إشكالية الزمن:
فى الحياة، والمرض النفسى، والعلاج الجمعى
إيحاءات وتساؤلات، وآراء، ورؤى تثيرها ندوة الجمعية (مارس 1988)
حول كتاب حدس اللحظة
تأليف: فاستون بشلار تعريب: رضا عزوز، عبد العزيز زمزم
(الدار التونسية للنشر 1986)
مقدمو الندوة: رفعت محفوظ- أسامة عرفة- محمد الرخاوى
تعقيب: يحيى الرخاوى
لندوات هذه الجمعية التى تصدر هذه المجلة طابع خاص، فهى تتناول أعقد المسائل بأكبر قدر من التواضع والمباشرة، وتحاول فى نفس الوقت أن تعيش ما تتناوله بحجمه الموضوعى فى إطار الواقع المتاح “حالا” ، ولا نعلم إن كنا نجحنا فى ذلك قليلا أم كثيرا، ولكننا نعلم تماما أننا وصلنا إلى نفس النقطة التى وصلت إليها هذه المجلة، فقلنا، لنعلن بعض ما يجرى هناك، على صفحات المجلة هنا، فإما يثرى بعضه بعضا، وإما نكتشف الخطأ إن أمكن.
وللتعريف بما يجرى نقول:
ما زالت هذه الندوات تعقد بانتظام عجيب.
(مساء الجمعة الأول من كل شهر، منذ تسع سنوات، بمقر الجمعية).
ومازال الحضور يكاد يكون مقصورا على من يتحمل التقليب ويحاول المغامرة، دون التباهى الثقافى أو الانتصار المناقشاتي، حتى انتهى الأمر إلى أن تصبح مقصورة على ثلة أقرب إلى العائلة. (رغم أن الدعوة عامة!!).
ومازالت المواضيع شديدة التنوع: من فيلم يعرض، إلى عمل أدبى ينقد إلى رأى فلسفى يطرح، وكلها تعاش بنفس القدر من المواجهة.
وبعد،
فما أن اقترح د. رائع رفعت موضوع هذا الكتاب، حتى نسيناه، فما أصعب ما يوحى به الاسم” حدس اللحظة” ، لكننا عدنا إليه مستكشفين بعد حين، فقام بإعداده المقدمون الثلاثة ( وهم عادة مختلفون سنا وتخصصا ما أمكن ذلك).
ثم تجيء الندوة – التى لها دائما فضل ما تعلمناه من ضرورة القراءة المعادة، والمفتوحة، والمسموعة، مما لا مجال لتفصيله الآن، فإذا بنا أمام قضايا شديدة الخطورة، شديدة الإلحاح، نعلن بعض رؤوسها ابتداء فى صورة ما أثير من تساؤلات، أثناء وبعد الندوة، على الوجه التالى:
(1) ما هى طبيعة الزمن ؟
(2) ما هى حكاية الديمومة ؟ ( وموقف برجسون منها) ؟
(3) أين تقع هذه القضية من طبيعة الحياة ذاتها ؟
(4) ما علاقة ذلك بالذاكرة والانتباه، ثم بالإبداع والشعر خاصة ؟
(5) هل للإجابة على مثل هذه التساؤلات علاقة مباشرة بماهية المرض النفسى من ناحية وماهية الحياة المعاصرة فى مأزقنا الحالى من ناحية أخرى ؟
(6) هل ثمة وجه شبه بين التركيز على “هنا والآن “فى العلاج الجمعى ، وبين العناية باللحظة الراهنة حتى تصبح هى الحياة فى فلسفة بشلار (أو روبنال كما قرأه باشلار) ؟
ولم يحاول المقدمون أو الحضور تغطية كل هذه المساحة بهذا الترتيب، لكننا اقتربنا قليلا أو كثيرا من هذه القضايا فى حدود الندوة، وقد فضلنا أن ندعو المقدمين لإبراز أهم ما لفت نظرهم فى العمل فقدموه، أو تنبهوا إليه بعد المناقشة والمراجعة على الوجه التالي:
فكتب لنا د.رفعت محفوظ يؤكد ابتداء أن القضية الأساسية التى أثارها هذا العمل هى فتح ملف موضوع الزمن ككيان حى قائم هو فى حقيقة الأمر مرادف لما هو حياة،فقد أكد أن موقف الإنسان من الزمن، سواء من ناحية الإحساس أو الفهم أو السلوك، يكاد يتركز فيه موقف الإنسان من الحياة عامة، ومن هذا المنطلق، فإن التأمل فى الزمن يصبح المهمة الأولية لكل ميتافيزيقا.
ثم يردف د. رفعت:
وينطلق بشلار فى دراسته” حدس اللحظة” من قراءته لكتاب سيلوى لمؤلفه روبنال – والذى يحدد فيه علاقة الإنسان بالعالم وبالله، ويحلل فكرة التقدم فى الحياة الإنسانية، والوجود بصفة عامة، مقارنا حدس روبنال الجديد مع نظرية برجسون – فلسفة الديمومة – (الاتصال).
يدلل بشلار على أن حقيقة الزمن تكمن فى اللحظة، وأنه واقع بين عدمين (الماضى والمستقبل) وهو بذلك – أى الزمن – لا يستطيع أن ينقل كينونته من لحظة إلى أخرى لكى يكون من ذلك ديمومة، وهذه الصفة الإنقطاعية (الانفصال) يؤكدها العلم الحديث، كما يؤكدها الإيقاع الموسيقى أو الخلق الأدبى..، وفى إيجاز فإنه بين الإحساس بالحياة والإحساس بالحاضر تطابق مطلق.
كما أشار د. رفعت باختصار شديد إلى مفهوم الزمن فى الفكر العربى الإسلامى عارضا لوجهتى النظر المتعارضتين حول مشكلة الانفصال، (المفهوم الذرى المنفصل) والاتصال ( استمرار الزمن واتصاله وتنوعه) وكذلك أشار إلى الزمن الوجودى كما قدمه عبد الرحمن بدوى ، حيث تصبح آنات الزمان الثلاث (سيكون/كائن/ قد كان) ذوات معان وجودية خالصة، فالماضى والحاضر والمستقبل يلتقون فى الآن فى حركة واحدة ذات طبيعة طافرة متجهة بالفعل المخاطر نحو المستقبل.
إلا أن هذا الإيجاز الشديد فيه ظلم شديد لما قدمه د.رفعت فى الندوة، وما اقتطفه من حكمة المجانين للرخاوي، وما أشار إليه فى علاقة الزمان بالمكان، وأهم من كل هذا ما عاشه فأعاشه لنا من تعميق لحظتنا الحاضرة حتى بلغتنا مقولتا باشلار وروبنال وكأنهما تجارب حققت فى معمل، وليست رأيا نوقش فى ظاهر عقل أصحابه.
كذلك قام د. أسامة عرفة بتقديم إيجاز مكتوب لأهم ما بلغه من معايشته للعمل تحت عنوان متواضع دال أسماه قطوف، فبدأ بإعلان ملاحظاته المبدئية على الوجه التالى:
منهج الكتاب:
توقفت عند طرح فاستون بشلار لموضوعه، فلاحظت أنه ليس تلخيصا لعمل روبنال أو تقديما له كما زعم، كما أنى شعرت أنها ليست فلسفة خاصة يقوم بتنظيرها المؤلف، وإنما ما وصلنى هو أن هذا العمل هو أساسا معايشة ذاتية لأطروحة روبنال كما امتزج بها بشلار، فنراه يقول:
” ليس هدفنا أن نلخص كتاب روبنال، فـ “سيلوي” (Siloe)كتاب ثرى بالأفكار والأحداث، بل إن واجبنا هو أن ننميه لا أن نلخصه… لهذا اقتربنا أكثر مايمكن من مصدر الحقائق الحدسية التى فى سيلوى ، وحاولنا أن نتتبع فى ذاتنا الحركة التى تحدثها الحقائق فى التأمل النفسي” لقد شد انتباهى هذا النوع من التناول الذى أستطيع أن أطلق عليه وصف” إبداع على إبداع”.
2- بدت لى كثافة العبارة وحضورها شديدة الوضوح والدلالة، سواء عبارة بشلار أم روبنال، حتى اعتبرت ذلك بمثابة تحقيق فعلى لفكرة الكتاب وهدفه بصفة عامة.
3 – ذكرنى الكتاب بما نركز عليه فى العلاج النفسى الجمعى من حيث:
(أ) الالتزام ـ”هنا والآن” بشكل مركز تماما، أليس بشلار هو الذى يقول:
“إننا لا نشعر إلا بالحاضر والحاضر فقط (ص 15)’ ويقول:
” إن الفكرة التى نحملها عن الحاضر لها من القوة والبداهة والايجابية ما يجعلها فريدة، فنحن نسكن فى الحاضر بكامل شخصيتنا، وفى هذه الحالة فقط نشعر بأننا موجودون فى الحاضر وبواسطته، إن بين الإحساس بالحاضر والإحساس بالحياة تطابق مطلق، ومن هنا وجب علينا من وجهة نظر الحياة نفسها أن نحاول فهم الماضى بالحاضر من غير أن نسعى دائما إلى تفسير الحاضر بالماضى ‘ ( ص 25).
(ب) إن الفرد مشروع دائم التكوين لم يصل لتمام شكله بعد”:
فأذكر تعبير أستاذ لى (أ.د. الرخاوى) فى مناقشة بعد جلسة علاج جمعى حول مقولته لأحد المرضى: أنت لست فلانا، أنت مشروع فلان، وأن هناك حركة دائمة متجددة متغيرة فى سبيلها إلى صياغة هذا المشروع، تذكرت ذلك أيضا وأنا أقارنه بما ورد فى هذا العمل، وهو يقول مثلا ( ص 70):
” والحال أنه لا يبدو لنا أن الفرد محدد بوضوح كما تذهب إليه الفلسفة التقليدية، فلا يجب أن نتحدث عن وحدة وهوية الأنا خارج التركيب الذى تحققه اللحظة”.
(ج) علاقة الانتباه إلى اللحظة الحاضرة بالفعل / القرارالذى يمكن أن ينبثق خلال اللحظة الخلاقة الدامغة، ونقتطف استدلالا على ذلك بعض أقوال بشلار مما نعيشه تماما فى العلاج الجمعى الذى نمارسه:
” علينا بهذه المناسبة أن نسجل أهمية فعل الانتباه فى تجربة اللحظة. إذ أنه لا بداهة حقيقية إلا فى الارادة وفى الشعور الذى يمتد إلى أن يصل إلى إقرار فعل” (ص26).
”فبواسطة الديمومة قد نستطيع قياس الانتظار لا الانتباه نفسه الذى يأخذ كل قيمته من الجدة فى كل لحظة واحدة” ( ص 38).
”إن الشجاعة الذهنية هى أن نحافظ على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن نعمل منها منبعا لحدسنا متدفقا دوما” (ص 14).
” إن الفعل هو قبل كل شيء قرار آنى ، وأن هذا القرار يحمل كل خصائص الطرافة” (ص 26).
“سوف ندرك أن اللحظة هى الصفة المميزة للزمن عندما ننتقل إلى منطقة البداهة السيكولوجية حيث يكون الحس مجرد انعكاس واستجابة معقدة دائما للفعل الإرادى البسيط،…..ولا شيء يدوم سوى الكسل، أما الفعل فآنى ، فكيف يمكننا بالمقابل أن نقول إن الآنى هو الفعل ؟فخذ فكرة هزيلة واحصرها فى لحظة تجدها تنير الفكر، فكيف لا نرى إذن أن طبيعة الفعل هى أن يكون نتيجة حدث لغوى فريد حاضر ؟”.
4 التأكيد على علاقة اللفظ بالمعنى ، وضرورة تحمل الغموض مما يعتبرمن أصعب مهام العلاج الجمعى فعلا، يقول بشلار فى أحد المواقف:
“…….إننا نستعمل الكلمات فى معناها الغامض دون أن نتقيد بمعناها الاصطلاحى ‘ (ص 26).
ثم يضيف د. أسامة:
ولقد توقفت عند بعض المعانى مندهشا منبهرا محتارا مفكرا مستفسرا مفسرا، مثل:
“.. إن المعرفة تقوم على خطأ مبدئى يتمثل فى أن لوجودنا أصلا فى عدم الحصول على شرف الوجود خارج الزمن” (ص 13).
“….الزمن هو واقع محصور فى اللحظة بين عدمين”.
“..يمكن بدون شك للزمن أن يحيا من جديد إلا أن عليه أن يموت قبل ذلك. ‘ (ص 19).
ثم تساءل د. أسامة:
(1) هل هناك زمن أصلا، أم أن الزمن مجرد تصورات ذهنية ؟
(2) لو تخيلنا أن السكون شمل جميع أشياء الكون، هل يصبح هناك زمن ؟ (فالزمن إذن مرتبط بالحركة حتما).وقد وصل د. أسامة إلى خلاصة تقول:
إنه مع حدوث الحركة الأولى فى الحياة بدأت إمكانية الحديث عن شيء اسمه الزمن، ولكننا إذا بدأنا نتحدث عن زمن ما بعد الحركة الأولى ، فنحن نفترض ضمنا أن ثمة زمنا كان هناك فيما قبل الحركة الأولى.
فهل حدوث الحركة ( فرضا: الأولى ) هو الذى أوجد الزمن ؟
أم أنه هو الذى كشف عن الزمن ؟
إذن فنحن نشير بذلك إلى منطقتين أولى بالبحث والنظر وهما:
علاقة الزمن بالحركة،
وعلاقة الزمن بالبداية.
أما المقدم الثالث: محمد يحيى الرخاوي، فقد غاص فى تركيز مكثف إلى جوهر المسألة مباشرة، وكأنه يركز اللحظة فى فتوتها وطرافتها لتستوعب كل ما يريد أن يقوله حتى لو لم يقله، فكتب لنا فى إيجاز شديد:
إن مشكل الزمن لا ينفصل عن مشكل الوجود، حيث لا يمكن إدراك” وجود خارج الزمن” إلا ما هو موجود بالقوة، الذى هو بالضرورة افتراض فلسفى ، وبالتالى فإن البحث فى الزمن هو بحث فى الوجود، وهذا ما تشير إليه الفيزياء الحديثة، حيث “المادة هى اجتماع الحوادث” ، وقد كنا من قبل نقيس، وعلى كل مستويات القياس، الزمن بتتالى حوادث المادة، وكأنها المستغل للزمان والمكان، فأصبحت المادة لا تنفصل عن الحركة بهما، والحدوث بهما، فلم تعد قاصرة على الوجود فيهما، ومواكبة لمثل هذه المقولة الفيزيائية، فإن التغير فى النظرة إلى الزمن يصحبه تغير للنظر فى الوجود، وها نحن نكاد ندركه على المستوى الفلسفى.
أما ما يأتى به باشلار، قائلا على قول روبنال، فقد حاول محمد الرخاوى تذكرتنا بالمثال المبسط فقال: “إن كوبا أمامى الآن على منضدة، ليس موجودا دائما بالضرورة من الساعة كذا إلى الساعة كذا، لكنه يوجد فى كل لحظة من جديد” فإن ذلك قد يعنى أن ما هو كوب الآن، وبصفته اجتماعا لحوادث فى لحظة، والاجتماع فى حد ذاته هو حدث بالضرورة، لابد وأن يكون متجددا، أما ما يفصل بين الحدث والحدث على خط الزمن، وهو ما أشار إليه باشلار بصفته عدما، فقد قدم محمد تحفظه تجاهه مع إعلانه بأمانة جادة مجتهدة أنه لم يجد بديلا حاسما لهذه المقولة.
إننا لا بد أن نقر ابتداء أنه مع مثل هذا التغير فى تعاملنا مع الوجود/ الزمن، فإنه لابد من حدوث تغير فى عاداتنا العقلية التى مازالت تحتفظ بشكل الخط فى تصورها للزمن، مما يستتبع معها أن يفصل فى اتصال أو انفصال هذا الخط، ولكنه – سواء فصل أم اتصل – فإنه يظل قاصرا على مفهوم الخط، مما يبدو أنه بأكمله تصور قاصر عن استيعاب الوجود.
وأعتقد – إذن – أن مثل هذه الإسهامات فى الأطروحات الفلسفية ربما ستعيد تشكيل العقل البشرى جذريا، إذا ما نجحت فى جعل معايشة الزمن هى فى مواكبة حركة العقل البشرى (والوجود البشرى) لحركة الطبيعة، فى صيرورة دوما، بدلا من تتبع العقل لطبيعة منفصلة، متصورة خطيتها، ثابتة وكسولة.
وبالرغم من كل ذلك، فإنى لا بد أن أعلن تحفظى على نبرة” حسم القضية” الغالبة على أسلوب باشلار، والتى عممها على كثير من الظواهر النفسية بنفس الصيغة، دون التفرقة بين طبيعة الظاهرة محل البحث -حيوية- حيث أعتقد أن هذه النبرة قد حرمت باشلار الكثير من الاقتراب من نقاء إصابة الهدف فى عمله ككل.
ملاحظات عن الحوار التالى للتقديم:
كنا نتمنى أن نقدم بعض الحوار الذى عقب التقديم لو أن مشروع نشر هذا الموضوع ظل فى صورته الأولى باعتباره تسجيلا موجزا لإحدى ندوات الجمعية، لكن الأمر خرج عن ذلك لأسباب تتعلق بطبيعةالموضوع بما يحتاجه من شرح وحواش بعد الندوة وحولها، وأسباب تتعلق بعدم التسجيل الصوتى لكل ما دار.
فنكتفى بذكر بعض الملاحظات التى دارت فيما يلي:
1- تفضل الدكتور رائع رفعت (صاحب الفضل فى تعريفنا بهذا الفيلسوف وهذا العمل) بالإشارة إلى أعمال باشلار (وروبنال ) فيما يتعلق بنفس القضية، وكالعادة كانت عضلة عقله أقوى من” حضور” حدس أغلب الموجودين، فله الشكر أبدا، لعلنا نلتقى يوما.
2- لفت م. إبراهيم عادل النظر إلى صعوبة تطبيق قوانين الفيزياء الحديثة على سائر المجالات وخاصة ما يتعلق بالإنسانيات، ورد محمد الرخاوى بأن التعميم لا يشمل المفردات وإنما يقتصر على الصيغة العامة التى تجعل العلم يثرى بعضه بعضا دون اختزال قياسى مخل.
3- أقرت الدكتورة إنتصار جمال زكى هذه الصعوبة، مستشهدة بالقياس بالذرة التى يمكنها فى حيزها الضيق- دون وعي- أن توجد وتنتهى لتوجد وهكذا، فى حين أنه على مستوى الوعى البشرى فى إدراكه للزمن فإنه يبدو ذلك مستحيلا.
ولم تحسم القضية.
التعقيب: يحيى الرخاوى
بدأ بشلار مجتهدا يحاول التوفيق بين برجسون وروبنال، فبداية من برجسون لم يستطع بشلار أن يواصل تقبله للديمومة كحقيقة أساسية وموضوعية ومطلقة، وقد استند إلى أينشتاين للاعتراف بمطلق ما هو موجود (مطلق اللحظة دون مطلق ما يدوم)، كما أن ما اعتبره أينشتاين نسبيا هو” فترة الزمن” أو طول الزمن بالنظر إلى طريقة قياسه، ثم أثيرت قضية الزمن – فى ذاته – بالنسبة لإدراكنا له.
مفارقة برجسون وروبنال (1):
أولا:عند برجسون:
(1) يرى برجسون أننا نمتلك تجربة باطنية ومباشرة للديمومة، بل هذه الديمومة هى معطى مباشر للشعور. ومن دون شك قد تصاغ فيما بعد، وتوضح، وتحرف، فيتخذ منها الفيزيائيون – بحكم تجريداتهم – زمنا مسترسلا خاليا من الحياة لا نهاية ولا انفصال له، وهكذا يسلمون للرياضيين زمنا مجردا من الانسانية تماما
(2) اللحظة فى نظر برجسون” ليست إلا قطيعة مصطنعة تساعد التفكير المبسط للهندسى = ليست إلا تقطيعا خاطئا للزمن.
(3) الحاضر – إذن- ليس إلا عدما خالصا.
(4) (من 2، 3 ) يمثل بشلار الحاضر- عند برجسون – بخط مستقيم أسود فيه نقط بيضاء تجسم اللحظة باعتبارها عدما وفراغا وهميا.
(5) العمل هو دوما تتابع مستمر يضع بين القرار والهدف ديمومة طريفة وحقيقية دائما (إن فلسفة برجسون هى فلسفة العمل بهذا المعنى ).
ثانيا: عند روبنال:
أشار بشلار إلى تسلسل حواره لمقولات برجسون على الوجه التالى:
(1) (إذا) انتصرنا فبرهنا على عدم وجود اللحظة فكيف نستطيع الحديث عن بداية الفعل ؟
(2) إذا انتقلنا إلى مجال التحولات المفاجئة حيث يبرز الفعل الخلاق فجأة، كيف لا نفهم أن عهدا جديدا يبدأ دائما بمطلق ؟
(3) إن بوسعنا بناء الديمومة بواسطة لحظات لا ديمومة لها ( لكنها -اللحظات -هى الأصل حتما).
(4) نحن نسكن فى الحاضر بكامل شخصيتنا.
(5) إن بين الإحساس بالحاضر والإحساس بالحياة تطابق مطلق.
(6) يجب أن نحاول أن نفهم الماضى بالحاضر لا أن نسعى إلى تفسير الحاضر بالماضى.
(7) لا بداهة حقيقية إلا فى الإرادة وفى الشعور الذى يمتد إلى أن يصل إلى إقرار فعل، والفعل هو – قبل كل شيء – قرار آنى يحمل كل خصائص الطرافة ; إن فلسفة روبنال هى فلسفة الفعل ( والفعل هو الآني).
(8) إن فهم الحياة لا يأتى من تأمل سلبى ، فهى لا تنساب على طول منحدر فى محور زمن موضوعى يتلقاها مثل قنال، إن فهم الحياة يقتضى أن ندفعها وهو أكثر من أن نحياها.
محاولة فاشلة للتوفيق:
حاول بشلار- فى بداية الأمر كما ذكرنا – التوفيق بين برجسون وروبنال فجعل اللحظة بعدا – باعتبارها الذرة الزمنية – وجعل داخلها ديمومة، باعتبار أنه يحق للكائن أن تمثل له الديمومة ثروة عميقة ومباشرة، وبتعبير آخر أنه ليس الكائن هو الجديد فى زمن متشابه وإنما اللحظة هى التى بتجددها تنقل الكائن إلى الحرية. وكأن بشلار قد وصل بذلك إلى نوع من البرجسونية المجزأة إلى دفعة حيوية تنكسر فى شكل اندفاعات، وفى شكل تعددية زمنية تقبل ديمومات مختلفة، وأزمنة فردية، إذ تتضمن وسائل تحليلية مرنة وثرية.
وهو يعترف أنه بذلك قد حاول وضع الديمومة فى نطاق الزمن نفسه باعتبار أن الديمومة هى الصفة الوحيدة للزمن، ثم رجع بشلار عن ذلك حين عايش فكرة قياس الزمن (الكم الزمني) ونسبية الزمن (أينشتاين) فاهتزت مبالغة برجسون الذى تصور أنه برؤيته تلك “يلتحق بمجال القياس، فى الوقت الذى يحافظ فيه على بداهة الحدس الباطني”.
وهكذا تراجع بشلار بعد أن أقر ولاحظ :
1- أنه لا ضمان لالتقاء ديموماتنا الفردية المعاشة فى باطن شعورنا (أو كما فهمتها أنا: لا ضمان لالتقاء الزمن الفردى بالزمن الموضوعى المفترض).
2-أن اللحظة المحددة جيدا تبقى فى مذهب أينشتاين: مطلقا، حيث يكفى أن نعتبر اللحظة فى حالتها التركيبية نقطة من المجال” فضاء – زمان” (الوجود تركيبيا يعتمد على المكان والزمان).
أى أننا بمجرد أن نوحد بين ظرفى الزمان والمكان، فإن الوجود يكتسب صفة المطلق.
وقد خرج بشلار من ذلك:
- بأن الديمومة لا تجتمع إلا بصورة مصطنعة، وأن وحدتها لا تتأتى إلا من عمومية وضعف تحليلنا.
- أنه يصعب – بل يستحيل – تصور تاريخ بدون حوادث، أو نتيجة بلا أحداث.
وبالتالى فافتراض الديمومة كأصل متصل ومستقر و دائم الجريان – نتيجة للدفعة الحيوية المرتبة بالصيرورة الحتمية هو أمر غير ممكن أصلا لأنه يبدو أنه استغنى عن الأحداث من بداية الأمر.
- إن التجربة المباشرة للزمن ليست هى التجربة السريعة جدا والصعبة جدا والمركبة جدا للديمومة، والعكس صحيح: فكل ما هو بسيط، وكل ما هو قوى فينا، وحتى كل ما هو دائم، هو هبة اللحظة.
- إن ذكرى الديمومة هى من الذكريات الأقل دواما، فنحن نتذكر أننا كنا، ولا نتذكر أننا دمنا.
إذن ماذا ؟؟
انتهى بشلار إلى الاعتقاد أنه:
إذن فاللحظة هى الأصل وهى الكل وهى الزمن.
لكن أى لحظة وكيف ؟.
نجمع ما وصلنا – منه-على الوجه التالى:
1- هى اللحظة المنيرة بالانتباه ( خذ فكرة هزيلة، واحصرها فى لحظة تجدها تنير الفكر ).
2- هى اللحظة الفعل (الآنى هو الفعل، ولا شيء يدوم سوى الكسل ).
3- هى اللحظة المرهفة.
4- هى اللحظة البدء ( حيث يتحول الانتباه إلى قرار- حيث تتلاقى بداهة الحوادث وفرحة الفعل ) (حتى خلايا الوراثة لا تحمل معها شيئا آخر غير بداية لإنجاز خلوى ).
5- هى اللحظة الطرافة ( الجدة آنية دائما) (إن أهم القوى هى السذاجة).
6- هى اللحظة الخلاقة.
7- هى اللحظة الشجاعة.
ويجدر بنا هنا أن نذكر أيضا كيف واجه بشلار، (وروبنال بداهة ) إشكالة قياس الزمن واستعمال الألفاظ الدالة على ذلك.
فقد حل بشلار هذا الإشكال، أو حاول حله فى التذكرة بتزامن:الزمان/ المكان/ الشعور، بحيث تبدو لنا كلمة “كلما” باعتبارها المرادف الدقيق لكلمة “دائما”.
فأزيد الأمر شرحا كما فهمته بقولي:
وكأن الاتصال ( فالديمومة ) يأتى من إمكانية العودة إلى ( فالشعور بـ ) مكان اللحظة – أى لحظة تبدو أنها مضت فى اللحظة الحاضرة – كلما أردنا (وهذا هو الماضى ) كذلك هو يأتى من إمكانية افتراض قدرة الذهاب إلى “مكان” أى لحظة قادمة بحدسها البدئى (المستقبل).
وهكذا فلا وجود للماضى والمستقبل أصلا لأننا متى عشناهما – هكذا- فقد أصبحا حاضرا حتما، أما قبل ذلك وبعد ذلك فلا معنى للحديث عنهما أصلا.
وأرجع إلى روبنال لنسمعه يؤكد: أن الحاضر لا يمر لأننا لا ننتقل من لحظة إلى لحظة إلا لنجد أخرى.
ومع التأكيد على أن الذى يحل مشكلة الديمومة هو اعتبار الزمان مكانا حتما، نقول إن المكان هو دائما حاضر، وإن كان ليس دائما فى المتناول حالا، وهذا هو ما يوحى بتعبيرات مثل الماضى والمستقبل، وهى تعبيرات وهمية إذن لمجرد التسهيل اللغوى.
ولنا أن نضيف هنا أن هذا المكان (الزمان) هو ليس صفحة خيالية تجريدية، لكنه موقع تسجيل الأحداث، أوعلى حد تعبير أطروحة روبنال” هو تجمع لذكريات مثبتة بالمادة ورباطها نفسه ليس إلا عادة “ونحن لا نتفق معه تماما فى ذلك كما سيأتى ولكننا نقترب بذلك أكثر فأكثر من حل إشكالة الديمومة.
ولحل إشكالة قياس الزمن قد يكون مناسبا أن نتذكر بعد السرعة الذى قال به بياجيه فى تعريفه للزمن حيث ربطناه بتعريفنا السابق للزمن من منظور عصبى بيولوجي، لأنه يتضمن درجة سهولة (أو صعوبة) التواصل والترابط بين منطبعات حدثين أو أكثر.
وقبل أن نعلن محاولة الخروج من هذه المفارقة بقراءة جديدة، فإننا نذكر القارئ أننا لم نتناول بالفحص كثيرا من مقولات روبنال ( بشلار ) التى لا نوافق عليها مثل إنكاره الزمن الموضوعى كلية وأصلا، أوما يفهم من حماسه لدرجة تعميمه لهذه اللحظات (بالصفات السابقة!) طول الوقت لكل الناس، وغير ذلك.
فنحن الآن أمام أربعة قضايا مبدئية:
(1) هل الزمن موجود أصلا: وجودا موضوعيا قائما بذاته ؟
(2) هل إدراكنا لما هو زمن ( على فرض أنه قائم بذاته دون إدراكنا له) يغير من طبيعته، أم أن إدراكنا له هو بعد آخر غير ما هو فى ذاته ؟
(3) هل قياس الزمن -بعد ذلك، (أو: مع ذلك ) – هو أمر ثالث مستقل ؟ أو متداخل ؟
(4) هل لنا فى الأمر شيء من حيث إنشاء الزمن إنشاء، على أى مستوى من المستويات السابقة ؟ أم أننا نقف سلبيين حالة كوننا فى تلق لما هو زمن دون تدخل فاعل من جانبنا ؟ وبتعبير آخر: هل نحن نبدع الزمن أم نرصده، ثم نتلقاه؟
وأهمية تناول هذه القضايا بهذا الترتيب هو أنه يحتمل أن نجد فى الإجابة عليها ما يفسر، أو يحل، المفارقة بين أطروحة برجسون وأطروحة روبنال ( وبالتالى بشلار ) ، كذلك فإن آفاق التطبيق خاصة فى ممارسة تخصصنا (الطب النفسي) هى آفاق غير محدودة.
وسأبدأ بالإشارة إلى أبعاد شديدة الأهمية والأولوية، افتقدتها فى تناول الزمن فى هذا العمل لبشلار، وذلك من واقع ما عشته مع ما هو زمن فى حياتى ، وخاصة من خلال ممارسة خبراتية من واقع مرضاى (فى ذاتي) وتلك الأبعاد هي:
1- البعد البيولوجى: ويشمل علاقة الزمن بالتركيب الحيوى الكلى للكائن الحى ، وفى الإنسان بالنسبة للمخ البشرى بوجه خاص، دون إغفال التركيب الكلى للجسد، وأيضا دون السجن فى محدودية المخ أو الجسد حيث لا يمثلان إلا الكيان الفردى الموازى للتنظيمات الكونية المقابلة له والمتكاملة معه.
2- البعد التعددى فى التركيب البشرى: أى هل نحن نعيش ( نسجل / نخلق/ ندرك الخ.. زمنا واحدا، أم عدة أزمنة فى آن ؟ بحسب موقع المستوى المنظم، وإيقاع واتجاه التتابع ؟.
ويرتبط بهذا السؤال ما يمكن أن يكون صيغة أخرى له بهذا الشكل: هل للزمن مستوى واحد أم عدة مستويات فى آن ؟.
3- البعد الطولى فى الإيقاع الحيوى ; بمعني: هل نحن نعيش نفس العلاقة بما هو زمن (أيا كانت ماهيته) فى مختلف أطوار نشاطنا الحيوى ، أى هل نحن نعيش نفس الإيقاع فى طور البسط unfolding مثلا كما نعيشه هو هو فى طور التحصيل acquisition والتسجيل ؟ ألا يكون اختلاف نوع وجودنا طولا “على مسار وضبط الإيقاع الحيوى” مصاحبا بتغير فى ما هو زمن (موضوعيا).؟
ولا يبدو أن حدود هذا التعقيب سيسمح بالتعرض لكل تلك القضايا المثارة، فأكتفى بطرح الخطوط العريضة لإجابات محتملة على الوجه التالى.
1- الزمن بعد من أبعاد الوجود، له حضوره وذاتيته وتأثيره، سواء كانت هناك حياة بمعنى البيولوجى أصلا أو لم تكن.
2 – مع وجود العالم الحيوى أصبح الزمن عنصرا هاما فى إيقاع ما هو حياة، فأصبحت المادة الحية بمواصفاتها الكلية هى متداخلة مع الزمن لدرجة أنها تبدو أحيانا باعتبارها نتاجا له، وفى نفس الوقت هى راصدة له، بغض النظر عن مدى إدراكنا لذلك.
3 – مع ارتقاء المادة الحية إلى ما هو إنسان أصبح إمكان الوعى بهذا التداخل والتأثير والتتبع والمسار ممكنا. على أن إدراك الزمن هذا ليس عملية سلبية تماما، ولكنها عملية نشطة تركيبيا وديناميا (أنظر بعد).
4- حدثت مبالغة فى هذا الإدراك (اللاحق) لما هو زمن، فكاد يحل إدراك الزمن (الوعى به)، أو رصده، أو قياسه، محل الزمن الموضوعى تماما، كما أعطيت أهمية خاصة لعملية التتابع وارتباط الزمن بتسلسل الأحداث.
5-ارتبط قياس الزمن بإدراكه من ناحية، وباستعمال مقاييس مساعدة تحدد بعده طوليا – أساسا – من ناحية أخرى ، وبألفاظ دالة عليه من ناحية ثالثة (ظرف زمان !!).
6- لم يقتصر دور الإنسان على التفاعل مع بعد الزمن، تسجيلا وإدراكا وقياسا فحسب، وإنما استطاع أن يخترق ذلك كله:
(ا) فيعيد تنظيمه من ناحية ;
(ب) ويخلق منه وجودا مرتبطا بوعى إرادى مرن، من ناحية أخرى (وهذا يشمل ما نشير إليه بقولنا: إبداع الزمن ).
7- يختلف تسجيل الأحداث فى واقعنا البيولوجى باختلاف مستوى إدراكها، ومع قبول حقيقة تعدد المستويات الكيانية للتركيب البشرى ( والمخى على وجه الخصوص) فإننا نفترض تسجيل نفس الحدث على أكثر من مستوى وبالتالى وجود أكثر من زمن واحد بحسب نشاط أى مستوي. الأمر الذى يتعلق بسرعة الانتقال بين الأحداث بشكل أو بآخر.
8- يختلف إدراكنا لما هوزمن باختلاف طورالتنشيط البسط unfolding فى مقابل طور التحصيل (الاكتساب or filling acquisition ) وهذا أيضا مرتبط بالسرعة.
وأستسمح القارئ فى استطراد محدود إلى تحديد سبق أن قدمته لما هو زمن، ذلك لأنه قد وجب التراجع عن بعضه، فقد جاء فى عمل سابق لى (دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979) هذا التعريف:
” الزمن هو علاقة تتابعية ترابطية بين حادثتين”
ثم فصلت بين ما هو زمن، وما هو إدراك له، ولعلى أردت بذلك حينذاك أن أبين:
أولا: أن الزمن قائم كبعد مستقل بعيدا عن الوجود البشرى ، وبدونه.
ثانيا: أن الزمن يطبع على الكيان البيولوجى للإنسان فى شكل أحداث بينها علاقة محتملة.
ثالثا: أن هذه العلاقة ترابطية تتابعية ( وقد تراجعت بعد ذلك عن صفة التتابعية وخاصة أنى استعملت لها ترجمة consequential بدلا من consecutive مما يشير إلى احتمال قيام ترابط أعمق من مجرد التتابع ).
رابعا: أن الزمن يدرك – أو لا يدرك – من خلال الوعى بنوع هذه العلاقة التى تربط بين الأحداث المسجلة (المنطبعة) على الكيان البيولوجى.
المهم أن نقطة البداية فى محاولتى استيعاب ما هو زمن هى: أنه ثمة أكثر من حدث، منطبع على الكيان البيولوجى ، ومحتمل الارتباط بما هو تتابع أو سببية، مع احتمال لاحق: هو الوعى بهذا الوجود البيولوجى ذى العلاقات المتعددة الاتجاهات والسرعة.
وقد أفادتنى هذه البداية منذ ذلك الحين فى:
1- التعامل مع الزمن باعتباره مكانا ومسرحا فى عالم البيولوجى المتاح. (فحلَّ لى ذلك علاقة الزمن بالمكان حلا جذريا) مما ظهر فى نظريتى فى السيكوباثولوجى.
2- فهم إمكانية التجوال الحر فى ما هو زمن فى عملية الإبداع متى ما امتلك المبدع ناصية إرادة تكوين العلاقات دون الاكتفاء برصدها كما هي، أو كما يغلب أن تكون.
الأطروحة البديلة:
مما قدمنا ابتداء، ثم بما أوضحنا من وجهات نظر برجسون على ناحية، وروبنال وبشلار على ناحية أخرى ، نستطيع أن نطرح تصورا لعله يمثل إعادة قراءة لهذه المعطيات فى تكامل محتمل:
1- إن الزمن الموضوعى – منفصلا عن المكان – لا وجود له.
2- إن الزمن المكانى ، بمعنى المجال الحيوى لتسجيل الأحداث، بما تحمل من علاقات محتملة ومتعددة هو الكيان الحيوى ككل، وإمكانيات المخ (بمقابلاته وامتداداته) للطبع والترابط بوجه خاص.
3- تصبح ديمومة برجسون هى التعبير المباشر عن تقرير هذا الوجود الحيوى الجاهز والممكن من حيث الإشارة إلى أحداث مرصودة ومنطبعة ( بالتطور، والوراثة والخبرة جميعا) ، وإلى قوة دافعة نحو صيرورة مفتوحة النهاية.
4- تصبح اللحظة بعد ذلك (الآن) بالنسبة لبرجسون، هى ثانوية بل مفتعلة، لأن هذا الوجود، وهذه العلاقات وهذا الدفع قائم حتما سواء أدركناه أم سرى تلقائيا بعيدا عن وعينا الذاتى.
5- تصبح لحظات روبنال (بشلار) بكل المواصفات الخاصة السابقة، هى إعلان عن الوعى الحاد والنشط بحركية الأحداث المنطبعة من ناحية، وفى نفس الوقت تصبح هى الإعلان عن فعل الإرادة بالنسبة للأحداث الخارجية أساسا، ثم عن الحرية التى هى نتاج الوعى والإرادة فى إعادة تخليق الأحداث فى تضفر بين الداخل والخارج، بين الوعى والإرادة.
6- ولما كانت مثل هذه اللحظات هى من الندرة والصعوبة بحيث يستحيل اعتبارها القاعدة للجميع طول الوقت، فإن علينا أن نضعها فى موقعها الطولى بالنسبة للإيقاع الحيوى ، فهى تظهر – هكذا – فى أوقات الإبداع، والوعى فى أزمة النمو الذاتى، وبعض خبرات القمة peak experience (بما يشمل التصوف بداهة) (وكذلك بعض بدايات الجنون). وهذا الموقع مرتبط بطور البسط unfolding دون طور الاكتساب فيما هو إيقاع حيوى
7- وعلى ذلك يصبح الزمن- أساسا- قائما ومتصلا حتى لو لم نعش لحظاته بكل هذه الدرجة من الانتباه والإبداع والنشاط والعمق.
وكأن هذه اللحظات الروبنالية هى قفزات الإبداع الخلاقة التى تظهر مع نوبات البسط من أرضية جريان المجرى النابع من محصلات الخبرات المنطبعة على كل المستويات.
8 – فإذا تذكرنا بعد ذلك أن تسجيل نفس الحدث (وراثيا ومكتسبا) يتم على مستويات متعددة وبالتالى بنوعيات مختلفة، لأمكننا تصور إمكانيات غير محدودة للتوافيق والتباديل الجائزة لمعايشة بعد الزمن الخلاق كما ظهر فى حدس لحظات روبنال.
9- يترتب على ذلك أن إدراكنا للزمن يتوقف على: أى مستوي- أو مستويات- هو الذى وصلنا أثناء الوعى بعلاقة هذه الأحداث المنطبعة.
- بأى سرعة جرت العلاقة (الرحلة) بين الأحداث، حالة كوننا ندرك زمنها ( علاقاتها الجارية، والمنشأة).
- أى نوع من العلاقات الترابطية والتتابعية ( وفى أى اتجاه ) تم هذا الترابط، ثم تم إدراكه.
ثم يأتى قياسنا للزمن بعد ذلك مرتبط بإدراكنا له من ناحية، وباستعمالنا وحدات عامة – غير ملزمة موضوعيا – من ناحية أخرى.
تطبيقات:
إذا كان هذا المفهوم البيولوجى للزمن وقد مثله فى مفهوم مكانى علاقاتى متاح يوحى بأنه قد فض الاشتباك بين برجسون وروبنال وبشلار، فإننا لابد أن نعلن أننا فى ممارسة تخصصنا فى مواجهة ما يسمى بالمرض النفسى والعقلى قد واجهنا رؤى العين ما نتفق به مع بشلار من حيث ضرورة التركيز على “الآن” لأنه هو الممكن الوحيد، وهو الحرية المتاحة، وهو الإبداع الواعد، ونتفق مع برجسون من حيث تلقائية التطور المستمرة، أوتلقائية التدهور كجزء لا يتجزأ من التطور – أى تلقائية الحركة بصفة عامة بما يؤكد سريان الديمومة المتصل، ليكون الوعى بها إمكانية دون حتم، ودون إلغاء اللحظة.
ونورد بعض الأمثلة المحدودة لتطبيقات محتملة فى مجال التركيب النفسى ، والتشخيص التركيبي، والعلاج المكثف Intensive therapy مما لا مجال لتفصيله فى هذه المرحلة من الطرح:
وكل الأمثلة والتطبيقات هنا مبنية على ما انتهينا إليه من فرض مقولات أهمها:
(1) أنه لا يوجد زمن يمضى ، وإنما يوجد حدث مسجل/منطبع، لنا القدرة على ارتياده فى علاقته بحدث آخر، فى اتجاه تتبعى عادة حسب أسبقية تسجيله، لكن لا الاتجاه ملزم أو دائم، ولا السرعة ثابتة.
(2) فالمكان هو الأصل، والعلاقة – سرعة واتجاها- هى الزمن، (بديهى أنى لا أقصد بالمكان تحديد موضع locality وإنما طبع تنظيمى متاح لا أكثر، كما أنى لا أقصر التسجيل على مفهوم الذاكرة بارتباطها - مثلا بالـ ج.ن.أ. DNA (حامض نووى دييوكس ريبوزي) فى خلايا المخ، وإنما يحدث التسجيل على مستويات بيولوجية فردية، بما يقابلها من مستويات كونية تشكيلية).
و لابد من اعتبار كل ما تقدم مجرد رؤوس مواضيع أثارتها الندوة بما يحتاج إلى عودة فمراجعة فتفصيل حتما، ولعل فى إيرادنا لبعض التطبيقات المحتملة لهذه الفروض البديلة من واقع الممارسة الإكلينيكية ما يخفف قليلا أو كثيرا من جرعة التكثيف والإختزال معا:
أولا: فى الحلم(1)
1- أننا فى الحلم نمضى من مكان إلى مكان بارتباطات عشوائية، أو غائية، أو رمزية لنحقق نوعا من الزمن:جديدا، ومتداخلا، وكثيفا، وكيفما اتفق.(2)
2- إن الوقت الذى يستغرقه الحلم ( المحكى) فعلا لا يزيد عن ثوان ( إن لم يقل عن الثانية ) ، لكننا قد نحكى عن أزمنة عشناها فى الحلم تقدر بالسنين، ولا يفسر هذا إلا بطء التوصيل (رحلة التربيط) من منطبع حدث إلى منطبع حدث آخر.
3- إننا فى الحلم لا نلتزم بالماضى والحاضر والمستقبل بمعناهم التقليدى ، بل إن هذه الألفاظ تكتسب مواقع وأبعاد جديدة بحسب نسبية العلاقات التى نؤلفها ونحن نرتاد مكان الأحداث.
ثانيا: فى الإبداع
1- إن حدس اللحظة كما وصفه بشلار هو قمة الخبرة الإنسانية حين يبدع الإنسان زمنه / وجوده، بإرادة حرة وتلقائية واعية.
2- إن هذه الحرية تلغى الالتزام المسبق بتسلسل معين للأحداث، وبالتالى تطلق سراح ما هو زمن ليصبح رهن إرادة المبدع الحرة فى إعادة تشكيل العلاقات (الرحلة / التجوال بين الأحداث).
3- إن لحظة الإنارة المتفردة التى تتآلف فيها الأحداث هى اللحظة القادرة ليس على تأكيد الوعى بالحياة وإرادتها فحسب، بل القادرة على إعادة تشكيل التركيب البشرى ، ومن ثم توجيه مسيرة الحياة.
ثالثا: فى البناء والتشخيص التركيبى وإدراك الزمن
1- ميز ياسبرز (السيكوباثولوجيا العامة) بين اضطراب إدراك الزمن، واضطراب خبرة الزمن، وهذا يتفق مع ما ذهبنا إليه من أن إدراك الزمن هو عملية لاحقة ومستقلة لما هو زمن معاش، ولما هو زمن حادث (بمعنى تسجيل أحداث لها علاقات محتملة ).
2- ميزت قبل ذلك بعض حالات توقف الزمن( دراسة فى علم السيكوباثولوجى ( الرخاوى 1979)، ولن أشير له بعد ذلك حيث هو المرجع المعنى أبدا) ، توقف الزمن رغم الحركة فى المحل حين أشرت إلى أنه: إذا كان الحدث مكررا بلا معنى ، أو إذا كان التفاعل نمطيا stereotyped، اختفت العلاقة التتابعية أصلا، وبالتالى أصبحت الأحداث منفصلة عن بعضها وكأننا نعيش بالزمن يمضى ( ص 75 ).
3- إن حيلة التأجيل إلى الغد ( الذى لا يأتى أبدا لأنه حين يأتى سيصبح هو “الآن” – آن الغد- الذى له غده الواعد والمبرر للتأجيل بدوره، وهكذا) نقول إن هذه الحيلة هى من أهم مظاهر الهرب من الآن، من الحياة.
4- إنه فى الفصام (المتفسخ كممثل نموذجي) يتشتت الزمن بحيث تختلط تسجيلاته على المستويات المختلفة، كما يصعب الترابط الدال على علاقة زمنية بين الأحداث، وقد ذكرت” أن الشعور بالزمن يموت عند الفصامى ، أو بتعبير أدق يبتعد فى غيابات اللاشعور” (ص176) ويشير ذلك إلى صعوبة الربط الغائى ، والمحورى ، بين الأحداث فى مواقعها نتيجة للتناثر الأقصى.
5- إن الاكتئاب يمثل صعوبة خاصة فى علاقته بالزمن: ففى الوقت الذى يبدو فيه الزمن بطيئا متثاقلا فإن ذلك لا يعنى هبوط النشاط الحيوى بل هو يعنى حدة الوعى بالترابط، أو بتعبير بشلار، تعميق حدس اللحظة لدرجة الانتباه الحاد. وما ذكرته سابقا فى السيكوباثولوجى (ص 176) كان يؤكد ذلك حين حددت أنه بالنسبة للمكتئب” يحتد إحساسه بالزمن كما احتد وعيه بنفسه” (وبديهى أن هذا يرتبط بنوع خاص من الاكتئاب وهو الاكتئاب النشط بيولوجيا ).
6- وعند الهوسى: ذكرت أن”..الزمان هنا لا يتوقف. وإنما تتصادم مكوناته بحيث تصبح تواجدا مطلقا فى آن واحد” ‘…وباختفاء إدراك الزمن (ماضيا ومستقبلا وتلاحقا) يصبح شعور الخلود أو العدم هو الأقرب إلى المعايشة المباشرة ( ص 234).
ولعل ذلك الشعور بالخلود الكاذب عند الهوسى هو أقرب ما يكون إلى كيفية استقبال بشلار لديمومة برجسون، فاختفاء اللحظة هنا،أو الاستغناء عنها نتيجة لفرط الدفق النشاطى واختفاء المسافات نتيجة لسرعة الحركة بينها، كل ذلك يقتل الزمن الحقيقى لحساب وهم الخلود اليقينى.
7- وعند السيكوباتى لا يتوقف الزمن ( كالفصامي) ولا يحتد الوعى به ( كما فى الاكتئاب) ولا تتصادم مكوناته إذ تختفى المسافات بينها (كما فى الهوس) ولكنه يلغيه تماما( ص 499-500) ، فهو يعيش الآن (اللحظة) ولكنه آن بلا لحظة لها حدس، آن هروبى ميت، وكأنه اغتراب فى آن غير جياش بالطرافة والجدة والإرادة والبدء والحرية والقرار، بل هو آن الجمود خوفا من الحركة فى أى اتجاه، والتخلى عن مسئولية القرار ومحاولة محو أى محاولة للربط الغائى أو البناء، فنحن بذلك ننتبه إلى أن ما يزعم بأنه الآن (اللحظة) عند السيكوباتى إنما يشير إلى نقيض ما هو حدس اللحظة.
رابعا: فى العلاج
لا يمكن أن نحيط بمدى التطبيقات العلاجية الممكنة نتيجة لتبنى هذاالمفهوم المطروح فى هذا التعقيب رغم شمولها وخطورتها، فنكتفى بتقرير الآتى:
1- ما دام الزمان أصبح مكانا علاقاتيا أساسا، فكل ماض هو قابل للتناول – الآن- لإعادة تشكيله (وهذا هو العلاج فى جوهره حتى لو استحال تحقيق ذلك بأكمله).
2- نؤكد مقولة بشلار من الناحية العلاجية حين نقول معه: نعم إنه علينا أن نفهم الماضى بالحاضر لا أن نفسر الحاضر بالماضى.
3- يصبح العلاج بكل صوره ( الفيزيائية والكيميائية والتأهيلية والنفسية الخ) متوقف على قدرتنا على كل من
- تنشيط الأحداث المنطبعة لتصبح فى المتناول.
- تسهيل الترابط فى كل اتجاه لاستعادة المرونة اللازمة لإعادة التشكيل.
- تناوب الوعى باللحظة حسب طور الإيقاع البيولوجى ، وبالتالى عدم المغالاة فى ضرورة الإعلاء من شأن لحظات روبنال طول الوقت.
4- يصبح العلاج الجمعى الغائر، لتركيزه التنشيطى فى هنا والآن، وسيلة كبرى لإعادة تنشيط الزمن، ومن ثم الإسهام فى إبداع اللحظة بما يغير التركيب البيولوجى لصالح التكامل، أو قل فى اتجاه التكامل.
وهذا يحتاج إلى دراسة مستقلة، ولكن نكتفى هنا بالإشارة إلى مقتطف من بشلار حين يقول: خذ فكرة هزيلة، واحصرها فى لحظة تجدها تنير الفكر، (فقد شاهدنا ذلك فى العلاج الجمعى ونحن نتناول تحية الصباح العابرة “صباح الخير” لنعيدها مركزة فى الهنا والآن مثلا).
وكذلك يشير بشلار إلى: إن فهم الحياة يقتضى أن ندفعها وهو أكثر من أن نحياها.
وهذا هو ما يحاوله العلاج الجمعى الذى نمارسه بجرعة محسوبة ( مرة أسبوعيا ) لنعيش ديمومة برجسون بقية الأسبوع ( إن صح التعبير).
وبعـد:
فإنى آمل ألا يؤخذ هذا التعقيب باعتبار أنه تسوية توفيقية، ذلك أنى أشعر أنى قدمته من واقع ولاف معاش فى خبرة إكلينيكية.
حاشية:
حين عشت إصرار بشلار( وروبنال) على التركيزعلى ما هو حدس بهذه الصورة تساءلت كم تستغرق هذه اللحظة من “وقت” بقياس الزمن العادي؟ وتذكرت إصرارى فى بحثى عن الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع على قيمة الجزء من الثانية ( تقديرا) التى قد يتم فيه الحلم الذى يحكى فى ساعة أو بضع ساعة والذى قد يبدو محتواه وقد استغرق شهورا أو سنوات أو دهورا، فسألت نفسى كيف يجرؤون، وأجرؤ، على الحديث بهذا اليقين عن هذا الجزء من الوقت بهذا التفصيل الواضح ؟ ثم تذكرت إشراقات الذاكرة فى خبرتى الشخصية، وملاحظاتى عن ذلك فى بعض أعمال المبدعين، ثم قفزت إلى قصيدة كتبتها حديثا مما لا ينشر، خيل إلى أننى كتبتها فى النصف الثانية القبل الغيبوبة، فأسميتها كذلك، وكنت قد قررت نشرها هنا مع هذا التعقيب، إلا أن فرمانا صدر من زملاء التحرير أن لا، فحذفت فى آخر بروفة.
فلما كان الزمان هو رحلة - إرادية/ واعية فى حالة الإبداع - رحلة بين مستويات أكثر منها رحلة بين أحداث، مستويات تزار وتعاود حيث هى (كما هى بمختلف التسميات)، فإن إبطاء إيقاع هذه الرحلة بوعى جسور، يسمح بمعايشة عمق الخبرة فى تفاصيلها المتشكلة، هو من أهم صفات الإبداع، وهو الذى يتيح للمبدع أن يغوص فيما يسمى جزء من الثانية فأقل، بالسرعة التى يريدها، فيخرج منها – إن خرج (!) – بالصحوة التى يبلغها.
[1] – كتب هذا التعقيب فيما يتعلق بالحلم قبل أن تصلنا مقالة د. سيد حفظى فلم نشأ أن نغير شيئا، كذلك كتب د. سيد مقالة دون الاطلاع على هذا التعقيب
[2] – أنظر أيضا: الرخاوى (1985) الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، مجلة فصول المجلد الخامس، العدد الثانى ص 67 – 91.