عدد 69-74 ابريل 2000- يوليو2001
التكنولوجيا تعيد صياغة الأخلاق!!
يبدو – لأول وهلة- أن الكلام عن الأخلاق فى مجال المال والاقتصاد والتكنولوجيا العصرية هو بمثابة طفولة خائبة أو مناورات تخديرية، إلا أن مفهوم الأخلاق المعاصرة لا بد أن يختلف عن الصورة المثالية التى كان يغلب عليها فصل الأخلاق عن حسابات المنفعة، وربطها بأحلام اليوتوبيا.
بعض الأسئلة المطروحة على الوعى البشرى حاليا تقول :
هل تتحسن الأخلاق مع امتلاك الإنسان وسائل أكثر حذقا، وأدق أداء لتسيير حياته بعطاء الأحدث فالأحدث من أدوات التكنولوجية الفائقة القدرة؟ أم أن الأخلاق تتدهور بالإزاحة أو التشويه؟ ثم هل ما نسميه الأخلاق حاليا هو هو ما اعتدنا تسميته كذلك من قبل؟ أم أن ثمة أخلاقا أخرى تتسحب إلى كياننا دون أن ندرى؟ لا بد أن ننتبه إلى أن المسألة تحتاج إلى وعى متزايد حتى يكون تغيرنا اختيارا وليس انسياقا وراء ما لا نعرف حقيقة أبعاده.
إن أى تطور أو تدهور هو ، فى نهاية النهاية، مسئولية من يلحق به.
ثمة حقائق وأخبار تأتينا من الخارج بشكل متواتر، وبفضل ما يسمى الشفافية، تعلن أن ثورة الأدوات الحديثة ووفرتها لم تحقق لمن سبقونا على السلم المدنى المنزلق فى نعومة ما كانوا يتصورونه من رقى خلقى، أو رفاهية مزعومة.
أفلا يلزمنا هذا بالتأنى ونحن نسير على آثارهم مغمضين، خصوصا فيما يتعلق بما هو قيم، و خلق؟
لا أستطيع أن أرد على كل هذه الأسئلة فى مقال فى هذا الحيز، لذلك سوف أكتفى بالإشارة إلى مثالين محددين لتوضيح ما أردته.
المثال الأول: مخاطر التعليم الذاتى على العلاقة بالآخر.
حين يختزل التعليم إلى تحصيل المعلومات، أو شحذ المهارات، حتى لو كانت مهارات الإبداع، يغيب الآخر (المعلم) عن وعى المتلقى (الآخر) المتعلم. ذلك أن “المعلومات المجردة” تنساب إلى دماغ ووجود المتعلم، وكأنها “ليس لها صاحب”، (على الرغم من الترحيب والتنكيت والحوار الذى تقوم به بعض برامج التعليم الذاتى استظرافا) . هنا تهتز قيمة “العلاقة بالآخر” بشكل خفي. لكنه خطير.
إن التعليم – من الناحية الخلقية – ليس مجرد عملية حشر معلومات فى الدماغ، ولا هو حتى عملية تنمية قدرات الإبداع، وإنما هى فرصة لبناء علاقة كريمة بين البشر ، تربط الكبير بالصغير، وتوصل رسائل كلية نابضة حية من إنسان خبير قديم إلى إنسان بادئ بطزاجة متقبلة. يتم ذلك من خلال توصيل المعلومات، وشحذ المهارات، وتخليق إمكانات الإبداع جميعا. إن الشائع الذى يلوحون به فرحين بإنجازات التعليم الذات ى، هو أنهم بسبيلهم للاستغناء عن المعلم، ثم عن المدرسة.
الخطر من التعليم الذاتى على الأخلاق هو أن المتعلم من الآلة لن يكون له “كبير”، ولن يصله دفء التواصل البشر ى، ولن يقوم للمعلم يوفه التبجيل (كاد المعلم أن يكون رسولا!!) كما كنا نردد صغارا. إن مخاطر هذا التقديس واردة بعد أن تنازل المعلم عن رسالته وأصبح “مذياعا نقالا” من بيت إلى بيت.
وقد نبه مراد غالب فى مقاله عن الموهبة والإبداع (الأحد 11 يوليو 2001 المصور) إلى أن هذه المقولة تحرم الطالب من فرص الإبداع، وهذا أمر ليس صحيحا على إطلاقه، ويحتاج إلى مناقشة طويلة. المعلم الرسول لا يحجر على إبداع الطالب، لكنه يبلغه رسالة البحث. إن تقديس محتوى ما يقول الرسول ليس هو الهدف من الرسالة، وإنما الرسالة هى إشارة إلى منهج، وليس حشر أحجار فكرية ثابتة..
المثال الثانى: تحديث قيمة “الإتقان” لتحقيق ماذا ؟
قيمة الإتقان قيمة أخلاقية وعلمية قديمة، ظلت على قائمة القيم الإيجابية عبر تاريخ البشر، بل وتاريخ الحياة. وقد زادت مكانتها بالإنجازات المعاصرة التى تتجلى فى حسابات رحلات الفضاء، وتكنولوجيا التواصل، وعلوم الشواش والتركيبية، واستعمال المقاييس المتناهية فى الصغر (فيمتو ثانية زويل مثلا).
إنه بغير هذا النوع من الإتقان فإن شيئا من الإنجازات المعاصرة لا يمكن أن يتم.
لكن الإتقان الذى تعلمناه فى ديننا من أول إن “الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، حتى وضع الإحسان فى أعلى مرتبة من خلال رقابة الله لنا فى السر والعلن، ليس هو الإتقان الذى توصلت إليه حبكة التكنولوجيا، ودقة حساباتها. إن الإتقان البشرى هو عملية أخلاقية ، أما الإتقان التكنولوجى فهو عملية بلا قلب، وبلا التزام أخلاقي. إن استعمالها -أخلاقيـا- يتوقف على الهدف والتوجه، وليس على قيمة الإتقان فى ذاته.
يستحيل أن يكون الاتقان خلقا حسنا إذا استـعمل لشحذ وسائل التجسس على أخص خصوصيات البشر، وليس فقط على مخازن سلاح العدو وتفاصيل تكتيكاته. إن المساحة التى يمكن للتكنولوجيا الحديثة أن تكشف عنها من أسرارنا دون إذن أصبحت غير محدودة. يمكن اختراق أسرارك الخاصة التى وضعتها على حاسوبك الشخصى من أى متطفل. طائرات وأقمار التجسس تسهل لمن يملكها إذلال الآخر الذى لا يملك مثلها حتى تجعله يستسلم لمن يملك قدرات الإتقان الأعمى ، عبدا بلا حول ولا قوة.
إننا شاهدنا فى حرب الخليج ، وفى حرب كوسوفو درجة من إتقان توجيه الصواريخ والطائرات بلا طيار قلبت الحرب إلى مسألة انقضاض ساحق، يمكن أن يكون من أنذل أنواع الإغارة إذا ما أدارته أمخاخ خبيثة وضمائر ملوثة. إن مثل هذه الحروب المتقنة أصبحت نوعا من الغدر الباطش، والإبادة المنظمة دون فروسية، أو مواجهة، أو حوار.
وبعـد.
فيمكن أن نقيس على هذين المثالين المخاطر المحيطة بسائر القيم الأخرى .
إننى تعمدت ألا أتعرض إلى قيم أخطر شأنا وأكثر إشكالا، لأن التعرض لها يحتاج إلى تفاصيل تحتاج حجما أكبر من هذه المقدمة المتواضعة. أضرب لذلك مثالا لقيمة تكاد تكون مقدسة، وهى قيمة الحرية ، هذه القيمة كادت تصبح مرادفة لما يسمى الآن الديمقراطية. مع أن الحرية قيمة، إيمانية (بالتوحيد)، إبداعية، رائعة، فى حين أن الديمقراطية لا تعدو أن تكون إجراء اضطراريا محدودا يحقق الحرية حينا ويخذلها أحيانا، حسب الأخلاق التى تشارك فى ممارسته.
قيمة أخرى تستأهل أن نعود إليها تفصيلا، وهى قيمة “حب النفس” التى يخلط الناس بينها وبين ما يسمى “الأنانية”، وسوف نشير إلى بعض ذلك فى هوامش الملف، وكيف أن هذه التفرقة، مع اختلاف اللغة ،هى قضية قد طرحت على الوعى العام (القارئ العام) فى أول عدد صدر من الأهرام (السبت 5 أغسطس 1876ميلادية) – [أنظرالملحق (3) ص 84 ].