إعادة قراءة فى مصطلح قديم/ حديث
النموذح الطبى Medical Model:
كلمة عن العنوان
إن إضافة كلمة “حديث” (بعد كلمة “قديم”) مقصودة، حتى يمكن أن نناقش أيضا فى هذا الباب مصطلحات تكتسب مشروعيتها من جدتها، إذ تحل محل مصطلح أقدم، ربما تثبت المراجعة أن الأقدم: أقدر وأنفع).
المصطلح
لماذا يـستعمل مصطلح “النموذج الطبي” فى الطب النفسى بوجه خاص أكثر من (أو دون) فروع الطب الأخري؟ فنحن لا نسمع كثيرا عن “النموذج الطبي” بالنسبة لأمراض القلب، أو فى طب الأطفال أو فى طب وجراحة العيون. وحتى الممارسات التى تحاول أن تزيح الطب التقليدى من الصدارة، تسمى نفسها، أو يسميها الأطباء أنفسهم باسم فيه كلمة”الطب”، حيث يطلقون عليها اسم الطب البديل، ثم إننا نجد تعميما آخر فى الممارسات الشعبية قبل هيجة هذه البدعة المسماة الطب البديل، حيث ثم ما يقال له “الطب الشعبي” أو “طب عربي”، وكلاهما له تقاليده وطقوسه قبل وبعد الطب التقليدى والطب الرسمي.
أزمة الطب النفسى
على الرغم من كل هذا التنوع فى استعمال كلمة “طب” فإننا سنقصر حديثنا على ما هو “طب نفسي”، ربما بسبب التخصص، وأيضا بسبب المساحة.
أولا: فى الفترة الأخيرة (العشرين سنة الأخيرة على الأقل) يفضل أغلب الأطباء النفسيين أن يسموا فرعهم “الطب النفسى “، وليس الأمراض النفسية. وبالتالى نشاهد أكثر فأكثر على الوصفات(الروشتات) واللافتات، صفة “أخصائى الطب النفسي” وليس أخصائى الأمراض النفسية، وهذا تعديل صحيح، فالطب عامة، والطب النفسى خاصة، هو ممارسة حرفية فنية أساسا، لا هو علم بحت، ولا هو بحث أكاديمى فى الأمراض، وإنما هو حرفة من أهم أدواتها المعلومات العلمية، أما طريقة “تفعيل” هذه المعلومات لتحقق هدف الطبيب الحرفى الفنان، فهذا هو ما تعنيه ( أو ما كان مفروض أن تعنيه) النقلة من “أخصائى الأمراض النفسية” إلى “أخصائى الطب النفسي”. الأمر الذى لم يحدث، بل لعل العكس هو الذى حدث.
ثانيا: شاع بين الناس، وبين الأطباء غير النفسيين أيضا، وربما وأصلا، أن من عنده مرض نفسي، ليس عنده مرض (ما عندوش حاجة، ما عندكشى حاجة)، فارتبط ذلك مباشرة بأن هذا النوع من الأمراض، وبالتالى من التطبيب، هو ممارسة هامشية بشكل أو بآخر، وكثيرا ما يسأل الطبيب النفسى المريض عن سبب مجيئه لاستشارته، فيخبره أنه جاء بناء على نصيحة أخصائى الباطنة (أو غيرها)، بعد أن قال له أنه “ليس به شيء” (ما عندكشى حاجة، روح لواحد نفساني- لاحظ استعمال كلمة واحد نفساني، وليس طبيب نفسي)،وكثيرا ما ينبه الطبيب النفسى مريضه إلى أنه “عنده حاجة”، لكنها ليست فى اختصاص من أرسله (وهل يكفى ذلك؟)
من خلال هذا الذى شاع، انتبه الأطباء النفسيون أن تهميش دورهم بهذه الصورة يفيد عدة دلالات، يجدرالانتباه إليها ابتداء، من أهمها:
1- أن مرضاهم أقل معاناة، أو أكثر رهافة ( بيتدلعوا)، حتى أن بعض الأطباء غير النفسيين يتكلمون عن “المرض الحقيقي” Real Disease ، والمرض غير الحقيقى ويعنون به عدم وجود مرض ملموس، له سبب واضح وعلاج محدد لهذا السبب.
2- أن تخصصهم أقل “علمية”.
3 ـ أن الأطباء النفسيين يمارسون شيئا أقرب إلى الهواية منه إلى الاحتراف المهني.
4 ـ (لا شعوريا): أنهم، ومرضاهم، أقل استحقاقا للاحترام.
ثالثا: اختلط مفهوم “العلاج النفسي” بـ “التحليل النفسي” بـ “التطبيب النفسي”، وحدث هذا الخلط من أكثر من مصدر، ومن أهم هذه المصادر:
(1) الشائع تاريخا (منذ فـرويد وتلاميذه وأعدائه معا).
(2) الشائع عند العامة مدعما بخطأ وسوء ما يقدم فى المسلسلات والأعمال الدرامية.
(3) الشائع عند الأطباء غير النفسيين.
(4) أن القانون يسمح بممارسة العلاج النفسى بواسطة غير الأطباء، وهم يحملون عادة لقب “دكتور”، وحتى من لم يحمل منهم هذا اللقب (وقد أصبح مسموح له بالممارسة مؤخرا بشروط معينة، غير منضبطة عادة)، يلقب نفسه، أو يلقبه زبائنه بـ “دكتور” دون حرج (أو مسئولية).
رابعا: استعملت الموجة الجديدة للتطبيب والمداواة بعيدا عن “ضبط وربط” المهنة كلمات تشير بشكل مباشر أو غير مباشر إلى أن هذه الممارسات غير القانونية وغير العلمية على أنها: “نفسية” أو أنها تعتمد على “الإيحاء النفسي”، وما إلى ذلك.
التصحيح الشكلى (والخاطئ)
نتيجة لكل ذلك، وجد الأطباء النفسيون أنفسهم فى موقف الدفاع عن ممارستهم من ناحية، والشعور بالنقص (لا شعوريا فى الأغلب) من ناحية أخري، فانبروا يؤكدون معان تصحيحية (من حيث المبدأ) إلا أنهم ذهبوا، أو اضطروا أن يذهبوا إلى ما انتهى بهم إلى الدفاع عما طالما نـهـوا عنه. ومن أمثلة محاولات الدفاع والتصحيح، بالخطأ والصواب ما يلي:
أولا: ما سبق الإشارة إليه من التأكيد على أن تخصصهم هو الطب النفسي،وليس الأمراض النفسية، دون العودة إلى عمومية ما هو طب محيط.
ثانيا: ذهب البعض (حتى من أساتذة الجامعة) يضيف إلى توصيف تخصصه (الأمراض النفسية) صفة و”العصبية”، فى محاولة التخفيف من وقع الاستهانة بتخصصه الأصلى وتهميشه.
ثالثا: لجأ فريق ثالث إلى تغيير الاسم برمته، ففيهم ما سمى نفسه أخصائى “المخ والأعصاب”، وهذا التعبير هو من اختراع العامة أساسا، لكن بعض الممارسين استجابوا لهذه الموجة، واعتبروها أكثر تناسبا مع أصحاب المصلحة.
رابعا: أخفى معظم الممارسين عمق تخصصهم فيما يسمى الأمراض العقلية، مع أنه الأصل فى هذا التخصص، وهو محور فهم ما يسمى الأمراض النفسية، وذلك دفعا لمظنة الاتهام بالجنون لمن يتردد عليهم، ودرءا للوشم بتشخيص منفر للكافة.
التصحيح العلمى (وشبه العلمي)
ظهرت اتجاهات أخرى فى محاولة إعادة الأمور إلى نصابها، فراح الأطباء، والعلماء، وشركات الدواء، يروجون لمصطلحات أحدث، تبدو علمية، ودقيقة، إلا أنها أدت فى النهاية إلى درجة من الاختزال والتجزيء الذى كانت مهمة الطب النفسى الأساسية أن تحاربهما. ومن ذلك:
أولا: التأكيد على أن الطب النفسى هو جزء لا يتجزء من الطب عموما، علما بأن التاريخ يقول إن الطب كله كان ممارسة الحكمة، والمدواة، والمواساة معا فى كل مشتمل، فمن أول التعريف المشهور للطبابة من أنها “مداواة ” و “مواساة”، إلى ترادف كلمة “حكيم” بـ كلمة “طبيب” ثم بـ كلمة “دكتور”، إلى ما شاع فى الوعى الشعبى ليس فقط فى أرجوزة “إنت حكيم ولا تمرجي، أنا حكيم الصحية: العيان أديله حقنة، والمسكين أديله لقمة” وإنما أيضا فى موال أكثر صراحة يقول:
يامين يجيب لى طبيب يحل لى إشكال.
مش بس يكتب دوا ويقوله إيش كال ( = ماذا أكل).
ياما قلبى شايل ومش قادر يقول إيش كان (ماذ حدث).
نقول: على الرغم من كل هذا الوضوح فى الأصل وفى الشمولية، فإن هذا التأكيد على أن الطب النفسى هو فرع من فروع الطب جعل الأمر يبدو كما لو كان تراجعا عن القول الأصح الذى يشير إلى “إن فروع الطب الأحدث هى تنويعات لاحقة على الطب الأصل، الذى هو أساسا الطب النفسى حتى لو لم يسم بهذاالاسم”.
وهذا ليس دفاعا تعو يضيا يصل إلى الغرور عن حرفة بذاتها، لكنه قول يشير بشكل غير مباشر إلى أن الطب المادى (إن صح التعبير) هو فرع من فروع الطب الأصلى (=النفسي).
إن التاريخ يؤيد هذه المقولة، ثم إن الممارسات الشعبية التى استشرت مؤخرا تشير إلى خطورة هذا الاختزال، والاتجاه إلى التفريع الـمباعد لفروع تفصيلية، مما أدى إلى ظهور هذه الموجة التعويضية من الممارسات الخاطئة والخطرة معا.
ثانيا : اتجه أغلب الممارسين إلى تبنى مصطلح “النموذج الطبي”Medical Model وهم يتصورون بذلك أنه يلتمسون الإذن للعودة إلى زمرة الأطباء، غافلين على أنه مادام التخصص هو “الطب النفسي”، فلا يوجد فيه إلا “النموذج الطبي”، وإلا فعلينا أن نواجه مغالطة منطقية حيث ينعت أحدهم نفسه بأنه “طبيب نفسي”، ثم إنه يحتمل ألا ينتمى إلى ما هو “نموذج طبي”، وهذا غير وارد، لأنه لو حدث فعلا فعليه أن يتخلى عن صفة “طبيب” بالمرة.
ومع ذلك فإن لظهور هذا المصطلح(النموذج الطبي) هكذا، ولو بناء عن مغالطة منطقية أهميته، لأنه ظهر ليقف فى مقابل نموذجين آخرين لهما أسماء سهلة، مع أنها شديدة الالتباس ألا وهما “النموذج النفسي”Model Psychic or Psychological والنموذج الاجتماعى Model Social، وأحيانا “النموذ النفساجتماعي”Psychosocial Model، وهذا التقابل بدأ متحفظا وهو يحاول أن يحقق “تسوية ما” Compromise بين النماذج المختلفة، إلا أنه انتهى إلى استقطاب خطير يحقق فى واقع الأمر أسوأ موقف وهو موقف “إما….أو”، حتى لو زعم غير ذلك.
فقد انتهى سوء فهم، وتسطيح، ما سمى بالنموذج الطبى ـ هكذا- إلى شكل هو أبعد ما يكون عن الطب النفسى تاريخا، وفنا، وحرفة، ومن ذلك:
(1) الزعم بأن الأمراض النفسية أصبحت معروفة الأسباب الكيميائية (الخـلل الكيميائى المسئول) وبالتالى فيمكن شفاؤها بإصلاح هذا الخلل، وكل هذه فروض ونظريات لم تصل بعد لا إلى موضوعية ما يسمى بالتقسيم السببى Nosological Classification، ولا إلى التمييز العلاجى Therapeutic Selectivity.
(2) اختزال استعمال كلمة “بيولوجي” كمرادف لـ كلمة “كيميائي” أو ” كيميائى حيوى (بيوكيميائي)، وهى نادرا ما تستعمل لما هو “فسيولوجي”، علما بأن أصل كلمة بيو Bio تعنى حياة، وبالتالى فإن ما هو هو بيولوجي، هو “حيوي”، فهو أكثر شمولا وأدق تركيبا من هذا الاختزال الذى ترتبت عليه أخطاء ومخاطر بلا حصر.
(3) الترويج لعقاقير بذاتها، ذات أسماء اختزالية أيضا، فبدلا من أن تسمى العقاقير باسم المرض الذى تساعد فى علاجه (مضادات الاكتئاب مثلا)، راحت تسمى باسم المادة الكيميائية، أو العملية الأيضية (الميتابولزمية Metabolic) التى تثبطها أو تنشطها، من أمثال (مثبطات أحادى الأمين Mono-Amine-Oxidase- Inihbitors MAOI أو المثبطات الانتقائية لاسترجاع السيروتينين Selectiv Serotonine Re-uptake Inhibitors SSRI) وهكذا، وخطورة هذه التسميات، أنها توهم الطبيب الممارس (وربما المريض) أنهم حددوا الداء المسبب لهذا المرض فى تلك العملية الكيميائية بالذات، ومن ثم فهذا هو الدواء الانتقائى (جدا) لها.
وهذا كله بعيد عن العلم الحالى بشكل صريح.
(4) انتهى النموذج الطبى (وقيل أنه هكذا منذ البداية) إلى القياس على فرعين من فروع الطب الأخرى دون سواهما: وهما فرع الأمراض العصبية Neurology (وخاصة فيما يخص الموضعـة الباثولوجية Pathological Localization) وفرع أمراض الغدد الصماء Endocrinology ، (وخاصة فيما يخص اضطراب الأخيرة الكمي: زيادة ونقصانا). مع أن القياس على فروع الطب الأخرى والاستفادة من مفاهيمها ونماذجها، يمكن أن يكون أشمل وأنفع (مثل: إيقاعية الجهاز الدوري، أو هضم وتمثيل الجهاز الهضمى والميتابوليزم) كما سيأتى بعد.
التصحيح الواجب وآفاق المستقبل:
لكل هذا، وجبت إعادة قراءة هذا المصطلح من خلال مايلي:
(1) استعادة مفهوم الطب تاريخا: بمعنى أنه الأصل المشتمل.
(2) إدراك مدى اتساع مفهوم البيولوجي، وأنه ليس مرادفا للكيمياء الكمية.
(3) استلهام قياسات أوسع من مجرد موضعة الأمراض العصبية وكمية إفرازات الغدد الصماء.
(4) التأكيد على أننا ما زلنا فى مرحلة الفروض والتنظير، وهذا لا يقلل من قيمة الممارسة ونتائجها، ومن ثم التأكيد على أهمية واحترام الممارسة الإمبريقية.
(5) إحياء مفهوم الممارسة الطبية عامة (والطبية النفسية خاصة) باعتبارها فن اللأمArt of Healing ، لتحقيق مفهوم مكتمل لما هو صحة عامة وصحة نفسية خاصة.
(6) العودة إلى مناقشة مفهوم “الصحة”، كـ”معني” و “قيمة”، وليس فقط باعتبارها مجرد خلو من الأعراض، من حيث أن ممارسة الطب إنما تهدف إلى تحقيق هذا النوع من الصحة بصفة خاصة.
[وهذا ما سنحاول تناوله فى العدد القادم]