التأويل
فهم النصوص الإلهية والدينية
فى الفكر الإسلامى: من بدايته إلى نصر أبو زيد
د. أحمد صبحى منصور
مقدمة:
أولا: معنى التأويل وموقعه بين الإسلام والمسلمين
ثانيا: التأويل بين الشيعة والصوفية.
ثالثا: التأويل بين المعتزلة وأهل السنة.
رابعا: التأويل فى الفقة السني.
خامسا: التأويل المعاصر بين السلفية ونصر أبو زيد.
خاتمة:
المقدمة:
برزت قضية التأويل فى الفكر الإسلامى فى المجتمع الثقافى أثر تسلل قضية الدكتور نصر أبو زيد من أروقة الجامعة إلى الشارع السياسى والثقافي, ثم أصبح التأويل قضية ثقافية عامة بعد تحول قضية الدكتور نصر أبو زيد إلى شأن عام داخل مصر وخارجها. وكان طبيعيا أن يتساءل الكثيرون عن معنى التأويل أو معنى فهم النص, والعلاقة بين التأويل والإسلام والمسلمين, وتاريخ التأويل لدى المسلمين والفرق الاسلامية.
وكان ذلك دافعا لكتابة هذه الورقة البحثية السريعة, حتى أضع النقاط فوق الحروف فى قضية علمية تراثية وهى التأويل وقد شاءت الظروف السياسية أن تتحول إلى شأن عام يختلف بصدده السياسيون والمثقفون وغير المتخصصين.
والله تعالى المستعان.
أولا: معنى التأويل وموقعه بين الإسلام والمسلمين
(أ) معنى التأويل فى القرآن:
1- كالعادة تواجهنا مشكلة المصطلحات, وهى المشكلة الأساسية للمسلمين والفكر الاسلامي, فللقرآن الكريم مصطلحاته, وللتراث مصطلحاته. ومن الظلم للقرآن أن نفهمه بغير مصطلحاته, أو أن نفهمه بمصطلحات التراث, والتأويل هو المسئول عن هذه المشكلة, وهذا ما توضحه هذه الدراسة والطريق أن مصطلح التأويل نفسه له مفهوم فى القرآن يخالف المفهوم الواقعى الذى سار عليه الفكر البشرى للمسلمين.
2-فالتأويل فى المصطلحات القرآنية والسياق القرآنى يعنى التحقيق والتجسيد فيما تعجز لغة البشر عن توضيحه, سواء كان ذلك فى أمور تحدث فى الدنيا أو ستحدث فى الآخرة. ونعطى لذلك أمثلة قرآنية, فالنبى يوسف عليه السلام رأى فى المنام أن أحد عشر كوكبا والشمس والقمر يخرون له ساجدين, وهذا الحلم تحقق فيما بعد فى نهاية القصة حين أصبح عزيز مصر وجاءه أبواه وإخوته الأحد عشر وخروا له سجدا, وحينئذ تذكر يوسف الحلم القديم, يقول تعالى فى قصته يوسف أو سورة يوسف وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل, قد جعلها ربى حقا: يوسف:100 أى أن تأويل رؤيا يوسف هو تحقيقها عمليا وتجسيدها فعليا فى الدنيا.
وكان من معجزات يوسف قدرته على “التأويل” بالمفهوم القرآني, أى قدرته على الإخبار بالمعنى الحقيقى للأحلام وكيف ستتحقق عمليا على أرض الواقع, ولأن تلك المعجزة تقع فى نطاق العلم ببعض الغيب الذى اختص الله تعالى به ذلك النبى العظيم, فقد تكرر فى سورة يوسف مدحه بتلك الخصوصية وكذلك مكـنا ليوسف فى الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث “رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الأحاديث: يوسف 101,21′ ولأن التأويل بهذا المعنى ضمن الغيب الذى أعطى الله تعالى العلم به لبعض الأنبياء, فإن ملك مصر حين رأى الحلم المشهور عن السبع بقرات والسبع سنابل وسأل الملأ والحاشية فإنهم عجزوا عن التفسير الحقيقى للحلم, يقول تعالى عنهم قالوا أضغاث أحلام, وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين: يوسف 44 وجاء التأويل من عند يوسف إخبارا بالمستقبل وما سيحدث فيه بالفعل, وتحقق التأويل وتجسد واقعا حيا بالفعل. ونفس الحكاية فى قصة يوسف مع صاحبيه فى السجن, وقد رأى كل منهما رؤيا مختلفة, وقام يوسف بتأويلها أو تفسيرها تفسيرا تحقق فيما بعد وتجسد واقعا حيا, وحرص يوسف عليه السلام قبل أن يخبرهما بالتأويل على أن يقول لهما لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما, ذلكما مما علمنى ربي: يوسف 27.
إذن فالتأويل هو علم بالغيب, وإخبار بالمستقبل المجهول, وهو يخبر بما سيتجسد عمليا وواقعيا, ولا يكون إلا لبعض الأنبياء لأن الله تعالى يقول عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا, إلا من ارتضى من رسول: الجن 26 وما كان الله ليطلعكم على الغيب, ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء: آل عمران: …179 وبالمناسبة فخاتم النبيين عليهم السلام لم يكن يعلم الغيب, وأكد القرآن ذلك فى أكثر من عشرين آية قرآنية.
3- وما سبق كان عن التأويل فى غيوب الدنيا المستقبلية, وشهدنا أمثلة منها فى قصة يوسف.
وبقى أن نتحدث عن التأويل فى غيب الآخرة وما سيحدث فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب, من الطبيعى أن ما سيحدث حينئذ سيكون مختلفا عن إدراكات البشر ولا تستطيع لغة البشر أن تصفه كما هو على الحقيقة, وهذا يشكل مشكلة فى الخطاب, وقد تغلب القرآن الكريم على هذه المشكلة وهو يخاطب البشر بأن اعتمد على الأسلوب المجازي, ووصف هذا الأسلوب بأنه المتشابهات والمتشابه يعنى الاتفاق والاختلاف معا, أى تداخل المعني, ووجود بعض الاتفاقات والاختلافات ومثال ذلك قول بنى اسرائيل لموسى إن البقر تشابه علينا: البقرة 70 يعنى “تشابه” إلى درجة عدم القدرة على التميير بينها. لذلك فالسياق القرآنى فى الحديث عن الآخرة وأحوالها ضمن “المتشابهات” لأنه غيب لم ندركه بعد وإن كنا نستطيع التخيل والتفكير فيه, ولهذا فإن الخطاب القرآنى يتنوع بين آيات محكمة واضحة الدلالة بأسلوب تقريرى قاطع, ويأتى هذا خصوصا فى آيات التشريع, ثم هناك الأسلوب التصويرى والمجازى الذى يصف لنا الغيوب التى لم نشهدها بعد وهى تخرج عن نطاق خبراتنا ومدركاتنا الحسية, وهى الآيات المتشابهة.
وهذه الآيات المتشابهة فى الحديث عن أحوال الآخرة سنرى تحقيقها عمليا وتجسيدها واقعيا فى يوم القيامة, ولكن حتى يأتى ذلك اليوم فإن الذى يعلم تأويلها أو كيفية وقوعها هو,جل وعلا, الله وحده, والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه يؤمنون بكل ما جاء فى القرآن من آيات محكمة وآيات متشابهة, لأنها كلها من عند ربنا.
وذلك الذى قلناه هو المقصود بقوله تعالى هو الذى أنزل عليك الكتاب, منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات, فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله, وما يعلم تأويله إلا الله, والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا: آل عمران 7
وإذن فتأويل الآيات المتشابهة عن اليوم الآخر مثلا لا يعلمه إلا الله تعالى علام الغيوب .. ومن الطبيعى أن يتحرق البشر لهفة لمعرفة ما سيحدث فعلا يوم القيامة, أو التجسيد الواقعى لآيات القرآن عن الآخرة, أو بمعنى آخر لمعرفة تأويل أو تحقيق ما سيحدث فى القيامة, ولكنهم لن يروا ذلك ولن يشهدوا ذلك التأويل أو التحقيق إلا يوم القيامة ذاته وسيكون مفاجأة قاسية لهم, يقول تعالى فى ذلك هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأت تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل, قد خسروا أنفسهم: الأعراف 53
وهكذا فالتأويل فى مفهوم القرآن ومصطلحاته هو التحقق والتجسيد خصوصا فى غيب المستقبل الدنيوى وغيوب الآخرة. ويشمل أيضا التطبيق البشرى للتشريعات الإلهية حين يكون ذلك التطبيق البشرى للشرع كاملا ومتقنا, يقول تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم, فإن تنازعتم فى شيء فردوه إلى الله والرسول, إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر, ذلك خير وأحسن تأويلا: النساء 59 وأحسن تأويلا تعنى أحسن تطبيقا, وأحسن تحقيقا وتجسيدا للأوامر الإلهية.
(ب) التأويل فى التراث
1- تحدث رب العزة عن أولئك الذين فى قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله, والفتنة فى مفهوم القرآن تعنى الإكراه فى الدين والقمع الفكرى والاضطهاد للمخالفين فى الرأى والعقيدة, وقد عرفنا أن التأويل يعنى التحقيق والتطبيق, والمعنى المقصود أن الذين فى قلوبهم زيغ يقيمون لأنفسهم مفاهيم مختلفة على أساس ذلك الزيغ ويتلاعبون بالآيات بقصد إكراه الآخرين فى الدين وتطبيق ذلك الإكراه عمليا, وانطلاقا من مفاهيم اخترعوها, وجعلوا لها قدسية.
وذلك باختصار مجمل التاريخ الفكرى للمسلمين فى العصور الوسطي, زيغ عن القرآن, وقمع للفكر المخالف.. والتفصيل لذلك يحتاج مجلدا ضخما, ولكن سنعطى فكرة سريعة موجزة.
2-فالمفهوم الواقعى عند المسلمين هو محاولة تطويع النصوص القرآنية للغرض والهوى سواء كانت تلك النصوص متعلقة بالتشريعات أو بالغيبيات الخاصة باليوم الآخر وصفات الله تعالى وذاته المقدسة والمخلوقات التى نراها كالجن والملائكة والشياطين, وحين تصل إحدى الفرق الفكرية إلى مجال النفوذ السياسى فإنها لا تتورع عن اضطهاد مخالفيها فى الرأى وإقامة محاكم تفتيش لهم. حدث ذلك فى الفترات التى سيطر فيها أهل السنة والشيعة والصوفية والمعتزلة وحتى الخوارج.
وقد بدأ الخلاف بين المسلمين مبكرا وتركز حول الخلافة والحكم, وبدأ الانقسام سياسيا بين المسلمين منذ بيعة العقبة وخلافة ابى بكر, ثم تحول الخلاف السياسى إلى أحزاب سياسية وحرب أهلية, ثم تحولت الأحزاب السياسية إلى تدعيم آرائها بالدين, ولأن القرآن يخالف ذلك الواقع الدامى فقد احتاجوا جميعا إلى تطويع للنصوص القرآنية لكى تخدم أغراضهم السياسية, وذلك هو المعنى الواقعى للتأويل, ولم يكتفوا بتأويل أو تطويع النصوص القرآنية, فاستحدثوا نصوصا أخرى نسبوها للنبى أو لآل بيته أو للصحابة, كى يجعلوا للفكر الدينى والسياسى مرجعية مقدسة.. وبهذا اختلط الدين المقدس بالفكر البشرى غير المعصوم, وضاعت الحواجز بين الدين الإلهى المعصوم وبين الفكر البشرى الذى يحركه الهوى والمصلحة والطموحات السياسية والاجتماعية.
وهذا ما نعانى منه اليوم, حين عادت ما تسمى بالصحوة الدينية تحمل إلينا فكر التراث السلفى الحنبلى وهو أشد أنواع الفكر جمودا وتخلفا وتعصبا, ولم تكتف بذلك بل جعلته ممثلا للإسلام نفسه, وأصبح الاختلاف معه خروجا عن الإسلام ذاته, مع أنه ليس إلا مجرد فكر لبعض المسلمين, وكانت هناك أفكار أخرى لمسلمين آخرين, كانت أكثر حيوية وتطورا وأرقى عقلية, ولكنه النفوذ السياسي, الذى يجعل نوعا من الفكر يسود ويقمع الأفكار الأخري, ويحاول إجبار الآخرين على اعتناق ذلك “الزيغ” الفكرى على أساس أنه الإسلام, وذلك ما أجلمته الآية السابعة من سورة آل عمران عن الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة – والفتنة تعنى الاضطهاد والقمع – وابتغاء تأويله, والتأويل يعنى التطبيق. وتطبيق الفكر السلفى نراه مسطرا بدماء الضحايا فى عصرنا .. من مصر إلى الجزائر وأفغانستان وما بين هذا وذلك.
وهو فى نهاية الأمر استرجاع لما ساد فى العصور الوسطي, عصر التعصب والتطرف. وندخل بذلك على نماذج للتأويل لدى أشهر الفرق الإسلامية.
ثانيا: التأويل بين الشيعة والصوفية
1-الشيعة هم أقدم الفرق الإسلامية, ويرجع استمرارها فى الوجود حتى الآن لعاملين الأول: أنهم نجحوا فى تحويل فكرهم الدينى إلى دين كامل عن طريق التأويل أو تطويع النصوص, وهم أشهر القائلين بالتأويل بالمصطلح التراثي, ولهم فى التأويل مناهج وفلسفات, الثاني: أنهم تعرضوا لكثير من الاضطهادات, وعاشوا كثيرا فى خندق المقاومة, والتجربة الإنسانية تؤكد أن اضطهاد الفكر هو السبيل الوحيد لكى ينتشر ذلك الفكر ويسود طالما يواجه العنف بديلا عن النقاش, وقد كان للحكومات”السنية” فى العصور الوسطى الفضل فى نشر الفكر الشيعى وعقائده بسبب الاضطهاد الذى أوقعوه بالشيعة, وهو درس ينبغى أن يتعلم منه عصرنا الراهن, وقد خرج الشيعة من هذه التجربة المريرة بشيئين, إقامة بعض الدول الشيعية, ثم التفنن فى التقية وفى التأويل… وبهما ينجحون … ولا يزالون.
2- ومع كل الاختلافات داخل الشيعة إلا أنهم يتفقون حول مبدأ أساسي, هو التولى والتبري. أى موالاة “على بن أبى طالب” وذريته والتبرؤ من خصومه السياسيين, كأبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية وأم المؤمنين عائشة. ويختلفون فى مقدار التولى والتبري, فمنهم من يصل بموالاة “علي” إلى تقديسه وتأليهه, ومنهم من يصل بالبراءة من أبى بكر وعمر إلى درجة تكفيرهما… ولكن يظل الاجماع بينهم سائدا حول عصمة (علي) وذريته, وأن تكون فيهم الإمامة بالنص والتعيين, وأن يكون ذلك جميعا جزءا من الدين الشيعى ولكى يكون جزءا من الدين لجأوا إلى التأويل بمعنى تطويع النصوص القرآنية, ثم اختراع أحاديث تخدم عقائدهم, نعطى نماذج سريعة للتأويل الشيعى الذى يحظى عندهم بالإجماع.
3- فهم يرون أن قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوامع الصادقين: التوبة 119 مقصود به “على بن أبى طالب” وذريته مع إن كلمة الصادقين جاءت عامة, وما المانع أن تشمل أبا بكر الصديق وعمر الفاروق؟
- وهم يرون أن عليا بن أبى طالب وزوجته وأبناءه هم المقصدون بقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا: الأحزاب 33 وبسبب الدعاية الشيعية اعتقد كثيرون أن ذرية “علي” هم آل البيت, مع أن الآيات تتحدث عن نساء النبي, والمصطلح القرآنى “آل البيت” يكون مقصودا به الزوجة, سواء كانت زوجة لإبراهيم قالوا أتعجبين من أمر الله, رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت: هود 73 أو كانت امرأة العزيز فى مصر وراودته التى هو بيتها عن نفسه: يوسف 23 والعجيب أن الآية التى حرف الشيعة معناها قاطعة الدلالة فى أن المقصود بها نساء النبى يقول تعالى له من قبلها يا نساء النبى لستن كأحد من النساء ثم يقول لهن وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي, وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.
- والشيعة يرون أن عليا بن أبى طالب وزوجته هما المقصودان بقوله تعالى يطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا: الإنسان 8.
والشيعة فى كل تلك التأويلات يؤيدونها بقصص وأحاديث. والهدف من ذلك التأكيد على عصمة على والأئمة من ذريته, وأن يتحول فى النهاية ذلك الفكر إلى دين ثم إلى دين ودولة, وذلك ما حدث فعلا.
4- والتصوف ابن شرعي, أو غير شرعى للتشيع, ويتفق الصوفية مع الشيعة فى تقديس على وذريته وأن اختلفوا فى بعض الشكليات, فالشيعة يجعلونهم أئمة مقدسين, والصوفية يجعلونهم أولياء معصومين, إلا أن الاختلاف الأساسى بين الفريقين يكمن فى أن الصوفية تخففوا من الطموح السياسى ومتاعبه, واكتفوا بدولة الباطن الوهمية والخرافات المقدسة التى جعلوها حكرا عليهم, وتمتعوا بتقديس العوام والنذور والموالد والولائم, وبدأ التصوف منذ القرن الثالث, ثم انتشر وازدهر وسيطر وتحكم خصوصا فى العصرين المملوكى والعثماني, وظل الأمر كذلك إلى أن جاءت الصحوة الدينية الراهنة بالتدين السلفى الحنبلى الوهابى فغلب على الساحة بريالات النفط ونفوذه.
وكالتشيع استطاع التصوف أن يحول أفكاره الدينية -المخالفة للإسلام- إلى دين يحمل لافته الإسلام, وذلك عن طريق التأويل وعن طريق التلاحم العضوى بالطبقات الاجتماعية من خلال الطرق الصوفية, وأخيرا عن طريق تسويغ أى انحلال أو هوى وتشريعه فى إطار التسامح الصوفي.
والتأويل الصوفى حرص على تجنب الصدام مع السلطان وأصحاب النفوذ لذلك كان يسير أحيانا مع الرمز, ويحتج حينا(بالوجد) أى تأجج عاطفة الصوفى بحيث تغلبه مشاعره فينطق بما يحسبه الناس كفرا, ولكنه عندهم معذور لأن “الحال” قد غلبه فخرج عن السياق !!
– وتسرب إلينا من التأويل أنهم وحدهم المقصودون بقوله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون: يونس 62 مع أن الآية تصف أولياء الله بالإيمان والتقوى والإيمان والتقوى صفات عامة مطلوب من الناس جميعا التحلى بهما وهى صفات عريضة تزيد وتنقص وليست صفات لازمة, وهى صفات غيبية لا يعلم حقيقة الاتصاف بها إلا الله تعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور, ومع ذلك فقد نجح التأويل الصوفى فى إقناعنا بأن الصوفية وحدهم هم أولياء الله, ثم تطرف فجعل للأولياء الصوفية صفات الله تعالى من العلم بالغيب والتصريف فى الخلق والتحكم فى الدنيا والآخرة عن طريق كراماتهم المزعومة, تلك الكرامات التى استلزمت تأويلا آخر انصب على فهم خاطئ لبعض القصص القرآني, مثل قصة موسى مع العبد الصالح الذى يؤكد السياق القرآنى إنه “نبي” حيث لا يعلم بعض الغيب إلا بعض الأنبياء, وحيث لا يتلقى الوحى المباشر من الله تعالى إلا الأنبياء ولكن التأويل الصوفى جعل ذلك النبى العبد الصالح شخصا صوفيا اسمه الخضر, وأعلى مكانته فوق النبى موسى حيث كان يعلم النبى موسي, ثم جاءت الأقاصيص الصوفية لتجعل للخضر حياة خالدة متجددة, ولتجعله على قمة المملكة الصوفية الكهنوتية, من الأقطاب والأبدال.
ثالثا: التأويل بين المعتزلة وأهل السنة
1- المعتزلة هم أرقى فئة فى الطوائف الإسلامية, إذ كان تعويلهم الأساسى على العقل, وإن أدى تطرفهم العقلى إلى الوقوع فى المزالق, كما أدى اضطهادهم لخصومهم- فى عصرهم الذهبي-إلى وصمة عار, وتسبب اعتمادهم على العقل فوق النقل فى جعلهم مجرد مذهب مؤقت فى تاريخ المسلمين الفكرى أقصد إنهم لم يتحولوا إلى دين كشأن الصوفية والشيعة والسنة. لم يحاول المعتزلة اصطناع مرجعية دينية مزيفة لهم, كما فعل الصوفية عن طريق العلم اللدني, أو كما فعل الشيعة بالوحى المزعوم للأئمة وعلمهم اللدنى وكما فعل السنة باختراع الأحاديث ونسبتها للنبى أو لله تعالى فيما يعرف بالحديث القدسي. ولذلك ظل جهد المعتزلة مجرد اجتهاد عقلى يقبل الخطأ والصواب ويحتاج إلى الإقناع والاقتناع فى مجتمع النخبة من المثقفين, أما المذاهب الصوفية والشيعية والسنية فقد تحولت إلى عقائد وطقوس وعبادات تتطلب الإيمان والتصديق والخضوع والتسليم, وليس أمام الإنسان إلا أن يؤمن بها أو يكفر بها, كالشأن فى نصوص القرآن ذاته, وبالتالى فإن أئمة هذه المذاهب ومفكريها وأعلامها تحولوا إلى ذوات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها, بإيجاز تحولوا إلى آلهة, لذلك يرتجف المسلم السنى خوفا إذا انتقد أحدهم البخاري, مع أن البخارى مجرد إنسان يخطيء ويصيب, كما يرتعب المسلم الصوفى إذا تعرض أبو حامد الغزالى للانتقاد, ويهتز المسلم الشيعى غضبا إذا هوجم الإمام جعفر الصادق. وهذا لأن تلك المذاهب الفكرية تحولت فى عقائد المسلمين إلى أديان, من خلال المرجعية الدينية الزائفة التى أضيفت لهم, إلا أننا لو انتقدنا واصل بن عطاء, أو الجاحظ أو النظام أو العلاف, وهم أئمة المعتزلة ومن أرقى العقليات الإسلامية فلن تتحرك شعرة فى أى رأس مسلم, لأن فكرهم الإسلامى ظل فكرا إسلاميا, ولم يتحول إلى دين مزور مثل باقى الأفكار لدى باقى المسلمين. ومن المفارقات المؤلمة أن أرقى ثقافة إسلامية ابتدعها العقل المسلم تجدها فى أقوال المعتزلة بينما تجد أفكارا غاية فى الضحالة والانحطاط منسوبة كذبا للنبى عليه السلام, وتحظى بالتقديس, وتتداولها الألسن بالخضوع والتسليم دون أى تدبر فى معناها, لأنه طالما ادعوا أن النبى قد قالها فإن العقل ينسحب مستسلما مؤمنا.
كما تجد أغلب الفكر المعتزلى مسجونا فى المؤلفات بعيدا عن الاشتباك مع واقع المجتمع, لأنه ظل مجرد فكر عاش وقتا فى حياة أصحابه ثم انسحب معهم إلى أعماق التاريخ والتراث, بينما ظل الفكر الآخر يحيا فى المساجد وعلى المنابر وفى القلوب والعقول لدى من اعتنقه وآمن به لأنه تعدى دائرة الفكر إلى الدخول فى مجال التدين الواقعي, واكتسب ملامح الدين حين نسبوه للوحى الإلهى عن طريق النبى والأئمة المقدسين أو الذين جعلوهم مقدسين.
وهذا هو الفارق بين تأويل المعتزلة وتأويل غيرهم من أصحاب الفكر الذى صار دينا, تأويل المعتزلة تأويل عقلي, أما التأويل الآخر فيحتاج إلى مرجعية دينية تؤكده وتكون رواية منسوبة للنبى أو للإمام المعصوم الذى يتلقي- بزعمهم- وحى السماء. وبذلك يتحول التأويل أو تطويع النص القرآنى إلى نص سماوى آخر بالتزييف والانتحال.
2- وبعد هذا الفارق بين المعتزلة وغيرهم نعطى لمحة عن تأويل المعتزلة.
فقد انصب تأويلهم أساسا على الآيات القرآنية التى تتحدث عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله والمشيئة والقضاء والقدر. وفى تأويلهم للآيات القرآنية حاولوا تنزيه الله تعالى عن الاتصاف بصفات المخلوقات, فإذا كان الله تعالى يقول يد الله فوق أيديهم: الفتح 10 قالوا إن تأويل اليد هنا يعنى القوة, وأن قوله تعالى الرحمن على العرش استوي: طه 5 لا يعنى الجلوس على العرش كما يفعل البشر, وإنما يعنى الهيمنة والسيطرة وتمام التحكم فى الملكوت. وفى تأويلهم للآيات التى تتحدث عن القضاء والقدر والمشيئة أولوها فى ضوء حرية البشر فى الفعل وفى الترك وأن الانسان مخير وليس مسيرا.
3- وكان المعتزلة أقرب للصواب فى هذا الفهم للآيات لولا بعض الأخطاء. وأخطاء المعتزلة يمكن إرجاعها كلها إلى سبب أساسي, هو أنهم دخلوا على القرآن بمصطلحات عصرهم وبأدوات الفكر الإغريقي, ومن خلال هذه المصطلحات والأدوات لم يتيسر لهم الفهم الواعى للقرآن, فأخذوا من الآيات ما يناسب رأيهم المسبق, ومالا يوافق رأيهم قاموا بتطويعه وتأويله, وأكدوا ذلك الدليل النقلى المؤول بدليل عقلى منطقى .. ونضرب أمثلة متنوعة للتوضيح.
فالمعتزلة أجهدوا أنفسهم فى الاستدلال على وجود الله, وسط مجتمع يؤمن بالله, سواء كان الناس مسلمين أم أهل كتاب, هذا مع أن القرآن الكريم لم يحاول مطلقا إثبات وجود الله تعالي, بل جاء بأدلة عقلية تثبت بالبرهان أنه لا إله إلا الله, واقرأ مثلا قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا: الانبياء 22, ما اتخذ الله من ولد. وماكان معه من إله, إذا لذهب كل إله بما خلق, ولعلا بعضهم على بعض:المؤمنون91. أهمل المعتزلة الاستدلال بآيات القرآن فى نفى الآلهة الأخري, لأنهم اتخذوا الفلسفة اليونانية مرجعا أساسيا لهم.
ولأنهم جعلوا اليونان مرجعية عقلية معتمدة لديهم فقد أخذوا عنهم أيضا وصف الله تعالى بأنه قديم وهو وصف لا يتفق وتنزيه الله تعالي, لأن وصف القديم يعنى وجود من هو أقدم منه, وطالما نحتكم للعقل فإن الله تعالى هو وحده الأحق بالحديث عن ذاته وصفاته. وقد وصف ذاته فى القرآن بأنه الأول لذا كان الأولى بالمعتزلة أن يتبعوا القرآن لا اليونان فى الحديث عن ذات الله تعالى وصفاته.
وحتى فى تأويلهم للآيات التى يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى والمخلوقات مثل الرحمن على العرش استوى فإنهم غفلوا عن المنهج القرآنى بسبب اتباعهم للمنهج الفلسفى اليونانى .
فالمنهج القرآنى هو أن تفهم القرآن بالقرآن, فالله تعالى كما وصف ذاته ليس كمثله شيء: الشورى 11 إذا فكل آية فى القرآن يفيد ظاهرها تشابها بين الله والمخلوقات لابد أن يكون ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة, واللغة العربية التى نزل بها القرآن فيها الأسلوب التقريرى الحقيقى القاطع وفيها الأسلوب المجازى الذى يحتوى على الاستعارة والكناية والتشبيه. وكما يستعمل القرآن الأسلوب التقريرى القاطع المحدد فى آيات التشريع مثلا فإنه يتبع الأسلوب المجازى التصويرى فى الحديث عن الغيبيات التى تخرج عن نطاق الخبرة البشرية, ولكن بعد أن يقرر بأسلوب قاطع أن الله تعالى ليس كمثله شيء وأن الجنة فى الآخرة لايمكن أن نعلم عنها شيئا فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين: السجدة: 17
وعلى سبيل المثال فإن الله تعالى بعد أن قال الرحمن على العرش استوى حدد المعنى المقصود بالاستواء على العرش, وهو تمام التحكم فى الملكوت, فقال له ما فى السماوات وما فى الأرض وما بينهما وما تحت الثري, وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفي, الله لا إله الاهو له الأسماء الحسني”.
والخلاصة: أن المعتزلة دخلوا على القرآن بثقافتهم اليونانية والاجتماعية, وكان أولى بهم أن يفهموا القرآن بمصطلحات القرآن نفسه ولو فعلوا ذلك لأراحوا أنفسهم والمسلمين من شر كبير.
4- وبسبب الانتماء الفكرى للفسلفة الإغريقية أو بتعبير عصرنا الثقافة الغربية فقد اشتعلت الخصومة الفكرية بين المعتزلة والفقهاء أصحاب ما يسمى بعلم الحديث, أو الذين عرفوا فيما بعد بالحنابلة أو السلفية.
وبدأت المعركة بين الفريقين فى موضوع “خلق القرآن” الذى اضطهد بسببه الإمام أحمد بن حنبل منذ أواخر خلافة المأمون(سنة 218 هـ) بعد خمس سنوات من خلافة المتوكل العباسى (أى سنة 237 هـ), وكان الخليفة المأمون متأثرا بالفكر الإغريقي, وهو الذى أنشأ دار الحكمة وشجع الترجمة عن اليونانية للعربية. ولذلك أصبح للمعتزلة شأن كبير فى عهده, واستثمر المعتزلة هذا النفوذ فى إرغام خصومهم الفقهاء وأصحاب الحديث على قبول وجهة نظرهم في” خلق القرآن” واضطر كثيرون للإذعان, وصمم على الرفض ابن حنبل ومحمد بن نوح. فأذاقتهما السلطة العباسية العذاب, إلى أن تولى المتوكل الخلافة واضطرته الظروف السياسية إلى التقرب للشارع وقد وقع تحت سيطرة الفقهاء وأئمة المساجد وتحالف مع أصحاب الحديث والفقهاء ليستعين بهم ضد مراكز القوى السابقة من العصبيات العربية والقواد الفرس. وجدير بالذكر أن المتوكل ألغى تجنيد العرب والفرس, واعتمد على شراء المماليك الأتراك بدلا عنهم, وكان لابد لهذا الانقلاب الخطير الذى قام به من قوة شعبية ودينية تسانده, ووجدها فى فقهاء الشوارع. وعن طريق ذلك التحالف بينه وبين الفقهاء علا نفوذ المذهب السني, واستطاع الفقهاء الحنابلة اضطهاد المخالفين لهم فى الرأى والدين والمذهب, لذلك شهد عصر المتوكل وماتلاه اضطهادا للنصارى واليهود والصوفية والشيعة والمعتزلة والفلاسفة.
ونعود إلى مشكلة التأويل ونزاع الحنابلة الفقهاء المحدثين مع المعتزلة فى خلق القرآن.
فالمعتزلة بثقافتهم اليونانية استرجعوا نفس القضية القديمة حول الإنجيل, وهل هو “قديم”مثل الذات الإلهية أو “حادث” مخلوق كالبشر, وهى قضية خلافية فى الفكر المسيحى المشرقى منذ القرن الثالث الميلادي, ولكن استرجعها المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى وداروا بها حول القرآن, واعتمدوا وجهة النظر العقلية اليونانية التى ترى أن الكتاب السماوى مخلوق, واستخدموا نفوذهم السياسى فى إكراه الآخرين على اعتناق هذا الرأي. وكانت حجتهم من القرآن قوله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا: الزخرف 3 أى أن القرآن “مجعول” أى مخلوق, وذلك قياسا على قوله تعالى وجعل منها زوجها: الأعراف 186 أى خلق منها زوجها, إذن هو مخلوق. بينما رأى ابن حنبل وغيره أن القرآن صفة من صفات الله تعالي, أى بتعبيرهم “أزلي” ولايكون مخلوقا. وفى حوار جرى بين ابن حنبل والخليفة المتوكل قال له ابن حنبل القرآن كلام الله غير مخلوق لأن الله تعالى يقول الا له الخلق والأمر فجعل فرقا بين الخلق والأمر, والأمر ليس مخلوقا, لأن المخلوق لا يخلق مخلوقا.
وهى قضية لا ينتهى فيها الجدال لأن كل فريق دخل على القرآن بوجهة نظر مسبقة وبغير أن يفهم مصطلحات القرآن ومستويات الخطاب القرآنى فى الحديث عن القرآن قبل أن يكون قرآنا, وحين التنزيل, وبعد أن أصبح قرآنا مقروءا باللسان العربي. وهو موضوع شرحه يطول, ولكن نعطى عنه إشارة سريعة, فالمعتزلة استشهدوا بقوله تعالى إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وركزوا على هذه الآية لتدعيم وجهة نظرهم بأن القرآن “مجعول” أى مخلوق.
وتناسوا أن يقرءوا ما بعد الآية, وهى قوله تعالى وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم: الزخرف 4 فالقرآن كلام الله تعالى وأوامره ونواهيه, وبلسان إلهى لا نعرفه, وذلك حين كان فى “أم الكتاب” عند الله تعالي, وبعدها نزل هذا الكلام الإلهى وحمله جبريل فى لغة أخرى ومستوى آخر, ونقله إلى قلب خاتم النبيين فى لسان عربى جعله الله تعالى ميسرا للذكر حتى نتعقله ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر: القمر 17 فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا: مريم 97 وبغض النظر عن اللسان العربى الذى ينطق به القرآن والذى ننطق به القرآن, وبغض النظر عن كون هذا اللسان وذلك النطق مخلوقا فإن المعانى الإلهية, وهى نفس المعانى والأوامر والنواهى الإلهية فى أم الكتاب وفى اللوح المحفوظ, وهى نفس المعانى والأوامر والنواهى التى يمكن بها ترجمة القرآن إلى أى لغة من لغات العالم, وبتطبيقها تكون النجاة ويكون الفلاح يوم القيامة..
ومن هنا نفهم أن القضية ليست أن القرآن مخلوق أو ليس بمخلوق, وإنما قضية أوامر إلهيه نزلت من غيب السماوات وتم تيسيرها لكى نفهمها ونعقلها ونطبقها, والقضية الأساسية هى الطاعة لهذه الأوامر ولا البحث فى ماهيتها. فنحن مسئولون عن الطاعة والتطبيق, وليس عن فهم ماهية القرآن قبل أن يكون قرآنا وكيف نزل وهل هو بصوت أو بغيره .. إلى آخر ما انشغل به أسلافنا وأنهكوا به عقولهم وحياتهم.
5- إلا أن الخلاف الأساسى فى التأويل بين المعتزلة وأهل السنة تركز فى موضوعات التأويل, والمسموح أو الممنوع من تأويله.
وعلى حسب الأصول الذاتية فإن فى القرآن “سمعيات” أى غيبيات وعقائد مطلوب الإيمان بها: مثل ذات الله وصفاته واليوم الآخر وما قيل فيه وعوالم الجن والملائكة والشياطين, ثم فى القرآن “فروع” بعد تلك الأصول الاعتقادية, وهى تشمل التشريعات.
وقد اختلف الموقف بين المعتزلة وأهل السنة فى التأويل فى هذه الموضوعات.
فالمعتزلة انصب تأويلهم على السمعيات خصوصا ما تعلق منها بذات الله وصفاته, وكان غرضهم نبيلا, وهو تنزيه الله تعالى عما قد يفهم منه اتصاف الله تعالى بصفات المخلوقات, ولذلك فهموا أن الآيات تتحدث بالمجاز والتشبيه والاستعارة حين يقال” يدالله فوق أيديهم”, فهنا تعنى القوة والقدرة, وحين يقال “تجرى بأعيننا: القمر14′ عن سفينة نوح أى تسير بقدرتنا ورعايتنا, وحين يقول تعالى عن موسى “ولتصنع على عيني: طه 29′ أى برعايتي.
ولم يهتم المعتزلة بالتأويل فى الفروع أى التشريعات, وهم على صواب فى ذلك.
أما أهل السنة فقد وقفوا على النقيض, اذ أنهم رفضوا التأويل فى السمعيات وفى الذات والصفات, بينما استعملوا التأويل فى الممنوع وهو التشريع الواضح المحكم.
فأهل السنة رفضوا الاعتراف بالأسلوب المجازى فى قوله تعالي”يد الله فوق أيديهم” واعتبروا أن لله تعالى يدا على الحقيقة, واعتبروا أن لله تعالى عينا, واعتبروا أنه تعالى استوى على العرش أى جلس عليه كما يجلس البشر, وبذلك ألغوا الفوارق بين الخالق والمخلوق وأسندوا لله تعالى ما لا يليق بكماله من صفات للبشر, بل أكثر من ذلك أوقعوا أنفسهم فى تناقض معيب حين رفضوا أسلوب المجاز فى القرآن فى إطار أن الله تعالى “ليس كمثله شيء” لأن الله تعالى جعل الموت مصير كل نفس, فقال كل نفس ذائقة الموت: آل عمران 185, الانبياء 35′ والأسلوب هنا تقريرى حقيقي, ولكن الله تعالى يحدث عن ذاته بالأسلوب المجازى فيقول “ويحذركم الله نفسه: آل عمران 8, 30′ ويقول “كتب على نفسه الرحمة: الأنعام 12′ فإذا رفضنا أسلوب المجاز هنا كما يقول أهل السنة واعتقدنا إن لله تعالى نفسا فهل يعنى ذلك أن ينطبق عليه قوله تعالى “كل نفس ذائقة الموت؟”.
الواضح أن” النفس” يكون معناها مجازيا يعنى الذات الإلهية فى إطار قوله تعالي; ليس كمثله شيء” أى أن كل ما يخطر على بالك فالله تعالى ليس كذلك.. وأن كل ما يأتى فى القرآن عن الله تعالى هو تقريب لـلصورة العقلية كى نفهم بعض الخطاب, وهذا التقريب للصورة لابد أن يعتمد على المجاز والاستعارة والكناية والتشبية والتمثيل, واقرأ مثلا قوله تعالى “الله نور السموات والأرض, مثل نوره كمشكاة فيها مصباح, المصباح فى زجاجة. الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة, لاشرقية ولا غربية, يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار: النور 35′.
ولم يكتف أهل السنة بهذا الخطأ .. خطأ رفض الأسلوب المجازى فى القرآن. وإنما أضافوا له خطأ آخر, وهو استعمال التأويل فى الممنوع, وهو تحريف معانى النصوص القرآنية التشريعية الواضحة الساطعة التى لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير.. ولأنها لا تحتاج فى وضوحها إلى تأويل, اذ لا اجتهاد مع وجود نص كما يقولون – فإنهم استعملوا لافتات أخرى غير التأويل أى حرفوا تشريع القرآن تحت عناوين بريئة.. وندخل بذلك على دين أهل السنة لأن تأويل أهل السنة أو تحريفهم لتشريع القرآن أسندوه للنبى وجعلوا له مرجعية زائــفة.
رابعا: التأويل فى الفقه السني
(أ) تأويل مصطلح السنة:
1- كلمة “السنة” من مصطلحات القرآن, وتعنى الشرع الإلهى الذى ينزل على الأنبياء, والذى يطبقة الأنبياء على أنفسهم, والذى يطبقه المؤمنون, كما تعنى أيضا المنهاج الإلهى فى التعامل مع المشركين.
ومصطلح السنة بمعنى الشرع جاء فى قوله تعالى “ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له, سنة الله فى الذين خلوا من قبل, وكان أمر الله قدرا مقدورا: الأحزاب 38′ فجاءت فى الآية ثلاث مصطلحات بمعنى واحد ومنسوبة لله تعالي, وهى “فرض الله”,’ سنة الله”, “أمر الله” وكلها تعنى شرع الله, فالنسبة بهذا المعنى تنسب لله تعالى لأنه صاحب الأمر والشرع, والنبى هو أول المؤمنين تطبيقا لهذا الشرع, هو القدوة والأسوة للمؤمنين فى التطبيق, ولذلك يقول تعالي” لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنة: الأحزاب 21′ فلم يقل “سنة حسنة” لأن السنة لاتنسب إلا لله تعالى صاحب الشرع, وإنما قال “أسوة حسنة” أى قدوة حسنة فى تطبيق سنة الله أو شرع الله.
ومن المفيد أن نذكر أن مصطلح السنة فى القرآن هو نفس المصطلح فى اللغة العربية, فنحن نقول “سن قانونا” أو “سن تشريعا” أى أصدر تشريعا. والتشريع حين “يسن” أو “يصدر” فالواجب طاعته, وهكذا فالشرع الإلهى هو السنة الإلهية.
ومن المفيد أيضا أن نذكر أن مصطلح السنة بهذا المفهوم يعترف به أهل التراث جزئيا حين يقولون عن الصلاة, والزكاة والحج وسائر الفرائض إنها “سنة عملية”, أى فرائض عملية, أى تشريع إلهى نزل من السماء وقام النبى بتطبيقه والمسلمون معه. وهذا جميل أن يعترفوا بأن الفرائض أو شرع الله هى سنة عملية, ولكن ليس جميلا أن يقولوا السنة القولية عن أحاديث مفتراة نسبوها للنبى زورا, وهذه النسبة للنبى هى التى حولت الفكر الدينى لأهل السنة إلى دين كامل أضفى التقديس على أئمة هذا الفكر مثل البخارى والشافعى وابن تيمية وابن القيم, وأصبح الاعتراض على أولئك الأئمة وأسفارهم المقدسة خروجا على الدين ليس دين الإسلام بالطبع الذى نزل قبل أولئك الأئمة, ولكن الدين الجديد الذى ابتكره أولئك الأئمة وأصبح له قدسية بالتأويل وهنا ندخل على مظاهر التأويل لدى الفكر السني.
(ب)التأويل فى مدار التشريعات الإسلامية:
1- مدار التشريعات فى القرآن حول ثلاث درجات: الفرض المكتوب أو الأوامر, ثم النواهى والمحرمات وبينهما الحلال المباح, ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات أن يحدد الفرائض والأوامر وأن يحدد المحرمات, ثم يترك المباح مفتوحا. وإذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا ونزل القرآن بتحليله يأتى ذلك فى القرآن فى سياق الحلال الجديد, كقوله تعالي”أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم.: البقرة 187′ .
وجاء الفقه السنى بتأويل وتعديل للمدار التشريعي, إذ أضاف إليه درجتين فى التشريع, هما المكروه والمندوب أو المسنون, فالمكروه هو درجة أقل من الحرام, والمندوب أو المسنون, و هو درجة أقل من الفرض الواجب.
2- وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الإسلامى القرآنى نتيجتان: (1) إضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن, وهى المكروه والمندوب, وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس أقل درجة من الحرام, بل هو أشد أنواع المحرمات تحريما, مثل السرقة والزنا والقتل والكفر بالله تعالي, يقول تعالى “وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان: الحجرات 7′ وبعد أن جاء تحريم السرقة والقتل والكفر وسائر الكبائر فى سورة الإسراء قال تعالى عنها” كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها: الاسراء 38′. (2) والنتيجة الأخرى هى التضييق من دائرة الحلال المباح, وتحويل المباح الحلال إلى مكروه ينبغى اجتنابه أو إلى مندوب ينبغى العمل به. وهذا يعنى التدخل فى تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفضيلات.
(جـ) التأويل فى قواعد التشريع الجامعة المانعة والمؤكدة:
1- هناك قواعد تشريعية جامعة مانعة, أى تجمع المحرمات داخل سور محدد وتمنع إخراج أحد منه أو إضافة أحد إليه, مثل المحرمات فى الزواج, وقد ذكرها القرآن بالتفصيل ثم بعدها قال: “وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين: النساء 24′ أى فالنساء داخل ذلك السور الجامع المانع كلهن محرمات, والنساء خارج ذلك السور الجامع المانع كلهن حلال للزواج, وجاء التأويل السنى ليخرق هذا السور بأن أضاف إليه بالقياس قاعدتين فقهيتين جعلهما أحاديث منسوبة للنبي, وهي” يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب”,’ لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها.’ وعلى ذلك فإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاعة فإن ذلك حلال فى تشريع القرآن وحرام فى تشريع أهل السنة, ونفس الحال إذا أراد أن يتزوج على امرأته عمتها أو خالتها يقول له الله تعالى ذلك حلال, ويقول له أهل السنة ذلك حرام.
وهناك مثال آخر هو المحرمات فى الطعام التى تكررت كثيرا فى القرآن “البقرة 173, المائدة 3, الأنعام 145, النمل 115′ وهى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان. وبرغم تحذير القرآن المتكرر من إضافة محرمات جديدة فى الطعام (المائدة 87, يونس 59: 60, النحل 116: 117, التحريم 1) إلا أن أهل السنة أضافوا تحريم الكثير من الحلال, وتمتليء بذلك كتب الفقه.
2- وهناك قواعد تشريعية قرآنية مؤكدة بأسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالي” ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق: الإسراء .33 الأنعام 151” والذين لا يدعون مع الله إلـها آخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله إلا بالحق: الفرقان 68′ أى فلا يجوز القتل فى الإسلام إلا بالتشريع القرآنى الحق, وهو طبقا للقصاص, سواء كان ذلك فى الجرائم (البقرة 178) أو فى الحروب (البقرة 194) وجاء الفقة السنى فألغى هذه القاعدة التشريعية المحكمة الملزمة, فأضاف قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة ورجم الزاني, ثم توسع فى القتل ليجعل من حق الإمام أن يقتل ثلث الرعية فى سبيل إصلاح الثلثين…!!.
3- وهناك قواعد تشريعية قرآنية جاء تأكيدها فى القرآن بكل أساليب التأكيد, مثل الأمر بالوصية للوارث وغير الوارث فى قوله تعالى “كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين: 180′ فالتأكيد على الوصية جاء بصيغ مختلفة شديدة الدلالة مثل “كتب” عليكم” “إن ترك خيرا” “بالمعروف” “حقا” “على المتقين” ثم جاءت الآيات بعدها تضع قواعد الوصية وفى سورة النساء نزل الأمر بالوصية يطبق قبل توزيع الميراث” من بعد وصية يوصـى بها أو دين: النساء 12,11′ ومع أن الوالدين لهما حق فى الميراث وحق أيضا فى الوصية, ومع أن قواعد الميراث والوصية هى حدود الله التى يحرم التعدى عليها (النساء 13:14) إلا أن الفقة السنى ألغى الوصية لوارث طبقا لقاعدة فقهية جعلها حديثا نبويا, يقول” لا وصية لوارث”.
4- وترتب على هذا التأويل السنى لتشريعات القرآن المحكمة والملزمة نتيجتان متلازمتان: (1) إضافة معانى مخالفة لمصطلحات قرآنية فالنسخ فى القرآن وفى اللغة العربية يعنى الكتابة والإثبات والتدوين, ولكنهم جعلوا النسخ عندهم يعنى الإلغاء والتبديل والإبطال. (2) ثم جعلوا فتاويهم الفقهية وأحاديثهم المنسوبة للنبى تنسخ أى تلغى قواعد القرآن التشريعية وتبطلها, وبالتالى جعلوها فوق القرآن كلام رب العالمين.
5- على أن المحصلة النهائية لتأويل القواعدالتشريعية القرآنية امتدت لتشمل:
(1) عدم الاكتفاء بالقرآن مصدرا وحيدا للشرع الاسلامي, فأضافوا مصادر أخرى له ابتدعوها مثل الأحاديث والإجماع والقياس والمصالح المرسلة وبعضها كان ستارا للتأويل أو إلغاء النص القرآنى مثل سد الذرائع الذى استطاعوا به تحريم وجوه كثيرة من الحلال.
(2) كثرة وسهولة انتاج الكثير من المصطلحات الفقهية, وبعضها كان من مصطلحات القرآن ولكن حرروا معناه مثل “الحدود” التى تعنى فى القرآن الشرع والحق فجعلوها تعنى العقوبة وقاموا بتحوير بعض المصطلحات القرآنية لتكون نقيض معناها القرآني, مثل النسخ, ومثل التعزير الذى يعنى فى القرآن التقديس والمؤازرة والتأييد فجعلوه فى الفقة يعنى الإهانة والعقوبة.
(3) كثرة وسهولة الوضع فى الأحاديث, وكثرة وسهولة استعمال كلمة “يسن” فى تشريع آراء الفقهاء, هذا عند الفقهاء من مدرسة الحديث, ويقابلها لدى الفقهاء من مدرسة الرأى والاجتهاد خصوصا الأحناف اخترعوا فقه الحيل أى اخترعوا حيلا شرعية يمكن بها تجاوز التشريعات القرآنية, فاذا أقسم رجل على أن ينام مع زوجته فى نهار رمضان, قالوا له “سافر بها” فاذا سافر بها جاز له الإفطار وجاز له حينئذ أن ينام مع زوجته فى نهار رمضان, وتخصصت كتب كثيرة فى فقه الحيل وأفانينه, وكل ذلك تأويل وتعطيل لشرع الله تعالي, وبدأ هذا بالقواعد وانتهى إلى التفصيلات, وعن طريق ذلك التأويل قام الفقهاء السنيون بتطويع النصوص القرآنية لتوافق هواهم, وإن لم يستعملوا إلا فقه التأويل, وانما قاموا بالتأويل الفعلى والتحريف لتشريع القرآن تحت مصطلحات أخري.
خامسا: التأويل المعاصر بين السلفية ونصر أبو زيد
1- قلنا إن السياسة وخلافاتها هى السبب فى ظهور التأويل لدى المسلمين, إذ حاولت كل فرقة أن تدعم وجهة نظرها السياسية بالتأويل أى بتطويع نصوص القرآن واختراع نصوص مقدسة ينسبونها لله تعالى أو للنبي, وذلك كى يحصل على مشروعية دينية, ثم أصبح ذلك عادة سيئة لدى الطوائف غير السياسية مثل الفقهاء والصوفية, وهذا هو مجمل تاريخ المسلمين وتاريخ الفكر الدينى لديهم طيلة العصور الوسطي, ثم قامت فى مصر الدولة الحديثة فى عهد محمد على وبدأت فيها استنارة دينية بلغت ذروتها فى فكر الإمام محمد عبده الذى اتجه للقرآن أساسا واحتكم اليه فى مشاكل الفكر الدينى للمسلمين, وحاول أن يضع إيدلوجية إسلامية مستنيرة للدولة المصرية المدنية, ولكن من سوء الحظ أن ضاع جهد محمد عبده التنويري, أضاعه تلميذه السلفى رشيد رضا, وقد كان رشيد رضا عميلا للدولة السعودية, وقد أدرك عاهلها عبد العزيز آل سعود أنه لا استمرار لدولته السعودية الثالثة بدون الاعتماد على مصر لتكون عمقا استراتيجيا له, ذلك كى يستعين بمصر ضد خصومة الشيعة داخل دولته وحولها.
وكى تصبح مصر عمقا له لابد أن يتحول تدينها الإسلامى وفكرها الدينى من التصوف السنى والاعتدال إلى السلفية الحنبلية الوهابية السنية, ونجح رشيد رضا فى نشر الفكر السلفى الوهابى خلال الجمعية الشرعية وأنشأ عن طريق أعوانه جمعيات سلفية أخرى فكرية وحركية ثم كان الأب الشرعى لحركة الإخوان المسلمين السنية السياسية. ثم جاء عصر النفط- ضمن عوامل سياسية أخري- فأتيح للفكر السلفى أن يتسيد, وأن يقدم نفسه على أنه الممثل الشرعى للإسلام ذاته.
ومن الطبيعى أن توجد مقاومة مضادة حمل لواءها الفكر العلمانى الذى يحاول إنتاج فكر إسلامى يواجه الفكر السلفي, ومن الطبيعى أيضا أن تتسع المواجهة السياسية والفكرية بين الفريقين: السلفيين والعلمانيين, وترتب على ذلك استقطاب حاد بين الاتجاهين, وذلك الاستقطاب الحاد أدى إلى تهميش اتجاهات فكرية دينية أخرى على الساحة, مثل الاتجاه التنويرى القرآنى الذى بدأه الإمام محمد عبده, والاتجاه الصوفى الذى يتميز بالاعتدال فى أغلب نواحيه والاتجاه الجنينى للفكر الشيعى داخل مصر. كما أدى ذلك الاستقطاب إلى وقوع الاتجاهين المتصارعين فى التطرف الفكرى معا. وانعكس هذا على موقفهما من التأويل.
2- وندخل بذلك على الفرق بين تأويل د. نصر أبو زيد ممثل الاتجاه العلمانى وتأويل السلفيين. فالسلفيون يرفضون التأويل فى الأصول شأن السابقين من أهل السنة, وإن تطرف الوهابيون وأنكروا تماما وجود المجاز فى القرآن, وبهذه المناسبة حدثت هذه القصة, إذ أن الشيخ عبد العزيز بن باز استضاف بعض الأساتذة المصريين, واستعرض أمامهم سطوته وأكد لهم أنه ليس فى القرآن مجاز وأن كل لفظ فى القرآن على حقيقته, والمعروف أن الشيخ بن باز ضرير البصر, فتصدى له أستاذ مصرى مشهور وقال له: إذن يافضيلة الشيخ فأنت من أهل النار لأن الله تعالى يقول “ومن كان فى هذه أعمى فهو فى الآخرة أعمى وأضل سبيلا” وسكت الشيخ ثم قال أخيرا “لقد أفحمتنى ويلغى عقدك”!!
وجدير بالذكر أن مصطلح “أعمي” جاء فى القرآن بمعناه الحقيقى فى سياق التشريع الذى يأتى بأسلوب محدد واضح, كقوله تعالى “ليس على الأعمى حرج: النور 61, الفتح 17′ ويأتى نفس المصطلح فى الدعوة بالأسلوب المجازى ليعنى الضلال والعمى القلبي, كقوله تعالى “صم بكم عمى فهم لا يعقلون: البقرة 171”
وهذا التطرف السلفى فى رفض المجاز فى القرآن يؤكده تطرف سلفى آخر فى رفض كل ما لا يتفق مع مقولات ابن تيمية فى الحياة العصرية ومنجزاتها ومكتشفاتها وآرائها..
وهذا التطرف السلفى يواجهه تطرف آخر فى التأويل العلمانى الذى ظهر مع مؤلفات د. نصر أبو زيد اذ قال بالتأويل فى الأصول والفروع معا, قال بتأويل السمعيات الغيبية فى حديثه عن العرش والجن كما قال بتأويل التشريعات القرآنية حين ربطها وقصرها على مواقع النزول, وجعلها مقصورة فى التطبيق على عواملها الاجتماعية التى صاحبت نزول القرآن, ومن هذا المنطلق دعا إلى مساواة المرأة بالرجل فى الميراث, كما خاض فى موضوع خلق القرآن على أسس مذهب الاعتزال ولكن ليصل به إلى القول بأن القرآن منتج ثقافى تأثر بعصره, وذلك يعنى فى مفهوم خصومه إنكار القرآن والتهوين من الاعتماد على تشريعه حيث يرتبط بظروف نزوله وثقافة عصر النزول.
3- إلا أن هذا التطرف الفكرى لدى نصر أبو زيد نجا من خطيئة كبرى وقع فيها الفكر السفلى والسني, اذ أن نصر أبو زيد لم يجعل لهذا الفكر مرجعية دينية, وإنما قال إنه اجتهاد بشرى يقبل الخطأ و الصواب, أى صار على طريق المعتزلة والفلاسفة المسلمين من الهذيل والعلاف إلى ابن رشد, ولكن عرفنا أن تطرف التأويل لدى السنيين والسلفيين حمل زورا مرجعية دينية, أى تجعل المخالفين لهم مخالفين للإسلام.
4- وكما رددنا على تأويل السابقين فإننا نلمح باختصار إلى الرد على التأويل الذى قال به نصر أبو زيد.
- فالصحيح أن للفكر الدينى وغير الدينى للمسلمين وغيرهم جذورا اجتماعية وسياسية ونفسية, لأنه فكر أرضى بشرى يتأثر بالظروف الزمانية والمكانية والشخصية لأصحابه, ولكن لا ينطبق ذلك على الكتاب السماوى الذى نزل من السماء لإصلاح أهل الأرض, وليس للتأثر بأهل الأرض.
- صحيح أن الوحى الإلهى يتشابك مع حادثة أرضية ويقوم بالتعليق عليها, وهذا ما يعرف بأسباب النزول, ولكن السياق القرآنى فى هذه المواضع يقوم بتحويل الحادثة المرتبطة بالزمان والمكان والأشخاص إلى حالة بشرية يجعلها عظة تدور فوق الزمان والمكان, أى يخلصها من أسر الواقعة التاريخية ويحررها من ذلك الارتباط الزمانى والمكانى لتكون صالحة للتطبيق والعظة فى كل زمان ومكان, وهذا هو منهج القرآن الكريم فى القصص عموما وفى التعليق على الأحداث التى جرت فى عهد النبى لا تجد فيه ذكرا للأسماء والأشخاص أو الزمان أو المكان, كى تتحول القصة من التاريخ المحدد إلى التشريع والعظة وبذلك يظل النص القرآنى والتشريع القرآنى سارى المفعول فى كل زمان ومكان.
- وصحيح أن التشريعات القرآنية جاء بعضها مرتبطا بظروفه الزمانية والمكانية, وأكد السياق القرآنى ذلك فى التشريعات الخاصة بالنبى وزوجاته وتعاملاته مع أصحابه, ولكن التشريعات العامة جاءت فى سياق يؤكد سريانها فوق الزمان والمكان وفى إطار قواعد تشريعية ملزمة, وجاء فى سياقها الاستثناءات الخاصة بها, والمقاصد التشريعية التى تطبق من خلالها فالتشريع القرآنى له مقاصد عامة وهى (القسط, والتخفيف ورفع الحرج) وله قواعد عامة ملزمة فى القتل والقتال (القصاص, ورد الاعتداء) و هذه القواعد تدور فى إطار المقاصد العامة السابقة, كما أن هذه القواعد تدور فى إطارها الأحكام التفصيلية وذلك موضوع شرحه يطول.
ولكن المهم أن الذى يتصدى لفهم التشريع القرآنى عليه قبل ذلك أن يتعرف على مصطلحات القرآن نفسه من داخل القرآن, وأن ينظر من خلالها للتراث, وليس العكس لأن الذى يحدث هو أن يدخل الباحثون – قديما و حديثا – على القرآن بمفاهيم التراث وبأحكام مسبقة, ثم يأخدون من القرآن ما يوافق هواهم, أى بالتأويل ولديهم تلك المقولة التراثية القائلة أن القرآن “حمال أوجه” وهى مقولة منسوبة عن طريق الشيعة للإمام على بن أبى طالب, ولم تكن الثقافة السائدة فى عصر “علي” تحتمل هذا المنطق, خصوصا وأن ثقافة الصحابة القرآنية تجعلهم يحجمون عن اتهام القرآن بأنه “حمال أوجه” لأن الله تعالى يؤكد على أن القرآن كتاب مبين وأنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير” وأنه “لا عوج فيه” وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”.
ولكن المشكلة لدى نصر أبو زيد ليست أنه لم يتفهم مصطلحات القرآن فقط, بل إنه أيضا لم يتفهم تاريخ المسلمين, وهو الأرضية التى نبت فيها فكر المسلمين واختلافاته, وبذلك تركز بحثه على السطح الخارجى للآراء, وكان أولى به وهو يؤمن بالظروف الاجتماعية والتاريخية للنصوص أن يتعمق فى دراسة الواقع التاريخى والاجتماعي, ولكنه لم يفعل, وقد قمنا عنه بهذه المهمة فى كتبنا, وخرجنا بالاعتقاد التام فى أن القرآن فوق التأثر التاريخي, وأن فكر المسلمين هو النتاج الحقيقى لظروف المسلمين التاريخية. وقد أوضحنا هذا فى دراستنا الأولى فى الدكتوراة عن “أثر التصوف فى مصر العصر المملوكي” وأكثر من عشرين مؤلفا منشورا بعدها, ومن خلال هذه المؤلفات المنشورة وغير المنشورة أوضحنا الفجوة الهائلة بين الإسلام والمسلمين, وبين الإسلام وفكر المسلمين الديني.
وبهذه المناسبة فان كتاب د. نصر أبو زيد عن الإمام الشافعى يقرر فيه أن فلسفة الشافعى قد بناها على الصراع والعداء الذى قام بين الشافعى والدولة الأموية والمؤلف يفترض أن الشافعى قاوم الدولة الأموية وعانى من سطوتها والمؤلف لايدرك أن الشافعى ولد بعد انهيار الدولة الأموية بثمانية عشر عاما, إذ ولد الشافعى سنة 150 هجرية وتوفى سنة 204 خلال الدولة العباسية, فكيف تصارع مع الأمويين وتأثر فى فلسفته الوسطية بهذا الصراع.
ومع هذا فإن للدكتور نصر أبو زيد وغيره تمام الحرية فى البحث وفى الرأى وقد دافعت عن حريته فى البحث بأكثر من مقال وبكتاب عن الحسبة, يؤكد أن الحسبة ليس لها أصل فى الاسلام.
الخاتمة
وتبقى عدة محددات لنتذكرها:
1-الدين شيء والفكرالدينى شيء آخر, الدين أوامر ونواهى واعتقادات, والتمسك بها أو الابتعاد عنها مسئولية شخصية والحساب عليها لله تعالى وحده يوم القيامة وهذا الدين ينزل كتابا سماويا ليس له مؤلف من البشر, ولكنه وحى إلهى يقوم النبى بتبليغة وخاتم النبيين جاء بالقرآن محفوظا إلى قيام الساعة.
- العادة أن تقوم الفجوة بين الدين السماوى وما يفعله الناس, ويقوم الشيوخ بتغطية هذه الفجوة بالتأويل وباختراع نصوص بشرية ينسبونها للنبى أو لله تعالي, ويجعلون لها قدسية ومرجعية زائفة وبذلك يتحول الفكر الدينى إلى دين وهذا ما فعله الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم ولكن تبقى الحقيقة الثابتة فى أن الدين هو كلام الله فى الكتب السماوية وآخرها القرآن المنزه عن التحريف, ويبقى الواقع التاريخى والإنسانى فى أن كلام البشر هو كلام إنسانى له مؤلفون من الأئمة, يقبل النقاش والخطأ والصواب, وأن أولئك الأئمة لا يملكون شيئا يوم القيامة, وأن الله تعالى صاحب الدين سيحاسبهم كما سيحاسب سائر الناس, أى أنهم ليسوا أصحاب دين وإنما هم أصحاب مذاهب فكرية بشرية.
- إن أخطر ما نقع فيه هو أن نخلط بين الدين الإلهى والفكر البشرى ونجعل للفكر البشرى قدسية ونجعل لأصحابه عصمة وتأليها, وأيضا من أخطر ما نقع فيه هو أن نصدق تلك المرجعية المزيفة, وهى أن ذلك الفكر قد قاله النبى فى تلك الأحاديث سواء ما كان منها سنيا أو شيعيا أو صوفيا, إن الخطورة هنا تقع على الإسلام ذاته, إذ يصبح محصورا فى زمان بعينه وثقافة بعينها ومن ثم لا يكون صالحا لكل زمان ومكان.
هذا والله تعالى المستعان.