مدخل إلى العلاج النفسى الوجودى (الجزء الثانى)
تأليف: رولو ماى – إرفين يالوم
ترجمة وتقديم: د. عادل مصطفى
نظرة عامة
نشأ العلاج الوجودى بشكل تلقائى فى أوربا فى الأربيعينيات والخمسينيات, إذ تفتقت عنه أذهان عدد من علماء النفس والأطباء النفسيين وتجلى فى كتاباتهم. لقد كان هؤلاء مهمومين بإيجاد طريقة نفهم بها الكائن الإنسانى تكون أكثر وثوقا وجوهرية من تلك التى كانت تطرحها مدارس العلاج النفسى المعروفة فى ذلك الحين. يقول لودفيج بنسفانجر, أحد المتحدثين بلسان العلاج الوجودي: “لقد نشأ العلاج الوجودى عن عدم ارتياحنا للمدارس السائدة التى تحاول أن تحقق لنفسها نوعا من التبصر العلمى فى مجال الطب النفسى” لم يكن هؤلاء المعالجون يجدون أهمية الكشوف الجذرية لتلك المدراس. إن مرتكزات من مثل الدوافع drives فى السيكولوجيا الفرويدية, والإشراط conditioning ([tooltip text="(1)" gravity="nw"][1]- الإشراط (ويقال عنه أحيانا : التشريط) هو المبدأ الأساسى للمدرسة السلوكية، ومفاده باختصار شديد أن سلوك الإنسان يتحدد وفقا لمؤثرات محايدة يتواتر ارتباطها بمؤثرات طبيعية بحيث يصير مجرد حدوثها كافيا لإحداث الاستجابة الطبيعية (كارتباط سماع صوت الأوانى وسيل اللعاب) ويسمى هذا بالإشراط الكلاسيكى أو البافلوفي. كما يتحدد السلوك وفقا لمكافآت يتواتر ارتباطها بسلوك معين يأتيه الإنسان فتعزز ميله لتكرار السلوك المجزى ويسمى هذا بالإشراط الإجرائى أو إشراط سكينر. المترجم[/tooltip]) عند السلوكيين والنماذج البدئية archetypes ((2) عند أتباع يونج, كلها أشياء لا غبار عليها فى ذاتها. ولكن أين هو الشخص الحقيقى المباشر الذى تحدث له هذه الأشياء وتجرى فيه هذه المجريات؟ وكيف لنا أن نثق أننا نرى المرضى على ماهم عليه بالفعل وأن ما نراه ليس, ببساطة, مجرد إسقاط لنظرياتنا الخاصة عن هؤلاء المرضي.
كان هؤلاء المعالجون على وعى بأننا نعيش مرحلة تاريخية انتقالية, كل إنسان فيها يشعر بأنه مغترب عن إخوانه البشر,تهدده الحرب النووية والضوائق الاقتصادية, ويحيره اهتزاز القيم وتتبدل الأعراف الثقافية كلها تقريبا تبديلا جذريا سواء تلك المتعلقة بالزواج أو بغيره من التقاليد الراسخة. كل إنسان, باختصار, مكتنف بالقلق محاصر بالضغوط.
ليس العلاج النفسى الوجودى مدخلا تقنيا محددا يقدم مجموعة جديدة من القواعد العلاجية,بل هو توجه يطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الكائن الإنساني, وحول طبيعة الخبرات الأساسية من مثل القلق واليأس والحزن والوحشة والعزلة واللانظامية anomie ((3)]) ويتناول بشكل محورى إشكالية الإبداع الحب. وباكتناه عميق لمعانى هذه الخبرات البشرية يصوغ المعالجون الوجوديون طرقا علاجية تتنكب الخطأ الشائع فى كل المدراس العلاجية – خطأ الكائنات البشرية بذات الجهد المبذول لمساعدتهم, وتخريبهم بنية علاجهم!
مفاهيم عامة
خبرة “أنا موجود”
إن إدراك الإنسان لوجوده (أنا أحيا الآن, وبوسعى أن أتولى أمر حياتي) يمكن أن يكون له تأثير صحى شاف. يقول نيتشه: “كم من حياة أنقذتها فكرة الانتحار” ((4)) يبدو أن الإنسان منا يظل ضحية للظروف وضحية للآخرين إلى أن يأتى اليوم الذى يستطيع فيه أن يعى وجوده ويقول لنفسه: “إن الحياة حياتى والخبرة خبرتى … ولى أن أختار وجودى الخاص”
وليس بالأمر اليسير أن يجد الإنسان نفسه ويحدد وجوده. لأننا فى مجتمعنا هذا ننساق فى الأغلب إلى أن نكبت حس الوجود ونخضعه لوضعنا الاقتصادى ونربطه بالنمط الخارجى للحياة التى نحيا. فكل منا يعرف نفسه, ويعرفه الآخرون, لا بصفته كائنا أو ذاتا, بل بصفته بقالا أو بائع تذاكر بمترو الأنفاق أو أستاذا جامعيا أو نائب رئيس أو ما شئت من تلك الوظائف الاقتصادية. هذا الفقدان لحس الوجود يعود إلى الاتجاهات الجماعية collectivism والامتثالية التى تطبع ثقافتنا الحديثة. تلك الاتجاهات التى يوجه إليها الفيلسوف الوجودى الفرنسى جبريل مارسيل هذا الاعتراض اللاذع: “أما من منهج تحليل نفسى أعمق وأفطن من هذا الذى بين ظهرانينا يكشف لنا التأثيرات المرضية لكبت هذا الحس (بالوجود) وتجاهل هذه الحاجة؟”
يحاول العلاج الوجودى أن يكون هو هذا النوع العلاجى الأكثر عمقا وتفطنا.
لنتأمل هذه الحالة لمريضة نشأت ابنة غير شرعية لإحدى الباغيات, وكفلها أقاربها حتى كبرت. تقول هذه المريضة:
”ما زالت أذكر ذلك اليوم الذى كنت أمشى فيه أسفل خطوط السكة الحديدية فى ذلك الحى الفقير, تغمر إحساسى هذه الفكرة:”أنا طفلة غير شرعية” فأتصبب عرقا وأمتلئ كربا إذ أحاول أن أتقبل هذه الحقيقة. عندئذ أدركت كيف يكون إحساس إنسان عليه أن يتقبل حقيقة أنه زنجى وسط المحظيين البيض, أو حقيقة أنه أعمى وسط المبصرين. فلما أقبل الليل وغشينى النوم,إذا بى أفيق وقد ألقى فى روعى هذا الوعي:
إننى أتقبل هذه الحقيقة:
أنا طفلة غير شرعية I am an illegitimate child غير أننى لم أعد طفلة .. إذن تكون الحقيقة هكذا: أنا غير شرعية I am illegitimate لا.. ولا هذه تترجم الحقيقة .. لقد ولدت غير شرعية .. فغير الشرعى هو ميلادى ليس إلا .. ماذا يتبقى إذن؟ يتبقى هذا:
”أنا أكون”.. “أنا موجودة” وما إن استحوذت على هذا الاتصال “بالأنا موجود” وقبلته حتى أهدى إلى هذه الخبرة:
ما دام لم يبق إلا “أنا”.. فإن لدى كل الحق فى أن أكون
إن خبرة “أنا موجود” هذه ليست فى حد ذاتها حلا لمشاكل فرد من الأفراد. إنها بالأحرى “شرط للحل”. لقد قضت المريضة المذكورة نحو سنتين بعد ذلك فى عملية تناول استيعابى لمشاكل نفسية محددة, تمكنت من إنجازاها بفضل استنادها إلى خبرة الوجود.
هذه الخبرة, خبرة تفضى أيضا وتحيل إلى خبرة أخرى هى خبرة “عدم الوجود” أو خبرة “العدم” nothingness. يتمثل العدم فى خبرات من قبيل العدوانية المدمرة, الموت المهدد, القلق الشديد المقدد, الحالة المرضية الحرجة.. إلخ. إن الفناء مسلط, وتهديد العدم قائم بدرجة أو بأخرى فى جميع الأوقات: قائم حين نعبر الشارع ناظرين يمنة ويسرة حذر أن تصدمنا إحدى السيارات. وقائم حين يسلقنا شخص ما بتعليق جارح, وحين نذهب إلى امتحان لم نستعد له كما ينبغي. كل هذه أمثلة لتهديد العدم.
تعرف خبرة “أنا موجود” أو خبرة الوجود فى مجال العلاج الوجودى بوصفها فكرة أنطولوجية ontological. وتأتى هذه اللفظة من كلمتين يونانيتين: أونتوس ontos وتعنى “يوجد” أو “يكون”, و logical وتعنى “علم كذا..” فهى إذن “علم الوجود”. وهو مصطلح كبير الوزن فى مجال العلاج الوجودى كما سنلاحظ فى تناولنا الآتى لخبرة القلق.
القلق السوى والقلق العصابي
يعرف المعالجون الوجوديون القلق تعريفا أوسع من تعريف الجماعات العلاجية الأخري. ينجم القلق عن حاجتنا الشخصية للبقاء والاحتفاظ بوجودنا وتأكيد هذا الوجود. ويفصح القلق عن نفسه جسميا بمظاهر من قبيل زيادة سرعة ضربات القلب وارتفاع الضغط وتجهيز العضلات الهيكلية للكر أو الفر, وذلك الشعور بالخشية والروع فى داخلنا وهو أوجع هذه المظاهر جميعا. ويعرف رولو ماى القلق بأنه “ذلك التهديد لوجودنا أو للقيم التى جعلناها مساوية لوجودنا”.
والقلق أعم من الخوف وأكثر منه شمولا وقاعدية. وهو ما يجعلنا نهدف فى العلاج النفسى إلى مساعدة المريض على مواجهة القلق مواجهة شاملة قدر الإمكان, وبذلك نخفض القلق إلى”مخاوف” هى عندئذ أشياء موضوعية مكشوفة يمكن تناولها والتعامل معها. غير أن الوظيفة العلاجية الرئيسية هى أن تساعد المريض على أن يواجه القلق السوى الذى هو جزء من الحالة البشرية لا مناص منه.
للقلق السوى normal anxiety ثلاث خصائص: فهو أولا متناسب مع الموقف الذى نواجهه. وهو ثانيا لا يتطلب الكبت, وبمقدرتنا أن نتصالح معه كما نتصالح مثلا مع حقيقة أننا جميعا سوف نواجه الموت فى النهاية. وهو ثالثا قلق صحى مفيد يمكن أن نوظفه توظيفا إبداعيا. فهو على سبيل المثال يمكن أن يكون منبها يضع أيدينا على المشكل الذى أثار القلق, ومن ثم يساعدنا على مواجهته وتناوله.
أما القلق العصابى neurotic anxiety فهو,فى المقابل, قلق لا يتناسب مع الموقف, كأن يصل حرص الأبوين على طفلهما ألا تدهمه سيارة إلى حد منعه من مغادرة المنزل. والقلق العصابى ثانيا هو قلق مرتهن للكبت, بنفس الطريقة التى يكبت بها معظمنا خوفه من الحرب النووية. وهو ثالثا قلق مدمر غير بناء. فهو إلى أن يشل الفرد أميل منه إلى حفز إبداعه.
وليست وظيفة العلاج أن يخلصنا من كل قلق. وما من إنسان يمكن أن يعيش ويبقى وهو خال تماما من القلق. أما القول المبتل المكرور بأن الصحة النفسية هى فى العيش دون قلق فهو عبث وهراء. فالصحة النفسية هى أن نعيش دون قلق عصابى قدر الإمكان, على أن نتحلى بالقدرة على احتمال القلق الوجودى المحترم والمصاحب لعملية الحياة.
الذنب ومشاعر الذنب:
تعنى خبرة الذنب لدى المعالج الوجودى معنى شديد الخصوصية. فالذنب, شأنه فى ذلك شأن القلق, يمكن أن يأخذ كلا الشكلين: السوى والعصابي. فمشاعر الذنب العصابية neurotic guilt تنجم عن خطايا موهومة. أما الذنب السوى normal guilt فهو يرهف إحساسنا بالجانب الأخلاقى من سلوكنا.
ويبقى هناك صنف آخر من الذنب, هو شعورنا بالذنب تجاه أنفسنا لفشلنا أن نسلك وفق ما لدينا من إمكانات,أو بتعبير ميدراد بوس: لنسياننا وجودنا. ((5)) وخير مثال يوضح موققنا إزاء هذا النوع من الإحساس بالذنب كما يتجلى فى جلسات العلاج الوجودي, هو الحالة التى أوردها ميدراد بوس (1957). وهى حالة مريض بالوسواس القهرى الشديد كان يعالجه بوس.
وكان هذا المريض, وهو طبيب مصاب بغسل اليد القهري, قد أجرى له من قبل تحليل نفسى فرويدى وآخر يونجي. وإذ كان يعاوده حلم يتضمن أبراج الكنيسة, فقد فسر له الفرويديون الأبراج كرموز قضيبية phallic symbols, وفسرها اليونجيون كرموز دينية بدئية archetypal. لقد استطاع هذا المريض أن يشرح هذه التفسيرات بذكاء وإسهاب, غير أن سلوكه العصابى القهري, بعد توقف مؤقت, عاد ينتابه ويعوقه بنفس الشدة السابقة.
فى الأشهر الأولى من التحليل مع بوس كان هذا المريض يروى حلما أخذ يعاوده فى تلك الفترة. لقد كان فى الحلم يقصد إلى دورة مياه لغسل يديه, وكلما بلغها وجد الباب منغلقا لا ينفتح. أما بوس فقد اقتصر على سؤال مريضه كل مرة: لماذا كان على الباب أن يكون منغلقا ولماذا كان عليك أن تخشخش المقبض؟ وأخيرا رأى المريض فى حلم له أنه فتح الباب فوجد نفسه داخل كنيسة. كان غائصا فى الغائط حتى وسطه, وكان مشدودا بحبل مربوط حول وسطه وطرفه الآخر يؤدى إلى برج جرس الكنسية. وقد بقى معلقا هكذا يعانى من الشد الرهيب بحيث ظن أنه سوف ينبتر إربا. بعدئذ مر هذا المريض بنوبة ذهان دامت أربعة أيام لازمه خلالها بوس, ثم استأنف التحليل الذى انتهى بشفاء المريض.
يشير بوس إلى أن مريضه كان مذنبا. لأنه أغلق أو احتبس بعض الإمكانات الأساسية لديه: ولذا كان يحس بالذنب. “فأنت ما أعطى لك فى منشئك.. فى صميمك. هذا الحال, حال كونك مدينا وكونك مذنبا, هى التى تتأسس عليها كل مشاعر الذنب كيفما اتخذت لها من أشكال عينية والتواءات لا تحصى تتبدى بها فى الواقع المعاش”. فهذا المريض قد أوصد الباب أمام ممكنات الخبرة, سواء منها الجسدية أو الروحية (أو الجانب الدافعى والجانب الألوهى على حد تعبير بوس) . سبق لهذا المريض أن تقبل التفسيرات على الليبيدو وعلى النماذج البدئية ووعاها تماما. غير أن هذا, فى رأى بوس, لا يعدو أن يكون وسيلة جيدة للهروب من الأمر برمته. لقد فاته أن يقبل ويتولى هذين الوجهين (الدافعى والألوهي) ويدمجهما بوجوده. وهو منبع السبب كان مذنبا تجاه نفسه ومدينا لها. هذا هو منبع مرضه, ومنشأ عصابه وذهانه.
أشكال العالم الثلاثة
ثمة مفهوم أساسى آخر فى العلاج الوجودى يطلق عليه “الوجود- فى العالم” being-in-the world. ومفاده أننا يجب أن نفهم العالم الظاهراتى الذى فيه يوجد المريض ويشارك. فلكى نفهم عالم هذا الشخص أو ذاك يتعين علينا ألا نكتفى بوصف البيئة غير شكل واحد من أشكال العالم. يقول عالم البيولوجيا ج. فون اكسكل إن لنا أن نفترض بيئات بعدد ما هناك من حيوانات, فذلك أمر يتوقف على الطريقة التى تشارك بها النملة أو الفيل أو الثعلب فى هذه البيئة. ويمضى اكسكل فيقول: “ليس هناك زمان واحد ومكان واحد, بل هناك من الأزمنة والأمكنة بعدد ما هناك من ذوات”. إن هذا القول يصدق على الإنسان من باب أولى”.
فإلى أى حد يفوق الكائن الإنسانى باقى الحيوانات فى تفرد عالمه؟ ذاك سؤال يجابهنا بمشكلة صعبة: فلا نحن نستطيع أن نصف العالم وصفا موضوعيا خالصا, ولا العالم بقابل بأن يختزل إلى مشاركتنا الذاتية والتخيلية فى البنية القائمة حولنا رغم أن هذه المشاركة هى أيضا من “الوجود-في-عالم”.
إن العالم الإنسانى هو تلك البنية من العلاقات الدالة التى يوجد فيها الإنسان, والتى يشارك فى تشكيلها (دون أن يفطن إلى ذلك عادة).ألسنا نرى أن ظروفا واحدة فى الماضى والحاضر قد تعنى لدى مختلف الأشخاص أشياء شديدة التباين؟ بلي, فليس عالم الشخص هو جملة الأحداث الماضية التى تحدد وجوده وجملة المؤثرات الحتمية التى تعتوره. إنما هو تلك المؤثرات والأحداث كما تترائى له وتتمثل فى وعيه. وهو تلك المؤثرات والأحداث كما يصوغها هو ويشكلها ويعيد تشكيلها على الدوام. فأن يعى المرء عالمه يعنى فى نفس الوقت أن يصوغه ويشكله ويركبه.
ثمة من وجهة نظر العلاج الوجودى ثلاثة أشكال للعالم. الأول هو Umwelt ويعنى “العالم المحيط” أو ما ما يقال له عادة “البيئة”. والثانى هو Mitwelt ويعنى حرفيا -“العالم مع”, وهو العالم المكون من رفاق الشخص من البشر, أو المجتمع الخاص بالشخص. والثالثEigenwelt و يعنى “العالم الشخصى” أو علاقة الشخص بذاته.
العالم الأول (Umwelt) هو عالم الموضوعات العينية المحيطة بنا. هو العالم الطبيعي. فجميع الكائنات الحية لديها Umwelt إنه العالم الذى يقدم للكائنات الحيوانية والإنسانية ما يلزم حاجاتها البيولوجية ودوافعها وغرائزها. وهو العالم الذى كان خليقا أن يستأثر بنا لو لم نكن وهبنا ملكة الوعى بالذات. هو عالم القانون الطبيعى والدورات الطبيعية: النوم واليقظة, الميلاد والموت, الرغبة والإشباع.. عالم التناهى والحتمية البيولوجية الذى يتعين على كل منا أن يتوافق معه بشكل أو بآخر. إنه حق وواقع يسلم به المحللون الوجوديون ويقبلونه. يقول كير كجارد: “ما يزال القانون الطبيعى ملزما وساريا كما كان أبدا”.
للحيوانات, إن شئنا الدقة, “بيئة”. بينما للكائنات البشرية “عالم” ذلك أن “العالم” ينطوى أيضا على بنية المعنى التى تشكلها العلاقات القائمة بين أفراده.
ولعل العالم الشخصى Eigenwelt وهو أقل العوالم الثلاثة حظا من البحث والفهم من جانب علم النفس الحديث وعلم نفس الأعماق. إنه العالم القائم على الوعى بالذات والعلاقة بها, وهو وقف على الكائنات البشرية دون غيرها من الكائنات. فحيثما نفطن إلى ما يعنيه شئ ما فى العالم إلى الملاحظ الفرد- تلك الطاقة من الزهر أو ذاك الشخص الآخر- فثم العالم الشخصى أو Eigenwelt. وقد نبه د.ت. سوزوكى إلى أن النعوت فى اللغات الشرقية, مثل اللغة اليابانية, تتضمن دائما الإحالة الشخصية for-me-nes, بمعنى أن قولى “هذه الزهرة جميلة” يعنى فى هذه اللغات “بالنسبة لى – هذه الزهرة جميلة.
ومن بين متضمنات هذا التحليل لأشكال الوجود – في-العالم, أنه يمنحنا قاعدة لفهم الحب. فمن الجلى أن خبرة الحب تند عن الوصف داخل حدود العالم المحيط Umwelt. فنحن لا يمكننا بحال أن نتحدث عن الكائنات البشرية بوصفها “موضوعات جنسية”. فما إن نصف شخصا بأنه موضوع جنسى حتى لا يعود شخصا. لقد قصرت نظريات الشخصية فى حق هذه المسألة تقصيرا كبيرا.
صحيح أن المدراس البينشخصية قد تناولت الحب بوصفه علاقة بينشخصية ولا سيما عند هارى ستاك سوليفان ومفهومه لمعنى كلمة chum , وكذلك تحليل إريك فروم لمصاعب الحب فى المجتمع الاغترابى المعاصر, غير أن لدينا ما يحملنا على الشك فى أن أيا من هذه النظريات قد أمدنا بأساس نظرى يخولنا مزيدا من التعمق فى خبرة الحب. ففى غياب مفهوم واف للعالم المحيط Umwelt يغدو الحب مفرغا من الحيوية, وفى غياب العالم الشخصى Eigenwelt يفتقد الحب القوة والقدرة على أن يخصب نفسه. وقد أكد فردريك نيتشه أهمية العالم الشخصى فى خبرة الحب. وكذلك فعل كيرجارد الذى أكد مرارا أن الحب يفترض مسبقا أن الفرد قد أصبح “فردا حقيقيا”.. واحدا متفردا .. إنه الفرد الذى تم له وعى السر العميق: إنك لكى تكون فى حب حقيقى مع شخص آخر, يلزمك بالضرورة أن تكون أيضا قانعا بنفسك متوجها إليها مؤتنسا بها.
دلالة الزمن:
ثمة حقيقة تستوقف المعالجين الوجوديين وتستأثر باهتمامهم. وهى أن معظم الخبرات الإنسانية العميقة تحدث فى البعد الزمانى من الوجود أكثر مما تحدث فى البعد المكاني. وقد قدم يوجين منكوفسكي, وهو طبيب نفسى يعمل بباريس, دراسة حالة تبرز هذا البعد الزمانى وهى حالة من مريض بالفصام الاكتئابى واقع فى قبضة ضلال فكرى مفاده أنه سوف ينفذ فيه حكم بالإعدام. أوضح منكوفسكى فى دراسته أن هذا المريض قد فقد القدرة على أن يقيم صلة بالزمن, بمعنى أنه لم يعد قادرا على أن يأمل فى الآتى ويتشوف إلى المستقبل, فكل يوم يمر به كان بالنسبة إليه جزيرة منفصلة بلا ماض وبلا مستقبل. لم يعد هذا المريض يستشعر أى امتداد يصله بالغد. فى مثل هذه الحالة نتوقع من أى طبيب نفسي, حين يفكر بطريقة تقليدية, أن يعلل هذه القطيعة بين المريض وبين المستقبل, أو هذا العجز عن التوجه الزمني, بأنه ببساطة ناجم عن اعتقاده الضلالى بأنه سوف يعدم وشيكا. ولكن منكوفسكى يجبهنا بافتراض عكسى تماما فيقول: “ألا يمكننا, على العكس, أن نفترض أن الاضطراب الأساسى هنا هو الموقف المنحرف الشائه تجاه المستقبل, بينما ضلال الإعدام مجرد مظهر من مظاهره؟”
ويمضى منكوفسكى فى بحث هذا الاحتمال فى دراسته للحالة. لقد سلط بمدخله المبتكر شعاعا من النور على هذه البقاع المعتمة غير المستكشفة من مفهوم الزمن, وأتاح انعتاقا جديدا من حدود الفكر الإكلينيكى وقيوده وتصوراته التقليدية للزمن. وهنا نذكر هوبارت مورر (1950) الذى قال إن الارتباط بالزمن هو الخاصة المميزة للشخصية الإنسانية. وأن لدى الإنسان قدرة يستحضر بها الماضى إلى الحاضر كجزء من السلسلة السببية التى فيها تقوم الكائنات الحية بالفعل ورد الفعل, ولديه قدرة أخرى على العمل فى ضوء توجهات المستقبل البعيد, وأن جماع هاتين القدرتين يشكل جوهر الذهن والشخصية.
يتفق المعالجون الوجوديون مع هنرى برجسون فى أن “الزمن هو قلب الوجود”, وأن الخطأ الذى نرتكبه فى عصرنا الحديث هو أننا نفكر فى أنفسنا بصيغة مكانية بالدرجة الأولي, كما لو كنا أشياء يمكن أن نوضع فى هذا الموضع أو ذاك شأنها شأن غيرها من المواد. وبهذا التشويه والتحريف نفقد علاقتنا الوجودية الأصلية بأنفسنا, بل نفقد أيضا علاقتنا الأصيلة بالآخرين من حولنا. وينتج عن هذا التركيز الزائد على التفكير المكانى أن “تندر اللحظات التى نفهم فيها أنفسنا, وبالتالى تندر حريتنا وتتقلص” كما يقول برجسون.
غير أنه فى نطاق “العالم -مع”, أى عالم العلاقات الشخصية والحب, يمكننا أن نرى بصفة خاصة أن الزمن القياسى الكمى ليس له كبير شأن بأهمية أى حدث من الأحداث أو بدلالته. فنحن على سبيل المثال لا يمكننا بحال أن نقيس طبيعة أو درجة حبنا لشخص من الأشخاص بعدد السنوات التى عرفناه فيها. صحيح أن زمن الساعة له دخل كبير فى “العالم- مع” (فكثير من الناس يبيعون وقتهم بالساعة, وما تجرى الحياة اليومية إلا وفق جداول زمنية) غير أن ما يعنينا هنا هو المعنى الباطن للأحداث.يقول المثل الألماني: ” مامن ساعة تدق للمرء السعيد”, وقد صدق فالأرجح الغالب أن تكون أهم الأحداث دلالة ومغزى فى الوجود النفسى للمرء هى بالتحديد تلك الأحداث المباشرة التى تخترق المجرى الزمنى الرتيب المعتاد. كأن تقع للمرء بصيرة مفاجئة, أو تغشاه رؤية جمالية للحظة واحدة, غير أنها لا تبرح ذاكرته أياما وشهورا.
أما العالم الشخصى Eigenwelt. عالم العلاقة بالذات والوعى بها والتبصر للحدث, فلا صلة له من قريب أو بعيد بزمن الساعة الذى تتعاقب فيه اللحظات على نحو نظامي. فجوهر البصيرة والوعى بالذات هو أنهما هناك- حاضران ومباشران. ولحظة تنزل الوعى لا تفقد دلالتها عبر الزمن. بوسع المرء أن يرى ذلك بسهولة حين يلاحظ ما يجرى داخله لحظة تقع له بصيرة من البصائر. إنها تقع بشكل مفاجئ .. تولد مكتملة إن صح التعبير. وسوف يكتشف أن التأمل فيها ساعة قد يكشف له مزيدا من مكنوناتها ولكنه لن يردها أوضح مما كانت, بل هى بعد ساعة التأمل ستغدو للأسف أقل وضوحا وتحددا مما كانت فى البداية.
تتوقف قدرة المريض على استدعاء الأحداث الهامة فى ماضيه على قراراته بصدد المستقبل. وما من معالج إلا ويعلم أن المرضى قد يسترسلون فى سرد ذكريات من الماضى حتى الغثيان, دون أن تحركهم منها ذكرى واحدة. فالسرد بأكمله فاتر ممل غير ذى بال. ليست مشكلة هؤلاء المرضى من وجهة نظر وجودية أنهم عانوا ماضيا ماحلا فقيرا, ولكن مشكلتهم بالأحرى أنهم لا يستطيعون أو لا يريدون أن ينذروا أنفسهم للحاضر والمستقبل. وهم إن كان ماضيهم لم يعد حيا نابضا فما ذلك إلا لأنهم فقدوا شغفهم بالمستقبل. إنهم بحاجة ماسة إلى بعض الأمل والتكريس من أجل تغيير شئ ما فى المستقبل القريب. وليكن التغلب على القلق أو التغلب على الأعراض المؤلمة أو استجماع النفس من أجل إبداع قادم. ولن يتحلى كشفهم للماضى بأى مصداقية أو واقعية قبل أن يتحلوا هم بهذا الأمل وهذا التكريس.
قدرتنا البشرية على تجاوز الموقف الراهن
إذا كان لنا أن نفهم شخصا ما بوصفه موجودا ديناميا فى تحول مستمر وصيرورة دائمة, فلن يسعنا إذ ذاك أن نغفل بعدا وجوديا هاما هو بعد العلو transcendence. “فأن توجد” يتضمن أن تكون فى انبثاق مستمر.. فى تطور انبثاقى emergent evloution بمعنى أنك تتخطى ماضيك وحاضرك وصولا إلى المستقبل. وعليه يكون الفعل “transcendere (ويعنى حرفيا: يتسلق الشئ ويتخطاه) واصفا لما ينخرط فيه الكائن الإنسانى كل حين ما لم يقعد به أمر خطير أو يعطله اليأس أو القلق. وبوسع المرء بطبيعة الحال أن يلمس التطور الانبثاقى فى كل عمليات الحياة. لقد أعلن نيتشه على لسان نبيه القديم زرادشت: “ولقد أسرت إلى الحياة نفسها قائلة: انظر .. إننى ذلك الشئ الذى لابد أن يتخطى ذاته كل حين”.
وصف كورت جولدشتاين الأساس النيوروبيولوجى لهذه القدرة البشرية وصفا يؤثر. فقد قام بدراسة المرضى المصابين بعطب فى الدماغ. فوجد أنهم – ولا سيما الجنود الذين ذهب الرصاص بأجزاء من اللحاء الجبهى من دماغهم-قد فقدوا بصفة خاصة تلك القدرة على التجريد, أى القدرة على أن يفكر المرء بصيغة الممكن. فكانوا موثوقين بأى موقف عيانى مباشر يكتنفهم فى أى لحظة. كان الواحد منهم يتخطفه القلق ويتناثر سلوكه لو تصادف أن كانت خزانته غير مرتبة. ذلك هوالترتيب القهرى compulsive orderliness وهو وسيلة للتشبث المتصلب بالموقف العيانى اللحظي. وعندما كان جولدشتاين يطلب من أحدهم أن يكتب اسمه على صفحة من الورق كان دأبه أن يكتبه فى ركن بعينه من الصفحة فلا يحيد عنه مهما تكرر الطلب. كانت أية مجازفة بالكتابة خارج تلك الحدود من الورقة تمثل له تهديدا خطيرا, ! يرى جولد شتاين أن ما يميز الكائن الإنسانى السوى هو هذه القدرة بالتحديد.. القدرة على أن يجرد.. أن يستعمل الرموز.. أن يوجه نفسه خارج الحدود المباشرة لـلمكان الآنى أو اللحظة المعطاة .. أن يفكر بصيغة “الممكن”. أما المرضى والمصابون فإنهم يفقدون هذا النطاق.. نطاق “الإمكان”, فينكمش عالمهم المكانى ويتقلص الزمان, ويفقدون بالتالى حريتهم فقدا تاما.
نمتلك نحن البشر تلك القدرة على تجاوز الزمن والمكان. فبوسعنا أن نرتحل بأنفسنا ألفى سنة إلى الوراء لنصل بلاد الإغريق ويتسنى لنا أن نشاهد مأساة أوديب تمثل فى أثينا القديمة. وبوسعنا أن ننتقل للتو إلى المستقبل فنتصور ما سوف تكون عليه الحياة بعد 2500 سنة مثلا. هذه الصور من “العلو” transcendence هى جزء لا يتجزأ من الوعى الإنساني. وخير مثال للعلو هو قدرة البشر الفريدة على أن يفكروا ويتحدثوا بالرموز. فأنت حين تتعهد بشئ ما أو تعد به فإن ذلك يفترض مسبقا أن لديك صلة واعية بذاتك. وهو شئ يختلف تماما عن السلوك الاجتماعى المبنى على التكيف الغفل, وعن العمل وفق متطلبات الجماعة الحيوانية أو قطيع السوائم أو خلية النحل. يقول جان بول سارتر إن الكذب أو التضليل شكل سلوكى يتفرد به الإنسان. “الكذب شكل من أشكال العلو أو التجاوز” فلكى نكذب يتوجب أن نكون فى نفس الوقت على علم بأننا نتخطى الحقيقة وننأى عنها.
ليست القدرة على تجاوز الموقف المباشر ملكة تندرج بين غيرها فى قائمة الملكات. ولكنها بالأحرى جزء من الطبيعة الأنطولوجية للكائن الإنساني. أما التجريد والموضوعية ((6)) فهما أمارات لها وأدلة. فى ذلك يقول مارتن هيدجر: “لا يتألف العلو من الموضوعية, ولكن الموضوعية تفترض العلو”. إن قدرة الإنسان على أن يكون فى علاقة بذاته تمنحه تلك القدرة على أن يموضع عالمه وأن يفكر ويتحدث بالرموز .. إلخ. وهذا ما كان يعنيه كيركجارد عندما كان يذكرنا أننا لكى نفهم أنفسنا يلزمنا أن نعى بوضوح أن “التخيل ليس ملكة كغيرها من الملكات. ولكنها إن صح التعبير.. ملكة الملكات”. فأى شعور يملكه هذا الإنسان أو ذلك؟ وأى معرفة وأى إرادة؟ ذلك شئ يتوقف فى نهاية المطاف على ما لديه من ملكة التخيل, أى على الطريقة التى يتأمل بها هذه الأشياء. أى ملكة التخيل, هى التى تجعل كل تفكر ممكنا. وقوة هذه الملكة الوسيطة شرط لقوة الذات”.
المدارس الأخري
السلوكية
سنشرع أولا فى تفحص الفروق بين النظرية الوجودية والنظرية السلوكية. بوسعنا أن ندرك هذه الاختلاف الجذرى عندما نلحظ الهوة القائمة بين الحقيقة المجردة والواقع الوجودي.
يقول كنيث سبنس (1956) قائد أحد أجنحة النظرية السلوكية: “هل هذا المجال أو ذاك من ظواهر السلوك أكثر حقيقة أو أقرب إلى الحياة الفعلية وأولى من ثم بالبحث والاستقصاء؟ ذاك سؤال لا يعن, لا ينبغى أن يعن, للسيكولوجى بصفته عالما” ومفاد هذا القول أنه لا يهم كثيرا ما إذا كان ما تجرى دراسته حقيقيا أم لا!
أية مجالات إذن ينبغى أن تنتقى للدراسة العلمية؟ إن سبنس يعطى الأولوية “لتلك الظواهر التى تسلم نفسها لدرجات من التحكم والتحليل تسمح بصياغة قوانين مجردة” لم يرد هذا المبدأ بوضوح وتجرؤ كما ورد على لسان سبنس – ننتقى للدراسة العلمية كل ما يتسنى رده إلى قوانين مجردة. أما مسألة ما إذا كان ما ندرسه له نصيب من الحقيقة الفعلية أم لا, فذاك أمر غير ذى صلة بهذا الهدف((7)) وكم ذا شيد المشيدون فى علم النفس من أنساق معجبة تتراكم فيها التجريدات عالية تجريدا فوق تجريد, مستسملين كدأب المفكرين العقلانيين لعقدة الصرح edifice complex إلى أن يتم لهم بناء مهيب خلاب. المشكلة الوحيدة أن الصرح كان فى أغلب الأحوال منبتا عن الواقع فى أساساته ذاتها.
أما الأطباء النفسيون وعلماء النفس المنتمون إلى حركة العلاج الوجودي, فيصرون على أننا يلزمنا بالضرورة, وما يزال باستطاعتنا, أن يكون لدينا علم يضطلع بدراسة الكائنات الإنسانية فى واقعها الفعلي.
الفرويدية التقليدية
يفترق لدفيج بنسفانجر, وغيره من المعالجين الوجوديين, عن فرويد فى عديد من النقاط الهامة. منها رفضهم لما ذهب إليه من أن المريض النفسى مسير بالغرائز. والدوافع. فالفرويديون, على حد قول سارتر, قد غاب عنهم ذلك “الكون الإنسان” الذى تحدث له هذه الأشياء.
كذلك يلقى الوجوديون ظلالا من الشك على فكرة فرويد عن اللاشعور بوصفه خزانا للميول والرغبات والدوافع التى تتحكم فى السلوك وتوجهه. فهذه النظرة إلى اللاشعور “القبو” cellar تتيح للمريض فى الموقف العلاجى أنيتنصل من المسئولية عن أفعاله بعبارات من قبيل: “إن اللاشعور هو الذى فعلها وليس أنا”. ويصر الوجوديون دائما على أن يحملوا المريض المسئولية بأن يسألوه أسئلة مثل:”لا شعور من هذا؟!”
تتجلى الاختلافات بين الوجودية والفرويدية أيضا فى مسألة أشكال العالم. فرغم عبقرية فرويد وأهميته فى كشف النقاب عن أشكال الغرائز ومسائل الدوافع والحدوث والحتمية البيولوجية, إلا أن الفرويدية التقليدية لا تقدم لنا عن العلاقات بين الأفراد كذوات (العالم-مع) إلا تصورا باهتا مبهما.
المدرسة البينشخصية فى العلاج النفسي
إن نظرة متفحصة فى الأشكال الثلاثة للعالم لـتكشف الفروق بين العلاج الوجودى وبين المدرسة البينشخصية The Interpersonal School كما تتمثل فى كتابات إريك فروم, وهارى ستاك سوليفان. صحيح أن لدى المدراس البينشخصية أساسا نظريا يتناول “العالم – مع” تناولا مباشرا0 (يكفى أن تتأمل فى ذلك نظرية سوليفان) وأن هناك نقاط التقاء كثيرة بين الطرفين (وإن لم تصل لدرجة التطابق). غير أن مكمن الخطر هنا هو أننا إذا أغفلنا العالم الشخصى Eigenwelt تميل العلاقات الشخصية لأن تصبح خاوية عقيمة. لقد هاجم عالم مثل سوليفان مفهوم الشخصية الفردية وجاهد غاية الجهد كى يعرف النفس فى حدود التقييم المنعكس (عن الجماعة) والمقولات الاجتماعية, أى الأدوار التى يؤديها الفرد فى العالم البينشخصي. إن هذا,على المستوى النظرى يعانى كثيرا من عدم الاتساق المنطقي, بل يتجه على النقيض من إسهامات سوليفان الأخري. أما من الوجهة العلمية فهو يكاد يجعل من النفس مرآة للجماعة من حولها, ويفرغها من الحيوية والأصالة, ويختزل العالم البينشخصى إلى مجرد علاقات اجتماعية,ويفتح الطريق لتوجه مضاد تماما لأهداف سوليفان وغيره من مفكرى المدرسة البينشخصية-ألا وهو “الامتثال الاجتماعى socical conformity”.
مدرسة يونج
هناك أوجه شبه بين مدرسة يونج وبين العلاج الوجودي. وقد كان معالج وجودى مثل مدارد بوس لسنوات عديدة عضوا فى الحلقة التى يعقدها يونج بانتظام فى منزله. إلا أن المأخذ الذى يأخذه الوجوديون على أتباع يونج هو أنهم يسارعون إلى تجنب الأزمات الوجودية المباشرة للمريض بأن “يقفزوا إلى النظرية”, وقد أوضح بوس هذا المأخذ فى الحالة التى أوردها فى فصل “الذنب ومشاعر الذنب”. وهى حالة مريضة يتملكها الخوف من الخروج بمفردها من المنزل,قام معالج يونجى بتحليلها لمدة ست سنوات, فسر خلالها عديدا من الأحلام كإشارة إلى أن الله يتحدث إليها. لقد أرضى هذا غرور المريضة. غير أنها بقيت عاجزة عن الخروج من المنزل, وقد استطاعت فيما بعد أن تتغلب على عصابها المقعد حين فيض لها معالج وجودى ألح على أنها لن تتكمن من قهر مشكلتها إلا إذا أرادت هى بشكل إيجابى أن تقهرها.وهى طريقة أخرى للقول بأنها هى التى يلزمها, لا الله, أن تتحمل المسئولية عن مشكلتها وتملك زمام أمرها.
العلاج المتمركز على العميل
يوضح رولو ماى الفارق بين المدرسة الوجودية ومدرسة روجرز فى تقاريره التى كتبها عندما كان يعمل حكما للعلاج المتمركز على العميل client-centered فى تجربة لهذا العلاج أجريت بجامعة وسكونسين. فقد استعين فى هذه التجربة باثنى عشر خبيرا خارجيا للحكم كانت ترسل إليهم شرائط تسجيل للجلسات العلاجية. قرر رولو ماى بصفته أحد الخبراء الخارجيين أنه لم يكن يحس فى كثير من الأحيان أن هناك شخصين متميزين فى غرفة العلاج . فحين يقتصر دور المعالج على أن يعكس كلمات المريض, يكشف الأمر عن هوية واحدة لاشكل لها, ولا يعود هناك ذاتان تتفاعلان فى عالم تشارك فيه كلتاهما.. عالم يعج بالحب والكراهية, والثقة والشك, والصراعات والاعتمادية, بحيث يمكن تناول كل ذلك وفهمه وتمثله”, كان ماى يخشى أن الإفراط فى التوحد مع المريض overidentification من جانب المعالج, يفوت على المريض فرصة أن يخبر نفسه كذات لها استقلالها أو أن يأخذ موقفا من المعالج .. أن يخبر نفسه حقا فى عالم بينشخصي.
ورغم ما ينادى به الروجريون فى علاجهم الفردى والجمعى من انفتاح وحرية فى العلاقة العلاجية, فقد اتفق الحكام الخارجيون فى دراسة وسكونسين على أن “الطبيعة الجامدة المتحفظة للمعالج كانت تضع حائلا يحجب عنه كثيرا من الخبرات الخاصة به والخاصة بالمريض “.
كتب أحد المعالجين الروجريين, بعد خبرة كمعالج متسقل هذا النقد:”كنت أطبق المفهوم الأول للعلاج المتمركز على العميل, فأكبح غضبى وعدوانيتي.. إلخ. فكان المردود الذى وصلنى آنذاك هو أننى كنت مهذبا لطيفا بحيث صعب على المرضى أن يفضوا إلى بأشياء غير مهذبة وغير لطيفة, وصعب عليهم أن يثوروا على ويغضبوا.”
وجملة القول أن العلاج المتمركز على العميل يحيد عن المفهوم الوجودى الصحيح, إذ يتجنب مواجهة المريض بشكل مباشر حازم((8)).
[1]- الإشراط (ويقال عنه أحيانا : التشريط) هو المبدأ الأساسى للمدرسة السلوكية، ومفاده باختصار شديد أن سلوك الإنسان يتحدد وفقا لمؤثرات محايدة يتواتر ارتباطها بمؤثرات طبيعية بحيث يصير مجرد حدوثها كافيا لإحداث الاستجابة الطبيعية (كارتباط سماع صوت الأوانى وسيل اللعاب) ويسمى هذا بالإشراط الكلاسيكى أو البافلوفي. كما يتحدد السلوك وفقا لمكافآت يتواتر ارتباطها بسلوك معين يأتيه الإنسان فتعزز ميله لتكرار السلوك المجزى ويسمى هذا بالإشراط الإجرائى أو إشراط سكينر. المترجم
[2] – النماذج البدئية أو الأثرية عند يونج هى صور أو انطباعات مفطورة لدى جميع البشر، ومخزونة فيما أسماه اللاشعورالجمعى (كمقابل للاشعور الشخصي)، وهى تكافئ مفهوم الغريزة عند الحيوانات وتعبر عن حاجات سيكولوجية عامة تخص الناس جميعا، ولاتبعد كثيرا عن مذهب الأفكارالفطرية عند أفلاطون وغيره. ومن أمثلة النماذج الأثرية نموذج البطل،أمنا الكبرى ـالأرض- الحيم العجوز، الشرير، المحتال، الأنوثة، الذكورة..إلخ ومن براهين وجود هذه النماذج الأثرية ما نجده فى دراسة الأساطير والأحلام وحكايات الجن. ‘المترجم’
[3] – اللانظامية anomie كلمة فرنسية نحتها عالم الاجتماع الفرنسى إميل دور كايم من العبارة اليوناينة التى تعنى ‘لا قانون’. وتشير إلى حالة اجتماعية من الفوضى والانحطاط وعدم الأمان، تنجم عن تفسخ القيم والأعراف والبنية الاجتماعية، وتسم فترات غياب السلطة وأعقاب الكوارث الكبرى والحروب والهجرات وغيرها. المترجم
[4] – ربما يعنى نيتشه أن الإنسان حين ينتقل من فكرة الانتحار إلى مرحلة تفعيل الفكرة يدرك أن الحياة، محض الحياة، هى ثروة فى ذاتها ونصاب مكتمل لا يصح أن يتنازل عنه أو يفرط فيه. وربما تكون هذه أيضا من بصائر نيتشه الثاقبة واستباقاته المدهشة من حيث أن رؤية الموت تتعتع فى شخصية الفرد ثوابت بنوية صلبة عنيدة، وتجعله ينمو نموا مفاجئا عظيما ويرى الحياة من منظور جديد، ويعرف أن الوجود ثروة وأنه لا يكون إلا فى الحاضر وأنه لا يمكن أن يؤجل. المترجم
[5] – تحمل الكلمة الألمانية schuld التى يستخدمها هيديجر معنى الإثم ومعنى الدين أيضا والإلزام القانونى بالسداد. وبهذا المعنى يكون آثما بالأساس، وعليه أن يدرك نفسه كآثم ومدين لنفسه بتحقيق ممكناتها. وألا يتخفف من هذا الشعور تخففا تاما لأنه يمثل التوتر بين شكل الحياة المستهدفة وتجسدها الناقص، وهو جزء من طبيعة الإنسان وقوة دافعة تخرج به من الخسران إلى الأصالة. المترجم
[6] – حرفيا: الموضوعية objectivation أى الانفصال عن الشئ وجعله موضوعا للتأمل الذاتي. المترجم
[7] – يذكرنا هذا بحال جحا إذ وقع منه درهم على رصيف مظلم فذهب يبحث عنه على الرصيف الآخر لأنه جلى بنور المصابيح! المترجم
[8]- من الإنصاف هنا أن نقول إن كارل روجز قد تراجع مؤخرا عن حيادية العلاج وأعلن أنه لا يعرف من أطلق عليه لفظ العلاج غير الموجه nondirective pscyhotherapy، وأنه لو كان هو الذى أطلق عليه هذا الاسم فهو آسف، لأنه لا يوجد علاج غير موجه، وإلا لما كان علاجا. المترجم