الإسلام يناقض الاحتراف الدينى
د. أحمد صبحى منصور
مقدمة
(أ) تحول الإسلام فى اعتقاد العصر إلى مؤسسات وطوائف.
هناك مؤسسات رسمية تزعم أنها منارة الإسلام, وهناك طوائف تدعى أنها مفوضة لأن تحكمنا باسم الإسلام. وفى أماكن كثيرة من “العالم الإسلامي” تجد أولئك المتاجرين والمرتزقة باسم الإسلام. سواء من كان منهم فى موقع السلطة أو من يطمح فى الوصول إليها.
ولقد تحول دين الله تعالى الذى نزل فى رسالاته السماوية إلى كهنوت, تحول به من إسلام لوجه لله تعالى إلى ما يسمى باليهودية والنصرانية, حيث الكهنوت والأحبار والرهبان. ثم نزل القرآن رسالة خاتمة من الله تعالى لأهل الأرض, لتجعل العلاقة مباشرة بين الله
تعالى والناس, فالله تعالى أقرب إلى الناس من حبل الوريد, وإذا سأل عباده عنه تعالى فإنه قريب يجيب دعوة الداعى إذا دعاه, وأنه ما من دابة إلا هو مسيطر عليها, يرزقها حيث كانت, وأنه تعالى لا يشرك فى حكمه أحدا من الناس, وأنه وحده تعالى المعبود, وليس لعباده من دونه ولى ولا نصير سواه جل وعلا.
وبالتالى فلا حاجة لأى كهنوت مقدس من أشخاص أو من طوائف أو من مؤسسات.. ولكن ما لبث أن عرف المسلمون الكهنوت وتقديس الأولياء والطوائف.. ما لبث أن عرف المسلمون الاحتراف الديني.. وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل..
الإسلام ضد الاحتراف الدينى من حيث المبدأ ومن حيث التاريخ.
(1) فالأنبياء رسل الله تعالى أبعد الناس عن الاحتراف الديني, برغم وظيفة النبوة والرسالة, فالنبى ليس عليه إلا إبلاغ الرسالة, ومن اهتدى فلنفسه, ومن ضل فعلى نفسه, ثم هو لا يأخذ أجرا من الناس, ولا يدعى لنفسه جاها دينيا أو دنيويا بسبب النبوة, إذ لا يدعى أن لديه خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يدعى أنه ملك (الانعام 50) ولا يدعى أنه يملك لنفسه أو لغيره نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله (الاعراف 188) وغاية ما هنالك أنه بشر ولكن يوحى إليه (الكهف 110) وهذا الوحى يزيد من مسئوليته أمام الله تعالى يوم القيامة, إذ يكون حساب الأنبياء يعدل حساب الأمم البشرية جميعا (الاعراف 6).
(2) ونفى الاحتراف الدينى عن الأنبياء وثيق الصلة بعقيدة الإسلام, حتى لا يكون الأنبياء واسطة بين الناس ورب الناس, وحتى تكون عقائد الناس خالصة فى الاعتقاد فى ألوهية الله تعالى وحده بلا واسطة أو وسيلة يزعمون أنها تقربهم لله زلفي, فإذا كان النبى ليس له من الأمر شيء (آل عمران 128), وإذا كان سيتخاصم مع أعدائه أمام الله تعالى يوم القيامة على درجة المساواة بينه وبينهم (الزمر-31), وإذا كان سيحاسب أمام الله تعالى يوم القيامة مثل قومه تماما (الزخرف 44), وإذا كان لا يستطيع أن يحمل شيئا فى الحساب عن أصحابه ولا يستطيع أصحابه بالمثل أن يحملوا عنه شيئا من حسابه (الأنعام 52), وإذا كان لا ينفع يوم القيامة أولاده ولا أهله ولا أقاربه (لقمان 33, عبس 34), إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للنبى فإن الوحى الإلهى له بالرسالة لا يزيد شيئا فى بشريته, إذ يظل بشرا وتظل الألوهية لله وحده, لا يشاركه فيها أحد من خلقه, طالما كان الانبياء – وهم صفوة الخلق – محصورين فى دائرة البشرية, ما عليهم إلا البلاغ, ولا يأخذون على هذا البلاغ أجرا من البشر.
وبعد الأنبياء فمجال الدعوة مفتوح أمام كل إنسان ليدعو إلى الله تعالى على بصيرة متبعا طريق النبى عليه السلام (يوسف 108) ولكن إذا طلب من الناس أجرا على هذه الدعوة فقد ضل عن الهدي, فالله تعالى يقول محذرا من الاحتراف الديني”اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون”(يس 21) ومجال العلم بالدين مفتوح أمام الجميع, وليس حكرا على أحد, وكل إنسان يخطيء فى حكمه ويصيب, والقرآن يحكم على الجميع, والعبرة فى الفتوى ليست بالقائل وإنما بمدى اقتراب قوله من الحق, والفتوى ليست ملزمة, ولذا قال أبوحنيفه: كلامنا صواب يحتمل الخطأ, وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
(3) والإسلام – أيضا – ضد تاريخ الاحتراف الدينى الذى سبق نزول القرآن أو عاصر نزوله.
ففى قصص الأنبياء فى القرآن, كان أهم خصوم الحق هم المترفون الذين يعبدون التقليد, وأعوانهم من (رجال الدين) الذين يبررون لهم أوضاعهم الاجتماعية الظالمة, ويقومون بتحريف الدين المتوارث ليرضى عن ذلك الظلم الاجتماعى والفساد الخلقي, وعجلت آيات القرآن بالهجوم على أولئك المترفين المكذبين ودورهم فى تدمير المجتمع (الإسراء 16) لأنهم دائما يكذبون الرسل (الأنعام 122, الزخرف 23), كما أوضحت آيات القرآن دور علماء السوء أو (رجال الدين) الذين يخدعون المستضعفين ويحملونهم على الكفر بالحق (الشعراء 99), (الاحزاب 66-68).
كما أوضح القرآن وظيفة الاحتراف الدينى فى أنها تحويل الدين إلى سلعة معروضة للبيع والشراء, ولذلك تكرر قوله تعالى (ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا: البقرة 41, المائدة 44) وتوعد الله تعالى من يحول الدين إلى تجارة واحتراف, بأن الله جل وعلا سيكون خصما له يوم القيامة, ولن ينظر إليه ولن يزكيه, وسيلقى أشد العذاب (البقرة 174, آل عمران 77).
وتحدث القرآن الكريم عما كان يفعله بعض محترفى التدين من أهل الكتاب, وتوعد من يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا, وليبيعوا صكوك الغفران وقصور الجنة للسذج, ويزعمون أنهم سيخرجونهم من النار إذا دخلوها, ويؤكد القرآن على أن من يدخل النار لن يخرج منها أبدا (البقرة 79- آل عمران 24).
كما تحدث القرآن عن كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ويكنزون الذهب والفضة, وتوعدهم بالعذاب (التوبة 34), وكيف حولوا أنفسهم أربابا من دون الله (التوبة 31) تأسيسا على ذلك الاحتراف الديني, ولذلك دعا الله أهل الكتاب لإخلاص الدين لله وحده, وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله (آل عمران 64).
أى أن القرآن الكريم فى حديثه فى نصح أهل الكتاب, أوضح أن الاحتراف الدينى يضفى التقديس على من يجعلون أنفسهم رجال الدين, وليس فى رسالات السماء وجود لما يسمى برجال الدين, كما ليس فى دين الله تعالى كهنوت أو واسطة بين الناس ورب الناس, ومن الطبيعى أن هذا الحديث موجه لنا نحن المسلمين أيضا, كى لا نقع فيما وقع فيه أهل الكتاب, ولكننا وقعنا فيما حذر منه القرآن.
(4) وعلى عكس الاحتراف الدينى الذى يجمع الأموال والجاه باسم الدين والتجارة به, فإن المؤمن الحق مطالب بأن يدفع أمواله ابتغاء مرضاة الله فى الزكاة, وفى الصدقة على ذوى الحقوق من السائل والمحروم والأقارب واليتامى وأبناء السبيل, وفق ما شرع الله تعالى فى مستحقى الصدقة التطوعية (البقرة 215) والزكاة الرسمية (التوبة 60) وهو أيضا مطالب بأن يجاهد فى سبيل الله بالنفس والمال, (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله: التوبة 41) (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم: الصف 11). وفى كل الآيات القرآنية التى تحض على الجهاد بالأموال والأنفس فى سبيل الله, كانت الأموال مقدمة على الأنفس لتأكيد أن الإسلام يفرض على المؤمن أن يعطى الأموال فى سبيل الله, لا أن يتكسب الأموال بالتجارة فى دين الله.
وحتى فى الغزوات نزلت سورة الأنفال بعد غزوة بدر تنهى عن التنازع فى موضوع الغنائم, والأنفال هى الغنائم, وتحذر المؤمنين من أن يكون هدفهم من الجهاد هو المتاع الدنيوي, ولم يستوعب المؤمنون هذا الدرس فانهزموا فى غزوة أحد بسبب الغنائم, ونزلت آيات سورة آل عمران تؤكد على نفس التحذير (آل عمران 152) وبعدها تعلم المؤمنون الدرس; أن يكون الجهاد فى سبيل الله وابتغاء مرضاة الله, وليس لهدف دنيوي, فلم يتكرر منهم خطأ غزوة أحد فى الغزوات التالية فى عهد النبي.
(5) وهاجم القرآن الاحتراف الدينى فى قريش, وأوضح أنه السبب الحقيقى وراء عناد المشركين, فالمشركون فى حقيقة الأمر يعلمون أن ما جاء به محمد عليه السلام هو الهدي, ولكن مصالحهم التجارية المرتبطة بالاحتراف الدينى هى السبب فى عنادهم “وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا: القصص 57′ فهم يعلمون أنه (هدي), ولكن مكانتهم فى الجزيرة العربية قامت على أساس البيت الحرام, وما أقامته قبائل العرب حول الكعبة من أصنام, وقيامهم على رعاية هذه الأصنام جعل طريقهم آمنا بين اليمن والشام فى رحلتى الشتاء والصيف, وإذا اتبعوا القرآن فلن يكون للأصنام بقاء حول الكعبة, وبالتالى ستقطع القبائل العربية عليهم الطريق أمام رحلتى الشتاء والصيف, وستهدد مكانتهم وموضعهم فى مكة وخارجها, ولهذا رفضوا أن يتبعوا الهدى مع النبى حتى لا يتخطفهم الناس من أرضهم, وبمعنى آخر فإن احترافهم الدينى من وجودهم حول الكعبة أقنعهم بالباطل أن رزقهم يكمن فى تكذيبهم للقرآن, لذلك قال تعالى لهم وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون : الواقعة 82
(ب) ومن خلال الاحتراف الدينى نستطيع إعاده قراءة تاريخ المسلمين قراءة صحيحة.
1- فعتاة الاحتراف الدينى فى مكة كانوا الأمويين وبنى مخزوم, قادة رحلتى الشتاء والصيف, بالإضافة إلى عم النبي, العباس بن عبد المطلب, القائم على سقاية البيت الحرام. وقد ظل العباس فى مكة, وشارك مع المشركين فى غزوة بدر ضد المؤمنين, ووقع فى الأسر. وظلت زعامة مكة بعد الهجرة بين أبى سفيان والعباس, وحين أدرك العباس أن ملك ابن اخيه محمد قد استقر, دخل فى الإسلام قبيل فتح مكة, وأقنع صديقه أبا سفيان بالدخول فى الإسلام وجيش المسلمين يزحف نحو مكة. وشعر العباس وأبو سفيان بالضيق عندما تولى أبو بكر الخلافة, وكان أبو سفيان يمتعض لأن الخلافة نالها رجل من أقل بيوت قريش مكانة, وكان العباس يحرض على بن أبى طالب على طلب الخلافة, وهما معا (العباس وأبو سفيان) عاشا أغلب عمرهما فى الاحتراف الديني, ولا يفهمان الإسلام بمثل ما كان يفهمه على وأبو بكر وعمر وبقية المدرسة النبوية.
2- وفى الوقت الذى اضمحل فيه صوت الاحتراف الدينى فى مكة بعد دخول أهلها فى الإسلام أفواجا, فإن صوت الاحتراف الدينى علا فى نجد من خلال حركات الردة وادعاءات النبوة, وكان إخماد حركات الردة أسرع طريق عاد به الأمويون إلى القيادة والصف الأول فى دولة الاسلام, بعد أن كانوا قبلا فى الصف الأول ضد الإسلام. فالأمويون بما لديهم من مهارة حربية وكفاءات قيادية وخبرة بالطرق التجارية, وحرص على الزعامة والرئاسة تولوا قيادات الجيوش التى أخمدت حركات الردة فى نجد وغيرها. ولم يجدوا لهم منافسا فى القيادة بين كبار الصحابة والسابقين فى الإسلام, لأن التنافس على الزعامة والجاه لم يكن مما تعلموه فى مدرسة خاتم النبيين عليه السلام. وانتهت حركة الردة بأن أصبح الذين أسلموا بالأمس قادة منتصرين لجيوش المسلمين وزعماء يشار لهم بالبنان.
3- وخشى أبو بكر فى خلافته أن تعود قبائل نجد للثورة والردة, فأراد أن يصدر شوكتهم الحربية إلى خارج الجزيرة العربية. فكانت الفتوحات العربية فى الشام والعراق وإيران ومصر, وكان أغلب المشاركين فيها من القبائل النجدية التى سبق وارتدت ثم أعيدت للاسلام, وكان أغلب القادة من الأمويين الذين كانوا بالأمس أشد الناس عداوة للذين آمنوا, ثم أصبحوا قادة لهم.
وأسفرت الفتوحات عن تكوين امبراطورية تمتد من شرق إيران إلى غرب برقة فى شمال أفريقيا, ومن آسيا الصغرى شمالا إلى اليمن جنوبا.
وقد وقع قلب البلاد المفتوحة تحت سيطرة الأمويين أثناء خلافة عمر, حيث حكم معاوية الشام وحكم عمرو بن العاص مصر وشمال أفريقيا. وتمكن عمر من ضبط أحوال الدولة ومنع العرب من الاستمتاع بخيرات الفتوحات, ومن الظلم.. وتبدلت الأحوال فى خلافة عثمان الأموى الأصل.
4- وفى خلافة عثمان عاد للظهور دور الاحتراف الدينى فأدى إلى ما يعرف بالفتنة الكبرى التى أسفرت عن قتل عثمان, والتى لا تزال تلازم تاريخ المسلمين حتى الآن, وتسفك دماءهم, وتؤخرهم وتباعد بينهم وبين الإسلام الذى عرفه خاتم النبيين عليه السلام.
والاحتراف الدينى الذى أشعل الفتنة الكبرى تمثل فى الخروج عن منهج الإسلام من حيث العلاقة بالثروة والأموال, فالمال – فى شريعة الإسلام – ينبغى أن يكتسبه الإنسان بالحلال, وينفقه فى الحلال بلا سرف ولا ترف, وهو يضحى بهذا المال فى سبيل الله وفى الصدقة التطوعية والزكاة الرسمية, ويناقض ذلك ما اعتاده الداخلون فى الإسلام حديثا من الأمويين وأعراب نجد, وقد أمضوا أغلب أعمارهم إما فى الاحتراف الدينى أو بالسلب والنهب, ولذلك كان سهلا عليهم – بعد اغتيال عمر بن الخطاب ومجيء عثمان بشخصيته الضعيفة وعجزه عن إحكام قبضته على الأمور – أن يقعوا فى فخ التهالك على جمع الأموال وظلم أهل البلاد المفتوحة فى سبيل الثراء السريع, ثم اختلافهم فيما بينهم اختلافا يوقعهم فى حرب أهلية, اصطلحنا على التقليل من شأنها تحت اسم أنها الفتنة الكبري. لقد سيطر الأمويون على الخليفة عثمان بن عفان الأموي, وكدسوا الأموال فى ظل حكمه, مما أثار البقية الباقية من مدرسة النبى محمد عليه السلام وعلى رأسهم على وابن مسعود وعمار, وأولئك حافظوا على تعاليم المدرسة النبوية, ولم يغرقوا فى أمواج الثراء بالحق أو بالباطل, بينما غرق فى اختبار الثروة آخرون من نفس المدرسة النبوية, كان منهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله, وقد أورد محمد بن سعد فى طبقاته الكبرى ما تركه كل من الزبير, وطلحة, وكان قناطير مقنطرة من الذهب والأموال السائلة والعقارات.. بينما كانت تركة على بن أبى طالب عدة مئات من الدراهم, هذا فى الوقت الذى تمتليء فيه نفوس الأعراب خصوصا من نجد بالحنق, حيث تم الفتح بسواعدهم, ولكن تمتع بثمار الفتح أعيان القرشيين من بنى أمية وحدهم.. وزاد فى غضبهم تحكم الأمويين فى خلافة عثمان وسيطرتهم عليه فى المدينة من خلال سكرتيره الخاص مروان بن الحكم, وسيطرتهم على الأمصار من خلال معاوية وعمرو وابن أبى السرح, وغيرهم.
ثم كانت قضية السواد هى القشة التى قصمت ظهر البعير.
وأرض السواد, هى الأرض الزراعية فى جنوب العراق والتى تقع شمال نجد, وكان أعراب نجد يتطلعون لامتلاكها, لأنهم الذين فتحوها ولأنها تجاورهم, وكانوا يحلمون بامتلاكها وهم فى البادية, ولأن أشراف قريش قد استولوا على أغلب الثمار, ولم يبق للأعراب النجديين إلا سواد العراق. ولكن الأمويين فاجأوهم بأن السواد بستان قريش, فسدوا على الأعراب كل المنافذ, وكان ذلك النزاع هو أصل الفتنة الكبري, تلك التى تمخضت عن قتل عثمان ثم تعيين عليا خليفة, ثم خروج الأمويين على خلافة على وخروج الزبير وطلحة ومعهما عائشة, وماحدث من مواقع الجمل وصفين, ثم خروج أعراب نجد من أعوان على عليه فى موضوع التحكيم, وأصبح اسمهم الخوارج, وهم الذين قتلوا عليا, وظلوا فى صراع مع الأمويين حين أسس الأمويون ملكهم الوراثى الذى احترف الاسلام واتخذه سبيلا للفتوحات, وكانت الأموال هى الهدف السياسى من الفتوحات الأموية, حتى أنهم أرغموا من يدخل فى الاسلام على دفع الجزية شأنه شأن من بقى على دينه.
5- والاحتراف الدينى الذى دفع الأمويين للفتح والغزو باسم الاسلام فيما بين الهند والأندلس, هو نفسه الذى دفع الأمويين لاقامة مذابح لآل البيت فى كربلاء, ولأبناء المهاجرين والأنصار فى المدينة, وهو الذى دفعهم إلى انتهاك حرمة البيت الحرام أثناء حصار ابن الزبير, وكل تلك الفواجع حدثت فى خلافة يزيد بن معاوية, أول خليفة يرث الحكم بالقوة والاستبداد.
والاحتراف الدينى الأموى هو الذى دفع بالأمويين إلى إقامة مذابح أخرى للثائرين عليهم, الأقل شأنا من آل البيت والمهاجرين والأنصار, مثل الموالى والشيعة والأقباط فى مصر, والخوارج من الأعراب .. والثائرون على الأمويين قابلوا احترافهم الدينى باحتراف آخر, حيث اصطبغت الثورات ضد الأمويين بصبغات دينية مختلفة, كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وحقوق آل البيت, وتكفير مرتكب الكبيرة.. وأدى ذلك إلى تحول الثورات العسكرية إلى طوائف دينية ومذاهب فكرية, لأن كل فريق حاول تعضيد مذهبه بالدين, أو أوجد له (رجال دين) يفلسفون له أرضية فكرية عقيدية, تبيح له الثورة وسفك الدماء واستحلال الأموال, ويظهر ذلك جليا لدى الخوارج والشيعة برغم ما بينهما من تناقض شديد فى الآراء السياسية, حيث يمثل الخوارج أقصى الراديكالية الجمهورية, ويمثل الشيعة أقصى اليمين المحافظ من الملكية المقدسة الكهنوتية لآل البيت.
على أن انشغال الأمويين بالحكم والصراع الحربى داخل الدولة وخارجها, مع سذاجة الحركة العلمية فى بدايتها, كل ذلك لم يسمح للاحتراف الدينى الأموى أن يسفر عن وجهه فى مذاهب فكرية مستقرة, ولذلك فإن الاحتراف الدينى الأموى عبر عن نفسه بصوت عال من خلال المعارك والاضطهادات الدينية والعنصرية, وخفت صوته فى التأصيل الفكري, فلم يتبق من تراث الأمويين الفكرى إلا مذهب المرجئة, واضطهاد القائلين بالحرية الفردية ومسئولية الظالم عن ظلمه, حيث اعتنقت الدولة الأموية مذهب الجبرية, وفسرت من خلاله ما تفعله من ظلم وسفك للدماء, بأن ذلك قدر لا فكاك منه, واضطهدت القائلين بمسئوليتهم عن الظلم, وأسمتهم القدرية.. كل ذلك هو ما تبقى من التأصيل الفكرى للاحتراف الدينى الأموي, وهو قليل وتافه بالنسبة للتأصيل الفكرى لخصوم الأمويين, من الشيعة والخوارج.
6- والتأصيل الفكرى للاحتراف الدينى لدى الشيعة بدأ مبكرا, فالشيعة السبأية بدأت فى خلافة علي, وازداد التشيع بمذبحة كربلاء, واشتد بمقتل الثوار من نسل الحسين خلال الدولة الأموية, وتفنن الشيعة فى التقية والدعوة السرية وتكوين الخلايا تحت الأرض, واحدى هذه الدعوات رفعت لواء الدعوة للوصى من آل محمد, حتى لا يتعرف الأمويون على رأس الدعوة, وبطريقة غامضة انتقلت الدعوة من صاحبها العلوى إلى حفيد عبد الله بن عباس, وكذلك أقام الشيعة دولة للعباسيين, واكتشفوا ذلك بعد فوات الأوان, وتحول الشيعة إلى خندق المقاومة الذى كانوا فيه من قبل, وتكررت ثوراتهم وثورات العلويين ضد أبناء عمومتهم العباسيين, وبعض هذه الثورات أقامت لها دولا فى شرق إيران وفى شمال أفريقيا ومصر (الخلافة الفاطمية) كما نجح أعراب نجد فى إقامة ثورات ودول تحت شعار الزنج تارة والقرامطة تارة أخري, ونشروا الخراب وأنهار الدماء فيما بين العراق والشام وطريق الحجاج والحجاز.
على أن التأصيل الفكرى لهذا الاحتراف الدينى العباسى والشيعى والخارجى كان عالى الصوت يماثل ضجيج المعارك بين الفرقاء والمتصارعين, وساعد عليه أن التأصيل الفكرى للشيعة بدأ مبكرا قبل الدولة الأموية نفسها, ثم شهد عصر التدوين, وساعد على توطيده طول الفترة العباسية, وتطور الفكر والعقائد والحركة العلمية والفكرية فى هذه المرحلة, مع وجود مناظرات وتفرعات علمية ومدارس فكرية مختلفة كما ساعد عليه اعتماد الشيعة ثم العباسيين على ذلك الفكر فى إقامة الدولة وتوطيدها كما كانوا يعتمدون على ذلك الفكر فى الدعوة للدولة المرتقبة, وتركزت المرجعية لهذا الفكر فى تأليف الأحاديث ونشر النبوءات وشراء الفقهاء وتكوين ما يعرف بفقهاء السلطة وكهنوت الاستبداد.
وفى هذا العصر العباسى تم تدوين الفكر والتراث, وتم اعتماد المصطلحات, وتم تقنين شريعة المسلمين بأسس تشريعية ومصطلحات وأحكام تخالف شريعة الاسلام, التى حفظها الله تعالى فى القرآن, والتى طبقها خاتم النبيين عليه السلام,فى هذا الإطار اخترعوا مصطلح النسخ بمعنى الحذف والإلغاء للأحكام القرآنية التى لا تتفق مع شريعتهم, مع أن معنى النسخ فى القرآن وفى اللغة العربية هو الكتابة الإثبات, وليس الحذف والإلغاء ومالم يجدوه فى القرآن موافقا لما يريدون, اخترعوا له حديثا ونسبوه للنبي, ومع تأكيد القرآن على أن النبى لا يعلم الغيب, فقد أضافوا علم الغيب للنبي, ونشروا كثيرا من النبوءات والدعوات السياسية المذهبية التى تبشر بفلان خليفة, ونسبوا ذلك للنبي. وبهذا اتسعت الفجوة بين فكر المسلمين وشريعة الاسلام وعقائده المحفوظة فى القرآن الكريم.
7- وخلال هذا البحر المتلاطم من فكر الاحتراف الديني, اشتد الشقاق على مستوى الأصول!! وعلى مستوى الأطراف والفروع. وأقيمت مصطلحات تعزز هذا الخلاف, وهى مصطلحات لا تمت بصلة لمصطلحات القرآن, ولم تكن معروفة فى عصر النبى عليه السلام. فالثائرون على الخلافة العباسية, والذين كانوا من قبل شيعتها ويحسبون أن الملك سيتحول إلى واحد من أبناء الحسين أو ذرية علي, وانشقواعلى الدولة العباسية وحاربوها احتفظوا لأنفسهم بلقب ومصطلح الشيعة, بينما قام العباسيون وعلماؤهم بارساء مصطلح السنة تمييزا لهم عن الشيعة, وقصدوا أنهم السائرون على سنة النبى محمد. وخلال هذا المصطلح اخترعوا الاحاديث المنسوبة للنبى التى تؤكد أحقيتهم فى الخلافة, وحقوقهم فى الاستبداد السياسى وأن يملكوا الأرض ومن عليها, وأن يدوم ملكهم إلى قيام الساعة, هذا مع أن مصطلح السنة فى القرآن يعنى الشرع أو المنهاج,ويأتى منسوبا لله تعالى باعتباره صاحب الشرع وباعتباره صاحب المنهاج فى التعامل مع المشركين, واقرأ على سبيل المثال (ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له, سنة الله فى الذين خلوا من قبل, وكان أمر الله قدرا مقدورا: الأحزاب 38) أى أن سنة الله هى فرض الله وعلى النبى أن ينفذها والرسول قدوة فى تنفيذ سنة الله, ونحن نقتدى به فى طاعته لأوامر ربه, يقول تعالى لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة : الاحزاب 21 لم يقل سنة حسنة, لأن السنة تنسب لله لأنها شرع الله ودينه وأوامره, والأنبياء قدوة فى الطاعة والامتثال.
إذن اختلفوا على المستوى الرأسى إلى شيعة وسنة, وكلاهما احترف التدين من أجل السياسة والارتزاق. وعلى المستويات الفرعية, اختلف الفقهاء داخل البيت السنى إلى مذاهب, كما اختلف الشيعة إلى طوائف وفرق, كما اختلف الخوارج الى طوائف وفرق.. ولكن أخطر ما فى الأمر أنه فى العصر العباسى تبلورت الحركة العلمية الفكرية وتم تدوينها, وظهر فيها أئمة علوم الفقه واللغة والكلام والتفسير والحديث والعقائد والفلسفات.. وإن ذلك جميعه كان فى تأكيد الاحتراف الديني, فالدولة العباسية (والفاطمية) تتخذ من قرابتها للنبى سندا للحكم, وتحكم الناس بالظلم والقهر على أساس أنها تملك الأرض ومن عليها, ولديها تراث مصنوع منسوب للنبى يؤكد أن ذلك هو الاسلام وعلماء الدولة الذين يعيشون فى كنفها ينحتون لها من الأحاديث والفتاوى ما يكرس الاستبداد, ومن يتخلف من العلماء عن مساندة الدولة مصيره الاضطهاد, وقد مات أبو حنيفه مسموما, وتعرض مالك للتعذيب لأنهما خالفا هوى الدولة. وتعرض ابن حنبل لتعذيب أشد لأنه خالف الدولة فى رأى يخص القرآن, وليس رأيا سياسيا, فما بالك إذا تعرض فقيه لانتقاد الظلم الذى يجرى على قدم وساق تحت شعار الإسلام.
وكالعادة فإن الثوار الذين حملوا السلاح ضد الدولة العباسية, كالزنج والقرامطة وطوائف الشيعة والموالى الفرس صبغوا ثوراتهم بالدين الذى يصل أحيانا لادعاء النبوة أو المهدية, أى حاربوا احتراف العباسيين الدينى باحتراف آخر مماثل, وصبغوا ثورتهم العسكرية بصبغة دينية, وكانت ثورتا الزنج والقرامطة فى القرن الثالث الهجرى أفظع رد فعل للظلم العباسي, وأسفرتا عن قتل اكثر من مليونى إنسان.
وتلك الظروف المتأججة بالصراع أدت إلى ظهور نوع جديد من الاحتراف الديني, يتخفف من الطموح السياسي, ويرضى بالهوان وبما تيسر من الارتزاق بالدين فى مقابل أن ينشر عقائده, بين طوائف المجتمع بعيدا عن القصور والخلفاء والسلاطين والعلماء والفقهاء.. وهذا هو تيار التصوف الذى ظهر ابتداء من القرآن الثالث الهجري.
لقد تمخضت طقوس التصوف وعقائده عن فائدة لشيوخ التصوف, مادية ومالية ومعنوية, مع راحة دعة وسكون, ولديهم الهوى يشرع لهم كل ما يشاءون من انحراف خلقى أو إنسانى أو ديني, ومن خلال التصوف الذى تسيد وسيطر استطاع الصوفية اضطهاد المنكرين عليهم من الفقهاء ثم هبطوا بالحركة العلمية إلى التقليد فالجمود, فالتأخر, وذلك فى وقت استطاعت فيه أوربا – العدو التاريخى للمسلمين – أن تتقدم وتنهض, ثم صحونا فى النهاية على حملة نابليون بونابرت تقتحم علينا أبوابنا. وبعدها بدأت حركتان للنهضة, حركة فى مصر بدأها محمد على فى إقامة الدولة الحديثة فى مصر على النمط الأوربي, وحركة احتراف دينى سياسى فى منطقة نجد, تحت اطار الفكر الوهابى السلفى الحنبلى وأسقطت مصر فى عهد محمد على الدولة السعودية الوهابية الأولي, وقامت الدولة السعودية للمرة الثانية خلال القرن التاسع عشر ومالبث أن سقطت, ثم أعاد تكوينها للمرة الثالثة عبد العزيز آل سعود فيما بين (1902 – 1926) ولاتزال حتى الآن, وأيقن عبد العزيز آل سعود أنه لا بقاء لدولته بدون الاعتماد على مصر, خصوصا وأن أعداءه الشيعة يتركزون على حدوده فى العراق وإيران واليمن, كما يتركزون داخل دولته فى الحجاز والمنطقة الشرقية, لذلك عمل على بث الدعوة السلفية فى مصر لكى تكون مصر عمقا استراتيجيا للدولة السعودية, وهكذا استطاع ابن سعود تحويل التدين المصرى القائم على الاعتدال والسماحة والصبر, إلى تدين وهابى متطرف يقوم على التطرف وسفك الدماء, إذ عن طريق أعوانه فى مصر تم إنشاء حركة الإخوان المسلمين سنة 1928, وتمكنت خلال عشرين عاما من إنشاء خمسين ألف شعبة لها فى العمران المصري, وأسهمت فى اشعال ثورة الجيش سنة 1952, ثم اختلفت معها, فهاجر أرباب الإخوان إلى السعودية, ثم عادوا إليها بعد عصر عبد الناصر حيث أتيح لهم – وحتى الآن – السيطرة على أجهزة الإعلام والثقافة والتعليم والمؤسسات الدينية, ومن خلال هذه السيطرة نشروا الاحتراف الدينى الوهابى على أنه (صحيح الإسلام) وهم يطمحون إلى الحكم على نفس السنة التى كان يحكم بها الخلفاء العباسيون, حيث كان الخليفة هو (الراعي) ونحن (الرعية), وحيث كان الخليفة سلطان الله فى أرضه يملك الأرض ومن عليها, وليس لأحد أن يحاسبه, ولكن الله فقط هو الذى يحاسبه عما يفعل بالرعية أو المواشى التى يمتلكها..
ومن المؤكد أن هذه الشريعة تخالف شريعة الإسلام الموثقة بالقرآن.. ولذلك لا نمل من القول بأن حق المعرفة هو الفريضة الغائبة.. فإذا عرفنا وعقلنا, أمكن أن ننجو من براثن الاحتراف الديني, سواء كان ذلك الاحتراف صوفيا أم سلفيا أم إخوانيا.