مقتطف وموقف، حول:
إشكالة العقل والتفكير النقدى
فى هذا العدد غامرنا بتجربة جديدة على الوجه التالى :
أولا: توحيد المصدر:
حيث اقتصرت المقتطفات جميعا على صحيفة واحدة هى الأهرام لنثير من خلال ذلك عدة أسئلة وقضايا:
1- لمن يكتب الكاتب فى الصحف اليومية”؟
2-كم عدد (نسبة)من يقرأ هذه الآراء من كل قراء الصحيفة الواحدة؟
3- كيف تـقرأ “الآراء ‘ فى الصحف اليومية؟
4- هل يحتاج الأمر إلى مذكرات تفسيرية ؟
ثانيا: توحيد الموضوع
حيث حاولنا أيضا فى هذا العدد أن تكون مقتطفاتنا دائرة حول موضوع واحد، ألا وهو إ”شكالة العقل والتفكير النقدي”، وهو الموضوع الأثير لهذه المجلة ( إن لم يكن هو الموضوع الوحيد)، فكانت هذه المواضيع:
1- الشياطين الصغار( حول استعمال كلمات العقل والتفكير، والمنهج العلمى)
2- أنا أفكر إذن أنا لست موجودا (حول وسائل المعرفة وغلبة العقلنة وقصورها)
3- عودة الفلسفة : (ا) ترف … أم ضرورة اجتماعية؟!
مقتطف (1) الشياطين الصغار!
أحمد صلاح الدين بدور: رئيس محكمة أمن الدولة العليا الأهرام 11 / 2 / 1997
“يوجب الإسلام على المرء قبل أن يؤمن بالشيء أن يفكر فيه ويعقله ولا يجيز له أن يقول مقالا إلا بعد أن يعرضه على العقل ويقبله مصدقا.
وقد يتزوج الشيطان من نساء الإنس وهى حقيقة لا مراء فيها ولا جدال، ويؤكدها قول الحق سبحانه وتعالى “وشاركهم فى الاموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا – الاسراء 64)، وكثيرا ما ينكح الشيطان المرأة من الإنس، ويكون ذلك إذا أتاها زوجها وهى حائض، فقد قال ابن عباس إن الشيطان يسبقه إليها فتحمل منه، ولهذا نهى الحق سبحانه الرجل من مباشرة امرأته وهى فى هذه الحالة، فقد قال تعالي”فاعتزلوا النساء فى المحيض” (البقرة 222) وكذلك ينكحها الشيطان إذا أتاها زوجها دون غطاء يستر عورتهما، كما ينكحها إذا أتاها زوجها قبل أن يستعيذ بالله، فقد قال الرسول الكريم ‘ إذا جامع الرجل زوجته ولم يسم انطوى الشيطان إلى إحليله فجامع معه “والمولود فى كل هذه الحالات هو فى حقيقته ابن الشيطان، وليس ابن هذا الزوج المخدوع الذى تسمى باسمه فى شهادة الميلاد زورا وبهتانا.. وكثيرا ما نسمع بعض العامة وهم يقولون “دول ولاد أبالسة، أو ولاد شياطين” وهى عبارة لها أساسها العلمى الصحيح، وأولاد الشيطان من نساء الإنس هم المخنثون أى الشواذ جنسيا، كما قال ابن عباس، ولهذا فإنه ليس غريبا أو مستغربا أن يميل هؤلاء المخنثون إلى والدهم الحقيقى وهو الشيطان فيحبونه إلى درجة التقديس ويعتبرونه القدوة والمثل الأعلى لهم فى تصرقاته المهينة وسلوكياته المشينة، لأنه من الطبيعى أن يحب الإبن أباه ويقلده ويترسم خطاه ومن شابه أباه فما ظلم”.
الموقف:
أولا: نعلم أن هذا المقتطف قد نال ما يتسحق من تعليقات، من أول سلامة أحمد سلامة فى الأهرام حتى حسين أحمد أمين، ونرجو أن يكون موقفنا مختلفا ومكملا معا؟
ثانيا: إن ما نريد الإشارة إليه ليس وظيفة كاتبه الفاضل ولا المحتوى الذى نوقش وشجب هنا وهناك
ثالثا: نطلب من القارئ قبل أن نعلن موقفنا تحديدا أن يتخذ هو موقفه الخاص وخاصة بعد أن أبرزنا بعض ما نريد التأكيد عليه ببنط أسود
رابعا: نشير على القارئ أن يربط بين أول الكلام – المكتوب ببنط أكبر- وآخره
خامسا: نحاول معا أن نعرف معنى كلمات وتعبيرات مثل “يفكر فيه ويعقله ولا يجيز له أن يقول مقالا إلا بعد أن يعرضه على العقل ويقبله مصدقا.”ثم تعبير “وهى عبارة لها أساسها العلمى الصحيح، ثم نتساءل هل كلمات “يفكر”، و”عقل” هى هى التى نعنى بها “يفكر” و “عقل”، وهل كلمات مثل ‘ أساسها العلمى السليم” هى هى التى تعنى “أساساها العلمى السيم ؟
سادسا: ثم نطلب من القارئ أن يتقمص كل من التالى بيانهم وهم يقرأون هذا فى الأهرام : (ا) شاب فى السنة الثانية الإعدادية (ب) امرأة متزوجة متدينة تدينا عاديا بسيطا لا تقرأ فى كتب الفقه (جـ)”خواجة” مستشرق يعرف العربية (ء) باحث مسيحى قبطى طيب فى معمل أبحاث الطاقة النووية (هـ) تنويرى يستعمل نفس الأبجدية التى استعملها الكاتب، مثل ألفاظ: “يفكر” “عقل” “أساس علمى سليم”.
سابعا: أن يخطرنا كل من يهمه الأمر (أمر الأمة، وأمر الإرهاب، وأمر الدين، وأمر الأزهر، وأمر العقل ) هل رد على هذا الكلام تحديدا: أى من السلطات الدينية الرسمية، أو المفكرين المسلمين المعتدلين، ردا محددا ناقش فيه مسألة المقدمات والتوالي، وعلاقة ما ورد فى المقتطف بطريقة قراءة التراث.
تعقيب
لقد أوردنا هذا المقتطف هكذا لننبه فى النهاية أن المسألة ليست مسألة شباب ضل طريقه، ولا هى مسألة إسرائيل تتآمر علينا، ولا هى مسألة غسيل مخ، ولا هى مسألة سوء تربية، ولا هى مسألة عدم وجو دمراكز شباب، وعلى الرغم من أن كل ذلك وارد حتما بدرجة أو بأخرى ، إلا أن الخطر كل الخطر يكمن فى أن اللغة لم تعد تفيد معان متفق عليها، وأن اعتمادنا على المؤسسات الدينية الرسمية التى نكن لها كل احترام وتوقير، وخاصة الأزهر، لا ينبغى أن يكون اعتمادا غير مشروط، فمصداقية القراءة وإعادة القراءة، وتطور اللغة، وصالح الناس، وتحديات الحضارة كل ذلك تلزم كل إنسان -بلا استثناء- أن يتخذ لنفسه ولدينه ولوطنه موقفا من كل ما يصل إليه من كل مصدر
“بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره….”
“وإذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ….’
وسيحاسبنا الله على كل ذلك، فردا فردا
مقتطف (2) أنا لا أفكر إذن أنا موجود
د. نوال السعداوى الأهرام 6 / 2 / 1997
” كثيرون تناولوا ما عرف باسم التفكير الدينى لبعض المفكرين من النساء والرجال فى بلادنا . قليلون الذين تناولوا ما يمكن أن يسمى التفكير العقلانى فالعقل المفصول عن الحواس والجسد والقلب والفؤاد قد يتحول إلى سيف أشد قسوة من السيوف المادية الحقيقية التى تقطع رأس من يفكر فى المقدسات العليا فى السماء أو فوق الأرض.
فى ربيع عام 1994 فى جامعة ديوك الأمريكية بولاية نورث كارولينا جاءنا المفكر الفرنسى المشهور فى العالم جاك ديريدا ليلقى علينا محاضرة عن صراع الثقافات فى عصر ما بعد الحداثة يمكن القول دون مبالغة أن لغة المحاضرة كانت معقدة شديدة التعقيد غامضة شديدة الغموض فلم يفهمها أحد من الأساتذة الكبار أو الصغار أو طلبة الجامعة وطالباتها .
….. تكمن المشكلة فى رأيى فى سيادة النقل عن الكتب والنصوص أكثر من سيادة التجارب الذاتية فى الواقع المعاش، ولهذا السبب تغيب البديهيات أو الأسئلة الطفولية الذكية قبل الضرب بالعصا فى المدارس والبيوت، أو العبارات الشعبية البسيطة التى سمعتها من جدتى الفلاحة مثل ربنا هو العدل عرفوه بالعقل إننا نفقد هذا الذكاء الفطرى من المهد إلى اللحد بسبب طغيان القيم الطبقية الأبوية على القيم الإنسانية العادلة فى حياتنا العامة والخاصة”.
الموقف:
المسألة تحتاج إلى تنبيه فعلا، بل ربما إلى صرخة، أو استغاثة، ، وأيضا مسألة التضحية بالذكاء الفطرى لصالح التفكير المعقلن المنفصل عن هارمونية الجسد وكلية الوجود ونبض التجربة،
إلا أن المسألة بالنسبة للعالم المتخلف (أو قل النامى ، والغافى أو المخدر ..إلخ) هى مسألة شائكة وخطيرة، والخلط بين البدائية والفطرة النامية وارد، وأيضا الخلط بين التفكير بالجسد (بالقلب- بالحواس.إلخ) والتفكيرالخرافى العشوائى وارد أيضا، ولا يوجد حل لهذه المعضلة حل سهل.
(1) فالدعوة إلى التنازل عن التفكير – هكذا- هى لصالح كل ما هو مظلم وخرافي، ونحن لا ينقصنا المزيد من أى من هذا أو ذاك
(2) والدعوة إلى العودة إلى الثقة بالتلقائية الحيوية للوجود البشرى (الفطرة) هى -بالنسبة لنا الآن – مخاطرة غير مأونة، وهى سوف تنتهى – على الأرجح- إلى ردة إستسلامية لنصوص غير مـبررة، وغير قابلة للاختبار تحت زعم أنها الفطرة الثابتة (والفطرة غير ثابتة أصلا)
(3) كما أن التسليم للعقلنة – ولا نقول للعقل- هو أمر لن يؤدى فى نهاية النهاية إلا إلى نوع من التبعية المطلقة لناس سبقونا على هذا الطريق حتى شبعوا منه بأخطائه وحسناته، ثم هو يطورونه الآن إلى ما بعده.
فما العمل ؟
لا يوجد رد سهل حتما
إلا أن صياغات أخرى واردة تستحق النظر :
1- مثلا تعبير ‘ أنا أفكر إذن أنا لست موجودا، لا تفكر ولكن إستعمل التفكير ([1]).
الفرق بين هذا التعبير أو الاقتراح وبين عنوان المقال المقتطف هو أنه فرق بين استعمال التفكير، وبين أن يكون التفكير هو هو الوجود نفسه، وكأنه يضع الوجود بكل تجلياته أصلا، ويضع التفكير (وسائر القدرا ت والملكات الجزئية) بمثابة اللبنات التى تتجمع معا فى كلية التركيب البشرى ليتكامل بها الوجود الإنساني
إن الموقف الذى نتخذه من هذا المقتطف هو الاحترام والتقدير، وأيضا التشريط والتحذير، فنحن ننبه مع الكاتبة أن الاقتصار على التفكير خطر على نبض البشر وتكاملهم، بقدر ما ننبه أنفسنا وإياها إلى استحالة الاستغناء عن التفكير
والدين (دون الاقتصار على النصوص الدينية) والفن (دون اختزاله إلى المـنتج الفنى) والخبرة المعاشة (دون الوثوق بالشطحات الفردية غير المختبرة فى التطبيق أو مع الآخرين) كل ذلك وسائل معرفية ينبغى أن تأخذ حقها فى توجيه البشر
وأخيرا فإن الجسد المهمل خوفا أو خطأ أو اغترابا ينبغى أن يعود إلى موقعه الأساسى فى الإسهام المعرفى والتكامل الوجودى([2]) .
ولكن هذا يحتاج إلى موقف أكثر تفصيلا نفضل تأجيله الآن.
مقتطف (3) عودة الفلسفة: ترف أم ضرورة اجتماعية؟!
د. مجدى عبد الحافظ الأهرام فى 13،20 / 12 / 1997
نرى ظاهرة تنمو وتزدهر بشكل متسارع خارج حدودنا، ألا وهى ظاهرة خروج الفلسفة من أجوائها الأكاديمية المعهودة إلى فضاءات أرحب فى قطاعات عديدة من المجتمع بفعل طلب جماهيرى متضاعف وغير مسبوق إلى الفلسفة.
…….وإذا كنا اعتقدنا فى سنوات السبعينيات أن الفلسفة سوف تذوب داخل العلوم الإنسانية خاصة فيما سمى بفلسفة العقل واندرج فيما عرف بالعلوم العقلية لدى سيرل (1932) وبتنام (1926) وفودور (1935) ورورتى (1931) وغيرهم.. فإننا نعاين اليوم مشهدا آخر لم نتوقعه من قبل، وهو أن العلوم الإنسانية ذاتها هى التى تتجه نحو الفلسفة لتستلهمها . هذا بعد أن شعر الإنسان فى هذا العصر بمدى حاجته الشخصية للفلسفة، وفهم أن التفلسف هو العيش هنا والآن.
لأول مرة تحقق الكتب الفلسفية توزيعا جماهيريا منقطع النظير، فعلى سبيل الثمال وليس الحصر حقق كتاب “عالم صوفي” للنرويجى جوستان جاردير توزيعا بلغ فى النرويج التى لم يتجاوز سكانها الملايين الخمسة بعد، مليون نسخة، بينما وزع فى المانيا نفس العديد، وبلغ توزيعه فى فرنسا مليونا وسبعمائة ألف نسخة، كما باع كتاب اندرية كونت سبونفيل: “الرسالة الصغيرة للفضائل الكبري” مائتى ألف نسخة مما يؤكد أن هناك طلبا حقيقيا ونهما جماهيريا فيما يتصل بالفلسفة،
كما حرصت المجلات الأدبية والثقافية على معالجة موضوعات الفلسفة ومحاورها فى ملفات خاصة بأعدادها ففى الفترة الأخيرة قامت مجلة العلوم الإنسانية بعمل ملفين حول موضوع الفلسفة الأول تحت عنوان “الفلسفة اليوم” والثانى تحت عنوان “من الحداثة إلى ما بعد الحداثة.
أكثر من ذلك بدأ ما يسمى بمقاهى الفلسفة بعد افتتاح أولها، وانتشرت هذه المقاهى فى باريس وسرعان ما انتقلت إلى مدن ليل، وكرييي، وليون لتنتقل الظاهرة اليومن إلى كل من مدينتى نيويورك وطوكيو اللتين افتتح بهما اخيرا. واصبحت تثار فى هذه المقاهى اسئلة الفلسفة الإشكالية، ويخصص كل مقهى من هذه المقاهى يوما محددا، وساعات محددة اسبوعيا بالإتفاق مع فلاسفة المقاهي،
كما راجت ظاهرة شرائط الفيديو التى تتناول النقاشات الفلسفية فى التليفزيون أو فى المقاهي، أو فى الندوات التى تنظمها الجرائد والمجلات بالاشتراك مع بعض دور النشر، بل أصبحت هذه الشرائط فى ازدياد لتلبية الطلب عليها.
عودة الفلسفة: تكوين عقل جديد وتأسيس المعنى
أصبح فى مقدورنا اليوم (إذن) أن نجد ممارسا فى عيادة فلسفية ….، كما أصبح فى مقدورنا أيضا أن نجد مستشارا متخصصا فى الفلسقة يعين فى شركة أو مؤسسة.
……………………
أقيمت عديد من الندوات المشتركة بين المتخصصصين فى علم الأعصاب الحيوى للمخ وبين فلاسفة العقل، وبين علماء الطبيعة الذرية وبين مفكرى الصدفة، وبين علماء الأنظمة الديناميكية وبين الفينومينولوجيين.
……………………
تحاول هذه العودة التركيز على أربع إشكاليات أساسية. حيث تمثل فى الواقع مصدر القلق الفلسفى
1) أزمة العقل : (دون الإذعان لنزعة اللاعقلانية)
2) النزعة البراجماتية والاتصال والتعقيد : …. نظرية الفعل الاتصالى التى يمكنها أن تؤسس شرو ط حوار مشترك …إن النقاش النقدى الحر هو الذى ينبغى أن يأخد خطوة على طريق البحث عن الحقيقة النهائية
3) البحث عن نزعة إنسانية جديدة …، وتندرج ضمن خريطة الأخلاق
4) من علوم العقل إلى فلسفة الحق :
…إن انطلاقة العلوم العقلية قد أثارت نقاشات غنية ومتجددة باستمرار وعملت على خلق تأمل جديد لمشكلة العقل- جسم، وهو ما أدى إلى تنشيط المشكلة الفلسفية القديمة فى العلاقة بين الجسد والعقل.
الخاتمة:
هل آن لنا أن نلقى بحجر فى هذ ه البركة الآسنة التى عشقنا روائحها وأمراضها
الموقف:
منذ صدرت هذه المجلة يناير 1980، وونحن نحاول أن نلقى بهذاالحجر فى هذه البرك الآسنة جدا، ونحن لم نعشق روائحها وأمراضها فحسب بل إن هذه الروائح والأمراض أصبحت ضرورة لا نستطيع أن نعيش بدونها، وقد كان باب “حوار” الذى استمر قرابة عشر سنوات، هو محاولة للحركة فى هذه المنطقة، وكان الدكتو ر محمد السماحى من أكثر أبطاله انتظاما فى السجال، وكذلك محمد جاد الرب، وأحمد المدثر عيسى ، وبالرغم من الظلم الواقع على المحاور الضيف الذى كنا نقطع أوصال خطابه إلى أجزاء ثم هات يارد، دون أن نعطيه الحق -فى نفس اللحظة ونفس العدد – إلى الرد الحقيقى والتوضيح، بالرغم من كل ذلك فإن القارئ كان يشاركنا ويحاول، ولما كثرت الاحتجاجات، وصدق أصحاب الحق، كان لزاما علينا أن نراجع أنفسنا فتوقفنا، اللهم إلا بإذن المرسـل خطابه أن يضحى بحضوره الذاتى خدمة لتحريك الفكر.
المهم سافر د. السماحى لمهمة علمية فى المملكة المتحدة، وعلمنا من الزميل الدكتور مجدى عرفة أن الدكتور السماحى يفقتر هناك إلى مثل هذا الحوار، وأن يتطرق إلى فتح باب هذه المواضعى الفلسفية يعتبرونه مسفسطا أو لاغيا أو مضيعا للوقت، ونحن غير متأكدين من مصداقية أو مشروعية تعميم هذه الرسالة التى وصلتنا شفاهة.
ثم نفاجأ بهذا المقتطف وكأنه يرد على تساؤل طال أكثر من خمسة عشر عاما فنؤكد من خلاله موقفنا كالتالى:
1- إن الفلسفة -فعل الفلسفة، ممارسة الفلسفة – تبدأ بتساؤلات الطفل الحقيقية والطازجة، وتظل هذه التساؤلات كما هى حتى نقضي، لكن الإجابات تظهر لتختفى وتحل محلها إجابات محتملة أخرى وهكذا، وإن أى إنسان أو مجموعة من الناس يتخلون عن هذه التساؤلات بدعوى العثور على إجابات يقينية فقد تخلوا عن حقهم فى ممارسة الفلسفة، أى ممارسة فى الحياة.
2- إن الفلسفة -فعل الفلسفة، ممارسة الفلسفة – يمكن أن تنقذ المثقف من غلبة جانب واحد من عقله، دون أن يجن، وعليه – وعلينا – أن نتذكر أن الفلسفة ليست معلومات متحذلقة، ولا أيديولوجية منمقة تابعة لمدرسة بذاتها (حتى لو كانت مدرسة فلسفية)، وإنما هى موقف فكرى كلي، أى موقف كيانى (حياتى ).
3- إن الذى يحول ضد ممارسة فعل الفلسفة هو الجمود الدينى الذى يتنافى مع إبداع الإيمان،
4- كما يحول أيضا ضد فعل الفلسفة مفهوم اختزالى للعقل يؤدى إلى اختناق خائف داخل منهج ضيق محدود أو محتـكر للبحث العلمي
5- إن حظر ممارسة الفلسفة – بقهر الدين السطحى ،وقهر العلم المختزل معا- هو المبرر للجنون، حيث لا يجد الناس سبيلا إلى الاختلاف والمراجعة إلا بالشذوذ السلبى ، أى الجنون. وعلى ذلك يصبح الجنون هو الوسيلة المتاحة للتفكير “الآخر ‘، وللأسئلة بلا أجوبة جاهزة، ولمراجعة الكليات، وللنظر فى جدوى حقيقة اللحظة، وفى النظر إلى علاقة الكلمة بمعناها، وفى الحديث بالجسد، وكل ذلك -للأسف – يمارس فى خبرة الجنون بفردية خطرة، ومن ثم فإن الناتج سلبى حتما(ومن ثم يمكن أن نتصور الجنون على أنه عفريتة -نيجاتف- لفعل الفلسفة)
6- إن الكافة – بعد أن يئسوا من فرط الحيرة بين المؤسسات الدينية الساكنة، والجماعات الدينية القاتلة، تنازلوا عن حق التفكير أصلا. تحت دعوى أن التفكير إما أنه حرام، أو أنه لا طائل وراءه
7- إن هذا المقتطف ينبهنا إلى أن للمسألة جانب نفعى مباشر فى الحياة العامة، وأن التعبير الشائع : “كفى (بطل) فلسفة خلينا عمليين” هو تعبير خاطئ، وبالتالى يصبح التفكير الفلسفى هو فعل مفيد، وليس عقلنة لتزجية الوقت أو تدريبات لتجميل عضلة العقل فى مسابقة “جمال العقول المنفصلة عن الوجود”، وهذه المسابقات هى التى تمارس -دون هذا الإسم- على كثير من مقاهى المثقفين، وغالبية من ندوات المعقلنين، وما جاء بالمقتطف ينبهنا فى هذا الصدد إلى أمرين : الأول: أن مقاه الفلسفة ليست هى مقاهى المثقفين التى اعتدناها مؤخرا، والثانى إن القول أن مسألة الفلسفة هى “تضييع للوقت”، هو قول خائب، لأن إثراء الحياة أصبحت له مقاييس أخرى أعمق نفعية .
تعقيب عام:
إن التحدى الملقى علينا أكبر من كل تصور، لأن كل ما طرح من مناقشات فى هذا الباب هذا العدد يمكن أن يؤخذ من منظور سلبي، فيبرر الجهل، والتنازل عن إحكام المعرفة، وقول “أى كلام” باعتباه نوعا من التفلسف ..إلخ، ولا ينفع فى مواجهة هذا الخطر أن نوصى بالمنع الكامل، ولا بد أن ندفع الثمن، وأن نضحى ببعض المضاعفات وكثير من سوء الاستعمال إذا كنا سوف نغامر بألا نستسلم لا للتبعية والاختناق، ولا للعشوائية والبدائية والشطح.
نعم، يبدو أنه ليس لنا خيار فى ضرورة المغامرة.
[1] – حكمة المجانين (يحيى الرخاوى) ص 30 دار عطوة للطباعة – القاهرة 1980.
[2] – مراجعات فى لغات المعرفة (يحيى الرخاوى) المعرفة والجسد ص 104 دار المعارف – القاهرة 1996.