مثل وموال
المثل الأول:
التفكير العلمى والشعبى
يقول المثل:
قالوا الصلاة خير من النوم، قال جربنا ده، وجربنا ده
هذا المثل جرئ خطير، وقد يفهم خطأ على أنه استهانة بالصلاة، أو تهوينا من النداء الجميل فى آذان الفجر حتى يهب الناس إلى الصلاة، حيث ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها، وكل هذا استعجال واختزال لما قد يعنيه المثل من عمق آخر، فالمثل لا يقال فقط لمحتواه، ولكن للفكرة الأساسية من ورائه.
وهذا المثل دعوة شعبية جريئة وموضوعية بعدم التسليم لكل ما يقال، حتى لو قيل فى سياق دينى، فعندما ينادى المؤذن أن الصلاة خير من النوم، هو لا يقول جملة خبرية، وإنما هو يدعوك أن تلقى ربك، وأن تفتتح يومك بهذه الصلاة، لترى بنفسك أنها خير من النوم، فهذا ما كنا نتعلمه فى الثانوى عن الأسلوب الخبرى الذى يخرج من وظيفة الخبر إلى وظيفة الإنشاء، ليؤدى وظيفة الأمر، أو السؤال أو الطلب، أما الاستسلام للكلام المثبت وكأنه حقيقة للبلاغ لا أكثر، فهذا دون الوعى البشرى اليقظ فى كل شيء حتى فى الدعوة إلى البكور، وعبادة البكور.
والناس هنا لم تتورع أن تعلن من خلال هذا المثل: أن كل شئ قابل للتحقق والتجريب، وأنه لا يكفى أن يقول كائن من كان قولا، فيكون صحيحا إلا إذا ثبتت صحته.
وهذا هو التفكير العلمى بكل معنى الكلمة، أو بتعبير أدق هو التفكير الفرضى الاستنتاجى، أن كل المقولات هى فروض تحتاج تناولا نقديا، ومن ثم تثبت أو لا تثبت. لقد ابتعدنا عن كل ذلك كل البعد، وعادت المسلمات هى الأصل، وأصبح مجرد الرد على رئيس، أو حتى الاستفسار منه عن إيضاح هو جريمة فى حقه، إن لم يكن فى حق للنظام، إن لم يكن مشروع قلب النظام، ولم يقتصر الأمر على التسليم لمقولات رئيس سياسى أو حتى إدارى، أو حتى فتوى دينية، بل امتد ليشمل بعض الوثقانية (الدوجما) فى المناهج العلمية، حيث يذهب بعض العلماء إلى قصر المنهج العلمى على مفهوم مختزل، وليكن التجريب والمشاهدة والاستنتاج، دون غيره، وفرق بين التجريب كما يذكره المثل الشعبى القادر، وبين التجريب كما يحكمه العالم الملتزم المغلق، فالتجربة الإنسانية لا تجرى فى معمل، ويكاد لا يمكن مقارنتها فى وقت آخر، بل ويكاد لا يمكن إعادتها من عمق بذاته، لأن الحياة تتحرك، والدنيا تتغير ولا شيء يعيد نفسه بدقة تسمح بالمقارنة كما يدعى أهل التجريب المغلق.
ثم إن المثل لم يقل نتيجة التجربة، فهو لم يقل أنهم جربوا الصلاة وجربوا النوم فوجدوا أن النوم أفضل، بل تركها مفتوحة، والوعى الشعبى فى التقاط المعنى هو بنفس ذكاء الوعى الشعبى فى تخليق المثل، ومع ذلك فلا يستطيع أحد أن يلوم قائل المثل، إلا أن يكون هو الذى استقبله إذ صنع نتيجته أنه جرب كلا من الاحتمالين ووجد النتيجة فى صالح النوم.
ثم إنه حتى لو وجد النتيجة فى صالح النوم، وثبت أن النوم أخير، فهى نتيجة تسمح بافتراضات جديدة، بمعنى أنها لا يمكن تعميمها، فلعل غير هذا المجرب قد جرب اختبار هذا القول ووجد غير ما يتبادر إلى الذهن لأول مرة، أى وجد أن الصلاة فعلا أخير من النوم، بل إن المجرب الذى وجد أن النوم أفضل، يمكن أن يستفيد حين يتساءل لم تناقضت تجربته مع الشائع، ومع الدعوة الكريمة للصلاة، والدعوة الصحية للبكور، وقد يكتشف أن صلاته ليست كما ينبغى، وأن علاقته بالبكور ناقصة، وبدلا من أن يتمادى – من واقع تجربة واحدة قاصرة وخاصة- فى التشكيك فيما ‘قالوه’ يمكن أن تكون هذه التجربة التى انتهت إلى أن النوم أفضل، هى فرض جديد، يدفعه إلى مراجعة نفسه، ليعرف وظيفة النوم لديه، ووظيفة الصلاة، وطبيعة كل، وبأى مقياس يقيس ما هو خير وما هو أخير، وبالتالى يعدل من نوعية نومه ووظيفته، وأيضا من نوعية صلاته ووظيفتها، ثم يعيد التجربة، أليست هذه هى الحياة البشرية الشريفة؟
ثم نتذكر أن النداء الكريم بأن الصلاة أخير من النوم ليس به معنى أن النوم شر، بل هو خير فعلا، لكن هناك ما هو أخير منه.
فما هو الحال عندنا الآن ؟ وكيف نفكر فيما نسمع ؟ أهو التسليم باللفظ الظاهر ؟ هل نمارس حق النقد فعلا ؟ هل نستطيع أن نعلن بعض مايعن لنا من تساؤلات ؟
وهلى ننظر فى ما يقال لنا من فتاوى، وحقائق، ومعلومات بهذه الطريقة التجريبية – فى واقع الحياة – كما يوحى المثل الشعبى هذا ؟
إنه مثل قديم قبل كل مناهج البحث العلمى، وربما الشكل الدكارتي؟ ولكنه قالها بكل شجاعة، وكل بساطة، ليعلى من قدر عقل الإنسان ودينه فى آن.
المثل الثانى:
الزوج الطرى والعشيق الحمش(1)
يقول المثل:
جوزى ما حكمنى، دار عشيقى ورايا بالنبوت
ماذا يقول هذا المثل؟
أولا، هو مثل يشير – بكل الشجاعة – إلى العلاقات خارج مؤسسة الزواج إشارة واقعية وليست فقط من منطلق النهى الأخلاقي.
وثانيا: هو ينبه- ضمنا – إلى بعض ما يجعل الزوجة تتخذ عشيقا، ليس لأنها تريد من رجلها (بدءا بزوجها) أن يستعبدها (ما حكمني)، فأن يحكم الزوج زوجته ليس معناه أن يقهرها، ولكن المثل يشير بشكل رقيق إلى أن بعض الأزواج يبلغون من الضعف والموافقة ما لا يملأ عين زوجاتهم، وبالتالى تبحث الزوجة عن هذا السند الرجولى القوى يملأ وعيها، ويغذى احتياجها، بل إن الحاجة إلى شريك قوى لا تقتصر على المرأة، فالرجل أيضا يحتاج إلى شريكة، حبيبة، زوجة، قوية، ظهر ذلك منذ عمر ابن أبى ربيعة وهو يتمنى أن تستبد به هند، ولو مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد. ‘واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد’.
بل إن قولا صعيديا ساخرا يشيرإلى حاجة الرجل الصعيدى أن يجد امرأة قوية بجواره حتى لو ضربته على قفاه وقالت ‘كذا’، إذن فحاجة الإنسان إلى دعم يسنده، أو قائد يحكمه ليست خاصة بالنساء، ولا هى دليل على السلبية والاستكانة، بل هى إعلان أن المرأة تريد شريكا حاضرا، يقظا، منتبها، يقول لها رأيه بحسم، مثلما تفعل هى معه بدورها فى الأغلب، وأن ما يرضى المرأة من شريكها ليس فقط الود والعطف والتفويت وإنما الانتباه واليقظة والوضوح، وأن يحكم الزوج زوجته (وبالعكس) لا يعنى أن يفرض عليها أحكامه، ولكن أن يكون بجوارها بإيجابياته المتميزه، وحتى بخطئه المحدد، والزوجة بدورها تحضر فى وعى زوجها بنفس الحضور الإنسانى الصادق، وإلا فالنتيجة واحدة.
وهذا الزوج الذى لا يحكم زوجته قد يكون ضعيفا من البداية، أو معتمدا فى سرية أو علنية عليها، أو مستفيدا من صفقة سرية أو معلنة من هذه العلاقة ومن موقف الاعتماد المعلن أو الخفى، وقد يكون مثل هذا الزوج مخدوعا بما يسمع عن الحرية الواجب توافرها لسلوك الزوجة فى خروجها، ودخولها، واهتماماتها وصداقاتها، وهو يتمادى فى هذا ‘الطناش’ تحت زعم الحرية، فى حين أنه فى عمق آخر، يعفى نفسه من مسئولية علاقة حقيقية بشريكته.
وحين تستشعر الزوجة مثل هذا فى زوجها، وربما تحاول أن تصلحه فلا ينصلح، أو تنبهه إلى المخاطر المحيطة به فلا ينتبه، فإن الأمور قد تتمادى حتى تعوض هذا النقص بعلاقة خارج المؤسسة الزوجية ( أو العشيق).
لكن موقف العشيق هنا يحتاج إلى عدة قراءات:
فلماذا جري- أو يجري- وراءها بالنبوت ؟ وما دلالة ذلك؟ وهل هذا مطلب، أو وصف، أو شكوي؟ ولتعدد الإجابات وجب تعدد القراءات:
الاحتمال الأول (وهو الأضعف) هو أن الجملة تشير إلى أنه: لأن زوجها لم يحكمها ذهبت إلى نقيضه الذى لا يكتفى بأن يحميها بل هو يطاردها ليس لاقتناصها فقط ولكن لحسابها أيضا.
الاحتمال الثانى: (وهو ضعيف أيضا) ألا يكون هناك ارتباط سببى، بمعنى أن الجملة ‘دار عشيقى ورايا بالنبوت’ هى مقارنة بين زوج سلبى ، وعشيق حاسم (حمش)، وبالتالى فالزوجة قد فضلت العشيق الحاضر الذى له موقف، عن الزوج المتنحى (الطناش).
الاحتمال الثالث:(وهو ليس احتمالا قويا جدا رغم وجاهته) هو أن عشيقها يتمادى فى لى ذراعها، أو حتى إخضاعها، حين يتأكد باستمرار من رفضها المعلن أو الخفى لليونة زوجه وسلبيته، وكلما تمادى هذا الزوج فى ذلك، تمادى العشيق بدوره فى الشعور بقيمته، وبالفرق بينه وبين الزوج الطرى المخدوع، ومن ثم راح يحافظ على العلاقة بهذا الحضور الملاحق جريا وراءها بالنبوت.
تعقيبات أخرى إضافية:
1-إن الحياة الزوجية إشكالة خاصة من إشكالات العلاقات البشرية، ونحن حين ندرسها، خصوصا فى مجتمعنا هذا، ندرسها من زاوية أخلاق الطبقة الوسطى أكثرمن دراستنا لها فى الطبقات الأعلى والأدنى، والتى تتمتع بمساحات من الحركة (ولا أقول الحرية) فى الداخل (فى النفس) والخارج (فى السلوك) أكثر مما نحسب أو نتصور. وهذا المثل يشير إلى بعض نبض الطبقات الشعبية فى هذه الموضوعات.
2-إن صعوبة الحياة الزوجية ليست قاصرة على طبقة دون الأخرى، ولا على مجتمع دون الآخر، بل إن المجتمعات الغربية ربما تعانى أكثر من مجتمعاتنا فى هذه المنطقة، و زيادة نسب الطلاق، وتفكك الأسر هناك – على حساب الأولاد طبعا-هما إعلان لهذه الصعوبة المتزايدة.
3- إن البدائل المطروحة للحياة الزوجية، مثل العقود المؤقتة، والعلاقات الحرة على إطلاقها، والزواج الجماعى ، وغير ذلك مما شاع فى العالم الغربى، كلها حلول ليست أسهل، ولا هى نجحت كبديل، وبعض ما نجح منها كان على حساب الأسرة والأطفال حتى لو أغنى الكبار مؤقتا، وهى حلول لم تقف أمام اختبار الزمن، وإن كانت المحاولات الفردية مستمرة.
(ملحوظة:بدأ مؤخراالتفتيش فى بعض الفتاوى الدينية التى تبرر مثل هذه العلاقات المؤقتة، والمتعددة على أساس ديني).
4- إن العلاقات البشرية، وخاصة فى إطار المؤسسة الزواجية تحتاج إلى جهد مثابر، ومراجعة، وحرية حقيقية، وعدل، وحركة، وإعادة تعاقد، وشروط طيبة معلنة متبادلة، وكل هذا هو ما يمكن أن نفهمه من قول المثل ‘جوزى ما حكمني’، أى أنه لم يبذل الجهد الكافى لإرساء قواعد ضابطة محددة (حاكمة) للعلاقة الزوجية، وليس مجرد أن الزوجة (والمرأة ) تحتاج إلى القهر والتبعية.
[1] – طرى طراوة وطراة: كان غضا لينا، وطرو طراوة. صار لينا
حمش فلان حمشا: غض، وأحمش النار الهبها وقواها بالحطب