفصل عما هو علم (بهذا المعنى الأشمل).
قد يحتج العلميون القح (بالمعنى التقليدى لذلك) على هذا التداخل منبهين أننا نجمع كل المعارف والمنظومات فى سلة واحدة نسميها “ثقافة علمية” ومن ثم ندخلها فى منظومة القيم ربما تحت اسم “المعرفة/القيمة”. قد يكون لهذا الاحتجاج ما يبرره فى مرحلة تاريخية سابقة حين تم فصل الأخلاق والجمال والوعى عن ماهو علم. آنذاك راحوا يوزعون”تركة الفلسفة”على غير مستحقيها.
أما وقد تمت الإفاقة وجار إحياء الفلسفة لتعاود موقعها ودورها فعلا يوميا, فإننا بسبيل إعادة الإسهام فى “تصنيع الثقافة بإرادة بشرية موضوعية”,ومن ثم تخليق قيم جديدة تليق بهذا التوليف الجديد بين مناهل المعرفة .
الآن نواجه بالتساؤل عن تفصيل فكرة كيف يكون العلم خلقا بهذا المعنى؟
نعرف الأخلاق أولا تعريفا انتقائيا يناسب موقفنا الراهن, لأن ذلك سوف يفيدنا فى تجنب الدخول فى إشكالية الاختلاف حول ماهية الخلق والأخلاق فنقول :
”إن الخلق (الأخلاق) هى جماع السلوك والمواقف التى تحدد العلاقات بين الإنسان ونفسه, وبين الانسان وغيره, بين الانسان و”ما بعده”, وبين الإنسان وربه”.
حين يكون هذا الخلق متسقا (هارمونيا) ومتصاعدا وممتدا ونابضا وفاعلا, توصف مثل هذه الأخلاق بأنها حسنة أو إيجابية.
وحين يكون هذا الجماع زائفا أو ناقصا أو نشازا أو متعسفا أو ضارا أو معطلا, توصف هذه الأخلاق بأنها سلبية أو سيئة.
إن هذا التعريف يربط بين الأخلاق وبين هارمونية الجمال وتناسق مستويات الوعى من ناحية, كما يربط بينها وبين مصداقية العلم الموضوعى من ناحية أخرى.
علينا, إذن – ليكون العلم خلقا طبيعيا – أن ننشيء الإنسان طفلا فيافعا فشابا فشيخا بطريقة تحافظ على حقه فى التدريب على ترتيب أفكاره, وإعادة ترتيبها, فى مرونة نابضة. بهذا يصبح عقله نشطا ناقدا دون أن ينفصل عن وجدانه أو واقعه. مثل هذا العقل يسلم ولا يستسلم لأى من كان دون استيضاح ونقد, ومثل هذا الفرد لا يقحم على وعيه (لا مرحليا واضطرارا) مالا يتفق مع القوانين الطبيعية التى لا يعرف تفاصيلها كاملة مسبقا.
بألفاظ أخرى: إن العلم يكون خلقا حين يصقل الجهاز البشرى بحيث يخرج منه أحسن ما تعد به قوانينه متكاملة بحيث يصبح وجدانا إيجابيا نابعا من موضوعية العلم.يصف شارل بودلير خيال الشاعر بأنه “أشد المواهب علمية, لأنه وحده الذى يفهم التجانس الكوني”.
يكون العلم خلقا حين يصبح ضميرا للفرد وضميرا للأمة, ضميرا يحول دون أن يسلم الفرد العادى مقود فكره لغير ضميره الموضوعى، كما يحول دون العالم أن يستسلم لما لا يتفق مع صالح الناس وسلامة الفطرة, لدرجة أن يؤرقهما ذلك فلا ينام أى منهما حتى لو كانت حصيلة يومه طنا من المعلومات أو النصوص البراقة.
لقد غالت بعض النظم المادية (العلمية) فى تقديس معلومات مرحلية, وراحت تقيس بها كل شيء حتى الحق والجمال والإيمان, فنتج عن ذلك اختزال الإنسان إلى ماليس هو, فانهارت تلك النظم (الاتحاد السوفيتي), وانهارت معهما منظومات قيم (إيجابية وسلبية) ثم دخلت فى مراحل إعادة التنظيم والتجريب والتصحيح مما لا نعرف له نهاية قريبة, ولا معالم واضحة.
أنتقل إلى أمثلة إيجابية للعلم الحق فى حالة كونه خلقا إيجابيا وضميرا حيا, وأتعمد قصدا عدم استعمال الأبجدية العلمية المتعارف عليها فى هذه الأمثلة التى أعتبرها نموذجا علميا بالمعنى الثقافى الذى أحاول تأكيده:
(1) طفل عمره 7 سنوات تعلم فى سنة أولى ابتدائى أننا كائنات حية, وأن الفرخة كائن حى فتساءل لم نقتل (نذبح) الفراخ لنأكلها, ألانخاف أن يذبحونا نحن ايضا ليأكلنا من هو أقوى؟ ثم استطرد: متى نستطيع أن نذبح الأسد ونأكله, لأنه هو الذى يستأهل, لانه يتربص بنا ليفعلها؟ (حدث هذا فعلا فى حوار مع “عمر” حفيدى، كان عمره سبع سنوات أثناء كتابة هذا النص).
(2) طفل (أكبر قليلا) على يقين من عدل الله سبحانه وتعالى، قرر أن صديقه ميشيل (إبن “طنط” مارى) سوف يكون معه فى الآخرة فى نفس المكان, لأن الله العادل والرحيم لن يقبل أن يفرقهما, ثم إنه -شخصيا – لم يجد مبررا (علميا) يبرر أن يرى أو يسمع أن صديقه ميشو يتألم “هناك”.
(3) شاب أكبر من الطفلين السابقين, لا يستطيع أن يحفظ مقررات التاريخ, لأن المنطق السليم وضميره العلمى يشككانه فى أن الأحداث قد حدثت “هكذا بالضبط”, لكنه يقر – بمنطقه العلمى الخاص – أنه سوف يحفظ مقرر التاريخ فى النهاية على أنه “محفوظات” وليس على أنها تاريخ؟ (من أجل خاطر عيون الامتحان).
(4) قاض يكبر هذا الشاب بعشرين سنة, عاودته آلام الذبحة الصدرية حين اصطدم بنص قانون واعترافات لم يسعفه أيهما فى تبرئة متهم هو على يقين – من واقع أخلاقه العلمية وضميره العلمي- أن هذا المحكوم عليه بريء لكنه لم يستطع فعل شيء أمام النص, فيقرر القاضى أن يرشح نفسه لمجلس الشعب لتغيير القانون, وهو يعلم أنه لن يكسب الانتخابات, وأن الذبحة الصدرية قد تقضى عليه أثناء الدعاية, وحين يفشل.
(5) باحث فى مركز علمى – فى مثل سن القاضى – أصيب بغم شديد (يسمى حديثا : اكتئاب) حين رأى بحثه منشورا باسمه فى مجلة عالمية, كان المفروض أن يفرح ويزهو لكنه لم يستطع أن يقنع نفسه – رغم النشر بعد استيفاء كل شروط المجلة الهامة العالمية المشهورة, أن المنهج محكم , ولا أن الإحصاء مناسب. بل إنه يعلم من واقع خلقة وضميره العلمى أن هذا الذى نشره – لايعنى شيئا مفيدا, وقد يضر.
(6) رئيس دولة يعلن عزمه على الاستقاله رغم نجاح حزبه فى الانتخابات, فهو على يقين – بالرغم من عدم التزوير- أن هؤلاء الناجحين لايمثلون الناس حقيقة وفعلا, وهو مسئول عن الناجحين وعن الناس معا, لكن خلقه العلمى يبصره أن هذا النوع من ديمقراطية الإنابة لم يعد يصلح للعصر الحالى، ثم هو يعدل عن الاستقالة, لعله بهذه الأغلبية الزائفة يستطيع أن يعدل الأمر إلى ديمقراطة أكثر عصرية
هذه الأمثلة تبدو بعيدا عما شاع عند الناس باعتبار أنه علم. إلا أن المتأمل فى كل مثال يمكنه أن يكتشف بسهوله المنهج العلمى الذى أدى إلى هذه المظاهر الأخلاقية الإيجابية التى يمكن أن تكون أهم من تقديس معلومات ندعى أنها متعادلة أو موضوعية لمجرد أن منهجها يزعم ذلك.