مقتطف وموقف
المقتطف (2)
ماذا نعلم أولادنا فى مجلات الأطفال..؟؟؟
[الشاويش عطية و الأخصائى النفسى= هيبة الدولة و خيبة التخصص]
مقدمة:
أنا من قراء ميكي, وما يفوتنى فى العدد الأسبوعى قد ألحقه فى بعض المجلدات المتناثرة فى أشياء بناتى أو أحفادي, ثم إنى من مشاهدى إسماعيل يس, وحين حضرت شابة (فرنسية الجنسية- مصرية الأب- عربية اللغة المصرية العامية- جميلة المحيا) حين حضرت تسألنى سؤالا لم يخطر على بالى يقول: “لماذا يحب الأطفال إسماعيل يس ولا يحبون عادل إمام ؟) فرحت بالسؤال جدا, فأنا أفرح بالسؤال الذكى أكثر من فرحتى بالإجابات عامة, بما فى ذلك إجاباتى غير اليقينية, وقبل أن أجيب كتابة قلت لسائلتي, بل وبعض الكبار أيضا يحبون إسماعيل يس(وربما كنت أعنى نفسي).
وحين استشارنى بعض الأصدقاء التشكيليين فى مشروع مجلة للأطفال, أعطونى منها أول عدد تجريبي, لم أجد فيه ما توقعت, ولا ما أريد, ولا ما آمل..إلخ, وكتبت تعليقا مكتوبا, لم يطلبه منى أحد, وأحسب أنها لم تصدر (يـسأل فى ذلك الفنان: محيى الدين اللباد على ما أذكر), ثم تابعت عن بـعد اهتمامات الصديق الحرفوش بهجت عثمان, ولم أعلق لأنى شعرت أن بها شيئا يحتاج لإحاطة شاملة قبل أن أطمئن إلى توظيفه.
ثم صدرت مجلة “علاء الدين” عن الأهرام وعلقنا فى “الإنسان والتطور” على ذلك تعليقا ناقدا يصف ما وصلنا منها من فتور نصائحى دون خيال عصرى أو غيرعصري. وقد عزفنا فى مجلة الإنسان والتطور أن ننتقد مجلة بذاتها, أو موضوع بعينه نذكر فيه إسم المسئول أو المجلة حتى نتفرغ لتنمية ما هو إيجابى فى هذه المرحلة, ونجنب أنفسنا لعبة الهجوم والدفاع, والكر والفر وما إلى ذلك, إلا أن الأمر وصل إلى حد احتمال الإضرار الجسيم العدد تلو الآخر فى هذه المجلة الوليدة “بلبل” (ولعل الأمر كذلك فى “علاء الدين” أيضا, التى توقفنا عن متابعتها بعد قليل ربما لكى لا نـستدرج إلى ما لا يفيد, أو لأننا لم نجد من يسمع).
وسوف نقدم صورتين لما جاء فى عددين متتاليين من مجلة بلبل (العدد12, 13 نوفمبر 1998)
المقتطف الأول: الشاويش عطية
(مجلة “بلبل” دار أخبار اليوم: العدد 12ص: 4-6 نوفمبر1998): كنا نود أن نعرض الحكاية بالصور لأن دلالتها أكبر, لكن فضلنا فى النهاية أن نوجزها كما يلى:
ظهر الشاويش عطية يكلم زميله شاكيا من ارتفاع ثمن المغسلة الآلية, وأنه يدفع نصف مرتبه لتنظيف الزى الرسمي, وأنه يفكر “فى شراء زى جديد كل مرة بدلا من دفع النقود للمغسلة”, فيضحك منه زميله (فصيح) أن: “هاهاهاها, يبدو أنك لا تعرف الخدعة ” ثم يأخذه بنفسه ليريه الخدعة, فيقفان بجوار الرصيف, وتحتهما مباشرة فى الشارع كمية كبيرة من الماء – القذر فى الأغلب- فتمر بهما عربة توازى الرصيف بلا مخالفة ولا سرعة فائقة, فتتناثر المياه عليهما فتلوث ملابسهما, فيصفر الشاويش فصيح بصفارته الرسمية (الميري) فتقف العربة, ويتساءل قائد السيارة, فينهره الشاويش فصيح قائلا ” أتترك كل مساحة الشارع وتسير بجوار الرصيف وتسبب لنا هذه الخسائر”(أنظر:لم يقل له تسير بسرعة, ولا مخالفا!!) فيحاول قائد السيارة أن يعتذر لكن فصيح يبادره أنه “..لن أقبل, أى لكن…إما أن أحرر لك مخالفة أو تدفع فورا ثمن تنظيف هذه البدلة, فيدفع قائد السيارة ثمن تنظيف البدلة, وهكذا يتعلم الدرس(الخدعة كما سماها زميله) الشاويش عطية, ثم يقابل زميلا نحيفا آخر (إسمه سلوع) يجده واقفا على الرصيف أمام بركة الماء الصغيرة فيسأله “هل شرح لك فصيح هذه الخدعة ” فيرد عليه سلوع” فصيح؟ بالطبع لا, فهذه خدعة قديمة يعرفها كل من يعمل فى الشرطة” ثم ينتقل المنظر ليظهر أربعة من زملائهما يكررون نفس اللعبة, فتمر سيارة تقودها سيدة نـتبين بعد ذلك أن اسمها عطيات, ثم نعلم فى آخر صورة أنها زوجة الشاويش عطية, ويدور هذا الحديث بينهما:
”-لماذا يا عطيات كنت تسيرين بالقرب من الرصيف؟”.
فترد عطيات:
= وهل كنت أعرف أنكم تقومون بعمل اجتماع هنا, على العموم لقد أخذ زملاؤك (مكتوبة زملائك) كل مرتب هذا الشهر لتنظيف ملابسهم”
إنتهى المقتطف.
الموقف:
ماذا يريد أن تقول المجلة لأطفالنا من هذه القصة ؟ ما وصلنى هو ما يلي:
(1) إن شخصية الشاويش عطية التى ظهرت مع “إسماعيل يس فى الجيش”, ” إسماعيل يس فى البحرية” و ” إسماعيل يس فى الطيران”..إلخ كانت شخصية صارمة, دمها خفيف, باشجاويش محب لعمله, شهم فى تصرفاته, خفيف الظل, طيب القلب, قوى البنية, فأين هذا كله من هذا البله (فقط) الذى ظهر به هذا الشاويش ؟
(2) إن إيراد معلومات غير منطقية, ولو من قبيل المبالغة, دون حاجة إلى ذلك فى السياق أو فى الحكى أو فى الفكاهة هو أمر يجعل الطفل يرفضه, إذ لا يصدقه, أو هو يستتفه ما يقال له, فلا يوجد شاويش يغسل كل ملابسه فى المغسلة الآلية (أول صورة), ولا يوجد شاويش له سيارة خاصة تقودها زوجته عطيات (آخر صورة !!) والحل الذى اقترحه الشاويش, وهو أن يشترى بدلة كل مرة بدلا من أن يغسلها هو إضافة غير منطقية أسخف.
(3) إن الخدعة التى علمها فصيح لعطية ليست خدعة, لكنها عملية نصب واحتيال.
(4) إن من حق قائد السيارة, بل من واجبه أن يلزم الجانب الأيمن ما دام لم يطلع فوق الرصيف, لا أن يمشى وسط الشارع, فمـؤاخذته على أنه اتبع قواعد المرور هى إهدار لكل ما نحاول أن نوصله لأولادنا, فالخطأ فى وجود بركة الماء, وليس فى أن قائد السيارة قادها بجوارالرصيف,والجريمة الأكبرفى استغلالها للنصب.
(5) إن مساومة قائد السيارة على خطأ لم يرتكبه (وحتى لو كان ارتكب خطأ) إنما يوصل للأولاد أن هذا هو موقف الحكومة (وليس تجاوز الشاويشين عطية وفصيح) وهو يظهر الرشوة باعتبارها تصرفا عاديا, ويسميها خدعة.
(6) إننا قد نقبل أن يكون هناك شاويش واحد أو اثنين قد انحرفا,وأن نعرض القصة لتنبه فى النهاية أن هذا سلوك فردي, بغباء أو حسن نية أو حتى لتظهر أنه انحراف مرفوض, أما أن تعرض الخدعة على أنها السلوك الطبيعى للدولة “هذه خدعة قديمة يعرفها كل من يعمل فى الشرطة ” يعرفونها إذ يمارسونها وليس إذ يتصدون لمحاربتها !!! وهكذا نقدم للطفل أسوأ صورة لأهم جهاز فى الدولة.
(7) إن القصة كلها تخلو من أى ندم, أو اعتبار, أو بديل إيجابي, وكأن كل ما ترتب على هذه الخدعة هو أن عطيات زوجة الشاويش عطية دفعت كل مرتبه رشوة لزملائه, فهذا ليس عقابا من القدر, أو تراجعا عن الخطأ, ولكنه دليل ضمنى على فساد ذمة عطية وزملائه, فمن أين له (هو وزوجته) هذا ؟ وما هو التصرف البديل الصحيح الذى كان يمكن أن تعرضه القصة.
فى ريف بلدنا: كنا نتعرف على الحكومة أول ما نتعرف من خلال “خفير الدرك”, بصيحته التقليدية مين هناك, أو مين اللى جاي, أو بسعلته التى تعلن يقظته وقدومه, ومن أوائل ما شدنى من أغانى بلدنا أغنية كان الشيخ عبد العزيز دقاق البن فى الحجر يرددها بلدغة خاصة تقول ” إحنا الغفر, إحنا الغفر, مترصصين نفر نفر, تشوف الغفير فى وقفته, وهو عاوج لبدته, تقولشى مدفع وانفجر, إحنا الغفر..إلخ” ثم أحببت بعد ذلك (وأنا فى أشد حالات الهيبة) ” حظابط النبطشي” وهاتان الصورتان اللتان وصلتانى طفلا هما اللتان حببانى فى الشاويش عطية الأصلى (شاويش إسماعيل يس), لذلك فإن خيالى قفز منى بعد قراءة أول صورة, والشاويش عطية يشكو من ثمن الغسالة الآلية, وكأنه يعترض على تسويق استهلاكى له بدائل أرخص وأنظف, تصورت ذلك حين قرأت فى أول صورة كيف أن الشاويش عطية يشكو من تكاليف الغسالة الآلية, فتوقعت أن تظهر لنا القصة أنه فى النهاية سيتفق مع زوجته عطيات, اللابسة القبقاب فى المنزل, (وليس الراكبة العربة الخاصة الراشية بكل المرتب), أنه سوف يعطيها ربع ما يدفعه للغسالة الآلية على أن تقوم هى بغسيل ملابسه, ثم نرى كيف تشترى بهذه المنحة المتواضعة سوارا زائفا (قشرة) جميلا, أو منديل رأس بقوية, وأنه بذلك سوف توفـر نقود الغسالة, ويكرم زوجته, وقد يشترى لها كوز أذرة مشوى أو قرطاس ترمس, وبالتالى يمكن أن يظهر لنا كيف أن الأم المصرية تقوم بالأعمال الشاقة المنزلية دون مقابل, وأن الغسيل بالمنزل أنظف وأضمن, بل إنه يمكن أن يجعل للحكاية نهاية عصرية فيرينا كيف يمكن أن يشترى الشاويش غسالة صغيرة بالتقسيط, ومن بداية القصة بهذا التصرف التبذيرى حتى الحل المصرى الاقتصادى الذى تصورته, يمكن أن تتم مفاجآت, ومناقشات, ونكات, حول تدبير قسط غسالة المنزل, وحول حق الزوجة فى مقابل ما تعمله, وتجرى حسابات مقارنة لطيفة, وقد يدخلان أطفالهما فى النقاش حتى يعيا قيمة القرش وصعوبة المعيشة.
ولكن أيا من ذلك لم يحدث, والذى حدث هو فى رأيى ” جريمة يعاقب عليها القانون”, كيف ؟ تصورت أنه يمكن لوزير الداخلية أن يرفع قضية على هذه المجلة لتشويه صورة رجال الشرطة أو أنه يمكن لوزير التعليم أن يرفع قضية على المجلة لأنها تقدم قيما ضارة للأطفال, وحين قل غيظى وأدركت أن هذا ربما يؤول أنه تدخل من السلطة ضد حرية الصحافة !!!!! قلت لعل الأفضل أن أرفع أنا قضية تعويض عما لحق أحفادى من أذي, وسوء خلق, من خلال تقديم مثل هذه القيم لهم هكذا, لكننى وجدتنى مهتما بما أصاب هيبة الدولة أكثر من اهتمامى بما يمكن يصيب أحفادي, فمصادر المصائب عندهم من كل جانب (التليفزيون, والقيم الخواجاتى التى تعلى من القوة الغاشمة وتقدم نماذج آلية قاسية وليس شاويش إسماعيل يس).
ملحوظة: بعد انتهائى من كتابة هذا الموقف, نظرت فى العدد 13 فوجدت الشاويش عطية هذه المرة “يزوغ” من مهمته (المرورية فى الأغلب) ليحتمى بعيدا عن مكان عمله من المطر تحت ساتر ما, فيفاجأ بزميل شاب, فينهره “أنتم أيها الشباب غير قادرين على تحمل مشقة العمل” ثم يفخر أنه ” نحن العجائز أفضل منكم” ويعود هو للعمل فينزلق و يقع فى الأرض تحت المطر, فيعايره الشاب بخيبته, ولا كلمة, ولا مؤاخذة على ترك العمل, أو على النهى عن عمل هو نفسه قام به, وكأن الشاويش قد أخطأ حين ذهب للعمل ليثبت لزميله الشاب قدرته والتزامه, ولم يخطئ وهو “يزوغ” فى البداية ليحتمى من المطر, وكأن الزميل الشاب “المزوغ بدوره” هو صاحب الرؤية الأكثر حرصا على السلامة, وكأن على الشرطة أن تترك محل عملها بمجرد هطول المطر حتى لا تبتل ملابسهم أو ينزلقون مثل الشاويش عطية!!
المقتطف الثانى:
الأخصائى النفسى فى المدارس
(“بلبل” دار أخبار اليوم:العدد 13ص: 4-6 نوفمبر1998) كنا نود أن نعرض الحكاية بالصور لأن دلالتها أكبر, لكن فضلنا فى النهاية أن نوجزها كما يلى:
العنوان هو “حلال العقد”.
تبدأ الحكاية والأولاد يلعبون, ثم تناديهم المدرسة لتقول لهم “شيئا هاما” فتقدم لهم الأستاذ “مريح” الأخصائى النفسى ” فيسأل التلميذ “بندق” عن ماهيته ما هو بالضبط الأخصائى النفسي؟ (وليس من هو), فيطلب الأخصائى أن يشرح له -شخصيا- وظيفته ودوره, فيذهب بندق إلى مكتبه مترددا, وبعصبية بالغة, يفهم الأخصائى بندق كيف أن كل إنسان عنده مشكلة فينفى بندق أن عنده مشكلة, فيعتبر الأخصائى النفسى أن هذا الإنكار هو مشكلة فى ذاته, ويبدأ فى تصور مشاكل يـقحمها على بندق من بينها أن والداه يعنفانه, وأنهما يتشاجران معا, ولكى يذهب بندق إلى الفصل هربا من هذا الإلحاح يعترف بما يريد الأخصائى الذى تلقبه المدرسة بعد ذلك بيا “دكتور”, ويذهب الأخصائى النفسى إلى منزل بندق, ويعاتب والده وأنه كيف يتشاجر مع والدة بندق ويضربها أمامه, فيثور الوالد, ويضطر بندق أن يعترف أنه اضطر لموافقة الأخصائى حتى يسمح له بالعودة إلى الفصل, فيهم والد بندق بضرب الأخصائى الذى يتمسك بموقفه وتصوراته وتنتهى الحكاية بأن يضربه فعلا فتسود عينه و يقدم استقالته.
الموقف
ماذا يريد أن تقول نفس المجلة لأطفالنا من خلال هذه القصة؟إن ما وصلنى هو:
(1) إن وظيفة الأخصائى النفسى – فى المدارس- وظيفة لا لزوم لها.
(2) فإن كان ولابد فإن على الأخصائى أن يريح التلاميذ, لا أن يساعدهم, أو يصاحبهم, أو يرشدهم, أو يكتشف مهاراتهم, أو ينير بصيرتهم (الأخصائى إسمه “مريح”), وقيمة الترييح هذه من أكبر القيم التى اختزلت دورالمساعدة النفسية بكل مستوياتها, وهى قيمة سلبية فى الأغلب خاصة حين ترتبط بأيديولوجية مجتمع الرفاهية, أكثر من حق الأطفال فى الخيال والمغامرة مثلا.
(3) وأن الأخصائى مدع ومقتحم, ولا يفهم لا الأطفال, ولا المدرسة, ولا الأهل.
(4) وأنه عنيد لا يتراجع عما تصوره.
(5) وأنه كاذب إذ لم يبلغ تفاصيل ما حدث للوالدين بشكل موضوعي.
(6) وأنه غبي, لأنه عرض نفسه للضرب.
(7) كما تظهر الحكاية أن والد بندق ” بلطجي” إذ أنه رد على خطأ الأخصائى بضربه, فقد بدا فى الصور الأخيرة والكدمات حول عينه.
ولم تشر الحكاية إلى أى احتمال أن يكون هذا الموقف فرديا, ولم يظهر حوار مع المدرسة -مثلا- يفيد أن هذا الأخصائى ليس أخصائيا مدربا بدرجة كافية,لأن الحكاية ذكرت أنه حاصل على ماجستير علم نفس
وأنا لست أمانع فى نقد مهنة بذاتها, أو فى بيان أن بعض الأطباء النفسيين أو الأخصائيين النفسيين يبالغون فى تقييم دورهم, لكن المسألة لا تصل إلى أن يكون هذا هو المعنى الوحيد الذى يقدم للأطفال.
إن الإعلام والأفلام والمسلسلات قد تظهر الطبيب النفسى أو الأخصائى النفسى وهو عصبى أو غير متوازن قليلا أو كثيرا, وعلى الرغم من خطأ ذلك وضرره إلا أنه يقدم للكبار على مسئوليتهم, أما أن تكون هذه هى الصورة التى تقدم للأطفال, فهذا هو الخطر بعينه.
وبـعـد
فيبدو أننا لن نقتطف ثانية من مجلات الأطفال, لأننى كلما قلبت فى أى قصة وجدت أن الآفة عامة, والدلائل واضحة, حتى أن ما تبقى عندى بعد كل هذا النقد والثورة والاحتجاج هو رعب متضاعف من المستقبل
ربنا يستر.!!!……. كيف ؟ لست أدرى !!
هو اللطيف الخبير.