عدد ابريل 1986
قراءة عابرة فى قراءتين عابرتين
حازم شحاته
تفضلت مجلة الانسان والتطور علينا فى العدد الرابع والعشرين بنشر قصيدة بالعامية للشاعرة كوثر مصطفى، بذلك تصبح احدى المجلات القلائل التى غامرت بنشر العامية حسب رأى افتتاحية العدد رغم أننى لا أدرى ما وجه المغامرة حتى الآن ليس هذا فقط، وانما قدمت قراءتين عابرتين جادتين لهذه القصيدة فى باب (النقد يواكب النشر) هذا الباب الذى يعلن عنوانه عن اشد الأزمات الثقافية فى واقعنا وهى أن النقد لا يواكب النشر دائما من خلال احتفال الصياغة بالفعل (يواكب) الذى وازى بين “النقد” و”النشر”، وهى موازاة لا نراها الا فى هذه المجلة التى تتطور يوما بعد يوم وليس فصلا بعد فصل.
فهل من حقى أن أقدم قراءة نقدية لقراءتين نقديتين من باب أن النقد يواكب النقد أيضا؟! وسأحاول أن تكون هى الأخرى عابرة، على بعض ما جاء فى هاتين القراءتين ولكنها فى نفس الوقت سوف “تنكمش” فى قضايا استقرت حتى ماتت.
أولا :
* (احمد زرزور) يرى أن هناك أبيات مكسورة وسط أبيات موزونة وذلك يقلقه الى حد بعيد، فاما أن تكون القصيدة موزونة أو تكون مكسورة تصوروا!! أحمد زرزور لا يرى أن هناك فرقا بين القصيدة التفعيلية وقصيدة النثر مثلا الا فى الايقاع ويرى أن الايقاع فى القصيدة يجب أن يكون فى قالب واحد، وبذلك وقع فى التصور القديم، وهو الشاعر الحداثى للشعر
* يا أحمد … الايقاع فى القصيدة الحديثة لا ينبع من العروض وحده ولعلك قرأت العدد الخامس والعشرين (من هذه المجلة) (ص 86 – 97)
ولنأخذ المثالين اللذين رأيت فيهما خللا عروضيا .ز
(فيه ايد ممدوده بكرباج بتقطع جسمك)
أنت تقترح أن تكتب (بكرباجها) حتى يستقيم الايقاع …
وذلك لأنك ترى أن المتحرك والساكن يتتابعان فى متوالية منتظمة (/ 5 / 5 ……) وأن الوقوف على كلمة كرباج .. يقطع هذا التوالى، وبدلا من أن تسأل نفسك وأنت الشاعر لماذا توقف الايقاع هنا .. ما دلالة ذلك … أردت أن تتغير الدلالة حتى يستقيم العروض … أن تفهم المعنى والحالة التى تعنى بها القصيدة، هو الذى يفرض الايقاع .. وأربأ بك أن تظن العكس …
لقد وقعت فى شرك القواعد التى “يرفعها” العروضيون لبناء البيت ونسيت أن القواعد التى تريدها لا ترفع شيئا …
أن قراءة الجملة المعنية (فيه ايد ممدودة بكرباج بتقطع جسمك) بعد “القهر” و “الظلم”، لابد أن تعطى اهمية لكلمة (كرباج) .. وبالتالى يتم النبر على المقطع الثالث (با) سواء كتبت بكرباج أو بكرباجها .. ولكن التوقف على الجيم (ذلك الصوت الانفجارى) يعطى صوتا له وعلى كل فأن الوقوف على (كرباج) فى القراءة لتوالى ساكنين (الألف الممدودة والجيم) معناه نهاية الجملة الأولى (فيه أيد ممدودة بكرباج) وهى سليمة عروضيا – كما تعرف وهذا الصمت والتوقف يعطى الفرصة لتخيل الجملة الآتية (بتقطع جسمك) الخالية من حروف المد فتعطى ايقاعا (سليما عروضيا) هو الآخر، ولكن ليس هذا هو المهم فى رأيى، فأن الوقوف على (التاء الانفجارية) و (الطاء –الانفجارية أيضا) وما يبذل من جهد فى نطقهما يعطى ايحاء بحركة التقطيع التى يحملها المعنى ..
لا عليك، فلقد كان من الواجب أن توضع نقطتان (…) بعد كلمة (بكرباج) حتى ترشد القارئ لطريقة القراءة.
* فى المثال الثانى تقول القصيدة وليست الشاعرة :
الغربة قصيدة شعر مخنوق مدبوح ميت جوا كل الشعرا:
وأنت واسمح لى تجترئ على القصيدة بح كلمة (شعر) حتى يستقيم الوزن، وذلك لأنك لا تستسيغ التقاء الساكنين فى وسط البيت ربما لأنك شاعر فصحى وترى أن الوقوف على كلمة (شعر) هو الخلل بعينه، ولذلك لاتعجبك الكلمة فتلقى بها فى البحر، وما فائدتها اذا كانت كلمة قصيدة تغنى .. (ملحوظة : هذه قصيدة شعر وليس مقالا يا زرزور حتى تحذف ما تراه : زائدا) وهذا البيت يسبب لك ازعاجا لأنه ملئ بالكلمات التى تنتهى بساكنين (شعر)، (مخنوق)، (مذبوح)، (ميت) فهذه الكلمات جاءت على هذا النحو لأن القصيدة تريدها وقفات اضطرارية للقارئ كى يقرأها بمفردها .. وهو شعور أرادت القصيدة أن تصرخ فيه وأن تعدد لنفسها أوصاف هذا الشعر المخنوق والمذبوح والميت وقد فاتك أن تحذف البيت كله رغم اضافته للتجربة لأن حذف كلمة شعر معناها أن تغير من الكلمات الآتية بعدها لتصبح (مخنوقة مدبوحة ميتة جوا كل الشعرا)….
* ان التقاطك لكلمة (متكسر) فى نهاية القصيدة جعلك تقول : (ان هول الشعور لم يعط الشاعرة فرصة لكى “تزن” عروضها)
وفى هذا السياق / القصيدة، لايمكن أن نتصور أن كسر الشعر معناه كسر العروض، فليس يكفى للشعر أن يكون موزونا (راجع كلام ابن سينا ص 86 من العدد 25) ونحمد الله أنك تنسى نفسك ناقدا وأنت تكتب قصيدتك والا كانت مصيبة!
ثانيا :
* أما قراءة (محمد يحيى) فأنا لا أرى أنها قراءة فى قصيدة الغربة وانما قراءة فى قراءة أحمد زرزور لقصيدة الغربة فهو قد التقط القفاز
– كما يقول رئيس التحرير فى الافتتاحية من جملة زرزور سؤالا .. (هل قصيدتك لا تكتب الا بالفصحى؟) فليس هناك فرضا لغويا على الشاعر.
ومحمد يحيى قام بمحاولة غريبة وهى كتابة القصيدة بالفصحى، ردا على أحمد زرزور، ولكنه تخطى هذا بدافع من قضيتين هامتين له :
أولاهما : تدرجات محاولاته وضع صيغة لتقييم الشكل العامى للغة الأدبية وأنه لا ينبغى أن يكتب أدب بالعامية الا ما لا يمكن كتابته بالفصحى
ثانيتهما : أن القصيدة جاءت قاصرة عن نقل التجربة، وأن الفصحى ستعينها على “اختراق طبقات لوعى الغربة أكثر عمقا وتحطيم للغربة بابداع أكثر قوة.
ورغم هذا التجاوز عن مجرد الرد على أحمد زرزور للتعرض الى هاتين القضيتين، فأن محمد يحيى لم يقدم سوى الرد على أحمد زرزور وذلك لأنه يعرف كما يقول :
1 أنه ما حاول الا نقلا قشريا ص 149
2 – أنه تجرأ وليس من حقه ص 149
3 – أن المحاولة الموازية لا تتم الا معايشة شعرية وبالفصحى ص 151
* وبعيدا عن الأخطاء اللغوية، واضطراره الى الاستعانة بنمط الخطاب العلمى فى بعض المواقف فأنه كتب المعانى بطريقة لغوية أخرى ولم يكتب القصيدة / الشعور / التجربة / الدلالة … الشعر … لا لأنه ليس بشاعر كما لأنه لم يعايش التجربة بالفصحى كما يقول أيضا – وهو بذلك – فيما أرى – أراد أن يثبت – ربما لنفسه – أنه شاعر رغم اقراره علانية ونشرا – بغير ذلك.
* وعن القضية الأولى التى تهمه، أرى أنه بدأ من فرضية خاطئة،(لا ينبغى أن يكتب أدب بالعامية الا ما لا يمكن كتابته بالفصحى)، ودون الدخول فى قضية تحديد المصطلحات (الأدب) و(العامية) أقول
أولا: أن ما أعترف به القدماء وما اصطلحوا على تسميته أدبا ليس شرطا أن نعترف به أيضا.. فهم رأوا أن النصوص الواجبة التدوين هى النصوص المكتوبة بلهجة قريش فقط وبمستوى خاص، وهم يرون مثلا أن بيتا مثل:
” ليس التكحل فى العينين كالكحل فى طلعة الشمس ما يغنيك عن رحل” يعد من الشعر، بينما يرى” الفارابى” أنه غير كذلك… وهكذا اسقطوا من حسابهم الأدب الشعبى ولم يدونوه باعتباره ليس أدبا..
ثانيا: ما يكتب الآن ويطلق عليه (شعر عامية) هو لا يتخذ من اللهجة العامية متكئا له وانما فقط يستخدم النحو العامى، فهو مجرد أن يكتب، فهو يفصحن، هو لا ينقل الكلمات بذاتها وأنما يستعين بالنمط الخطابى والنطق، وهذا ما جعل زرزور – الشاعر – يقول (العامية القريبة من القلب) (والمتسللة الى أعماق الروح)، حيث أنها لا تترجم الكلمة العادية والأكثر شيوعا واستعمالا والممتزجة بالدم.
مثلا… خذ كلمة (صدقنى) فى سياق محاولتك، ثم قارن بين طريقة نطقها هنا وطريقة نطقها فى القصيدة (العامية) …..
أم محاولة تمثيل نطق هذه الكلمة فى الفصحى مرة وفى العامية مرة أخرى يعطيك الفرق بين الدلالتين..
أن فرضية مثل (لا ينبغى كتابة أدب بالعامية الا ما لا يمكن أن يكتب بالفصحى) يضعك أمام فرضية تبدأ بسؤال.. ولماذا لا يمكن أن يكتب أدب الا بالفصحى.. وما هو مفهوم الفصاحة فى رأيك؟ بل ما هو مفهوم الأدب من وجهة نظرك تأسيسا على معطيات اللحظة / المناخ / الأيديولوجيا.
* أما القضية الثانية، وهى أن الكتابة بالفصحى والالتزام بالأصالة التراثية والتاريخية يساعد على اختراق طبقات التجربة (وعى الغربة بالذات). فمن نافلة القول أن نذكرك بأن موضوع الغربة هو أقدم الموضوعات التى تحدث فيها العامة وآدابهم وأمثالهم وسيرهم وحكاياتهم و…
* أن ما تبحث عنه ويشغلك ـ أن كنت جادا فيما قلته ـ يمكنك دراسته فى قصيدة لأحد الشعراء الذين كتبوا عن الغربة وعايشوها بالفصحى ثم مقارنتها بقصيدة لشاعر آخر كتبها (وعايشها) بالعامية، ولست آت بجديد اذا قلت أن تحاول تقصى الغربة فى المأثور الشعبى ايضا ومقارنتها بكل قصائد الفصحى التى كتبت عنها (وليس منها).
باعتبار أن لهجة قريش الآن – فى القرن العشرين – اصبحت ترجمة للمشاعر وليست اداة توصيل جيدة – خاصة فى الشعر.
* بعد كل هذا… أرى أن تغير العنوان الذى سبق قصيدتك ـ ولعل هناك خطأ مطبعيا ـ ليكون “القصيدة بعد (القتل) وليس (النقل)”.!