عدد أبريل 1986
مقتطف وموقف
إنتحار أديب
المقتطف
من مقال: الشاعر أحمد العاصى: أضواء جديدة على مأساته..
بقلم: رابح لطفى جمعة – الدوحة – العدد 123 – مارس 1986 (ص 28 – 31).
ولكن شخصا أسمه رفعت عماد الدين الملوانى أرسل إلى لطفى جمعة خطابا سنة 1930 زعم فيه أن العاصى أقدم على قتل نفسه بسبب إضطراب نفساني، وبزعم كاتب الخطاب أن أهم أسباب هذا الإضطراب هو النقص فى الجسم.
(1) وأظن – وظنى يقارب العقيدة – أن أحمد العاصى ما إختار لموته إلا طريقة تخفى عن الأعين هذاالنقص الجسماني.. والعاصى لم يقدر أن ينشد الحب واللذة بسبب نقصه الجسماني. وكانت النتيجة أن إستولت عليه فكرة الموت…. وأذكر أنك دونت فى أحد أبحاثك عن العاصى تضجره من علم التشريح عندما كان طالب طب، وعندى أن هذا التبرم جاء من إشمئزازة من جسمه.. أحمد كان يعيش لوحده فى القاهرة، فماذا كان يمنعه من أن يتمتع بقوة شبابة؟.
(2) وكان العاصى مسرورا مستبشرا قبل موته بقليل وهذا يدل على الإضطراب النفساني… وهذا الإضطراب نتيجة لنقص جسماني.
كذلك كان هناك شخص آخر يدعى “سيد علي” أرسل خطابا إلى لطفى جمعة بمناسبة مقالاته عن أحمد العاصى يذكر فيه سببا آخر لإنتحار الشاعر يقول فيه:
(3) إن هناك سرا من الأسرار النفسية جدا لم يعلمها أحد مطلقا إلا بعض أفراد لا يزيدون على أصابع اليد، وأولئك هم الذين يعلمون مبدأ تكوين أو غرس فكرة الموت عند المرحوم العاصي.
ويرجع تاريخ هذه الفكرة التى غرسها فى نفسه وقواها عنده إنسان عادى يشتغل الآن بالمعرض الزراعى الصناعي، ويعتبر هذا الإنسان المصدر الوحيد فى زعزعة أفكار الشباب والباسهم سواد المباديء، ولا يزال بهم حتى يعترفوا بأن الموت غاية الحياة والوسيلة التى يسعى إليها كل إنسان…
(4) كتب بعد ذلك فقرة وصف فيها هذا الإنسان العادى بأنه “ذلك الأديب الذى يعيش بيننا الآن، ثم ذكر كاتب الخطاب اسم الرجل “محمود العزب موسي” لكن كاتب المقال (رابح لطفى جمعة) نفى أن يكون ذلك هو الشخص بحجة أنه كان كاتبا وصحفيا لامعا فى جيله، وكانت سمعته طيبة فى جميع جوانب السلوك والعلاقات الإنسانية.
(5) وكان الأستاذ رجاء النقاش قد كتب “مقالا: أهتم .. فيه بإلقاء الأضواء على حياة هذا الشاعرونشأته وتعليمه وأزمته النفسية فقال أنه ولد سنة 1903 بمدينة فارسكور وماتت أمه وهو فى السادسة وتزوج والده بغير أمه، وبعد أن تلقى تعليمه الإبتدائى والثانوى ودخل كلية الطب إلا أنه أصيب وهو فى السنة الثالثة بالكلية بأزمة نفسية فسافر إلى لبنان حيث أمضى بها ثلاثة أشهر عاد بعدها إلى مصر وقرر ترك دراسة الطب وإتجه إلى كلية الآداب.
(6) يذكر الأستاذ رجاء النقاش أن العاصى كتب.. على الصفحة الأولى من كتاب شيشرون المعروف باسم “كتابات من روما” – إلى من يهمهم أمري، جبان من يخشى الموت، ومن لا يرحب بهذا الملك الكريم الذى هو لى كالرائحة الزكية…
(7) وقد حاول الأستاذ رجاء النقاش أن يتعرف على أسباب أقدام العاصى على الإنتحار.. فذكر أن أول هذه الأسباب هو حرمانه من الأم فى طفولته:
إنتهى المقتطف
والموقف:
الإنتحار، ذلك القرار الخطير، هو أصعب المشاكل التى تطرح نفسها على الوعى البشري، وهومن أخطرمضاعفات ما يسمى بالمرض النفسى لكن الإنتحار فى ذاته ليس بالضرورة مرضا نفسيا، وإن كان ألعن – فإذا إنتحر أديب، وفى هذه السن (27 سنة)، أو فى أى سن، فإن التحدى يصبح ملزما أن نقول، فننتهز هذه الفرصة لنعلن الموقف.
1- إن الإنتحار هو قرار له صبغة كئيبة لكنه يشير غالبا إلى غرور البشروسعيهم إلى التشبه بالآله بالخالق، أو إلى تحديد، والذى يقدم على هذا الفعل حتى نجاح التنفيذ، يتصور أنه يستلب – فى نطقة من وعيه – “قرار الموت” من صاحبه، وكأنه يقول لربنا “أنت تحييى وأنا أميت” – وربما لهذا، ولغيره – كفرت معظم الأديان هذا الفعل.
2- وإنتحار الأديب خاصة، وهو مبدع بالضرورة، هو نوع من الإبداع الأقصي، وثمنه باهظ، ونتيجته مجهولة، والمبدع دائما تواق إلى أن يرفع قدمه بإرادته، لينقلها بإرادته، ثم يرى إلى أين يذهب، وقد لا يري.. لكنه بعود برفعها وينقلها وهكذا. وحين يرفعها ليتخطى بها الحاجز الفاصل بين الحياة والموت، لا نعرف نحن بدورنا أين وضعها، ولعلهم [1] يعرفون الآن.
3- نأتى إلى هذا المقتطف بالذات، لنجد أن ثمة أشياء تحتاج إلى موقف وإجتهاد منها، (أ) فهل فقد الأم فى سن مبكر يصلح سببا للإنتحار، كيف ولماذا؟ (ب) وهل يمكن لشخص أن يؤثر على آخر حتى ينتحر رغم أن المؤثر مازال حيا يرزق (ويؤثر على آخرين وهكذا)؟.
(جـ) وهل النقص الجسمانى (والكاتب هنا يعنى عضو الذكورة بالذات حسب ما ظهر من التفاصيل) هو حقيقة أم أنه رمز أم أنه تبرير للإنتحار، أم أنه كاف ليكون سببا للتخلص من الحياة.
(د) وما علاقة نهاية العاصى هذه بتحويل دراسته من الطب (السنة الثالثة) إلى الآداب قسم الفلسفة.
(هـ) وما سر إستبشار العاصى (وكثير من المنتحرين) قبل موتهم مباشرة بما يتناقض مع الشائع عن الإنتحار على أنه فعل المكتئب الحزين.
وفى ذلك نقول:
أولا: إن عاملا واحدا يستحيل أن يكون سببا للإنتحار، وفقد الأم بوجه خاص ليس كافيا لتفسير هذا الفعل الدرامى المبدع، نعم، فقد الأم قد يساهم فى تهيئة الأرضية لإتخاذ موقف من الحياة أقل عماء، وأكثر آلما، وأخطرنهاية، لكن المسألة لا ينبغى أن تؤخذ بسطحية حتى نتصور أنها العلاقة الخطية المباشرة بين الصلة والنتيجة، لأنه: كما أن فقد الأم قد يكون سببا فى الحرمان العاطفي، فالعزلة، فالتركيز على الذات، فاليأس، فإن الإنتحار قد يكون سعيا إلى العودة إلى رحم الأم.
”نظرت للأرض الرحم الأم
ناداها الهدهد
فتذكرت العش المجدول
طارت مثل يمامه
تبحث عن صدر وليف لم يولد أبدا
وتهاوت فى زفة عرس” [2] فإذا قبلنا أن يكون فقد الأم سببا، فلنبحث لنرى فى الإنتحار عودة إلى الأم الأكبر “الأرض/الرحم/القبر” وبالنسبة للمبدعين خاصة، فإن هذه العودة مطروحة حتما فى عملية الإبداع لإعادة الولادة، والمبدع يضمن عادة أن يعود متقمصا وليده الجديد (العمل المبدع) فماذا لو “ذهب ولم يعد..”؟
من هنا نفهم ترحيب العاصى بالموت.
ثانيا: إذا كان الإنتحار صفة من صفات الإكتئاب، فلابد أن نفرق بين مراحل تطور الأمر حتى التنفيذ، فهذا النوع بالذات (وليس كل نوع يبدأ بفكرة تراود المكتئب ولكنها تكون بمثابة إقتراح لا أكثر، ومن هنا قد يلاحظها الآخرون، وقد يضبطها الطبيب، وقد يسمع عنها المحيطون، ولكن حين يصل المكتئب إلى قرار الإنتحار بصفة مشروعا قابلا للتنفيذ فقد يخف الإكتئاب بدرجة ما، وقد تظهر معه أعراض أخرى حيث يظل هناك إحتمال المراجعة، فقد تبدو على المريض حيرة أو ذبذبة أو كثرة الحركة ذهابا وإيابا فى نفس المكان مما يشير إلى تقليب الأمور إستعدادا للخطوة الأخيرة، أو للتراجع عنها، وقد تكون هذه المرحلة من أصعب المراحل: بليلة، وعدم إستقرار،وربكة، وإنزواء، أما فى المرحلة التالية (قبل الأخيرة) فإن القرار يتم نهائيا ويصبح حقيقة كأنها تحققت فعلا، وهنا يختفى الإكتئاب نهائيا وقد يحل محله شعور هائل بالسكينة ووضوح الفكر وراحة المنتشى بوصوله والتخلص من كل مشاكله، فماذا يمكن له أفضل من الخروج من الورطة بأكملها، وهذا ما يفسر ما جاء بالمقتطف من أنه “كان العاصى مسرورا مستبشرا قبل موته بقليل” (لاحظ: بقليل) – لكننا نختلف مع الكاتب أن يعتبر ذلك من الأدلة على إضطرابه النفسى بمعنى أنه “إذن.. لم يكن المنتحر يقدر خطورة ما هو فيه”، لا … بل إننا نأخذه دليلا على وضوح قرار الإنتحار واقعا تاما بلا رجعة ولا تردد، ومن هنا يحل اليقين المطلق، ولا يبقى إلا التنفيذ الفعلى بلا أدنى تردد..
وقد تستغرق الفترة ما بين هذا القرارالتام وما بين التنفيذ من ثوان إلى سنوات دون أن يتخلخل القرار، اللهم إلا إذا حدثت طفرة بمثابة إعادة الولادة فيكون الإنتحار هنا قد تم بهذا التغير النوعى فى الوجود.
وأذكر – ولا أستطيع تحديد المصدر – أن أستاذنا نجيب محفوظ قد وصل إلى هذا المأزق فى صدر شبابه وربما كان سائرا قرب كوبرى بولاق أو شيء من هذا القبيل، وفجأة قرر أن “لا”، وعاد يجرب الحياة بنوع أرقى وأكثر عطاء فكان هو “نجيب محفوظ” هذا والحمد لله.
وفى العلاج النفسى الحقيقى العميق، وخاصة فى خبرة العلاج الجمعى يعتبر هذا المأزق الإنتحارى من أدق مراحل القفزة النموية فى إنطلاقة الشفاء المبدع وهى خبرة يعمل حسابها المعالج بكل مهارته حتى تأتى الجرعة دقيقة وتدريجية، فتكون النتيجة إيجابية (الإنتحار بإعادة الولادة).
ثالثا: إن هذا التحول الدراسى بعد أربع سنين من دراسة الطب. كان أول صورالإنتحار أو ما نسميه مكافيء الإنتحار، لا بإعتبار أن الآداب أقل من الطب أى أن هذا التحول هو نقلة إلى أدني، ولكننا فى الممارسة الإكلينيكية فى مصرخاصة لابد وأن نضع فى الإعتبار دلالة مثل هذه التوقفات المفاجئة، والتغيرات النوعية بشكل جاد ومسئول، فقد تكون هذه التحولات هى إرهاصات المرض، وقد تكون جزءا لا يتجزأ من أعراضه المبكرة، ونحن لا نقول بتعميم خطورة دلالتها،ولكن علينا أن ننتبه إلى إحتمال التدهور بدءا بها، وهكذا نضعها فى حجمها الموضوعي.
رابعا: إن مثل هذا المرض ليس إكتئابا فى العادة، وإن كان ظاهره كذلك، بل هو أخطر من الإكتئاب، ويصاحبه فى العادة أفكار تتعلق بالجسم ونقصه وتشوهاته، وخاصة فيما يتعلق بالعضو الجنسى عند الذكور حيث يشكو المريض من قصر قضيبه، رغم خطأ هذا المعتقد فى كل الحالات تقريبا، والشكوى من قصر العضو بالذات شائعة ودالة. وهى لا تعنى ضعفا جنسيا أو عنة كما دلل كاتب المقال من عدم ممارسة العاصى لفتوته فى القاهرة “فماذا كان يمنعه من أن يتمتع بقوة شبابه”؟.
- وهنا ينبغى أن نعدل الوضع فنقول أنه لم يضطرب نفسيا لأن عنده نقص جسدى (فى عضوه التناسلي) ولكن الأرجح أنه أعتقد بنقص هذا العضو نتيجة لإضطرابه النفسى الخطير.
خامسا: إن حدوث الإنتحار بإيحاء من آخر (لم ينتحر) هو أمر بعيد الإحتمال تاما، وهذا كلام مثل الكلام عن تأثير الفكر الوجودى على قاتل والديه، أو ما شابه من تسطيح غريب، فالأفكار الوجودية، والموت، والحياة، والحيونات، والتاريخ. كلها بداخل الداخل، جاهزة وشبه كاملة،والإنسان السوى والمريض على حد سواء يبحث فى الفكر المكتوب والفكر المجسد فى صورة أشخاص وأدباء عما يكمل رؤيته لداخله ويتمم توجيهه إلى قراره، ولا ينبغى إذن أن نقول أن فكرنا قد أثر على الشباب (ورحم الله سقراط) وإن هذا الفكر قد ضلل الناس [3] فالحياة مليئة بكل الأصناف، والإنسان سائح بينها جميعا ينتقى منها ما يقرر حسب ما هو وما يكون وما يصبح.
إنتهى الموقف.
[1] * ذكر كاتب المقال أيضا إشارة إلى إنتحار: فرجينا دولف (1882 – 1941) أرنست هيمنجواى (1889-1961).
[2] من قصيدة اليمامة والهدهد للكاتب – ديوان البيت الزجاجى والثعبان وهى قصيدة رثاء لصديقة أنهت الحكاية كلها بإلقاء نفسها من شاهق.
[3] * رغم أن كاتب المقال قد دافع عن ‘المؤثر’ بأنه كانت سمعته طيبة.. الخ، وهذا دفاع أقبح من الذنب المزعوم.