مجلة الإنسان والتطور
عدد يناير 1982
حول طبيعة المعرفة
(المواجهة بين الفطرة والتعلم)
محمد يحيى
يغامر كاتب هذا المقال بالاقتراب من طبيعة المعرفة بتصور نسق مسبق قابل للجدل والتطور، ويسهم فى قضية المعرفة باجتهاد متواضع، وهو يشعر بمخاطرها الى حد الجنون، وبروعتها الى حد النبوة .
اذ كان الانسان يولد وفى داخله قوة هائلة ترغب فى المعرفة، فهذه محاولة للنظر فى كيفية حصول هذه المعرفة من خلال تطور ما سيطلق عليه فى هذا المقال اسم (المنظومة المعرفية) لتدل على ذلك النظام المتكامل الذى تنظم فيه معارف الفرد، وبدون هذا النظام على أية حال كان(سلبيا أو ايجابيا، مختبئا كان الفرد او مواجها)، فان الفرد يعانى ما قد نطلق عليه قلقا أو توترا أو ضياعا أو ضبابا كما يحلو لكل أن يسمى هذه المعاناة التى تنتج عن تنافر أو تخبط تلك المعارف المفردة بعضها ببعض اذ هى لا تنتظم داخل اطار يجعل ما بينها تكاملا لا تنافرا، تفاعلا لا تخبطا.
وهذا المنظور يفترض ولادة الانسان وبه(منظومة فطرية)، تلك التى ينتظم فيها كيانه قبل أن يحصل من الخارج على أية معرفة جديدة، وفى لحظة حصوله على أول معرفة جديدة يبدأ الفرد فى تخطى تلك المنظومة الفطرية، فاى معرفة جديدة، هى بالضروة لا تنتظم فيها (طالما هى جديدة)، وتزداد المعارف والمعلومات الواردة من الخارج، عندئذ قد تتدخل المراجع الاجتماعية لتحكم أولا كم المعارف الواردة، ثم لتحجر على حركة هذه المعارف فتتجمد فى ظل منظومات الأفراد المرجعيين الخاصة، فتتكون منظومة مأخوذة من تلك المراجع سنطلق عليها هنا اسم (المنظومة المكتسبة)، وهذه تبقى كما هى بلا تحول أو اضافة أو تطور، وغالبا ما تكون هذه المنظومة علامة انحدار عن المنظومة الفطرية والغاء لامكانات المعرفة المصاحبة لها (أو الكامنة فيها)، وهى انحدار لا تطور لأنها تجمد المنظومة الفطرية وتشلها، مع ما قد يوجد فى هذه المنظومة من استعدادات معرفية أو تطورية، وهذا هو حال معظم الناس للأسف.
وعادة اذا ما تخطى الفرد المنظومة الفطرية باكتسابه اى معرفة جديدة، فانه لا يجد سبيلا للرجوع اليها حتى يبدأ من جديد، حيث أن المعارف الجديدة موجودة بالرغم من كل شئ، وهى لا تدخل فى بناء هذه المنظومة، حيث أنه اذا ما تكونت المنظومة المكتسبة المتجمدة، فانه لا سبيل الى التطور بعد ذلك الا بتفككها لاعادة فتح أبواب الاستقبال، وهذا بالطبع لا يحدث الا مع الندرة، ولكن اذا ما حدث فهنا يمكن الخطر كل الخطر( خطر الجنون مثلا) .
والاحتمال البديل عندما يتخطى الفرد تلك المنظومة الفطرية اذ تعجز عن احتواء المعلومات أو المعارف الجديدة الواردة، هو أن تظل المعلومات تتخبط ولا تعرف لها اطارا أو نظاما تنتمى اليه، وهنا تبرز مشكلة الضياع والتوتر أو القلق (أو غيرها من المسميات) التى يحس بها الفرد، فالمعلومات ناقصة وغير مفسرة، أوهى مفردة لا تجد قانونا أو اطارا ينظمها لتنتج كلا أكبر من مجموع الأجزاء، ولست أرى حلا لهذا سوى الاستمرار فى البحث سعيا الى منظومة تنتظم فيها هذه المعارف، فاذا ماوعى الفرد هذا التخبط (أو التنافر) بين تلك المعارف، عاش فيما يسمى بحيرة التساؤل أو جهاد المعرفة، وقد تبلغ هذه الحيرة من الشدة ما يؤدى بصاحبها الى الاضطراب الذى لن يكون مرضيا بالضرورة، اذ هو أخف بكثير من حالة تفكك المنظومة المكتسبة.
وقد يكون نتيجة هذه الحيرة، اذا طالت بلا حل، هو الهروب الى منظومة مكتسبة مبطنة بالمشاركة مع الغالبية، ولكن هذه المنظومة فى الغالب ما تكون أقل استقرار مما لو كانت قد تكونت منذ البداية .
أما الوجه الايجابى المتماسك الذى قد ينتج عن تلك الحيرة فهو ذلك النهم المعرفى الذى قد يغمر الفرد فيفتح أبوابه المعرفية، وهذا النهم وظيفته أن يزيد عدد مفردات المعرفة الجديدة، تلك التى تمثل عناصر بنية المنظومة الجديدة .
ويظل الحال هكذا حتى يكتشف الفرد تلك المنظومة الجديدة التى تختلف مع مجرد الاكتساب ولا تكتفى بمجرد الفطرة، وفى تصورى أنه يكتشفها موجودة بداخله وقد تم بناؤها فعلا، فهو لا يحاول (متعجلا أتمام البناء قبل استيفاء عناصره) أن يصنعها أو يحيكها مستنبطا قوانينا عقلية منطقية مهما كان صدقها فهو صدق جزئى اذا لا ينتمى انتماء أساسيا للنظام الذى يحوى الكل ويرتب التفاعل بين أجزائه، وقد يكون من نتائج عجزه عن الوصول الى تلك القوانين المنطقية الجزئية أن يضطر الى التزييف بالتأويل والبعد عن الواقع كما قد يتضح فيما بعد، المهم أن هذه المنظومة( التى يكتشف تكوينها) من الممكن تسميتها هنا ( المنظومة التطورية).
وتظل هذه المنظومة التطورية مفسرة لمعارف الفرد، ولكن عملية اكتساب المعارف أو المعلومات لا تتوقف، وهنا قد يجد الفرد أن المعلومة الجديدة أو التساؤل الجديد له مكانه المقبول فى المنظومة التطورية الجديدة، سواء أكان هذا بتقبل بناء المنظومة للمعلومة، أو برفضها بمعنى أن المنظومة استطاعت ان تلغى القضية ايجايبا، أو باكتشاف وجود بديل لها بالمنظومة وان لم يكتشفه الفرد الا عندما أثيرت هذه القضيةن أو بغير ذلك من اشكال حل القضايا أو قبول المعلومات حسب نوع هذه القضية أو المعلومة أو التساؤل .
ولكن تبرز هنا قضية غاية فى الأهمية، وهى طريقة قبول هذه المعلومة فى المنظومة، والقضية تتضح عندما نعلم ان الفرد لا يبذل جهدا ذهنيا تفكيريا يحاول به ادخال هذه المعلومة فى المنظومة، اذ لو فعل (وغالبا ما يكون هذا بطرق ملتوية) لكان هذا – بشكل ما – تجميدا للمنظومة الحاضرة (الجاهزة) لا تغرى بالمخاطرة، فهى كيان قائم (قام) وانتهى الأمر، ولكن لو ان المعلومات أو المفردة المعرفية الجديدة كانت قد وجدت مكانها القائم فى هذه المنظومة، والذى لم يكن ليحتاج الا أن يعى الفرد أنه موجود، لما واجه الفرد مشكلة التجمد أو اضطر للهرب، فالمنظومة الموجودة لا تزوال قادرة فعلا على الاستيعاب، فالخطأ يكمن فى رفض المعارف أو تأويلها، او تحوير المنظومة القائمة وزيادة مفردات المعرفة وتطويرها ثم اعادة انتظام المعلومات فى بناء جديد سيكون فيما بعد المنظومة التطورية الأرقى .
والمعلومات لا تحور فقط لتدخل فى اطار المنظومة، بل ان المعلومة تستخدم كذلك لتأكيد صحة المنظومة وتقوية تجمدها (فلقد استطاعت أن تحتوى المعلومة الجديدة ولو كانت محورة) وهذا يبرر للفرد عملية التحوير(فيجعله يغض النظر عنها وكأنها لم تحدث)، ويظهر هذا الشكل عند معظم أولئك الذين مع أهل العلم مع أهل السياسة والفكر القائم (وليس التفكير)، وان كان بعضهم لم يصل حتى لمرحلة اكتشاف المنظومة التى ثبت عليها، بل تلقاها وثبت عليها، مثله كمثل من تلقى منظومته الأولية من مراجعه الاجتماعية (الأسرية وما حولها) فهو لم يختلف الا فى اتساع النطاق، فبدلا من المراجع الاجتماعية الضيقة النطاق والافق، اتخذ مراجعا أخرى، دينية كانت أو سياسية أو حتى تاريخية أو غيرها.
أذن فالمقصود بأن المعلومة تجد مكانها فى المنظومة، هو أنه اذا كانت المنظومة بناء متكاملا قائما بذاته، فقد لا يرى الفرد كل مكوناته، ولكنه عندما يواجه بوجود هذه اللبنة( المفردة المعرفية الجديدة) يجدها قائمة فى بناء المنظومة، بل انها قد تكمل له بعض جوانب البناء التى كانت خافية، نجد هذا فى مقابل تحوير وتأويل المفردة المعرفية بالبعد عن الواقع لتدخل فى البناء القائم فعلا .
وقد يحدث أيضا أن يستبعد الفرد المفردات الجديدة اذا لم يجد لها مكانا فى المنظومة المعرفية، فهو يلغى المعلومة من أساسها (وهذا غير تحويرها او تأويلها السابق ذكره)، وان لم يلغها فهو يستبعدها (وهذا فرض افضل أو اكثر واقعية) بحجة أن لا علاقة له بها مثلا، وأصحاب هذا الموقف هم من غير المتحمسين من المنتمين لمنظومة ارتضوها واكتفوا بها، كما أن ذلك هو موقف أصحاب المنظومة الأولية المكتسبة دون تحوير .
كما أن هناك البعض ممن لم يغلق منافذ الاستقبال والمعرفة، وأن كان لا يبحث عنها تنازلا عن القضية بأكملها بسهولة ويسر، فان تكونت بعض الارتباطات المعرفية الجزئية فأهلا بها، وأن لم تتكون فلا داعى، وما عرف قد عرف وما لم يعرف فليس يهم أحدا، وكان الله بالأسرار عليما.
لكن ماذا يحدث للمنظومة القائمة لو أن الفرد المستمر المجاهد (وعفوا للصفات التى فقدت معناها – أصحابها -) لم يجد للمعلومة الجديدة مكانا بها، اذا واجه هذه الحقيقة فهو سيعلم حتما أنه قد تخطى مرحلة المنظومة الحالية، ولكن المفردات تظل تتكاثر خارج المنظومة السابقة وقد أتصور أن بقاء المنظومة السابقة رغم تخطى الفرد لها ضرورى ومساعد هام على الاستمرار، فوجودها يجعل هناك اساسا، ولو منهتكا، يستند اليه الفرد، وقد تتكون فى هذه المرحلة منظومات مرحلية مساعدة، وهى أرقى بالضرورة، وهى مرحلية اذ هى جزئية، بمعنى أنها احتوت كل المفردات،(وهل يستطيع الوصول لتلك المنظومة الجامعة الا نبى، ومن المفترض بالطبع أن تكون المفردات هائلة عند مثل هذا الشخص صاحب تلك الصفات – اللهم احفظنا -)، وهذه المنظومة المرحلية لها نفس وظيفة المنظومة السابقة، وهى الاعانة على التماسك فالاستمرار، وان كانت أكثر حداثة وأقل تهتكا، وبالتالى فهى أكثر فعالية، بل ان تكونها فى حد ذاته مشجع ومطمئن كبير على أن العجلة لم تتوقف، وهذا عامل قد يكون له أثره الكبير فى التخفيف من وطأة اليأس.
والآن، هل من الممكن أن نرى من خلال هذه النظرة ما يمكن أن نعممه ليوضح شيئا عن قفزات ومراحل نمو الأشخاص من منظور نفسى؟
– أو هل من الممكن أن ننتبه الى امكان تدخل مفهوم المنظومة العامة(المشتركة)
تدخلا جبارا(وقد يكون عاملا رئيسيا) فى قيام الحضارة؟
– أو هل فيها ما يمكن أن يعاد به النظر الى مشكلة التطور البيولوجى؟