الافتتاحية (2)
الأخلاق بين مذاهب الانحطاط وسقف الضرورة الاجتماعية
أ. فريد زهران
حاولنا فى افتتاحية العدد الماضى “الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والإيمان الديني”، وما كان لنا أن نناقش فى إطار هذا العنوان المحدد موضوعات أخرى تتعلق بطبيعة الإيمان الدينى ومنشأه وأسباب انتشاره واستمراره، رغم أننا لا نذكر أن كلامنا قد مس ذلك على نحو عابر دون أن يسعى إلى الخوض فيه لنهايته، لا لشئ إلا لأنه لم يكن موضوعنا، بل كان موضوعنا هو “الأخلاق” التى لاحظنا كيف تتردي، بينما مظاهر التدين تقوى وتتعزز مما يشى بوجود إيمان دينى عميق عند الأغلبية الساحقة من الذين اختاروا الإعلان عن إيمانهم بهذه المظاهر، وليس من بين مهامنا هنا أن نقع فيما تقع فيه فرق التكفير – على اختلافها – من شرك بالله عندما تعلن ببساطة – أن هذه الجماعة أو تلك كافرة، فنحن نرى أنه لا أحد من اختصاصه – إلا الله جل جلاله بالطبع – أن يعلن أن فلانا كافر أو زنديق مالم يعلن هو نفسه ذلك بوضوح، أما من أعلن أنه مسلم – أو مسيحى أو بوذى الخ – فلا يوجد لأحد أن يزعم سبر أغواره، مكتشفا أنه كاذب أو كافر، فمثل هذه الطريقة التى تخضع ذوايا الناس وأفكارهم لمحاكم تفتيش هى طريقة فاشية حتى لو كان مستخدموها حسنى النية.
لنأخذ لذلك مثالا واضحا: وصف الكثرون الجماعة التى نفذت مذبحة الأقصر بأنها كافرة لا تعرف ملة أو دين، أما نحن فنعتقد أن هذه الجماعة مجرمة، ارتكبت مجموعة من الآثام والجرائم البشعة حتى أنها ذبحت بعض الناس المسالمين ومثلت بجثثهم، ومن ثم فإن مرتكبى هذه الجريمة – فى عين ما تعارف عليه المجتمع من دستور وقانون وأعراف – يستحقون ما اتفق عليه أبناء المجتمع من عقاب وقصاص، ومن ثم فنحن لسنا مع تكفيرهم تماما مثلما نحن ضد أن تقوم نفس هذه الجماعة بتكفيرنا، ونحن ضد أن نناقش ما إذا كان الله – جل جلاله – يبارك هذه المذابح أو لا، ذلك أننا نعتقد ببساطة – أن أعضاء هذه الجماعة – أو غيرها – أحرار فى أن يعتقدوا ما يروه صحيحا من وجهة نظرهم، ولهم أن يعتقدوا أن الله يأمرهم بكذا أو يناهم عن كيت، وقد لا نتفق البتة مع اعتقاداتهم، تماما مثلما لا يتفقون هم مع ما نعتقد، ولكن نحن “وهم” نعيش فى مجتمع واحد، ومن ثم فعبر آليات محددة، علينا أن نتفق على ما نراه حدودا لحرية الاعتقاد، وهذه الحدود بالضبط ينبغى أن تتعلق أساسا بأن لا يضر ما أعتقده بالآخر، فمثلا أنا لا يضيرنى أن يعبد أيا كان الشيطان نفسه بشرط أن لا يسمح لمن يعبد الشيطان بالقيام بأى فعل ضار بالآخر كأن يقوم مثلا بنبش قبور الموتى ضمن طقوس العبادة مثلا، فعندئذ فقط وعند حدوث ضرر مباشر – سيكون على المجتمع – المتحضر – أن يتخذ موقفا ضد من قام بنبش القبور أو تقديم قرابين بشرية، لا بتهمة عبادة الشيطان، ولكن بتهمة نبش قبور الموتى أو ذبح الناس.
نحن ضد الذين ارتكبوا مذبحة الأقصر إذن لأنهم ارتكبوا مذبحة ضد أناس مسالمين وضربوا عرض الحائط بمبادئ الدستور وحقوق الإنسان والقوانين والأعراف، ولسنا ضد هؤلاء الجناة لأنهم كفار، ذلك أن الله وحده – جل جلاله – هو الذى سيفصل فى قضايا النوايا، قضايا الكفر والإيمان، أما فنحن فيكفينا أن نفصل فى أفعال الناس على هدى ضررها – للجماعة – أو نفعها مسترشدين فى ذلك باتفاقنا الذى نصل إليه رغم ما بيننا من اختلافات عقائدية، أو بالأحرى من خلال التفاعل غير المشروط بين اعتقاداتنا المختلفة محتكمين – فى كل وقت – إلى ما يمكن أن يحقق مصالح الفرد والجماعة.
من خلال كل الاستطراد السابق أردت فقط أن أوضح أن ما قررته بشأن وصف نوعية الإيمان الدينى السائد لم يكن الغرض منه تقييم نوعية هذا الإيمان، فذلك أمر يخص المولى جل جلاله، وغاية ما كنا نود أن نقرره هو وصف نوعية هذا الإيمان دون التطرق إلى تقييمه، وفيما تستند الأخلاق – فى حال ازدهارها واستقرارها على الضرورة الاجتماعية – كما أوضحنا فى الافتتاحية السابقة، فإن الإيمان الدينى قد لا يضمن بالضرورة للأخلاق الازدهار والاستمرار، لأن الإيمان الديني، فى طبيعته السائدة منذ فجر التاريخ – مرتبط أشد الارتباط بالنخب المحظوظة من الكهنة وأولى الأمر اللذين حصلوا – فى ظل الندرة – على نصيب وافر من الثروة والعلم، جعلهم يحتكرون تفسير النصوص المقدسة وترويج نوع من الإيمان الذى يضمن مصالحهم، ومن ثم فإن ما هو حرام قد يتحول إلى حلال بين عشية وضحاها، حيث لا يحتكم فى تحديد ما هو حرام وما هو حلال، إلا على نص قد يتغير تفسيره فى أى لحظة.
فى المقابل، فإن الرجوع بالأخلاق إلى الضرورة الاجتماعية، كان ثمرة تطور ملحوظ للعلم وللبنى الاجتماعية فى ظل الثورة الصناعية وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، ولكى يتسنى أن نزيد هذا المدخل الأولى وضوحا وعمقا، دعونا نناقش الأخلاق عند الفلاسفة اللذين بذلوا قصارى جهدهم لتدارسها ومحاولة فهمها بصورة، مجردة بحثا عن معايير يمكن أن نحاكم بها سلوك البشر من ناحية، ومن أجل الوصول إلى مثل عليا أخلاقية من ناحية أخري.
منذ قديم الأزل احتلت الأخلاق مكانة مرموقة فى المباحث الفلسفية الأساسية منذ أن خرجت الفلسفة من عباءة الكنهوت المصرى القديم وأسراره وتبلورت فى صورة مكتوبة على أيدى الإغريق، ويمكننا – بدون مبالغة – أن نقول: إن علم الأخلاق – إذا استثنينا الميتافيزيقا أو ما بعد الطبيعة – هو المبحث الفلسفى الذى استحوذ على النصيب الأكبر من المذاهب وتعدد وجهات النظر الفلسفية.
فى “الكتابات” الفرعونية القديمة من حكم وأمثال وقصص ونصائح ونصوص دينية، هناك رسالة أخلاقية واضحة حتى “أن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الظالم (أى قربان الرجل الظالم) وهى النصيحة الموجهة للأمير “مريكارع” من والده الفرعون “الإهناسى الأصل” والذى عاش فى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وعلى عكس ما هو شائع فى الثقافة الغربية من أن كل فكر إنما يبدأ من الإغريق فإن مفكرا غربيا بارزا وهو “بريستد” قد لفت نظرنا فى ثلاثينيات القرن الماضى (العشرين) إلي ([1]) أن بزوغ فجر الضمير مع أول نسق من الأخلاق والقيم الفاضلة قد عرفه البشر مع شروق شمس الحضارة الفرعونية، فالإنسان الذى بدأ حياته متوحشا ومجردا من الأخلاق قد استطاع من خلال الحضارة الفرعونية أن يقدم تصورا للأخلاق والمثل الاجتماعية يتجاوز حتى المقياس الأخلاقى الذى قدمته الوصايا العشر بعد ذلك بألف سنة، كما يلاحظ بريستد أيضا أن هذا التصور الأخلاق الذى ظهر على أرض مصر كان منشأه هو حياة الإنسان نفسه، ودون أى تأثير من عالم خارجى عن طريق منهاج خفى يسمى الإلهام والوحي.
وعلى الرغم من أننا نميل – كما أسلفنا – إلى ما ذهب إليه بريستد من أن فجر الضمير بدأ مع الفراعنة كما أننا نميل أيضا إلى ماذهب إليه جورج جيمس ([2]) فى التراث المسروق، ومارتن برنال([3]) فى أثينا السوداء، من أن هناك جذورا أفروآسيوية – وبالذات مصرية قديمة – للحضارة الإغريقية أو الكلاسيكية، بعد أن برهنا على ذلك بعدة إثباتات من بينهما بعضا من كبار مفكرى الحضارة الإغريقية قد درسوا فى مصر ونقلوا عن الفراعنة الكثير من تصوراتهم ونظرياتهم العلمية والفكرية، إلا أننا وبصفة عامة يمكننا القول أنه لم يصلنا من الإنتاج الفكرى المصرى القديم إلا النذر اليسير سواء بسبب ما أصاب تراث الأجداد من دمار نتيجة موجات الغزو المتتالية، أو بسبب هيمنة الدين والكهنوت الدينى على كل ما يمكن أن يعتبر فكرا وعلما، ومن ثم خضوع هذا الإنتاج إلى درجة عالية من السرية حتى طواه النسيان تدريجيا مع أفول نجم الديانات الفرعونية.
إنا ما وصلنا عن الفراعنة يتجاوز بكثير ما قدمه الإغريق فى ملاحمهم الأسطورية الأولي، فقد لاحظ تيتارنيكو ([4]) أن هوميروس قد قدم فى الإلياذة والأوديسا أبطالا أخلاقيين للغاية لكنه، فى المقابل، لم يستطع طرح قانون أخلاقى دقيق الصياغة، بل ولم يستطع أيضا صياغة أى وصايا عامة تعتبر مراعاتها معيارا أخلاقيا، وفى المقابل كان المصريون القدماء يقدمون وصايا أخلاقية تبلغ من الوضوح والدقة إلى حد تمييز الرشوة وتجريمها فعندما نصح والد “مريكارع” ولده الأمير، قال له إن الموظف الذى يقول ليت لي، ليس عادلا بل يظهر التميز إلى جانب الفرد الذى بيده الهدية، وقد كان العلاج الذى نصح به الأمير مريكارع من والده فى إهناسية لإصلاح تلك الحال هو أن يجعل لكل موظف مرتبا وفيرا ([5])، وكان ذلك قبل ألف سنة من الوصايا العشرة التى لاحظ بريستد أنها لم تتضمن النهى عن الكذب (!)
ورغم سمو المبادئ الأخلاقية التى وصلتنا من خلال الفراعنة، إلا أنه لم يصلنا منهم- بكل أسف – فكر فلسفى خالص عن الأخلاق أو عن غيرها، بينما بدأ مثل هذا الفكر يأخذ طريقه للتبلور على أيدى السفسطائيين وديموقريطس وسقراط، وفى تطور لاحق ذهب أرسطو – ملخصا بذلك رأى الفسلفة الإغريقية بوجه عام فى ذورة تطورها ونضجها – إلى أن موضوع البحث الخلقى الرئيسى يشمل كل ما تتضمنه فكرة الخير الأقصى أو المرغوب فيه عند الإنسان، أى كل ما يقع على الإنسان اختياره، أو يقصد إليه انطلاقا من فعل إرادى عاقل، وهذا الفعل ليس وسيلة تهدف إلى تحقيق غاية بعيدة وإنما هو غاية فى ذاته، وقد انطلق علم الأخلاق Ethies فى ذلك من أن الخير الأعلى هو السعادة، ومن ثم فإن صفات وخصائص الخلق، التى نطلق عليها فضائل أو رذائل، لا تزيد عن مجرد مبحث من مباحث الأخلاق، وبصياغة أخرى فإن علم الأخلاق – فى معناه التقليدى – وظيفته أن يضع المثل العليا للسلوك الإنساني، ولأن هذا العلم معنى بوضع القواعد التى تحدد استقامة الأفعال الإنسانية ومدى صوابها، فإنه معنى إذن بدراسة الخير الأقصي، باعتباره غاية الإنسان القصوى التى لا تكون هناك وسيلة لغاية أبعد منها، أو بصياغة أخرى فإنه معنى بتجديد مثل الحياة الإنسانية العليا التى ينبغى للسلوك أن يسعى للوصول إليها، وبهذا المعنى فإن علم الأخلاق – فى التصور التقليدى أو الحدسى – علم معيارى يبحث فيما ينبغى أن يكون، ويدرس السلوك الإنسانى بمقتضى ما يضعه من قوانين ومعايير يفترض أنها عامة ومطلقة لا يحدها زمان أو مكان.
فى مقابل النظرية الحدسية([6]) Intuitone theory أو الموضوعيين Objectivsm اللذين اتجهوا إلى إقامة مثل عليا للسلوك الإنسانى ودراسة الخير الأقصي، فإن مذاهب التجريبيين أو النظرية الغائية Teleological Theory من الذاتيين Subjectivism قد رفضوا هذا الاتجاه واعتبروا الخير مجرد اصطلاح تعارف عليه مجموعة يقيمون فى زمن معين ومكان محدد، واستبعدوا المطلق من مجال القيم الأخلاقية، واعتمدوا على التجربة ومعايير النفع أو اللذة لتحديد ما هو أخلاقي، ودخل تفسير الأحكام الخلقية إلى مجال تفسيرات أخرى منها مجالات علم النفس والأنثربولوجيا، وهكذا رفض التجريبيون أن يكون علم الأخلاق معياريا، واتجهوا إلى دراسة ما هو كائن بدلا من دراسة ما ينبغى أن يكون وانتقل موضوع الفلسفة الخلقية من بحث فى السلوك الإنساني، بما هو كذلك، أى انطلاقا من إنسان مجرد ومستقل عن حدود الزمان والمكان، إلى بحث فى سلوك إنسان يعيش فى جماعة تحيا فى زمان ومكان محدد، وتحول منهج دراسة الأخلاق من الاعتماد شبه الكامل على المنهج الاستنباطى – يهدف إلى بناء المثل الأعلى – إلى الاعتماد بشكل كلى تقريبا على المنهج الاستقرائى المعتمد على الواقع، ولكن الاتجاه التجريبى رغم ذلك قد يقدم هو الآخر تصورات أو قواعد تصلح لظرف أو لحالة ولكنه لا يزعم لنفسه القدرة على صياغة نسق أو مثل قادر على أن يكون معيارا يصلح لكل زمان ومكان.
قبل أن نواصل بشئ من التفصيل مناقشة الموضوع الرئيسى لعلم الأخلاق ورؤى المفكرين والفلاسفة فى العصر الحديث – وبالذات فى الغرب الذى قدم فى هذه الفترة العطاء الأهم للفكر الإنسانى العالمى – فإننا نود أن نعود لمناقشة أحد العناصر المكونة لهذا العلم والتى تحمل – فى رأينا أهمية خاصة، ونعنى بها مسألة خصائص وسمات الخلق، أو ما نسميه عادة الفضائل والرذائل أو ما يطلق عليه الفلاسفة طبيعة الخير ومقياسه.
ورغم أن الخير – كما أسلفنا ليس إلا أحد مباحث علم الأخلاق إلا أن أهمية هذا المبحث هى التى جعلت مراد وهبه يكتب إذا سألنا: ما موضوع الأخلاق؟ كان جوابنا: الخير، وإذا سألنا ماذا تفعل الأخلاق بهذا المفهوم؟ كان جوابنا: محاولة فهمه. ومن ثم يكون السؤال: ما الخير؟ أو بالأدق ما تعريفنا للخير ([7])، وقبل أن نقدم لإجابة مراد وهبة ونناقشها، دعنا فى البداية نحاول أن نقدم بشكل موجز نظرة تاريخية على التفكير الفلسفى والأخلاقى فى فهم الخيرية، وإجمالا يمكننا أن نميز اتجاهين الأول هو الإتجاه الحدسي، والثانى هو الإتجاه الغائي.
الحدسيون يرون أن الخيرية أو الفضائل تخضع لقوانين عامة ومبادئ مطلقة لا يحدها زمان، ولا مكان، ويرتبط بذلك طبعا حرصهم على وضع مثل أعلى أخلاقى – وهو الموضوع الذى تعرضنا له من قبل – يكون بمثابة مثل أعلى ثابت على الأخلاق أن تصبو إليه، هذا فضلا عن وجود مقياس ثابت أيضا للتمييز بين الأفعال الخيرة والأفعال الشريدة، وهذا المقياس بالطبع لا يتغير بتغير الظروف والأحوال.
فى المقابل يرى التجريبيون الغائيون أن الخير والشر مجرد أفكار اصطلح عليها الناس فى ضوء التجارب التى يعيشونها والظروف التى تسود حياتهم، ومن هنا فإن ما هو خير وما هو شر إنما يتغير بتغير الظروف والأحوال ويخضع للتطور الذى يتحكم فى كل الظواهر الاجتماعية.
اتفق الحدسيون على ثبات المعايير الأخلاقية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لكنهم انقسموا بخصوص مرجعية هذه المعايير إلى اتجاهين، أولهما يرى أن هذه المعايير توجد خارج العقل، والثانى يرد هذه المعايير إلى طبيعة العقل البشرى ذاته.
عند “هوبز” كانت المشكلة – عكس كل البيوربيين أو المتطهرين – التى لا يخشى سواها هى الفوضي، ومن ثم فقد كان الحاكم المطلق – بل والمستبد أيضا – هو مرجع كل المعايير الأخلاقية حيث تجب الطاعة للملك فى كل شئ إلا لو اعتدى على الرعية أو عجز عن توفير الحماية لهم، ولعلنا نستطيع أيضا أن نقول أن الفكرة المطلقة وهى مرد كل أخلاق عند هيجل – هو الأخر لم تكن أكثر من الدولة الألمانية، وهى دولة – كما يقول راسل – ليس على استبدادها الداخلى أو اعتداءاتها الخارجية أى قيود.
فى المقابل اعتبر كدويرث أن مستوى الخيرية قائم فى طبيعة الأفعال الإنسانية ذاتها على اعتبار أن الفرق بين الخير والشر حقيقة موضوعية مستقلة عن كل إرادة (إنسانية أو إلهية) بل وعن كل وعى أو فكرة عقلانية مسبقة، ويتفق “توما الأكويني” مع هذا الرأى وكذا المعتزلة من بين كل الفرق الإسلامية.
على صعيد آخر رأى بعض الحدسيين أن معايير الأخلاق لا ترد إلا إلى الله، والخير ليس خيرا فى ذاته وليس لأن له أى تبرير أيا كان، بل هو خير – فقط – لأن الله أمر به، ومن الخطأ أن يقال – وفقا لهذا الرأى – أن الله أمر بالخير لأنه خير، بل على العكس إن ما هو خير لا يمكن اعتباره خيرا إلا لأن الله قد أمر به، وإلى هذا الرأى ذهب معظم علماء اللاهوت فى العصور الوسطى باستثناء توما الأكوينى كما ذكرنا من قبل، وإلى هذا الرأى أيضا يذهب أهل السلف من المسلمين – على اختلافهم – حيث يصبح المعيار الوحيد لصحة السلوك من عدمه هو ما إذا كان هناك دليل من قرآن أو سنة وقفا لتفسير فقيه معتمد على أن هذا السلوك قد أمرنا به الله أم لا.
كان كل ما تقدم عن الاتجاه الحدسى الأول، أما الاتجاه الثانى فيمثله كانط الذى رد مقياس الأخلاق إلى طبيعة العقل، وإرادة الجنس البشرى وفقا لمبدأ “اعمل بحيث تستطيع أن تريد فى نفس الوقت أن تكون قاعدة سلوكك قانونا عاما للناس جميعا” وهو كما نرى مبدأ لا يستند إلى مرجعية دينية أو حاكم مطلق كما أنه يهدف أيضا إلى تحقيق غاية معينة، فالخيرية هنا مرهونة بمجرد تقدير عقلى محض.
أما التجريبيون أو الغائيون، فقد اختلفوا مع الحدسيين جذريا، وردوا أساسيات كل حكم أخلاقى إلى نتائجها وليس إلى بواعثها، ويمكننا أن نرصد داخلهم ثلاث إتجاهات أساسية، الأول يرى أن المنفعة أو اللذة هى غاية كل فعل إنساني، وهى الأساس الذى يمكننا أن نحكم به على هذا الفعل، وقد تبنى هذه الفكرة كل دعاة مذهب المنفعة العامة وانحازت إلى هذه الفكرة قديما الإتجاهات القورنيئية والأبيقورية.
الاتجاه الثانى يجعل غاية كل سلوك – ومقياس الحكم عليه فى نفس الوقت – هو إشباع الإنسان بوجه عام، ومن هنا فإن فلاسفة هذا الاتجاه يرون أن اللذة هى مجرد أحد العناصر التى يسعى السلوك الإنسانى لإشباعها، ويندرج هؤلاء الفلاسفة اللذين يطلق عليهم أصحاب مذهب الطاقة أو المذهب الحيوى تحت مجموعتين أساسيتين، المجموعة الأولى تنظر إلى دلالة الأفعال الاجتماعية مثلما فعل أفلاطون وأرسطو قديما ومثلما ينادى حديثا “ياولسن” ومعظم الدعاة الأخلاقين من علماء نفس واجتماع ويسمى هذا الاتجاه مذهب الطاقة الغيرى Altruistic Energism، والمجموعة الثانية أو مذهب الطاقة الأنانى Egoisitic Energism، ويمثلها أساسا “فردريك نيتشه” لا تولى اهتماما يذكر للظروف الاجتماعية، والأخلاق عندها هى ما يخدم صراع الإنسان من أجل البقاء، بقاء الأصلح، أو بالأحرى الأقوي، ذلك أن الطبيعة تؤكد على أهمية القوة وتعزز من قيمة الذات والنزاعات الفردية وهكذا يجب أن تكون سلوكيات الإنسان ودوافعه أنانية بدلا من الغيرية فى ظل غلبة قيمة الأثرة على قيمة التضحية.
انطلاقا من هذه الجولة الموجزة مع أبرز الإتجاهات الفلسفية التى تناولت موضوع الأخلاق، سنقدم بعض الملاحظات المنهاجية العامة لعلنا نستطيع من خلال ذلك أن نقدم رؤية خاصة تستفيد من كل ما تقدم.
الملاحظة الأولي: أن علم الأخلاق نفسه Ethics قد احتضر فى نفس الحظة التى تخلى فيها هذا العلم عن مهمته الأولي: وضع مثل عليا مطلقة للسلوك الإنساني.
لقد لاحظنا كيف أن هذا العلم ومنذ بداياته، وحتى بزوغ فجر الفلسفات التجريبية والوضعية وسيادتها على العقل الإنساني، كان موضوعه الأول هو محاولة تشييد نموذج أخلاقى أعلى يقدم باعتباره غاية الإنسان القصوى التى لا تكون وسيلة لغاية أبعد منها، ولكن هذا التصور الفلسفى الذى ساد طوال التاريخ الرعوى والزراعى وعبر عن نفسه فى مدارس فلسفية ومعتقدات دينية، لم يصمد أمام الثورة الصناعية ومعارفها الكثيرة والمتجددة، ذلك أن “كرسون” ([8]) يلاحظ كيف أن “لوك” متبعا خطى “مونتين” قد بدأ يسجل بفضول الاختلاف بين الضمائر حسبما كان يكشف عن غوامضها قصص السائحين وتقارير المبشرين “فاذا كان الله يوحى للناس ما هو خير وما هو شر عن طريق صوت الضمير، فلماذا يوحى إلى بعض الناس بأن نوعا من السلوك أمر واجب، وإلى آخرين بأنه من قبيل المباح، وإلى سواهم بأنه إثم؟ إن رجلا ممن يرون بحق تعدد الزوجات لا يحمر خجلا من تحقيق ذلك التعدد، والزنجية لا تخجل من عريها، ورجلا من سكان جزر تاهيتى لا يستشعر من هذا الخجل شيئا عندما يأتى العمل الجنسى أمام الجماعة التى ترشده دينيا إلى ما ينبغى أن يفعل. حقا إن المبادئ الميتافيزيقية التى عليها تقوم الأخلاق الإلهية المأثورة لم يكن هناك أبعد منها عن الطابع العقلي”، ولم تكن المعارف الأنثربوليجية وحدها هى التى أثرت على تغير النظرة الفلسفية إلى بواعث الأخلاق ومثلما العليا، بل كان تطور العلوم الطبيعية أيضا – الذى صاحب تطور الإنتاج بداية من عصر النهضة – هو الآخر سببا فى هذا التغير. يقول راسل([9]) فى فصل يحمل عنوان نشأة العلم”، فى كتابه الهام عن تاريخ الفلسفة الغربية”. وفى عالم نيوتن بدت الأرض كوكبا ضيئل الشأن، فهى نجم غير متميز بوجه خاص”، “وقد بدا غير مقبول أن هذا الجهاز الصخم قد صـمـم من أجل خير بعض الكائنات الصغيرة على هذه النقطة. فضلا عن ذلك فإن الغرض، الذى ظل منذ أيام أرسطو يشكل جزءا وثيقا من تصور العلم، قد نحى جانبا الآن خارج نطاق العمل العلمي. فأى شخص يمكن أن يعتقد أن السماوات وجدت لكى تعلن عظمة الله، ولكن لا يستطيع أحد أن يـدع هذا الاعتقاد يتدخل فى حساب فلكي، ينبغى للعالم أن يكون له غرض، بيد أن الأغراض لم يعد يسعها أن تدخل التفسيرات العلمية”.
وهكذا بدأ البشر يردون المثل العليا إلى التجربة واعتبروا أن تحديد ما إذا كان هذا السلوك خيرا أو شرا يرتبط أساسا بما يمكن أن يترتب على هذا السلوك من نفع أو ضرر أو من لذة أو ألم، وحتى معايير النفع أو اللذة لم يتم البحث عنها فى مرجعيات حدسية عند الدين أو المطلق أو حتى العقل، حيث بدا واضحا أنه مادام هذا النفع نسبى وما دامت هذه اللذة نسبية، فإن رد هذه الأمور إلى أصولها الأولى إنما يعنى ردها إلى المجتمع – مثلما ذهب علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع – أو ردها إلى طفولة الإنسان ولا شعوره – مثلما فعل علماء النفس.
مراد وهبة مثلا يستشهد بأفلاطون الذى رد الخير فى جمهوريته للدولة العادلة وبهذا المعنى فإن أفلاطون قد رد “ما هو أخلاقى إلى ما هو سياسي”، ويستشهد أيضا بفرويد شارحا كيف أن “الأنا الأعلى ليست من خلق سلطة داخلية، بل هى من خلق سلطة خارجية هى سلطة المجتمع”، ويستشهد أخيرا بــ مورتس شليك – أحد أقطاب الوضعية المنطقية – الذى يصل تحديدا إلى نفس ما ذهبنا إليه عندما يعلن أن الأخلاق ليست جزءا من الفلسفة; لأن الفلسفة نفسها ليست نسقا من القضايا ومهمتها بالتحديد تنحصر فى توضيح مضمون القضايا العلمية، وفى الأخلاق – والكلام لا يزال لـ شليك – فإن المطلوب هو الإجابة على سؤال لماذا يسلك الإنسان سلوكا أخلاقيا؟ وهو سؤال يجيب عليه علم النفس وفى إطار مسايرة رغبات الإنسان لمتطلبات المجتمع، وبالتالى فإن ما هو أخلاقى هو اعتقاد المجتمع أنه الأكثر فائدة لرفاهيته، أى أن ما هو أخلاقي، هو فى حقيقته اجتماعي.
أما “دوركايم” و”أوجست كونت” فقد أعلنا بوضوح ضرورة الفصل بين الأخلاق وبين الدين والمقدس حتى يمكن اعتبارها علما يخضع لقواعد البحث التجريبي، بحيث يبنى البحث الخلقى قواعده على ملاحظة عالمنا والتطور الاجتماعى الذى نسير فى ركابه كما يقول “لافيت” تلميذ “كونت” وخليفته، معلنا بذلك انتقال الأخلاق من الفلسفة إلى الاجتماع.
والخلاصة إذن أن الأخلاق قد اقتصرت على ملاحظة السلوك الإنسانى وتقييمه على أساس ضرره أو نفعه وفقا لمعايير ثقافية واجتماعية مختلفة، فانتقلت الأخلاق بذلك من دائرة الاهتمام الفلسفى إلى علوم الاجتماع والنفس والأنثربولوجيا، وتخلى الفلاسفة والمفكرين عن أى محاولة لوضع مثل أعلى أخلاقي.
الملاحظة الثانية: إن المصريين – و نعنى بذلك الجمهور الواسع بما فيه النسبة الغالبة من المتعلمين، بل والمثقفين أيضا – يعتبرون أن ما أمر به الله هو الخير وما نهى عنه هو الشر، والخير عندهم لم يعد خيرا لأنه خير فى ذاته، بل لأن الله قد أمر به فحسب، أى أن الله لم يأمر بالخير لأنه خير، بل إن الخير خير لأن الله أمر به، والشر شر لأن الله قد نهى عنه فحسب، وهذا الرأى كما أسلفنا هو رأى الفلاسفة اللاهوتيين فى العصور الوسطى المظلمة فى الغرب، وهو نفسه رأى أهل السلف من المسلمين اللذين تضرب جذورهم بقوة فى بلاد النفط وتعتبر الوهابية أحد تجلياتهم المتبلورة فى العصر الحديث.
الخير إذن خير ما كان هنا نص صريح يأمرنا الله به، ومن ثم فإن صحيفة الجماعة الإسلامية التى تباهت واحتفت باغتيال فرج فودة كانت توضح لقارئها نقلا عن ما تعتبرهم رواة ثقاة وتحت عنوان “الاغتيال على مائدة النبوة” كيف كان الاغتيال يتم فى صدر الإسلام حيث تروى المجلة الإسلامية قصة اغتيال كعب بن الأشرف الذى استدرجه صديقه (!) لكى ينقض عليه بعد ذلك مجموعة من “المسلمين” ويوسعوه طعنا، حتى تبقر بطنه ويتأكد موته بطعنات إضافية، ولأن ذلك حدث – وفقا لرواية المجلة – بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته، فإن ما تعرض له كعب بن الأشرف يعتبر خيرا وأخلاقيا والمجلة تعتبر اشتراك صديق كعب بن الأشرف فى استدراجه عملا أخلاقيا يعتبر بدلا من أن يكون خسة – مثلا – وتعتبر بقر بطنه ببلطة بعد أن لفظ أنفاسه بالفعل للتأكد من موته، هو الآخر عملا أخلاقيا بدلا من أن تعتبره خسة، وبمقتضى مثل هذه القصص – التى لا أعرف مدى صحتها – ولا أود حتى أن أعرف مدى صحتها، لأن كونها صحيحة أم لا لن يغير موقفى منها – فإن الجماعات الإسلامية فى الجزائر – وفى مصر أيضا فى مذبحة الأقصر – كانت تبقر بطون الضحايا وتذبحهم بنفس الطريقة الواردة فى النص، أى فى حكاية كعب بن الأشرف التى رفعوها إلى مقام الأوامر الإلهية الخيرة التى يجب إتباعها، وأضيفت إلى النصوص المقدسة مثلما أضيف إليها فتاوى ابن تيمية وعمر عبد الرحمن. لن تغير الروايات من موقفى لأننى لو علمت مثلا أن الرسول – عليه أفضل الصلاة والسلام – كان يأكل بيده فإن هذا قد يدفع بالبعض للأكل بأيديهم، وكأن ذلك من صحيح الدين، أما أنا فسأتمسك بالملعقة والشوكة والسكين دون أن أعتبر محرمى الملعقة كفرة، رغم أننى متأكد إنهم قد يعتبرونى كافرا أستخدم أدوات الصليبيين!، بل أننى مستعد أيضا لاحترام معتقداتهم الدينية – طالما أنهم لا يأكلون بأيديهم من صحوني! – تماما مثلما أطالبهم باحترام معتقداتى الخاصة باستخدام الملعقة! وهذا يصلح لقياس عشرات، بل وآلاف الحالات التى تبدأ – كما أسلفنا – من كعب وتنتهى الملعقة!
إليكم مثال آخر، كان الرجل الملتحى الذى تزين جبهته زبيبة كبيرة قد اندفع إلى شباك التذاكر رأسا فى محطة مترو السيدة زينب، تاركا الطابور الطويل لأمثالى من ضعاف الإيمان اللذين لا تنير اللحى والزبائب وجوههم وعندما انفعلت عليه صارخا كيف يقبل على إيمانه ـ المعلن من خلال اللحية والزبيبة ـ أن يترك دوره فى الطابور ويتجاوز الناس، اندهش الرجل جدا – اندهش بالفعل وليس تمثيلا حتى أننى فوجئت بذلك وارتبكت – ولم يستطع أن يفهم كيف ينتقص تجاوز الناس فى الطابور من إيمانه. لم يكن هناك نص واضح بخصوص الطوابير، بل والأدهى والأمر أنه شرح لى بهدوء الأتقياء أن الشخص الواقف فى أول الطابور والذى طلب منه أن يبتاع له تذكرة معه ربما كان مسخرا من الله – جل جلاله – لخدمته! واستخدم لتأكيد هذا المعنى نصوصا قرآنية وأحاديث شريفة!
هكذا تسقط معايير الخير والشر فى حرب النصوص بين الفقهاء، ويختار الناس ما يوافق هواهم وضعفهم ويعانون فى نفس الوقت عذاب الضمير لأنهم تربوا على معايير أخلاقية مختلفة، فالرجل الذى كان يساومنى على مقدار العمولة – أو الرشوة – قد لاحظ أننى امتعضت عندما سألنى عن “القبلة” حتى يتمكن من صلاة المغرب، فشرح لى على الفور أنه لا يمارس أى سلوك يغضب ربنا، وأن العمولة التى ساومنى عليها هى “سعي” مذكور فى القرآن والسنة!! ومثل هذا الرجل الذى كتب عليه أن يواجه ضعفه الخاص بمفرده – فى ظل تجريم العمل الجماعى والاجتماعى – عليه أن يبرر لنفسه هذا الضعف من خلال النصوص المقدسة، وهذا التبرير نفسه لا يشفى ضميره الذى لا يزال يستطيع أن يميز فى قرارة نفسه بين الخير والشر، ولذلك فإن نفس هذا الرجل سيبكى بحرقة طالبا التطهر من عذابات ضميره خلف أى شيخ من هؤلاء الشيوخ اللذين يبكون أيضا بحرقة أشد; ربما لأن ذنوبهم أكبر، وأعمالهم الشريرة أسوء!!
بالله عليكم عندما تكون النصوص الدينية – بما فيها الأحاديث التى يطلق على الكثير منها د. أحمد صبحى منصور مرويات العصر العباسى – هى المعيار الوحيد للخير والشر، وعندما يكون تأويل هذه النصوص بحيث يقبلها العقل – كما نادى المعتزلة – مرفوضا وموضع تكفير، ينتهى بتطليق الناس أو ذبحهم، وعندما يكون كبار المشايخ والكتاب وجمهور المثقفين والمتعلمين لا يعرف أن الخير خير إلا لأن هناك نص يأمرنا به ولا يعرف أن الشر شر إلا عندما يكون هناك نص ينهانا عنه، فهل بعد كل ذلك يستطيع أيا كان أن يقنع ملايين البسطاء أن الحشيش شر، أو أن شم الكوكايين ضار، رغم أنه لا يوجد أى نص واضح وصريح ينهانا عنه؟!
إنهم لا يرجعون إلى النصوص لتحديد موقفهم من الحشيش فحسب، وليس من أجل البحث عن معايير الخير والشر فقط، بل إنهم يرجعون إلى النصوص وآراء الفقهاء لتحديد موقفهم من النظريات العلمية أيضا!! يركبون السيارات والطائرات ويستخدمون التليفون والفاكس، باختصار يتمرغون فى منجزات العلم والتكنولوجيا لكن مفتى السعودية – المملكة العربية السعودية – يعلن فى واحدة من أهم فتاواه أن الأرض مسطحة! وفى فتوى أخرى يرفض نظرية النشوء والارتقاء جملة وتفصيلا!! وتعلن صحيفة الأهرام (الجمعة 2000/3/31 !!) عن ما تسميه كتاب القرن، وهو كتاب يحمل عنوان “قصة الخلق” ويؤكد بين دفتيه أن الأرض ثابتة لا تدور، والشمس تتوقف لتسجد لله وينكر النظريات الباطلة لـ “أينشتاين” و”نيوتن” و”جاليليو” و”داروين”، كما يؤكد على أن الجاذبية أكذوبة!!، ويشير الإعلان إلى أن الأزهر قد وافق على الكتاب – رغم اعتراضه عليه من قبل بسبب “مخالفة كل علماء الأرض” – برقم 7043 لسنة 2000!!
مستوى الانهيار الأخلاقى الذى وصلنا إليه الآن فى مصر مروع، وفى المقابل تقوى الصحوة الدينية وتعزز فكيف يمكن تفسير ذلك؟
الانهيار الأخلاقى مرده الأساسى هو انهيار البنى الاجتماعية مع تجريم العمل الجماعى الذى بدأ مع ثورة يوليو 1952 واستمر حتى الآن حيث تم تعزيزه وإعطاؤه دفعة قوية من خلال شيوع الحل الفردى سواء بالعمل فى بلاد النفط – بـ “طولك”، وفى رعاية أو تحت رحمة كفيل وبدون أن تكون عضوا فى أى جماعة اجتماعية – أو بالعمل فى السوق المصرى الذى عرف ربما لأول مرة ألوانا من التردى والانحطاط، لم يعرفها من قبل فى ظل انهيار أى أعراف أو بنى جماعية داخل السوق أيضا.
إن عدم الإنتماء لجماعة – أى جماعة: حزب، نقابة، رابطة .. إلخ – قد ضرب العمق الاجتماعى للشخصية المصرية فى مقتل ومن ثم فإن الضرورة الاجتماعية للأخلاق كمعيار للحكم الأخلاقى لم تعد أمرا مطروحا، بل دعنا نقول أن انتماء الفرد نفسه للمجتمع، وحتى للوطن قد أصيب فى مقتل.
كل صور الإنتماء الاجتماعى “مجـرمة” ابتداء من الحزب وانتهاء بالجمعية مرورا بالنقابة فكيف يمكن للناس أن تحافظ على انتمائها الاجتماعى للوطن؟! وكيف يمكن أن يكون لسلوك الناس الأخلاقى ضوابط أو معايير أخلاقية اجتماعية – أى ضوابط ومعايير تراعى فيها مصلحة المجتمع ورفاهيته وتقدمه – إذا كان الإنسان الفرد لا يشعر – بل ولا ينتمى بالفعل وليس شعوريا فحسب – لهذا المجتمع من خلال أحد مكوناته؟!
لقد أصبح الشعار هو “أنا ومن بعدى الطوفان” وأخلاق الغش الجماعى والعمولات وكشوف البركة لا يمكن الدفاع عنها بمنطق الضرورة الاجتماعية ومصلحة المجتمع ولا يمكن الدفاع عنها حتى بإعمال العقل من خلال معايير تاريخية أو فلسفية، ولكن يمكن لها أن تكتسب قداسة دينية من خلال استلهام – أو استنطاق – النصوص المقدسة التى تتضخم فى هذه الحالة، حتى يتقدس كلام أى شيخ حتى لو كان مثل شيخ إمبابة الشهير الذى كان قبل تقديس فتاويه ببضعة أشهر مجرد طبال متوسط يسير خلف راقصات درجة رابعة بدلا من أن يسير وراءه آلاف المؤمنين!!
المرجعية الأخرى للأخلاق السائدة الآن – بكل أسف – يمكننا أن نردها فلسفيا – إلى مذهب الطاقة الأناني، إلى فلسفة القوة والبقاء للأقوي، حيث تغرس الأمهات فى أبنائهن قيم إيثار الذات، ويحقرن من قيم العطاء والتضحية باعتبارها ضعفا، وينتهى الحال بهؤلاء الأبناء – كما نقرأ فى الصحف – إلى مستوى منحط من الأنانية، يكون أول ضحاياه عادة وأول من يحصد ثماره المرة هم الوالدان اللذان زرعا هذه القيم الفردية التى يؤكد المجتمع نفسه – بكل أسف – على جدواها ومنطقيتها فى مواجهة أى قيم اجتماعية أو جماعية لا يوجد أى دليل على نجاحها فى عصر النفط وتجريم العمل الجماعى وتردى قيم السوق نفسه فى ظل الفساد والخصخصة على الطريق المصرية.
يمكننا أيضا أن نضيف مرجعية ثالثة لهذا الانحطاط الأخلاقى السائد، وهى مرجعية منتشرة فى أوساط الفئات المرفهة والمنفتحة على الغرب مرجعية اللذة التى تجعل غاية كل سلوك إنسانى هو اللذة، واللذة المطروحة هنا – الآن – سواء فى مصر – عند هذه الفئات المتغربة – أو فى الغرب نفسه، هى لذة يغلب عليها “التشيؤ” وتأخذ الاستهلاك وسيلة وغاية فى نفس الوقت، وتحول الإنسان إلى كائن نهم يلتهم ما يراه لذيذا ويجتره، دون أن يتذوقه أو يستمتع به مثلما أوضح “ويلهام رايش” فى كتاباته بخصوص الجنس مثلا([10]) ومثل هذه اللذة الحسية المبتذلة هى تعبير عن اغتراب يبدأ من الحالة الفردية الموحشة التى يعيش فيها الإنسان، وهى الفردية التى يؤكدها المجمع المصرى الآن ويغذيها بلا توقف.
الشارع الأخلاقى فى ذروة انحطاطه إذن موزع بين ثلاثة إتجاهات تمتزج فيما بنيها فى كثير من الأحيان، الاتجاه الأول تسيطر عليه عقلية جامدة وعاطلة، تبحث فى النص عما يبرر لها الانحاط وتنتقى من التراث ما يحلولها، والاتجاه الثانى ينطلق من التجربة المعاشة لكى يدعو صراحة للقيم الأنانية وسحق الآخر من أجل البقاء والاستمرار فى غابة الصراعات الفردية بحثا عن لقمة عيش – أحيانا – وعن ما هو أكثر من ذلك بكثير فى أحيان أخري، والاتجاه الثالث يسعى إلى نوع منحط من اللذة الحسية ويدوس فى سبيل ذلك كل ما يعيق تحقيق هذا النهم الذى لا شبع.
الملاحظة الثالثة: الخروج من دوامة الانحطاط الأخلاقى التى يتردى فيها المصريون الآن لابد أن يبدأ بإعادة الاعتبار إلى وجود الإنسان الاجتماعي، لابد من تأكيد انتماء الإنسان المصرى إلى وطنه، ولا يمكن لمثل هذا الانتماء أن يتأكد ما لم يـرد الاعتبار للعمل الجماعى باعتباره سبيل كل تغيير وكل تقدم. ليست المسألة دعوة مبتذلة إذن لحقوق الإنسان أو الديمقراطية، وكأن المقصود بذلك إتاحة فرصة أمام حفن من المثقفين للاستمتاع بالكلام مثلما هو حاصل بالفعل، بدون أى جدوى أو عائد اجتماعى يمس حياة الناس ومستقبلهم، ولكنها دعوة إعادة الاعتبار للحل الجماعي، دعوة إلى التأكيد على أهمية تضافر الجهود الجماعية من أجل تحسين حياة الفرد نفسه، دعوة للتأكيد على أن الإنسان – بالأساس – كائن اجتماعي، وأن شعار “ياللا نفسي” هو الشعار الذى سيقود مصر إلى مزيد من التخلف والتردي.
أى إصلاح أخلاقى لابد أن يبدأ بـإباحة العمل الجماعى بحيث تـرد معايير الأخلاق مرة أخرى إلى عمقها الاجتماعي، ونحن لا نفترض أن تنتظم المعايير الأخلاقية فى مجتمع أخلاقى ـ ضيق لهذا المذهب أو ذاك، بل نفترض أن هناك مظلة أخلاقية واسعة من الممكن أن تجمع تحتها عدة تصورات للقيم والمعايير الأخلاقية تتعايش فيما بينها ضمن منظومة أخلاقية لمجتمع أخلاقي.
تحت مظلة الانحطاط – كما أسلفنا – يتعايش دعاة رد المعايير الأخلاقية إلى خارج العقل مع دعاة أخلاق القوة والمذهب الأناني، جنبا إلى جنب مع المبشرين باللذة، وفى المقابل فإنه يمكننا القول أنه تحت مظلة النهوض الأخلاقي، الذى نطالب به ونسعى إليه من خلال إحياء العمل الجماعي، يمكننا أن نضع هؤلاء الحدسيين الذين يرون الخير خيرا لأنه كذلك، ويرون أن الله قد أمر بالخير لأنه خير، كما يمكننا أن نضع أيضا هؤلاء الذين يردون كل المعايير إلى العقل ـ مثل كانط ظ ـ ويدعوننا إلى أن يكون سلوكنا مطابقا لما ننادى به كقاعدة عامة سلوكية للناس جميعا، وأخيرا فتحت نفس هذه المظلة الأخلاقية من الممكن أن نضع كل هؤلاء اللذين ينظرون إلى الأخلاق من حيث دلالاتها الاجتماعية الغيرية – أى اللا أنانية – ويقيسون الضرر والنفع بمعايير الضرورة الاجتماعية ومصلحة المجتمع ككل.
إن ما يجمع كل هذه الاتجاهات الكبيرة ما نسميه المظلة الأخلاقية لا يعنى أن هذه الإتجاهات تتفق فيما بينها – كما شرحنا من قبل – لكنه يعنى أن هذه الاتجاهات – رغم ما بينها من اختلافات كبيرة – تتفق فى رد معايير الأخلاق إلى العقل وتقيم هذا السلوك استنادا إلى ما قبله من ناحية و – أو – إلى النتائج الاجتماعية لهذا السلوك من ناحية أخري.
الملاحظة الرابعة: سادت مصر – فى ظل التردى الأخلاقى الراهن حزمة معينة من المعايير الأخلاقية التى تقف ضد العقل من ناحية، وتروج للأنانية واللذة من ناحية أخري، أما فى الغرب، فقد انتهت الثقافة السائدة إلى مزيج مختلف يجمع بين معايير القوة واللذة مع معايير الضرورة الاجتماعية، واستنادا على هذا التنوع المعيارى الذى يجمع من وجهة نظرنا بين ما هو أخلاقى – الضرورة الاجتماعية والنزعة الغيرية -، وبين ما هو غير أخلاقى – البحث عن اللذة فى إطار فردى وأناني، فإن الغرب يحافظ على قدر من التوازن الأخلاقى يحفظ له قدرته على الاستمرار، وهذا التوازن الأخلاقى نفسه يستند على نوع من التوازن النفسى – الاجتماعى الذى يجمع هو الآخر بين ما يمكننا اعتباره أقصى درجات تقديس الحرية الفردية إلى حد المطالبة بحق الإنسان فى الانتحار – وبين حياة اجتماعية خصبة ينتظم فيها الإنسان إلى ما يراه مناسبا من جماعات قادرة على تحقيق مصالحه، أى أن هذا الانتماء الاجتماعى نفسه ليس بالضرورة دليلا على غيرية ما، بل يمكن أن يهدف هو الآخر إلى تحقيق مصالح الإنسان الفردية فحسب، وبصياغة أخرى فإن مشاركة الإنسان الفاعل ضمن جماعة للحصول على مكاسب لهذه الجماعة فى إطار مبدأ المساومة الاجتماعية قد لا يستهدف عند هذا الإنسان – الاجتماعي- إلا تحقيق مصالحه الفردية فقط، ولكن – لأن هذه المصالح الفردية لا يمكن لها أن تتحقق إلا من خلال هذا العمل الجماعى ـ الاجتماعى ـ نفسه، فإن هذا الإنسان ـ إذن سيجمع داخل تكوينه الشخصى نفسه – مثلما يجمع المجتمع ككل – بين أقصى درجات الفردية – التى تبرر وتحقق أقصى درجات اللذة الأنانية – وبين أقصى درجات النزعة الغيرية المستندة على معايير الضرورة الاجتماعية ومصالح المجتمع ككل أو أحد مكوناته على الأقل.
إن هذا الصراع الذى ينتهى إلى نوع من التوازن بين النزعتين الفردية والاجتماعية فى مجال الأخلاق، لا يرد فقط إلى هذا التوازن المطلوب على الصعيد النفسى – الاجتماعى بين النزعتين الفردية والاجتماعية أو الأنانية والغيرية، ولكنه يرد أيضا إلى طبيعة الحضارة الغربية الراهنة التى تسودها علاقات الإنتاج الرأسمالية، ومن ثم فإنها تجمع بين اجتماعية العمل وفردية رأس المال، ويحافظ المجتمع على استمراره وتوازنه من خلال قواعد وآليات محددة للصراع الاجتماعى والسياسى تحت مظلة الليبرالية، وهو الصراع الذى تدور رحاه بين قوى اجتماعية متبلورة “تنظيميا” من أجل تحقيق مصالح اجتماعية – فردية، والجدير بالذكر هنا أن مصالح الفرد – أيا كان لا يمكنها أن تتحق فى المجتمع الغربى الليبرالى إلا فى إطار تحقيق مصالح جماعة ما، وبصياغة أخرى فإن الحل الفردى مهما بدا لامعا وبراقا، إلا أنه ليس “ممكنا” مثل الحل الجماعي، وهى حالة مختلفة كلية عن حالة مصر – مثلا التى يبدو فيها الحل الفردي، من خلال النفط أو الفساد ممكنا فيما يلوح الحل الجماعى مستحيلا فى ظل التجريم والمصادرة.
بديهى أننا نتحدث عن المزج بين معايير اللذة والأنانية وبين معايير الضرورة الاجتماعية فى المجتماعات الغربية، دون أن نغفل على الإطلاق الفروق فى تركيبة هذا المزج من مجتمع إلى آخر، حيث سنلاحظ – مثلا – أن نضج المجتمعات الأوروبية وعراقة تكوينها الاجتماعى يسمحان بمستوى عال من التنظيم الاجتماعى على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية.. إلخ، ومن ثم فإن الأبعاد الاجتماعية للأخلاق ومعايير الضرورة الاجتماعية تبدو أكثر وضوحا بكثير داخل منظومة المعايير الأخلاقية الأوروبية، إذ ما قورن وزنها هناك بوزن نفس المعايير داخل منظومة المعايير الأخلاقية الأمريكية، ففى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث المجتمع يكاد يكون حديث التكوين وحركة الصراع الاجتماعى أو الطبقى لم تتبلور فى حركات اجتماعية واضحة المعالم حيث ينطبق هذا على الأحزاب كما ينطبق على النقابات.. إلخ، سنلاحظ أن ما هو فردى يطغى على ما هو اجتماعي، وقد ساعد على إجهاض التبلور الاجتماعى هناك عدة عوامل، منها تركيب المجتمع الأمريكى نفسه من خليط غير متجانس يضم مجموعات من الأصوليين الهاربين من الاضطهاد الديني، بالإضافة إلى مغامرين مختلفى الهوية، ذلك بالإضافة إلى كون هذا الخليط نفسه ينحدر من جنسيات وثقافات مختلفة، وقد ساعد اتساع البلاد على عدم التعجيل بانصهاره، بل وساعده هذا الاتساع – وما يعنيه ذلك من وفرة أيضا – على أن يظل الحل الفردى ممكنا لأى مغامر طموح، أى بصياغة أخري، لأى أنانى يبحث عن منفعته بقوة.
***
سنكتفى – على الأقل فى هذا العدد – بهذا القدر من الملاحظات، علما بأننا سنواصل الحديث فى هذا الموضوع – بإذن الله – وبالتحديد حول ما إذا كان من الممكن أن نطرح مثلا عليا أخلاقية فى هذه اللحظة أم لا، وعلى أى أسس أو منطلقات – حدسية أو تجريبية – يمكن أن تستند هذه المثل، وهل هناك فائدة مرجوة من مثل هذه المحاولة أصلا أم لا؟
1- جيمس هنرى بريستد، فجر الضمير، ترجمة د. سليم حسن، ص 9 – 14 سلسلة الألف كتاب (108) مكتبة مصر، القاهرة 1956 .
[2] – راجع جورج جيمس، التراث المسوق ترجمة شوقى جلال، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 1997 .
[3] – راجع أثينا السوداء، مارتن برنال تحرير ومراجعة وتقديم د. أحمد عثمان الملجس الأعلى للثقافة ، القاهرة 98
[4] – الكسندر تيتارنيكو (مشرف عام)، علم الأخلاق ، الفصل الأول ص 3 – 42 دار التقدم 1990
[5] – فجر الضمير ، ص 197
[6] – فضلنا هنا استعمال تعبيرى : حدسى وتجريبى بدلا من تعبيرى مثال ومادى وذلك على اعتبار أن حدسى هنا معناها ببساطة – وبصورة لغوية مباشرة – أن مصدر المعرفة هو الحدس المبنى على المنهج الاستنباطى من خلال مجموعات الافتراضات أو المسلمات ، وفى المقابل فإن التجريبيون يعتبرون التجربة والملاحظة التجريبية هى مصدر المعرفة ومن ثم فإنهم يعتمدون أكثر على المنهج الاستقرائى.
[7] – مراد وهبة، ملاك الحقيق المطلقة، ص 39، الهيئة العامة للكتاب ، مكتبة الأسرة ، 1999
[8] – اندريه كرسون: المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، ترجمة عبد الحليم محمود، وأبو بكر ذكرى ، ص 144 ، دار الكتب الحديثة ، القاهرة 1946
[9] – برتراند راسل، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث – الفلسفة الحديثة ص 75، ترجمة د. محمد فتحى الشبيطى، الهيئة العامة للكتاب 1977
[10] – انظر فى هذا الصدد: ويلهام رايش، الجنس وصرع الطبقات، دار الآداب بيروت – وانظر أيضا لنفس المؤلف: الثورة الجنسية، دار الآداب، بيروت