رتبة “روم إيلى بكلربكى“
إدوار الخراط
”أنعم الجناب العالى برتبة روم إيلى بكلربكى على سعادة اسماعيل صبرى باشا الذى كان وكيلا لنظارة الحقانية، وبالنيشان المجيدى الأول على سعادة صالح ثابت باشا الذى كان رئيسا لمحكمة الاستئناف الأهلية، بمناسبة إحالتهما على المعاش.
ويوجد الآن فى فنادق العاصمة 40 ضابطا ألمانيا كلهم بالإجازة. وطريقة ألمانيا أن كل ضابط يسافر بالإجازة إلى بلاد أجنبية يكلف بوضع تقرير بما يراه فى تلك البلاد حتى تنتفع الحكومة بآرائه فهؤلاء الضباط الأربعون الذين يأتون للنزهة ..
فى أول مارس سنة…
هنا تنقطع القصاصة التى وجدتها بين أوراق طفولتى أو صباى، فلعلها من مجلة كان اسمها كل شيء والدنيا
طبعا هؤلاء الضباط الأربعون ليسو بجواسيس ولا أى شئ من هذا القبيل، هم فقط ينفعون حكومة بلادهم بآرائهم، كلهم، الأربعون، لا أقل.. وفى مصر الآن كم عدد الضباط الأمريكان الذين ينفعون بلادهم بآرائهم؟
وبينما يركن الشاعر الرقيق الذى كان وكيلا لوزارة العدل حينذاك إلى سنوات المعاش، وقد أنعم عليه السلطان العثمانى، أو لعله الخديوي.. إلى آخره، أصدر الكاتب البارع محمد المويلحى، فى 27 منه مؤلفا ثمينا دعاه (حديث عيسى بن هشام) من ثلثمائة وأربعين صفحة، وهو يتناول الحياة الاجتماعية المصرية ويصفها كما هى فى مباذلها بأسلوب انتقادى شائق وثمنه عشرون قرشا ويباع فى جميع المكاتب
وفى اليوم نفسه،27 منه حدثت خلال الأربع والعشرين ساعة المنقضية وفيات بالطاعون البشرى فى البلينا ودشنا، وإصابات به فى أخميم وبنى مزار.
وفى اليوم التالى كان عبد الرحمن حماد يشتغل فى مقطع حجر فى جبل المقطم بواسطة اللغم فانفجر اللغم بغتة فمزق الرجل ومات لوقته.
طبعا ليس من الصعب جدا أن أحدد ذلك العام، ولكنه ليس من المهم…
أما فى 21 يوليو عام 1883 على وجه التحديد فقد كتبت الأهرام العتيدة:
المليك العزيز .. من ذا شاهد طلعة المليك العزيز بالموكب الحافل ولا تنبعث أشعة إسعادة ذات اليمين وذات الشمال ولا ينفى عن قلبه الوجل ويبات ليله قرير العين طيب الخاطر غير جازع ولا منشغل البال للأخبار المشئومة، فإنه أعزه الله وأبلغه مناه يركب فى عشية كل يوم محفوفا برجال معيته الكرام مارا فى عباب يطارح القوم التحيات مسكنا رعبهم مزيلا من القلوب رهبة الخطب لا برحت العناية الإلهية ترعاه مؤيدا منصورا بإذن الله تعالى ..”
والمليك العزيز – بعد عام بالضبط من استقدامه قوات الاحتلال التى جثمت على صدر البلاد سبعين عاما هو، بالطبع، الخديوى توفيق.
حفظه الله، حبيب الشعب، الرئيس المؤمن، الذى اخترناه … زعيم الملايين .. بالروح والدم..
مازال النفاق العظيم – وأسوأ – متفشيا، إلى ماشاء الله..
ومازالت ضربات الذين نحبهم أكثر إيلاما، فى سياق آخر.
فى ليلة منذ عدة سنوات شرب صديقى الذى أحبه كثيرا زجاجة نبيذ كاملة، بعد انقطاع عن الشرب دام طويلا.
كان ذلك فى غرفة صديقنا صبحى راسم المكتظة بالكتب . النيل غير بعيد عن الشارع الجانبى الهاديء، وكنا فى صحبة محمد برادة الناقد والروائى المغربى الكبير، وآخرين لم أعد أذكرهم الآن، أرى صورا غامضة مستبهمة لهم، على الأريكة والفوتييات، على ضوء أباجورة المكتبة قوية النور، لعل منهم الصديق سامى خشبة. أصبح صديقى الآن علما من أعلام أدبنا المصرى، روائيا مرموقا أذيع فى التليفزيون مسلسل رائج مستطير الصيت مأخوذ عن رواية شهيرة له، وهو فى الوقت نفسه ناقد حصيف ومفكر يعتد به، ومحط الأضواء.
ليلتها، 18 ديسمبر 1988 على وجه الدقة، وبعد أن سكر صديقى دون أن تبدو عليه أمارة على الثمل، رمانى بكبيرتين.
الأولى أننى جزء من “المؤسسة” مؤسسة الدولة يعنى، شئت أم أبيت، وأننى دفعـت بجاليرى 68 إلى حضن الدولة، عندما مولها ورعاها يوسف السباعى وجمعة شعراوي.
سوف يقول غير ذلك تماما عن جاليرى 68 فى قابل الأيام، وما من حرج على المرء أن يغير رأيه أو أن يرى وجه الصواب بعد أن عمى عليه فى مسألة ما.
طبعا دحضت التهمة بعنف الصدق وحجة الواقع الذى لا يمارى فيه. وأتساءل الآن، حتى لو فرضنا أن التهمة صحيحة – وهو فرض خاطيء من الجذور، وجائر أيضا – ألم يكن هذا من عمل نظام عبد الناصر الذى يرفعه صديقى الآن إلى ما يقرب من مقام الأولياء؟
أما “المؤسسة” فلم أخط فيها خطوة واحدة، طيلة حياتي. وليسمح لى الصديق أن أقول بشيء من الشر: فلعل “المؤسسة” أيضا تضم نقيضها فى صحف المعارضة المروضة أو صحف الدور التى طوتها الدولة تحت جناحها، على السواء. لم أنضو لحظة تحت راية أى منها، وكم كانت الفرص متاحة! لا بأس بطبيعة الحال من هذا الانضواء مادام الكاتب صادقا مع نفسه عف القلم والضمير، صحيح. لكنى مع ذلك لم أنضو، دعك من أن أكون “جزءا” من المؤسسة. فلم يكن التضامن الأفريقى الأسيوى قطعا من مؤسسات الدولة، وإن أسهم عبد الناصر فى إنشائه ورعايته. بل كان حركة تحرير.. المهم.. قصر الكلام..
ما من حاجة بى للاعتذار أو التفسير، لكن صديقى، ليلتها، هو الذى ذهب يلتمس لى العذر، فمن المفهوم، كما قال، أننى أحرص على بيتى وأولادى، ولعل المبرر أيضا، كما قال، أننى فى النهاية قبطى، والقبط معروفون بالحرص والحيطة، هذا كله مشروع، كما قال.
لم أحتمل ذلك منه إلا لأننى أحتمل عبء الحب.
فهل قلت له إننى لست “قبطيا” بهذا المعنى الذى تلمسه عندى، أيضا، أعز أصدقائى فى مناسبة أخري؟ تلك من تباريح الوقائع التى لا يبرأ وجعها.
أتذكر الآن باستغراب قليل أننى حملت وحدى ليلتها عبء دحض الإتهام وسط صمت كأنه تواطؤ من الأصدقاء.
وأذكر بوضوح قاس وجه صديقى الصعيدى داكن السمرة، عظميا، نحيفا، وعينيه الصغيرتين اللامعتين بذكاء وقاد، يتكلم بهدوء كامل، يرمينى بالكبائر.
أما الكبيرة الثانية فهى أننى فى رأيه قد تخليت عن تراث رفاعة الطهطاوى، عن العقلانية، عن العلمانية وعن العلم، وأننى – أنا أيضا – أفسدت تكوين وعقليات وكتابة شباب الأدباء والشعراء، بما أغرقت كتاباتى فيه من غوص فى دواخل النفس وعكوف على الذاتية وتحليل المشاعر والأحاسيس ونأى عن الواقعية والاستنارة. تهمة إفساد الشباب على هذا النحو لا أنكرها – إذا صحت – وحسب القالب المأثور هى شرف لا أدعيه، ولى فيه على الأقل رفيقان: ماى وست وسقراط.
أما دواخل النفس فهى قلب الواقع، أما الذاتية فلا انفصال لها قط عن هموم الجماعة، أو الطبقة، أو الفئة، أو الوطن، وأما العلمانية والعقلانية فهى من جوهر الروح عندي.
ليست شعوذات الجن والجنون التى أحكى عنها هنا إلا صرخة وجع أخرى من وقع ضربة العطب الذى أصابنا، هى دعوة تحذير أيضا ونداء إنذار.
عندما ذكرت صديقى، بعد ذلك بسنوات، بتلك الليلة وما جرى فيها أنكر ما قال بحسم قاطع. أكد دون تردد أن ذلك لم يحدث، ولم أجادله، لكننى لست – بالطبع – واهما.
قالت أ.ف. ب. أن شرطة تاكارازوكا، قرب أوساكا، اعتقلت يابانيا فى الثالثة والثلاثين بعد ما عثرت على جثة جدته (92 عاما) التى كان يحتفظ بها فى ثلاجة منزله، لأسابيع عدة. وهو من أتباع طائفة دينية ناشطة فى الهند، وقال إن “الآلهة ستحمى جدتي. جدتى لا تزال حية”.
وهأنذا أضرب فى شوارع القاهرة المتراكبة بزحام الناس والمركبات، القابعة تحت خيمة التلوث المستشرى ينخر فى نخاعها فساد الهواء عطب النيل خراب الذمم سقوط الضمائر بلطجة الأقوياء بجاحة الأثرياء جفاوة الواغلين القادمين من الصحراء، غيبوبة الهائمين فى سبحات البانجو والهيروين، يغتصبون البنات فى الشقق والمزارع والخرابات، يغتصبون الأراضى والبيوت، يشهرون أسلحة الفلوس أو القوة الغشوم أو ثغرات القانون وروتين التقاضى الغالى البطيء، ويطعنون بالسلاح، بالتكفير أو بالمطاوى والسنج أو بالديناميت والرصاص، سواء.
القاهرة المغتصبة.. مصرالمغتصبة.
”الاغتصاب” كلمة أصبحت شائعة تكاد تكون يومية، مألوفة، بل مقبولة. كأنها الآن من سنن الحياة فى آخر القرن العشرين وأول الحادى والعشرين، هى مع ذلك واقعة مبرحة الإيجاع خشنة وخام ومشعثة وعنفها عشوائى، لا هى مصقولة مروضة منعمة الحواشى ومتوازنة فى النهاية مع العدالة الشعرية، كما نراها فى الأفلام والروايات، ولم تعد – كذلك – مقننة مؤطرة بطقوس بدائية دينية لها إيقاعها وشكلها المرسوم سلفا بتدرج مراحله الدرامية: الإغواء ثم المطاردة ثم اللحاق ثم الاغتصاب الذى فيه منذ البداية رضى وتسليم من جانب الضحية، وفيه، منذ البداية وعلى الرغم من الحميا والعرامة، انصياع لشعائر مقررة ومكرسة بل مقدسة.
فهل فى تخبط العدوان وعشوائيته الآن شيء يكشف عن الواقعة بشاعتها الأولية التى كانت الطقوس قد وضعتها تحت أقنعة سبعة، كما كان كهنة اليونان القدامى يفعلون عند اللحاق بآخر العابدات فى احتفالات زواج زيوس وإيو؟
هل كان ثم قبول خفى ورغبة مضمرة فى قبول الاغتصاب من تلك – أو أولئك – اللاتى يتخلفن إلى آخر موكب العابدات؟
العابدات الباخوسيات قد ثملن من نبيذ ديونيزيوس ودماء الثيران المسفوحة وجننتهن الرؤوس المجزوزة من جذور رقابها مفتوحة الأعين مسترسلة الشعر، والقضبان المجتثة مازالت منتصبة فوق خصيها، والأشلاء الممزعة مازالت تنتفض بحياة عضوية لا روح فيها.
يجرين بين التلال الممراع ويتدحرجن على خضرة الوهاد يتعثرن فى الهيماتون السابغ الفضفاض فيخلعنه ويقذفن به يلهثن ويصرخن ويعوين ويجأرن بالشهوة والغلمة وعلى عريهن يرتدين الآن جلود الضباع وقرون البقرات فوق رؤوسهن أهلة مشرعة، هن الطريدات القنيصات يغوين المطارد القناص.
فهل فى ذلك تسليم بقدر الضحية الملقاة على هيكل قدسى للخصوبة المنتزعة من قلب الصد والامتناع؟ بل فيه اندفاع لملاقاة هذا القدر وخضوع – إرادى وكامن – له.
هل قبلت كيمى أن تغتصب أن تقع فريسة للطغاة والمعتدين الواغلين على طول الزمان، وحتى الآن؟ حتى الآن كانت قد ذوبتهم فى أحشائها.
وتظل مع ذلك نقية طهورا وبتولا عذراء لم ينتهكها إلا فعل الحب لا فعل الاغتصاب.
هأنت تميطين مرطك المشقوق عن جسدك الريان بين الفيافى الصحراوية عن يمين وعن شمال صدرك الغض بعد تعاقب الأيونات مازال عذريا وبطنك مختوم لم يشققه ولن يشقه غاصب. بل أنت تتيحين ولوجه طائعة لـلمتيم المتعبد فى محرابك يا أم الصقر يا أم الصبر يا أم الحمول واديك ممرع خصيب تحت القهر وتحت الامتثال سواء لا تبخلين بأطايب ثمرك البض المطواع سواء كان ذلك فى ليل الظلم أو فى ومضات الشمس النزرة التى سرعان ما تغيب أو فى وقدتها المتلظية بالشواظ لا تخففها إلا نسمة الطراوة فى العصارى، ومع سم المبيدات وسم التليفزيونات زعقات الوز على ماء الترع التى جثمت البلهارسيا فى حواشيها، مازالت عفية، جاءت الموتورات الكهربية الموارة عوضا عن سواقى الخشب والحديد ترفع من حابى الذى انصاع للترويض والتدنيس مع كل إلاهيته، مياهه المحيية الباقية والتى سوف تبقى إلى أبد الآبدين بعد أن تنجاب مخلفات الزئبق وعوادم النفط ولوثات الصناعة وفضلات الحيوان ونتن الجيف البشرية والحيوانية سواء.
كيميي… كيمى .. حتى متى تقبلين الانتهاك والانتهاب؟
حتى متى، بقوة سحرك وحبك تحيلين المغتصبين عشاقا وأبناء؟
أما كفاك .. وكفانا؟
يا طفلة أبدية لا يعتورها الزمن أنت أم المقدسات وأرض الوقائع الصلبة فى آن، طفلتى البريئة دهرية الحكمة خالصة الجسد من كل لوثة ومن كل ريبة – مهما كان من تدنيسه- إلى دهر الداهرين.
أغنيتى لك على ترداد ترجيعها لا نهاية لها.
لا .. لن أمل من تردادها.
حتى لو لاح، فيما يبدو، أن ذلك مبتذل مكرور.
ثم ما حاجتى – بعد ذلك – إلى أن أحكى حكايات، وفى ديوان الصحف والمجلات كل ما نحتاج من حكايات.
اعترف دجال أندونيسى – مثلا – باغتصاب 236 سيدة، خلال 12 عاما، بعد تخديرهن فى منزله، وقال إنه اغتصب فتاة 9 مرات متتالية لعلاجها من الأرواح الشريرة.
وقبلها بعام كامل ويوم واحد كتب يسرى شبانة فى الوفد أيضا أن طالبا فى الثانوى استدرج تلميذة عمرها 9 سنوات وحاول اغتصابها فى منزل تحت الإنشاء بمدينة 15 مايو، قاومته التلميذة ودافعت عن نفسها وهددته بافتضاح أمره فضربها بحجر فوق رأسها ثم دفنها وهى على قيد الحياة وغطاها بالتراب. المفاجأة أن الطفلة بقيت على قيد الحياة، وإن أصابتها سجحات وجروح بجميع أنحاء جسدها مع وجود آثار خنق حول رقبتها.
ومن الاسكندرية كتبت سامية عبد الرحمن أن اثنى عشر شابا تنافسوا على اغتصاب فتاة تبلغ من العمر 16 سنة، بالمعمورة، تحت تهديد السلاح.
فى ديسمبر أتصور أن هدير البحر فى عز شتاء الاسكندرية كان يدوم إذ ترتفع الموجة الصاخبة المزبدة تصطدم بالسور الاسمنت القبيح وتغور الرمال داخل البحر فتسحب معها ما تبقى من نفايات التصييف.
”قام ستة منهم باختطاف الفتاة إلى شقة أحدهم وقاموا باغتصابها بالتناوب، وحاول ستة آخرون اختطافها لاغتصابها مرة أخري”.
أظنهم جروها من شعرها الأكرت وكادوا أن يحملوها حملا فى وسطهم، أظنهم كتموا صوتها، الذى وهن الآن وتحشرج، بأيد خشنة لا تعرف إلا صلابة الحجر أو عناد أنابيب الرصاص المعدنية.
”نشبت مشاجرة بينهم. عند قيام إيهاب مصطفى بإخراج مطواة انهال بها على ابراهيم حسين بعدة طعنات أودت بحياته، وفروا هاربين.”
هل ساد صمت، عندئذ، بين حيطان الشقة الموحشة، بينما انهلت السماء المدلهمة بسحب سوداء، وإنهمرت مياه المطر ثقيلة متلاحقة على زجاج النوافذ فى عتمة آخر النهار، حتى جاءت الشرطة..
قبض على المتهم وتم التحفظ على الفتاة.
”التحفظ..؟” يعنى إيه؟
قبل ذلك بخمسة أيام فقط، كتب أحمـد على الذى لقب نفسه “المظلوم” وسجل عنوانه على وجه الدقة : “لو أن هناك حرية تعبير وديمقراطية فعلا فانشروا رسالتى هذه كما هي.
”مررت بتجربة عصيبة وصعبة ولكنها أفادتنى كثيرا وأوضحت لى حقائق كثيرة. وتجربتى هى دخول السجن فى تهمة لم أرتكبها، وتهمتى هى التعدى بالضرب، وكان الحكم فيها الحبس لمدة أسبوع وأحمد الله على ذلك وقد رأيت فى هذا الأسبوع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. تبدأ رحلتى من قفص الاتهام إلى تخشيبة الخليفة. وما أدراك ما تخشيبة الخليفة على رأى كاتبنا الساخر حين قال اللى أمه تدعى عليه يدخل الخليفة. والخليفة سيدى الفاضل هى حوض تجميع للمحبوسين والمشتبه فيهم لحين ترحيلهم إما إلى السجن أو مديرية الأمن. ولك أن تتخيل مكانا يتسع لعشرة أشخاص مثلا يوضع فيه ألف شخص. وهناك كل شيء ملوث الهواء والمكان إلخ. (المكان المحترم قليلا فيه يؤجر بــ. 20 جنيها فى اليوم) وحتى لا أطيل عليك تم ترحيلى إلى سجن الاستئناف، ولن أروى لك عن إهدار كرامة الإنسان هناك ولا الإتاوات التى يقوم الشاويشية وعتاولة المجرمين بتحصيلها على مرأى ومسمع من المسئولين. المهم أن السبب الذى جعلنى أكتب لك ليس ما قصصته من قبل ولكن السبب أنه توجد كارثة داخل السجون والتخشيبة. الكارثة هى أن تجارة الحبوب المخدرة رائجة جدا والله العظيم بعلم ومرأى إن لم يكن بشراكة بعض الشاويشية. كما أن تعاطى المخدرات يتم بدون أدنى خوف من أى مسئول. الإسم الشائع سيدى لهذه الحبوب هو (صراصير) بالطبع عند سماعى للبائع وهو ينادى: “حد عايز صراصير”! اعتقدت لجهلى طبعا أنه يمزح ويقصد تلك الحشرات المنزلية ولكنه كان يبيع تلك الحبوب..”
أما فى الزقازيق فقد قررت النيابة حبس 29 شخصا من مثيرى الشغب لمدة 15 يوما على ذمة التحقيق وحبس مفتش صحة مركز الحسينية 4 أيام لاشتراكهم فى مشاجرة نتج عنها مصرع شخصين .. تجمهر أهالى القرية وأشعلوا النار فى منزل الطبيب (الذى تشاجر مع مقاول ومات الأخير) ومنعوا سيارات الإطفاء من إخماد الحريق مما أدى إلى موت الطبيب.
هل كان عيسى بن هشام سيجد ما هو أكثر من ذلك ليصف مباذل الحياة المصرية بأسلوب انتقادى شائق؟ ففى القاهرة فاجأ الزوج العائد من عمله باكرا على غير عادته زوجته (26 عاما) مع عشيقها (28 عاما). جذب العشيق يد عشيقته من غرفة النوم وقادها إلى الشرفة ليقفزا معا من الطابق الخامس شبه عاريين. وأصيبا بارتجاج فى المخ وكسور جسيمة.
ونشر “مركز المساعدة القانونية لحقوق الإنسان” فى “الأسبوع” على عهدة محمد الحميلى يوم 6 يونيو 1997 (6 يونيو، مرة ثانية؟) أن 25% من أطفال مصر يعيشون تحت خط الفقر وان 79.8% من الأحداث الجانحين ليس لهم مأوى وأن 46% من مجموع أسر هؤلاء الأحداث يعيشون فى مسكن من حجرة واحدة.. وأن الأحداث يقعون ضحية لانتهاكات غير قانونية خلال مراحل القبض عليهم وحبسهم ومحاكمتهم.
هذا كله قديم، نعرفه تماما، أليس كذلك؟
لعل الجديد أن الدكتور عبد الحى عبـيد نائب رئيس جامعة حلوان لشئون الطلاب أعلن أنه سيتم تشغيل خمسة آلاف طالب فى أعمال السباكة والدهانات والتجارة داخل الجامعة مقابل خمسة جنيهات يوميا.
يابلاش!
حدث قبل ذلك بعشر سنوات تقريبا – كما روت “الأهالي” – أن “إبن ذوات مصرى مجهول” اشترى منضدة طعام يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الحالى (العشرين) بمبلغ وقدره ثمانون ألف دولار أمريكانى لا غير .. وقال مثمن المزادات أن بعض زبائنه من المصريين لا يترددون فى إنفاق مليون دولار سنويا فى المزادات ولكن بعضهم يفتقد إلى الذوق، وأضاف أن هناك بعض الأغنياء المصريين إذا جمعت ثرواتهم فإنهم يصبحون أغنى من الدولة..”
كان ذلك طبعا فى 1987، وقبل أن تنقضى خمس سنوات على نهاية القرن العشرين الميمون، فإن الأهرام الوقور نشرت بقلم د. صدقى قرنى عبد الباقى دكتوراه واستشارى طب الأسنان بالسعودية – هو إذن رجل رصين بلا شك – أنه قد نشر فى إحدى المجلات الأسبوعية القاهرية وصفا لإقامة فرحين لزواج أسطورى تكلف كل منهما مليون جنيه مصرى بالتمام والكمال.. ارتدت العروس فستانا مشغولا باللؤلؤ والماس، ذيله على مسافة طولها خمسة أمتار كلها مشغولة بالأحجار الكريمة، تاج العروس من الألماس والذهب الأبيض الخالص. بدأ مهرجان الزفاف بحضور العروس محمولة على هودج مطلى بماء الذهب حولها مجموعة من الحراس يرتدون ملابس من الحرير أزرق اللون، أشبه بليالى ألف ليلة وليلة، التورتة على شكل طاووس يتحرك بالريموت كونترول، العشاء جمبرى وكافيار وسيمون فيميه وفواكه البحر والبر، محلية ومستوردة، أحيت الحفل فرقة برازيلية جاءت خصيصا حصلت على عشرات الآلاف من الدولارات، غير تذاكر السفر والإقامة، وغير نفقات الفرقة الموسيقية المصاحبة وعدد أفرادها 25 فنانا وفنانة. حدث هذا فى مصر التى يعيش أكثر من ثلاثة أرباع سكانها فى ضنك وعوز لا يتجاوز دخل الفرد فيها 670 جنيها سنويا. (يعنى أكثر قليلا من 55 جنيها فى الشهر) ولا تذوق الملايين الكادحة فيها طعم اللحم إلا كل “موسم” ويضيف الدكتور صدقى قرنى : “احذروا صيحة العريان وتململ المحروم!”
عيسى بن هشام كان حقه، بعد مائة عام، يقرأ ما نشرته الأهرام الوقور نفسها فى 4 / 8 / 1996 “استمعت لخطب الجمعة فى أماكن مختلفة إلى نفس المرويات عن القبور التى تنشق عمالا على بطال ليخرج منها مسوخ الموتى وعن الرضع الذين يتكلمون فى المهد غير المسيح عليه السلام وعن السبعمائة زوجة لكل مؤمن وعن خطوة سيدنا آدم التى كان مقدارها مسيرة ثلاثة أيام ودواب البحر التى تصعد وفى فم كل منها لؤلؤة والثور ذى السبعين ألف قرن يحمل عليها الأرضين السبع وغير ذلك من الخرافات عن كتب عصور الانحطاط أو المدسوسة على كتب التراث من أعداء الدين.. المسألة إذن .. ضرورة تجفيف منابع الجهل والخزعبلات.”
وما أظننى مخطئا جدا إذ أتصور محمد بك المويلحى على اتفاق مع محمد نبيل عبد القادر، وكلاهما حسن النية طيب القلب صادق الرغبة فى الإصلاح.
أما ذلك الذى اعتاد محررو صفحات الحوادث فى الصحف أن يطلقوا عليه صفة “العجوز” فقد كان طيلة عشر سنوات – ياربى، عشر سنوات – أسبوعا بعد أسبوع، جيلا بعد جيل من 86 إلى 96، من عادته كل صباح على الله أن يأخذ بأيدى تلميذات مدرسة أمام عزبة المطار شرق الاسكندرية، يساعدهن على عبور الطريق السريع، وفى حادث وصفه محرر “الأهرام” بأنه مأساوى (أليس مأساويا؟) لقيت تلميذة بالابتدائى مصرعها صباح يوم 21 / 10 / 1996 تحت عجلات أتوبيس إحدى المدارس أثناء عبورها هى وزميلتها الطريق المواجهه لمدارسهم، وأصيبت تلميذتان أخريان. بعد المأساة بنيت مطبات صناعية لإجبار السيارات المارة على الوقوف أمام منطقة تجمع المدارس الثلاث..’ (ما كان من الأول..!)
أما ذلك “العجوز النبيل” الذى ضاعت تضحياته ثم حياته نفسها هدرا تحت عجلات الاوتوبيس، فهل كان عيسى بن هشام (أو محمد بك المويلحى) يضن عليه بما يعادل الآن رتبة “روم إيلى بكلربكي” الرفيعة أو على الأقل ما يعادل النيشان المجيد الأول، بعد أن أغفلت “الأهرام” أن تذكر اسمه، حتى .. أم أن النيشان والرتبة، المكافآة الحقيقية، هى أداء العمل نفسه، بحب ودون انتظار لجزاء، دون سعى إلى الحصول على ميدالية أو على “جزء من السلطة” أو انضواء تحت جناح مؤسسة.
ثم .. يعنى .. ماذا؟
ثم ماذا؟
هأنذا – ياكيمى – أسقط فى الوهدة المتحدرة فى قلب واديك الخصيب، تحت وقدة شمس لا ترحم، أعرف أنها ألوهية.
الجبل الشرقى متعرج الشعاب خشن الوعور صاعدا إلى يمينى يغوينى بما يبدو أنه مذلل مسالكه . ما عرفت إلا عندما طرقته حقا أنه عسير المتوقـل منيع المنال وإلى شمالى كثبان صخرية وطيدة الرسوخ تخفى فى طواياها كنوزا تتأبى على الزمن وتخور إلى عمق سحيق.
على عجينة بطنك الوثيرة الخمرانة تمرغت.
أعرف أن خنسو القمر مقترن ببهائك لا انفصال له عنك
إذ تفتحين لى حضنك ياحبيبة أعرف فيه موئلى وملاذى وأقترن بذاتى وتتحد أقانيمي. أفى داخل طواياك أبحث عن ثمل الوجود أم أرزح تحت وطأة الوجود؟
أحسو نبيذ النكتار السماوى لكى أعبر إلى الضفة الأخري.
نضوت عنك تفاويف النايلون الشفاف فما وجدت بعدها إلا حرير جسدك حشوه نشوة شبق لا يشوبها شوب فى شموخك وشموسك معا.
أقول: ألم تسأمى هذه الترنيمة التى تتكرر حتى ليكاد يقتلها الملل؟ أم أن طزاجتها بكر لا تذوى ولا تغيض؟ بينما هدير المفاعلات النووية لا يكف عن الدوران وعن التهديد والفانتوم بأرقام تزداد ارتفاعا يحلق حواما على مهادك وفيافيك أو هو رابض لا يريم عيونه الإليكترونية لا تغمض لحظة، نبع البراءة فى قانا الجليل لم يتحول خمرا بل فاض بالدم وطغت على أمواج الدم أشلاء الأطفال لأن الصواريخ والقنابل حصيفة عارفة تدرك تماما إلى أين تذهب ومن تصيب، الأسلحة العلمية فى أيد لا أخلاقية تقتل ببرود موضوعى جاف، بلا أدنى انفعال، أليس كذلك؟ وما معنى “لا أخلاقية” – على أى حال – فى عصر العولمة والسداح مداح المرسوم لنا بكل دقة على جداول وخرائط الإنترنيت والكمبيوتر والإليكترون؟ ما معنى رطانة لعل الأيام قد عفت عليها؟
كان حزقيال النبى قد قال، من زمان، ولعله مازال يقول الآن:
”كانت على يد الرب فأخرجنى .. وأنزلنى فى وسط البقعة وهى ملانة عظاما.. واذا هى كثيرة جدا على وجه البقعة واذا هى يابسة جدا..”
العظام الكثيرة جدا اليابسة جدا تحت أقدام الزمن من كاركالا ودقلديانوس إلى صبرا وشاتيلا من البوسنة والهرسك إلى جوهانسبرج من غابات الأمازون إلى مزارع القطن فى تنيسى، جبال منها فى أرشيف الخمير الحمر فى كمبوديا، مرقمة مبطقة مؤرخة بالدقة العلمية والصرامة الآسيوية معا.
قال حزقيال النبى : “أيتها العظام اليابسة اسمعى .. هأنذا أدخل فيكم روحا فتحيون وأضع عليكم عصبا وأكسبكم لحما وأبسط عليكم جلدا.. أجعل فيكم روحا فتحيون..”
”وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جدا جدا..”
نيران المحرقة تصعد من الخشب المغمور فى زيت النفط إلى الوجه المستبشر الساكن والعينين المحدقتين إلى سماواتها الداخلية الفسيحة، فرسان محاكم التفتيش مازالوا يحملون المشاعل لإيقاد المحارق، مازال أصحاب الطيالس والبيادق والأقماع الشامخة على الرؤوس يطوفون حول المحابس وينقبون فى بطون ما أراقته الأقلام ويتشممون ما وسمته المحابر ويلغون فيما يريقون مما أجنـته السرائر، مازال حامـلو الحراب الطويلة والصنج والسيوف والكلاشينكوف وعوزى والعبوات الناسفة يشهرونها يحدقون بالجزر القلائل المحصنة التى يلوذ بها فـتية وشيوخ آمنوا بأن العقل هو الإمام حقا فى الكتيبة الخرساء.
تفحمت السماء على أصوات التراتيل المسطورة باللاتينى والأمريكانى طقوس الاستتابة والاستنابة وتقبيل الرموز اسودت الجسوم وساحت الأعضاء تحت لعق النيران القاسية وفوح احتراق اللحم البشرى عشرات ومئات وآلاف وملايين ممن دعوا بالسحرة والكفرة والهراطيق والمجانين والمثاليين والحالمين وسائر ألقاب النبز والنفى جحافل وراء جحافل من الشهداء اسودت عظام الهيكل الذى بقى شامخا منصوب العماد بعد أن انطفأت النيران.
هل تبقى ثم ضرورة لا مفر منها لاقتضاء هذا الثمن ، على طول الزمن؟
17 مسرى 1713
23 أغسطس 1997