مثل وموال
الوعى الشعبى فى مواجهة الفراق
البين عملنى جمل واندار عمل جمال،
ولوى خزامى وشيلنى تقيل الاحمال،
أنا قلت يا بين والله الحمل ما ينشال.
قال: رق الخطى يا جمل وامشى على مهلك،
دا كل عقدة لها عند الكريم حلال.
نحن لم نعد نتعلم بالقدر الكافى من الوعى الشعبي، وقد تضاءل دور الأمثلة العامية فى حياتنا بشكل يدعو إلى وقفة، وحين نحاول أن نقيس التفكير التجريدى بقياس القدرة على استعمال الأمثلة الشعبية نفاجأ أن كثيرا من المرضى (والمختبرين عامة) لا يعرفون الأمثلة أصلا، وهذا ليس دليلا سلبيا على طول الخط، فالأمثلة الشعبية ليست مواعظ مفيدة دائما، ولا هى وسيلة لحل إشكال، وإن كان يمكن أن تكون كذلك، لكنها أيضا كم تبرر من سلبيات، وكم تقسو على ضعيف، وكم تدفع إلى مكروه، ودائما يقفز إلى ذهنى قول الصلاحين (كل على حدة) حين أواجه من يبالغ فى القيمة الإيجابية للمثل الشعبى.
يقول صلاح عبد الصبور (ليلى والمجنون): يأتى من بعدى من لا يتحدث بالأمثال.
ويقول صلاح جاهين (لست أدرى أين؟): افعل أى شيء تقرره، وستجد مثلا يبرره.
المثل الشعبى علامة على الطريق، يترجم بعض وعى مجموعة من الناس فى فــترة تاريخية مـعينة، يظهر مصادفة، أو بمناسبة شديدة الخصوصية، فيغذى احتياج الناس لرؤية ما أعلن، أو للاستشهاد بما قرر، أو بترديد ما نقد، فيرددونه فيبقي،”…فصارت مثلا “) . هذا هو التعبير المتكرر فى روايات التراث التى تحكى كيف صارت جملة قيلت فى التعقيب على حادث أو رؤية أوجزت حكاية، كيف صارت هذه أو تلك مثلا لأمر ما جدع قصير أنفه، أو لأمر ما باعت المرأة سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور، (كيلا بكيل) ويوجد ما يقابل ذلك كثير فى الأمثال الشعبية مثل ” إللى ما يعرفش يقول “عدس”، قيلت بعد حادث بذاته لإخفاء سبب ضرب زوج لزوجته ..إلخ
الأمثال الشعبية، من وجهة النظر هذه، تاريخ ومدرسة دالة لتقرأ لنرى من خلالها وعى الناس فى فترة زمنية محددة.
وإلى درجة أقل يقوم الموال (الشعبي)، وخاصة المرتجل منه،، بنفس الدور (وقد يظل من يردد الموال يخرج على النص، وهذا مسموح به بل ومطلوب كدليل على نوع راق من الديمقراطية وضعف الرقابة الوصية على وعى الناس النشط) يظل يخرج ناقـلو الموال على النص حتى يتناسب مع حاجة الناس فى زمن بذاته، فيبقى ـ بعد التعديل ـ ويخلد، ليسجل هذه الحاجة، أو تلك الرؤية، فيصير تاريخا بالمعنى الذى أشرت إليه حالا.
وموضوع البين (الفراق) من المواضيع الشديدة الأهمية اللازم دراستها لفهم الإنسان والإلمام بتركيبه النفسي، واحتياجه إلى الآخر ونوع تفاعله مع هذا الآخر، يبدأ ذلك منذ الفترة الرضيعية، وما يسمى الاكتئاب التعلـقى Anaclitic Depression فى سن الرضاعة وقلق الانفصال Separation Anxiety بدءا من سن الطفولة المبكرة، هو بعض المظاهر المرضية التى وصفت باكرا، وظلت لها أهميتها المحورية فى فهم العلاقات الأساسية فى التكوين البشري، بل إن صدمة الولادة (أوتو رانك) يمكن أن تشير إلى الفراق البدئى منذ لحظة التواجد فى هذه الحياة كائنا منفردا، ويقابلها ما يسمى كآبة الأمومة Maternity Blues التى تصل نسبتها إلى أكثر من 60 % عند كل الأمهات عقب الولادة مباشرة (أسبوع إلى إثنين)، كل ذلك امتد للتأكيد على محورية علاقة الإنسان بالآخر(الموضوع) حتى تكونت مدرسة “العلاقة بالموضوع” Object Relation School للتأكيد على أساسية الآخر فى الوجود البشرى.
ولا تـعرف قيمة الآخر إلا باختفائه. يحدث هذا بشكل مؤقت، أو دائم، متكرر، أو مفاجئ، إلى غير ذلك من الاحتمالات، ويتجلى هذا الاختفاء: بالموت، والهجر، والاستقلال (نموا أو غير ذلك)، والهجرة، والاختلاف والتخلى ..إلخ.
وتفاعل الفرد لهذا البعد يحتاج إلى عمق أكثر من مجرد رصد الاكتئاب، أو القلق أو البحث عن التعويض (مثل السخف القائل: قالوا أحب غدا تنسى هوى أمس)،
وأغانى أم كلثوم بالذات، التى لا بد أن كثيرا منها كان يصاغ بوحى من نوعية حضورها، وإشعاع احتياجها، يدور حول هذه المسألة بشكل أو بآخر (البعد، البين) .
ونحب أن ننبه إلى أن البين هو أقرب إلى البعد، منه إلى الانفصال أو الهجر.
نقرأ الموال، ونحن نحاول طرح أسئلة نشأت من التأمل الثانى (أو أكثر):
كيف يكون البعد هو الذى فرض فعل الصبر (جملا) أو ساهم فى التأهيل لذلك (عملني)؟
وكيف أن هذا البعد نفسه هو الذى حاول أن يرتقى بالصبر إلى التحمل الرقيق بفضل تعهده له ورعايته (واندار عمل جمال).
ثم كيف أن الاستمرار بهدوء واثق متألم (رق الخطي، وامشى على مهلك)، هو الحل؟
وكيف أن الحل ليس مجرد تعويض أو اعتماد جديد، ولكنه وثوق في: الآتي، وفى القادر، وفى الوسيلة؟
هذا وصف لنوع من الفراق خاص، وهو راق، وهو متكامل، فبدلا من الاقتصار على لوم الحبيب، والنحيب على فراقه، توجه الموال بالخطاب إلى الفراق نفسه، وكأن التفاعل للفراق بالمعايشة الواعية هو الذى يخلق الصبر فى مواجهته (البين عملنى جمل) وجزاء ذلك أن يكون الفراق نفسه هو راعى الصبر.
والحديث عن الصبر فى اللغة وفى الوعى الشعبى يعطيه قيمة أكبر من مرارة التحمل، ولوعة الأسي، لاحظ وصف الصبر بالجمال “فصبرا جميلا “، ولاحظ كيف يكون ضد الخلط، وفى نفس الوقت يصل إلى درجة أن يفضل على العبادة (مبالغة): الصبر يا مبتلى أفضل من الهذيان، وافضل من الحج وافضل من صيام رمضان.
والرعاية التى قدمها البين هنا، ليست من قبيل التسكين السطحي، بقدر ما هى نوع من الترويض ضد السخط والاحتجاج العشوائى (الاحتجاج على من؟)، ومن يعرف كيف يخزم الجمل من أنفه حتى تصبح أى شدة شديدة الإيلام تحول دون شطحه أو هياجه، يستطيع أن يدرك قيمة استعمال تشبيه الخزام هنا، فمن أعظم ما يجعل هذه الخبرة فائقة ومفيقة فى آن:عمق الوعى بها، ذلك أن حيل الإنكار فى صور الاستهانة بآثار الفراق أو البعد، أو صورة النسيان، أو ادعاء التحمل العابر، هى حيل تسكينية مؤقته، أما الوعى بألم التحمل (الخزام)،وضرورة عمق الدراية بما جرى (شيلنى تقيل الاحمال)، فهو قمة استيعاب الخبرة.
وأيضا: فإن الوعى وإعلانه وقبوله هو درجة من النضج، على الرغم من الألم، وهذا هو الحل الأفضل، إن أمكن، بدلا من ادعاء شجاعة تفوق قدرة الإنسان، وتخزن خبراته فجة مجهضة .
لكن للألم حدود، فماذا يعمل البين “الجمال” للجمل الذى أعلن بشرف الألم عجزه عن حمل ما لا يحتمل (الحمل ما ينشال)؟ يقدم الجمال للجمل الحل الحياتى /البشرى الرائع: الزمن، والمثابرة الواثقة المنتظمة، ويستعمل الموال فى ذلك كلمة من أغرب ما ينتظر فى هذا الموقع “رق”، فنحن نعرف الرقة فى الحديث وفى المعاملة وفى العتاب وفى التأدب الحقيقى والتأدب الزائف، لكنها صفة غير مألوفة أو متواترة فى وصف “الخطي”(رق الخطي)، فليس المطلوب فقط أن يكون السير وئيدا، ولكن أن يكون ـ أساسا، وقبلا، ـ رقيقا. ويبدو أن هذا التوجه قد تطور أقل عمقا وأسهل رسالة بالقول الأحدث “هدى اللعب”، لكن المقارنة بين “رق الخطي، وهدى اللعب”، لا تحتاج إلى تعليق.
التوقف عند الحدث، جمود وتضخيم للحدث، لكن الزمن: حركة، وبعدا آنيا، وليس ميقاتا وانتظارا لدورة عقارب ما، بعيدا عن حركتنا الذاتية، وهذا الزمن المستمر المليء بالحركة الارتقائية الرقيقة، هو الذى يجعل من البين هنا ـ حدثا دافعا نحو “الآتي”.
يقول المثل العادى “كل عقدة ولها حلال”، فماذا أضاف الموال هنا بتداخل “عند الكريم” بين العقدة وحلالها؟
“كل عقدة ولها حلال”،غير كل عقدة ولها حل، فالتعبير الأول بـ “حلال”، يفتح باب الاعتمادية وانتظار الفرج من عامل خارجي، لا يتناسب مع المعانى التى حاولنا أن نقرأها فى هذا الموال(الجمل، والجمال، والصبر الجميل، ورقة الخطي، والتمهل، والوعى المتألم)، أما تعبير أن كل عقدة ولها حل فهو يفتح الباب لأن يكون الحل بواسطة الـمعانى لآلام البعد، أو بالاستعانة بغيره، وهو يقربنا بشكل أو بآخر من افتراض يفترضه مثل آخر، وهو أن الحل موجود ولكنه يحتاج إلى بحث أعمق، ونفس أطول، حتى إذا وجد، صاح بنا المثل “تاهت، ولقيناها” فهنا يأتى الحل بالعثور عليه، وليس بابتداعه تماما، أما الموال الحالى فهو يضيف إضافة دالة إذ يوجه الاعتمادية إلى القوة الأعظم، الله سبحانه وتعالي، القوة التى تدير هذا الكون برمته، وبالتالى يظهر الحل من خلال الثقة بالحياة وبقوانينها، وبقدرة خالقها سبحانه على تعهد استمرارها، ليس باستسلام قدرى غافل بقدر ما يتم ذلك بالوعد، بأن ثمة حلالا (وليس حلا) لكل عقدة، وكل ألم، وكل بيـن، وسواء كان هذا الحل هو صبر الجمل على خزامه، أم حكمة الجمال، أم كلاهما، فهو يحتاج إلى التكامل مع قانون الكريم الأعظم.