مدخل إلى العلاج النفسى الوجودى (الجزء الثالث)
تأليف: رولو ماى – إرفين يالوم
ترجمة وتقديم: د. عادل مصطفى
نظرة تاريخية: طلائع وجودية
ثمة تياران أساسيان فى تاريخ الفكر البشرى. أحدهما هو تيار الماهيات essences ويتجلى فى أوضح صوره عند أفلاطون الذى ذهب إلى أن هناك صورا مكتملة أو نماذج مثالية لكل الأشياء. وأن هذه الأشياء من حولنا- هذا الكرسى المحدد مثلا- ما هى إلا نسخ ناقصة لها. تتبين هذه الماهيات بوضوح حين نتأمل فى الرياضيات: فالدائرة الكاملة والمربع الكامل موجدان فى السماء. أما ما نرسمه نحن البشر من دوائر ومربعات فهى نسخ غير مكتملة من تلك الدوائر والمربعات المثالية. وتتطلب الرياضيات ملكة التجريد التى تغضى عن وجود الشى المفرد. فبمقدورنا مثلا أن نبرهن ببساطة على أن ثلاث تفاحات مضافة إلى ثلاث أخريات يكون مجموعها ستا. غير أن هذا يظل صحيحا حتى لو استبدلنا بالتفاحة وحيد القرن. فالرياضيات لا يعنيها ما إذا كان وحيد القرن موجودا بالفعل. وبوسع قضية ما أن تكون صحيحة دون أن تكون حقيقية. لعل النجاح الباهر الذى تحققه هذه الطريقة فى بعض مجالات العلم (كالرياضيات) هو بعينه ما يحملنا على أن نغفل الكائن الفرد الحى.
غير أن هناك تيارا آخر من الفكر آخذا مجراه عبر التاريخ. ألا وهو تيار الوجود existence. وبموجبه فإن الحقيقة تنصب على الشخص الحى الموجود فى موقف بذاته (عالم) فى وقت بعينه. ومن ثم أطلق على هذا التيار: التيار الوجودى existential هذا ما كان يعينه سارتر فى مقولته الشهيرة: ‘الوجود يسبق الماهية’. فوعى الإنسان (أى وجوده) سابق على أى شئ عليه أن يقوله عن العالم من حوله.
للتراث الوجودى نماذج تاريخية عديدة من المفكرين. منهم أو غسطين الذى ذهب إلى أن ‘الحقيقة تقيم فى أعماق الإنسان’. ودانس سكوت الذى فند فكرة الماهيات العقلية عند توما الاكوينى، مؤكدا أن الإرادة الإنسانية يجب أن تكون أساسا لأى عبارة. ومنهم بسكال القائل ‘إن للقلب أسبابه التى لا يدرى العقل عنها شيئا’.
وتبقى الهوة قائمة فى زمننا هذا بين الصواب والواقع. ويبقى المشكل المحورى الذى يواجهنا فى علم النفس، وفى غيره من جوانب العلم الذى يتناول الإنسان، هو بالتحديد هذا الصدع الفاصل بين ما هو صائب تجريديا وبين ما هو حق وجوديا بالنسبة للشخص الحى المحدد.
البدايات
تنبأ كيركجارد ونيتشه ومن تلاهما من الوجوديين بهذا الصدع المتنامى فى الثقافة الغربية بين الصواب والواقع، وأنكروا الوهم القائل بأننا يمكن أن نفهم الواقع بطريقة تجريدية منفصلة عنه. ورغم مناوأتهم الشديدة للعقلانية الجافة، إلا أننا لا يجوز بحال أن نصنفهم بين أصحاب مذهب الفعالية activism((1)])، ولا يجوز بحال أن ندرجهم بين أصحاب المذهب المضاد للعقلانية، فمثل هذا المذهب وغيره من الحركات التى تجعل الفكر خاضعا للشعور ليس من الوجودية فى شئ. فالحق أن كلا البديلين – النظر إلى الإنسان كذات بحتة أو كموضوع صرف – يؤدى بنا إلى أن نخسر الشخص الموجود الحى. لقد كان كيركجارد والمفكرون الوجوديون ينشدون حقيقة تقبع وراء كل من الذاتية والموضوعية، ويرون أننا ينبغى ألا نكتفى بدراسة خبرة الشخص بما هى كذلك، بل علينا أن نشمل بالبحث ذلك الفرد الذى يضطلع بهذه الخبرة.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون أكبر الفلاسفة الوجوديين فى القرن التاسع عشر – كيركجارد ونيتشه – هما أيضا من بين أبرز السيكولوجيين وأجلهم شأنا فى جميع العصور. ولا أن يكتب رائد معاصر للفلسفة الوجودية – كارل ياسبرز – وهو طبيب نفسى سابق، كتابا دراسيا فذا فى علم السيكوباثولوجيا. وحين يقرأ المرء تحليلات كيركجارد العميقة للقلق واليأس، أو لمحات نيتشه الباهرة الدقة عن ديناميات التبرم والذنب والعدائية التى تصاحب القوى الانفعالية المكبوتة، يشق عليه أن يدرك أنه يقرأ أعمالا كتبت منذ خمسة وسبعين عاما أو مائة عام وليس تحليلا سيكولوجيا معاصرا.
فى القلب من اهتمامات المعالجين الوجودين أن يعيدوا اكتشاف الشخص الحى بين مظاهر استلاب الإنسانية التى تتسم بها الثقافة الحديثة. وهم من أجل ذلك ينخرطون فى تحليل الأعماق، اهتمامهم ليس منصبا على الاستجابات النفسية المنفصلة فى حد ذاتها، بل بالأحرى على الوجود السيكولوجى للشخص الحى الذى يقوم بعملية الخبرة. إنهم يضفون على المصطلحات السيكولوجية معنى أنطولوجيا.
يضم الفلاسفة الوجوديون فى ألمانيا مارتن هيدجر وكارل ياسبرز، وفى فرنسا جان بول سارتر وجابرييل مارسيل ونيقولاس برديائيف، ومن أسبانيا أو رتيجا وأونامونو. ويعرض بول تيلش المدخل الوجودى فى أعماله. ويعد كتابه ‘شجاعة أن تكون’ (أو أن توجد The Courrage to Be ) من نواح كثيرة أفضل عرض وأقواه للفسلفة الوجودية.
نشأ العلاج الوجودى بشكل تلقائى فى أجزاء متفرقة من أوربا وبين مدراس متباينة. وأصبح له قبيل متنوع من الباحثين ومن المفكرين المبدعين(2) . وقد كان هناك أطباء نفسيون يمثلون المرحلة الفينومينولوجية لهذه الحركة بالدرجة الأساس وهم: يوجين منكوفسكى فى باريس، وإرفين ستراوس فى ألمانيا وفى أمريكا بعد ذلك، وفون جبساتل فى ألمانيا. وهناك من
يمثلون المرحلة الثانية للحركة أو المرحلة الوجودية وهم: لدفيج بنسفانجر وستورش و مدرادبوس وبالى ورولاند كون فى سويسرا، وفان دن برج و بوبدنديجك فى هولاندا.
الوضع الحالى:
دخل العلاج الوجودى الولايات المتحدة سنة 1958حين نشر رولو ماى وإرنست انجل كتاب الوجود: بعد جديد فى الطب النفسى وعلم النفس. وقد تضمن الفصلان الأولان اللذان كتبهما ماى مصادر الحركة الوجودية فى علم النفس و إسهامات علم النفس الوجودى خلاصة العلاج الوجودى. أما بقية الكتاب فتشمل مقالات ودراسة حالات قام بها هنرى الينبرجر ويوجين منكوفسكى، وإرفين ستراوس، وفون جبساتل، ولدفيج بنسفانجر، ورونالد كون. أما أول كتاب دراسى شامل فى الطب النفسى الوجودى فكان كتاب إرفين يالوم (1981) بعنوان العلاج النفسى الوجودى.
لم تكن روح العلاج الوجودى تحبذ يوما تأسيس معاهد متخصصة فيه. ذلك أن العلاج الوجودى يتناول الفروض الأساسية التى تبطن أى صنف من العلاج. إنما تعنيه المفاهيم الخاصة بالإنسان لا الفنيات الخاصة بالعلاج. ويفضى بنا هذا الوضع إلى ما يشبه المعضلة ففى حين كان العلاج الوجودى وما يزال ذا نفوذ وتأثير، فليس هناك رغم ذلك إلا النزر اليسير من المقررات الدراسية الوافية فى هذا النوع من العلاج. ومرد ذلك ببساطة إلى أن العلاج الوجودى ليس فنيات محددة نتدرب عليها. وقد كان مؤسسو الحركة الوجودية دائما يقرون أن للطالب أن يتلقى التدريب التقنى لأى مدرسة من المدارس العلاجية، وما عليه إلا أن يصوغ فروضه الأساسية فى قالب وجودى.
إكتشف رولو ماى، وهو وجودى من قبل أن يسمع بالكلمة، أن الشخص الموجود هو الاعتبار الأهم، وليس أية نظرية عن الشخص وقد سعى فى أطروحته للدكتوراة عام 1950 تحت عنوان معنى القلق، إلى وضع مفهوم للقلق السوى يكون أساسا لنظرية عن الإنسان.
كان ماى قد فرغ لتوه من تبين عبثية الذهاب إلى التحليل خمس مرات فى الأسبوع لمدة عامين، قبل أن يبدأ تدريبه بمعهد وليام ألانسون. وقد تلقى تدريبا كمحلل نفسى فى هذا المعهد وفى معهد الفرويدية الجديدة بنيويورك. وكان يمارس التحليل النفسى بالفعل عندما قرأ عن العلاجات الوجودية فى أوائل الخمسينيات، واكتشف أن هذه المفاهيم الجديدة لعلم النفس الجودى هو ما كان يصبو إليه ويعجز مع ذلك عن صياغته.
ثم انعقد المؤتمر العالمى للعلاج النفسى عام 1958 فى برشلونة بأسبانيا، وكان موضوعه: العلاج النفسى الوجودى. شارك فى المؤتمر خمسمائة معالج بينهم علماء نفس بارزون مثل ميدراد بوس وجاك لاكان ومائة معالج من الولايات المتحدة. كان بعض الحضور من أتباع فرويد، وبعضهم من أتباع يونج، وبعضهم من معهد وليام ألانسون. غير أن الجميع أبدوا تقديرآ كبيرا لإضاءات العلاج الوجودى ومفاهيمة.
ويعتقد مؤسسو العلاج الوجودى أن إسهاماته سوف تذوب فى المدارس الأخرى. ففى مقدمة كتابه العلاج الجشطلتى حرفيا (1969) يصرح بيرلز أن العلاج الجشطلتى هو شكل من أشكال العلاج الوجودى(3) . ومن حق أى معالج تدرب فى أية مدرسة أن يجد ما يستند إليه مما نعرضه فى هذا العمل. فإرفين يالوم على سبيل المثال تلقى تدريبه فى مدارس الفرويدية الجديدة. بل إن معالجا سلوكيا سابقا مثل أرنولد لازاروس لا يتردد فى استخدام بعض الفرو ض الوجودية فى علاجه النفسى المتعدد الأنماط. وما كان هذا ليتأتى لو لم يكن العلاج الوجودى طريقة فى فهم الكائن الإنسانى وتصوره، طريقة توغل إلى أعماق أبعد من مدارس العلاج الأخرى، لكى تبرز المباديء والفروض التى تبطن كل الأنساق العلاجية.
تشمل الأعمال الكبرى فى العلاج الوجودى كتب ماى، معنى القلق، (1977)، العلاج النفسى الوجودى (1961)، الإنسان يبحث عن نفسه (1953)، وكتاب جيمس بجنتال، البحث عن الهوية الوجودية وكتابى ميدراد بوس، تحليل الأحلام، (1957) والتحليل النفسى وتحليل الموجود، (1982)، وكتاب فيكتور فرانكل: الإنسان يبحث عن المعنى (1963). وقد كتب هلموت كايزر فى العلاج الوجودى شيئا قيما ضمن كتابه، العلاج النفسى الفعال، (1965). كما أسهم كل من لشلى فاربر (1966، 1976)، وأفرى فايزمان (1965)، وليستر هافنز (1974) إسهامات هامة فى التراث الوجودى.
الشخصية
نظرية الشخصية
العلاج الوجودى شكل من أشكال العلاج الدينامى يقدم نموذجا ديناميا لبنية الشخصية. وكلمة دينامى مصطلح كثير الاستخدام فى علم النفس وفى العلاج النفسى. فنحن كثيرا ما نتحدث مثلا عن الديناميات النفسية للمريض، أو المدخل الدينامى للعلاج. ولكلمة دينامى معنى دارج وآخر تكنيكى. ومن الضرورى أن نكون على بينة من المعنى المقصود لهذه الكلمة حين ترد فى سياق نظرية الشخصية، فبمعناها الدارج تحمل هذه الكلمة دلالات الحيوية; فهى تثير تداعيات من مثل: دينامو، ديناميت، لاعب كرة دينامى، قائد سياسى دينامى ألخ، أما المعنى التكنيكى لكلمة دينامى فيما يتصل بنظرية الشخصية فيشير إلى مفهوم القوة. كان فرويد أول من أدخل هذه الكلمة فى الاستعمال فى نظرية الشخصية. فقد اعتبر الشخصية نظاما مكونا من قوى فى صراع مع بعضها البعض. ينجم عن هذا الصراع مجموعة من الانفعالات والسلوك (منها التكيفى والمرضي) هى التى تكون الشخصية. ولا يكتمل تعريف الشخصية عند فرويد إلا إذا أضفنا أن هذه القوى المتصارعة توجد على مستويات مختلفة من الوعى. وأن بعضها يوجد خارج الوعى تماما، أى يوجد على مستوى لاشعورى.
بذلك عندما نتحدث عن الديناميات النفسية لفرد من الأفراد فإنما نشير إلى القوى والدوافع والمخاوف الشعورية واللاشعورية المتصارعة الخاصة بذلك الفرد. أما العلاج الدينامى فهو العلاج المبنى على النموذج الدينامى لبنية الشخصية.
هناك فى الحقيقة نماذج دينامية عديدة للشخصية. وعلينا لكى نفرق بينها ونميز النوذج الوجودى منها أن نسأل: ما هو محتوى الصراع الداخلى الشعورى واللاشعوري؟ نعم هناك قوى ودوافع ومخاوف تصطرع مع بعضها البعض داخل الشخصية، ولكن أية قوى هذه؟ وأية دوافع؟ وأية مخاوف؟
وربما يتجلى المفهوم الوجودى للصراع الداخلى بصورة أكثر وضوحا حين نقارنه بمفهومين آخرين شهيرين لدينميات الشخصية، هما النموذج الفرويدى والنموذج البينشخصى (الفرويدية الجديدة).
النموذج الفرويدى للديناميات النفسية
يفترض النموذج الفرويدى أن الفرد تحكمه قوى غريزية فطرية لا تنى تتكشف للعيان مثل ورقة السرخس خلال دورة النمو النفسجسمية، وقد افترض فرويد صراعات على جبهات عديدة: فهناك غرائز ثنائية تصطدم الواحدة بالأخرى (غرائز الأنا مقابل غرائز الليبيدو فى نظرية فرويد الأولى، أو الإيروس مقابل الثناتوس فى النظرية الثانية) كما تصطدم الغرائز بمقتضيات البيئة، وتصطدم فيما بعد بالأنا الأعلى (البيئة المدخلة internalized environment ) ) وصفوة القول فى طبيعة الصراع من وجهة نظر النموذج الدينامى الفرويدى، أننا بإزاء كائن مدفوع بالغرائز، ما برح فى حرب مع عالم يحول بينه وبين إشباع هذه الدوافع الفطرية العدوانية والجنسية.
النموذج البينشخصى للديناميات النفسية (الفرويدية الجديدة)
أما النموذج البينشخصى (الذى وضعه منظرون من أمثال هارى ستاك سولفان، وكارن هورنى، وإريك فروم) فيرى أن الفرد ليس موجها بالغريزة، وليس مبرمجا بشكل مسبق، بل هو صنيعة البيئة الثقافية والبينشخصية. فهى تتفرد تقريبا بصياغته وتشكيله.
إن الطفل ليستميت فى طلب الرضا والقبول ممن يراهم قائمين برعايته موفرين له أسباب البقاء. غير أن للطفل أيضا نزوعا داخليا ملحا تجاه النمو والسيادة والاستقلال. وهى ميول لا تنسجم دائما مع ما يتطلبه البالغون ذوو الشأن فى حياته. فإذا ما ابتلاه حظه العاثر بأبوين تعوقهما صراعاتهما العصابية ذاتها عن توفير الأمان له وحفزه على النمو المستقل، حينئذ يتولد صراع بين حاجة الطفل للأمان وبين نزوعه الطبيعى للنمو. وهو صراع يضحى فيه دائما بالنمو لصالح الأمان.
الديناميات النفسية الوجودية
يستند النموذج الوجودى للشخصية إلى تصور آخر للصراع الداخلى. فالصراع الأساسى وفقا لهذا النموذج ليس صراعا ضد دوافع غريزية مقموعة. لا، ولا هو صراع ضد بالغين ذوى خطر فى حياة الفرد المبكرة. إنما هو صراع بين الفرد وبين معطيات الوجود.
ما هى هذه المعطيات؟
إن بوسع الفرد المفكر أن يكتشفها دون كثير عناء. فإذا ما نحينا العالم الخارجى جانبا، وأغضينا عن الإهتمامات اليومية التى نشغل بها حياتنا فى العادة، ثم أمعنا فى التأمل ليشمل موقفنا فى العالم، عندئذ لا مناص لنا من مواجهة هموم معينة يسميها تيليش الهموم النهائيةultimate concerns ((4)]) وهى هموم تشكل جانبا لا مهرب منه من جوانب الوجود الإنسانى فى العالم.
يحدد يالوم أربعة هموم نهائية ذات صلة كبيرة بالعلاج النفسى وهى: الموت، الحرية، العزلة، اللامعني
إن مواجهة المرء لكل من هذه الهموم هى التى تشكل محتوى الصراع الداخلى وفق الإطار المرجعى الوجودى.
الموت
الموت هو بين هذه الهموم النهائية أكثرها وضوحا وجلاء. فليس بخاف على الجميع أن الموت آت لا مرد له. إنها حقيقة مرعبة. ونحن نستجيب لها فى المستويات الأعمق من دواخلنا برعب أكبر. كل شيء كما يقول سبينوزا’يريد أن يبقى على حاله’ إنه لصراع صميمى ذلك الناشب بين وعينا بالموت المحتوم وبين رغبتنا الآنية فى البقاء. تلك هى الرؤية الوجودية. فالموت يضطلع بدور كبير فى خبرة المرء الداخلية، ويراوده كما لا يرواده أى شيء آخر.
الموت يدمدم بلا توقف تحت غشاء الحياة. وهم الموت يغمر الإنسان منذ نعومة أظفاره. فالتعامل مع خطر المحو والإزالة هو من المهام الكبرى التى يتعين على الطفل أن ينهض بها فى رحلة نموه.
وليس لنا من سبيل كى نصمد أمام هذا الخطر المسلط إلا أن ننصب دفاعات ضد الوعى بالموت. وهى دفاعات مؤسسة على التعامى والإنكار denial ، وتدخل فى تشكيل بنية الشخصية. فإذا كانت دفاعاتنا غير توافقية أدى بنا ذلك إلى أمراض سوء التوافق.
فالمرض النفسى ينجم إلى حد كبير عن فشلنا فى تخطى حقيقة الموت والعلو عليها، والأعراض النفسية والبنية الشخصية السيئة التوافق تنبع جمعيها من رعب الموت وخوف المرء من الفناء والزوال.
الحرية
ليس من دأبنا أن ننظر إلى الحرية كمصدر للقلق. فنحن، على العكس تماما، نعتبرها مفهوما إيجابيا على طول الخط. وتاريخ الحضارة الغربية حافل بالتوق إلى الحرية والكفاح فى سبيلها. إلا أن للحرية داخل الإطار المرجعى الوجودى معنى تكنيكيا خاصا – معنى لصيقا بالرعب!
تعنى الحرية فى الإطار الوجودى أن الإنسان، بعكس ما توهمه خبرة الحياة اليومية، لا يدخل فى البدء ويغادر فى النهاية عاملا واضح المعالم ذا بنية كلية مترابطة محددة مكتملة. تشير الحرية إلى حقيقة أن الكائن الإنسانى مسئول عن إبداع عالمه الخاص وشكل حياته واختياراته وأفعاله. الكائن الإنسان ‘محكوم عليه بالحرية’ على حد قول سارتر. ويرى رولو ماى أن الحرية الحقة تلزم الإنسان أن يواجه التحديدات التى يضعها قدره ولا يستسلم لها.
كان الفكر الفلسفى لأمد طويل يحمل جرثومة الموقف الوجودى الذى يرى أن الكائن الإنسانى يشيد عالمه الخاص. فصميم ثورة كانت فى الفلسفة هو افتراضه أن وعى الإنسان وطبيعة التركيب الذهنى للكائن الإنسانى هو الذى يضفى على الواقع شكله الخارجى. حتى المكان عند كانت ‘ليس شيئا موضوعيا أو واقعيا بل شيء ذاتى ومثالى. إنه كان ومايزال مخططا وإطارا ينبع من طبيعة العقل بقانون ثابت، لكى ينظم كل المعطيات الحسية الخارجية’.
يحمل هذا التصور الوجودى للحرية متضمنات مرعبة. فإذا صح، كما يقول فلاسفة مثل هدجر وسارتر، أننا نخلق ذواتنا الخاصة وعالمنا الخاص، فليس ثمة إذن أرض تحتنا بل مجرد هاوية.. فراغ. عدم
من مواجهتنا للحرية ينشأ صراع دينامى داخلى هام. صراع بين وعينا بالحرية واللاقاعدة من جهة، وبين حاجتنا العميقة للقاعدة وللبنية النظامية من جهة أخرى.
ويشمل مفهوم الحرية موضوعات كثيرة ذات تضمينات واسعة تمس العلاج النفسى. أبرزها فكرة المسئولية. يتفاوت الأفراد تفاوتا كبيرا فى درجة المسئولية التى يرغبون فى تحملها إزاء مواقفهم الحياتية، وفى الطرائق التى يصطنعونها للتنصل من المسئولية. فبعض الأفراد يضعون المسئولية على عاتق غيرهم من الناس، وعاتق الظروف والرؤساء والأزواج، وعندما يدخلون فى الموقف العلاجى يحملون المعالج النفسى مسئولية شفائهم. وبعض الأفراد يتنصلون من المسئولية بأن يعيشوا دور الضحية البريئة، التى جنت عليها أحداث خارجية ليس لهم بها يد (ويغفلون على الدوام أنهم هم الذين قاموا بالتمهيد لهذه الأحداث وتمريرها وأنها جرت على إذن مستور منهم وإيعاز مضمر. وبعض الأفراد ينسلخون من المسئولية كلية بأن يدخلوا فى حالة اضطراب عقلى عابر لا يعدون فيها أهلا للمحاسبة على سلوكهم حتى أمام أنفسهم.
وللحرية جانب آخر هو ‘الإرادة، فأن يعى المرء مسئوليتة عن موقفه يعنى أنه يدخل دهليز الفعل (ويعنى فى الموقف العلاجى أنه يدخل دهليز التغيير). فالإرادة هى ذلك الممر الموصل من المسئولية إلى الفعل. ويتألف فعل الإرادة willing، كما أوضح ماى، من فعل الرغبة wishing أولا ثم فعل القرار deciding يعانى كثير’ من الأفراد من مصاعب كبيرة فى أن يحسوا برغبة ما، أو أن يعبروا عنها; ذلك أن الرغبة لصيقة بالشعور، وذوو الوجدان المعطل من الأفراد لا يمكنهم الفعل بتلقائية، لأنهم لا يستطيعون أن يشعرا، وبالتالى لا يستطيعون أن يرغبوا. أما المتصفون بالاندفاعية impulsivity من الأفراد فهم يتجنبون فعل الرغبة إذ يفشلون فى التمييز بين الرغبات، ومن ثم يفعلون باندفاع وفورية وفق جميع الرغبات. أما أصحاب الأفعال القهرية( compulsivity وهو اضطراب آخر) فهم يظلون مسيرون بإلحاحات داخلية غريبة عن ذواتهم، وتجرى غالبا على نقيض رغباتهم الشعورية.
وما إن يخبر المرء رغبة ما خبرة كاملة حتى يجد نفسه فى مواجهة القرار decision وكم من أفراد يعرفون تماما ماذا يرغبرن ويبقون مع ذلك عاجزين عن أن يقرروا أو يختاروا وكثيرا ما يتملكهم ما يمكن أن نسميه فزع القرار. وقد يوكلون إلى غيرهم اتخاذ القرار الخاص بهم، أو يتصرفون بطريقة من شأنها أن تجعل القرار يفرض عليهم بفعل ظروف هم قاموا فى واقع الأمر بتمريرها على مستوى لا شعورى.
العزلة
ثالث الهموم النهائية هو العزلة isolation. ومن الأهمية بمكان أن ندرك الفرق بين العزلة الوجودية وبين الصنوف الأخرى من العزلة.
فالعزلة البينشخصية interpersonal isolation تشير إلى البون الفاصل بين الفرد وبين الآخرين، والناتج عن نقص فى المهارات الاجتماعية وخلل نفسى فى مجال الألفة والحميمية.
والعزلة داخل الشخصية intrapersonal isolation (وهو مصطلح كان فرويد أول من أدخله) تشير إلى حقيقة أننا معزولون عن أجزاء من أنفسنا. فثم مقاطعات من النفس (من الخبرة، الوجدان، الرغبة) منشقة عن نطاق وعينا ودرايتنا. وهدف العلاج النفسى هو أن يساعد الفرد على المطالبة بهذه الأجزاء المنبتة من نفسه واستردادها.
أما العزلة الوجودية existential isation فهى أوغل فى العمق من الصور الأخرى للعزلة. فمهما تكن علاقتنا بشخص آخر، وبالغا ما بلغ ودنا له واقترابنا منه، تبق هناك فجوة نهائية تفصلنا عنه.. فجوة يستحيل عبورها. كلنا يدخل الوجود وحيدا، وكلنا لابد أن يرحل عنه وحيدا.
فى بدايات الوعى يخلق كل فرد ذاتا أولية (أنا ترنسند نتالية) بأن يدع وعية يلتف على نفسه فيفرق نفسا ما عن بقية العالم. عندئذ فقط يشرع الفرد – وقد صار الآن واعيا بذاته – فى تأسيس الذوات الأخرى. تحت هذا الفعل، كما يلاحظ ميجوسكوفيك، ثمة وحدة صميمة; فلا مهرب للفرد من أن يعرف (1) أنه يشكل الآخرين تشكيلا. (2) أنه لا يستطيع أن يشرك الآخرين شراكة كاملة فى وعية الخاص.
ليس هناك مزكر بالعزلة الوجودية أبلغ من مواجهة للموت. فكل من يواجه الموت أو يراه رأى العين يصبح بلا استثناء على وعى حاد بحقيقة العزلة. مثل هذا التعاقب هو موضوع التمثيلية الأخلاقية كل إنسان Everyman التى كانت تمثل فى العصور الوسطى. فكل إنسان كتب عليه أن يزوره ملك الموت الذى يخبره أن عليه أن يشرع حجته النهائية إلى الله. وكل إنسان، يتوسل دون جدوى أن يمهل فى الأجل; فالموت يعلنه أن عليه أن يجهز نفسه للرحلة. عندئذ يطلب كل إنسان، أن يسمح له بأن يصطحب معه رفقاء فى رحلته; فيجيبه الموت إلى هذا الطلب. وتصور بقية التمثيلية محاولات كل إنسان، فى إقناع الآخرين باصطحابه فى رحلته. فها هو يتوجه بالطلب إلى عدد من الشخصيات الرمزية: الصداقة، حطام الدنيا، القرابة، المعرفة. وكلها تأبى أن ترافقه. ويواجه كل إنسان، رعب الوحدة الوجودية. فى النهاية تصور التمثيلية ‘كل إنسان وقد عثر على الرفيق الوحيد الراغب فى مشاركته رحلته: إنه…. العمل الصالح. ذلك فى الحقيقة هو المغزى الأخلاقى للتمثيلية: الأعمال الصالحة، من منظور الإيمان المسيحى، تمنحنا الحماية من العزلة الصميمة.
بذلك يكون الصراع الدينامى الثالث هو بين وعى المرء بعزلته الجوهرية وبين رغبته فى أن يدرأها.. أن يندرج.. ينصهر.. أن يكون جزءا من كل أكبر.
يشكل الخوف من العزلة الوجودية (والدفاعات ضد هذا الخوف) أساسا وطيدا لجانب عريض من الأمراض النفسية البينشخصية. فهذه الدينامية تزودنا بنظام تفسيرى اقتصادىparsimonious ((5)]) وقوى لفهم كثير من العلاقات البينشخصية المخفقة. تلك العلاقات التى يستعمل فيها الشخص شخصا آخر لوطر معين ولمأرب ما، أكثر مما يصله بباعث من الأهتمام بوجود ذلك الشخص ورعاية ذلك الوجود.
العزلة صميمة لا مهرب منها. ولا يمكن لأى علاقة أن تنفى العزلة. غير أن الإنسان يمكن أن يشارك شخصا آخر عزلته بطريقة تخفف شيئا من ألم العزلة، فإذا سلم الإنسان تسليما بوضعه الوجودى المعزول، واحتمله بشجاعة وعزم، عندئذ فقط يمكنه أن يتجه بحب نحو الآخرين. أما إن تملكه الرعب من مواجهة العزلة فلن يكون بمقدوره أن يتجه إلى الآخرين. كل ما يستطيع فعله آنذاك هو أن يستعمل الآخرين كدرع تحميه من العزلة فى مثل هذه الحالة لن تكون العلاقات سوى إخفاقات مفككة وإجهاضات وصور مشوهة لما ينبغى أن تكون عليه العلاقات الأصيلة.
يحس بعض الأفراد (ولا سيما المصابين باضطراب الشخصية البينية borderline personality disorder عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال حدود الذات dissolution of ego boundaries يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون فى وجودهم الخاص. ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا فى حضور شخص آخر، أى لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم.
يحاول الكثيرون أن يتخلصوا من العزلة عن طريق الانصهار أو الالتحام fusion، فيلينون حدود الذات ويصبحون جزاءا من فرد آخر. إنهم يتجنبون النمو الشخصى والإحساس بالعزلة الذى يصاحب النمو. هذا الانصهار هو الذى يبطن خبرة الحب. فالعجيب فى أمر الحب الرومانسى هو أن ‘الأنا’ المنعزلة تختفى فى النحن. وقد يندمج البعض بجماعة أو بقضية أو وطن أو مشروع. أن تكون كأى فرد آخر – أن تمتثل وتخضع وتساير فى الملبس والحديث والعادات.. ألا تكون لك أفكار خاصة أو مشاعر مختلفة – كل ذلك من غايته ومبتغاه أن ينقذ الفرد من عزلته.
وممارسة الجنس القهرية هى أيضا استجابة شائعة للعزلة المخفيفة. وقد يمنح التشرد الجنسى انفراجة قوية للفرد المنعزل، غير أنها انفراجة وقتية. وهى وقتية لأنها ليست علاقة، بل صورة كاريكاتورية لعلاقة. فالذى يمارس الجنس قهريا لا يتصل بالوجود لا يعرف الآخر. فهو لا يرى من الآخر ولا يريه إلا تلك الجوانب التى تيسر أمر الإغواء والفعل الجنسى.
اللامعنى
رابع الهموم النهائية هو اللامعنى. فإذا كان كل شخص مائتا لا محالة، وكان كل شخص يشيد عالمه الخاص، وكل شخص وحيدا فى عالم غير مكترث، فماذا عسى أن يكون للحياة من معني؟ لماذا نعيش؟ كيف نعيش فى مقبل الأيام؟ إذا لم يكن هناك تشكيل مسبق للحياة وتكوين مقدر سلفا، فعلينا إذن أن نؤسس المعنى الخاص لحياتنا. ويصبح السؤال الجوهرى عندئذ هو: ‘هل يمكن لمعنى حياتى يخلقه الفرد أن يكون من القوة والرسوخ بحيث ينهض بحياة ذلك الفرد ويحملها؟’
يبدو أن الإنسان كائن مرتهن للمعنى.. يسعى بطبيعته إلى المعنى ويحتاجه. فإذا نظرنا إلى أنفسنا نجد أن من صميم التنظيم النيوروسيكولوجى لإدراكنا أن يقوم بإضفاء شكل على المؤثرات العشوائية للتو واللحظة. فنحن ننظمها آليا إلى أمامية (صورة) وخلفية. وعندما تواجهنا دائرة ناقصة فنحن تدركها آليا كدائرة مكتملة. وحين نكون بإزاء موقف غامض أو مجموعة من المؤثرات التى تتحدى التشكيل، يعترينا الضيق الذى لا يبرحنا حتى ينتظم ذلك الموقف فى شكل مميز. وما يقال بشأن المؤثرات العشوائية يقال بشأن المواقف الوجودية: فماذا تظن بإنسان ألقى به فى عالم لا شكل له، إلا أن يظل مضطربا لائبا يبحث عن شكل. عن تفسير.. عن معنى للوجود.
ثمة سبب آخر يجعل معنى للحياة ضرورة للإنسان لا غنى عنها: فالمعنى هو مخطط وإطار نستمد منه نظاما هرميا للقيم. والقيم تمدنا ببرنامج عمل نسلك فى الحياة وفقا له. القيم لا تخبرنا فقط لماذا نعيش، بل وكيف نعيش.
ينشأ الصراع الداخلى الرابع إذن من هذه المعضلة: كيف يتأتى لكائن يلزمه المعنى أن يعثر على معنى فى كون خلو من المعني؟
مفاهيم متنوعة
يتألف محتوى الصراع الداخلى وفق الإطار المرجعى الوجودى من الهموم النهائية ultinate concerns وما تفرقه من مخاوف ودوافع شعورية ولا شعورية. ويحتفظ المدخل الوجودى الدينامى بالبنية الدينامية الأساسية عند فرويد، ولكنه يملأها يمحتوى مختلف جذريا فالصيغة الفرويدية القديمة التالية:
دافع ← قلق ← ميكانزم دفاع(6)
يستبدل بها فى النظام الوجودى هذه الصيغة:
الوعى بالهم النهائى ← قلق ←ميكانزم دفاع
يضع كل من التحليل النفسى والنظام الوجودى القلق فى القلب من البنية الدينامية. فالقلق هو وقود السيكوباثولوجيا: فالعمليات النفسية الشعورية واللاشعورية (ميكانزمات الدفاع) إنما تتولد لكى تتعامل مع القلق. هذه العمليات هى التى تشكل السيكوباتولوجيا: فهى توفر الأمان، ولكنها أيضا تحد من النمو.
ومن الفوارق الهامة بين النظامين أن التسلسل الفرويدى يبدأ بـ ‘دافع’، بينما يبدأ النظام الوجودى بـ ‘وعي’. ذلك أن الإطار المرجعى الوجودى ينظر إلى الفرد فى الأساس باعتباره خائفا موجوعا أكثر منه مدفوعا.
يرى المعالج الوجودى أن القلق ينبع من مواجهة الموت واللاقاعدة (الحرية) والعزلة واللامعنى. وأن الفرد يستخدم صنفين من ميكانزمات الدفاع لمغالبة القلق: الصنف الأول، وهو الذى وصفة بدقة كل من فرويد وأنا فرويد وهارى ستاك سوليفان، يحمى الفرد ضد القلق بغض النظر عن مصدره. أما الصنف الثانى فيشمل دفاعات محددة. تساعد الفرد على مغالبة أنواع بعينها من المخاوف الوجودية الأساسية.
لنأخذ على سبيل المثال الميكانزم الدفاعى الذى يستخدمه الفرد فى مواجهة القلق الناشيء عن وعيه بالموت. يصف يالوم (1981) بمكانزمين محددين هامين: الأول عبارة عن اعتقاد لا معقول فى المنزلة الشخصية الخاصة specialness، والثانى اعتقاد لامعقول فى وجود منقذ نهائى ultimate rescuer هذان الميكانزمان يشبهان الضلالات من حيث كونهما اعتقادين زائفين ثابتين. ومع ذلك فهما ليسا ضلالين بالمعنى الإكلينيكى، لأنهما عموميات شاملان يؤمن بهما جميع البشر.
المنزلة الخاصة(7)
يطوى كل فرد منا جوانحه على اعتقاد قوى عميق بأنه يتمتع بحصانة شخصية ومنعة وخلود. ورغم أننا ندرك على مستوى عقلى عبث هذا الاعتقاد وحماقته، إلا أننا مستوى لا شعورى عميق نعتقد أن القوانين المعتادة للبيولوجيا لا تنطبق علينا.
لم يصف أحد قط هذا الاعتقاد العبثى العميق بالقوة التى وصفه بها تولستوى، الذى يقول على لسان إيفان إليش:
كان يعرف فى أعماق قلبه أنه يحتضر.. يحتضر؟!! ذلك خاطر ما اعتاده قط ولا راض نفسه عليه. ليس هذا فحسب. إنها، ببساطة، فكرة لا يفهمها… لا يعيها.
إن القياس المنطقى الذى تعلمه قديما:
كل إنسان فان
وكايوس إنسان
إذن كايوس فان
كان يبدو له دائما قياسا صحيحا بالنسبة لكايوس.. ولكنه بالتأكيد غير صحيح حالما انسحب الأمر عليه. فكون كايوس – الإنسان على وجه التجريد – فانيا، هو قول صحيح تماما. ولكنه ليس كايوس. لا ولا هو إنسان مجرد. إنما هو كائن متميز تماما عن كل ما عداه. ومختلف عن كل الآخرين قلبا وقالبا… إنه فانيا الصغير بصحبة ماماوبابا وميتيا وفولوديا ولعبه وسائقه ومربيته.. ماذا يدرى كايوس عن رائحة الكرة الجلدية المخططة التى كان فانيا مغرما بها دائما؟.. هل قبل كايوس يد أمه كما قبلتها وهل كان يحفه حرير ردائها كما كان يحفني؟… هل كان يغضب ويشغب فى المدرسة عندما لا تروق له الفطائر؟.. هل أحب كايوس مثلما أحببت؟… وهل بوسعه أن يرأس جلسة كما رأست؟… إن كايوس فان حقا… وإن حقا عليه أن يموت. أما أنا: فانيا الصغير… إيفان إليش، بكل أفكارى وعواطفى، فشيء مختلف تماما. إن من المستبعد أننى ينبغى أن أموت.. إن ذلك يكون شيئا مرعبا غاية الرعب.
هناك عدد من المتلازمات المرضية المرتبطة بهذا الميكانزم الدفاعى، يصاب الفرد بواحدة منها فى حالة غياب هذا الميكانزم أو ضعفه. فيكون مثلا ذا شخصية نرجسية، أو مدمنا للعمل القهرى مستغرقا فى البحث عن المجد، أو يكون بارانوايا. معظما. لذاته. وتقع الواقعه. فى حياة مثل هؤلاء الأفراد وتحل بهم الأزمة عندما تنحطم منظومتهم الاعتقادية ويداهمهم إحساس بالعادية وانعدام الحصانة. وكثيرا. ما يلتمسون العلاج عندما يكل ميكانزم المنزلة الخاصة ولا يعود قادرا على صد القلق، مثلما يحدث إبان المرض الشديد أو حال تعثر ما كان يبدو لهم دائما تقدما أبديا.
الاعتقاد فى وجود منقذ نهائى
الميكانزم الدفاعى الثانى الذى يحجب عنا وعى الموت هو اعتقادنا فى وجود خادم شخصى جبار يحرسنا إلى الأبد ويحمى هناءتنا، والذى قد يتركنا نقترب من حافة الهاوية ولكنه متأهب دائما لانتشالنا فى اللحظة الأخيرة. ويؤدى تضخم هذا الميكانزم إلى بنية شخصية تتصف بالسلبية والاعتقادية والخنوع والتذلل.
وكثيرا ما يكرس مثل هؤلاء الأفراد حياتهم للعثور على منقذ نهائى واسترضائه. ويعيشون من أجل الآخر المسيطر على حد قول سلفانو أريتي- تلك أيديولوجية حياتية تستبق وتمهد الطريق للإصابة بالاكتئاب المرضى. وهم ربما ينعمون بتكيف حياتى عال ما بقوا مستدفئين بحضرة ذلك الآخر المسيطر. لكنهم سرعان ما ينهارون ويغشاهم كرب عظيم بمجرد أن يفقدوه.
ومن الفوارق الكبرى بين المدخل الدينامى الوجودى وبين المداخل الدينامية الأخرى فارق يتعلق بالتوجه الزمانى. فالمعالج الوجودى يمارس عمله ‘بصيغة المضارع’. أعنى فى الزمن الحاضر. فمن واجبنا أن نفهم الفرد ونساعده أن يفهم نفسه من خلال قطاع عرضى لـ ‘هنا والآن’ وليس من خلال قطاع طولى تاريخى. لقد كان فرويد يستعمل كلمة ‘عميق’ كمرادف لكلمة ‘مبكر’، وعلى ذلك يكون الصراع الأعمق عنده هو الصراع الأقدم فى حياة الفرد. ذلك أن ديناميات فرويد نشوئية التوجه مبنية على مراحل النمو، بحيث إن الجوهرى والأساسى، فى سياقه يجب أن يفهما من منظور التتابع الزمنى. فكلاهما ترادف ‘الأول’ أو ‘الأسبق زمنيا’. بذلك تكون المصادر الأساسية للقلق عند فرويد هى المحن المبكرة: الانفصال والخصاء.
أما كلمة ‘عميق’ فى المنظور الوجودى فتعنى الهموم الأكثر جوهرية والتى تواجه الفرد فى الوقت الحالى. ولا ينبغى من وجهة النظر الوجودية أن يأخذ الماضى (أى فكرة المرء عن ماضيه) من الأهمية إلا بقدر ما يشكل جزاءا من الوجود الحالى للفرد، وبقدر ما يسهم فى تشكيل طريقته الحالية فى مواجهة الهموم النهائية. فالمشهد الآنى المباشر هو الذى يعنى المعالج الوجودى أكثر مما عداه، وفهمة للشخصية يعنى فهمة لأعماق الخبرات المباشرة للفرد.
ليس من هموم العلاج الوجودى أن ينقب عن الماضى ويفهمه. بل هو يتوجه فى المقابل إلى ‘صيرورة المستقبل حاضرا(8) ولا يعنى بالماضى إلا بقدر إلا بقدر ما يلقى من ضوء على الحاضر. ويجب زلا يغيب عن ذهن المعالج النفسى أننا إنما نخلق ما ضينا خلقا ونخترعه اختراعا وأن شكل وجودنا الحالى هو الذى يملى علينا ما نختاره من الملاضى ونتملاه ونحييه.
الفصل القادم والأخير:
” العلاج النفسى وتطبيقاته“
[1] – هو المذهب القائل بوجوب اتخاذ إجراءات عملية ودعاوية عنيفة وفعالة من أجل نصرة حزب سياسى أو مذهب فكرى. ” المترجم”
[2] – يفوتنا فى هذا الفصل التوجيهى أن نشير إلى الصلة بين الوجودية وبين الفكر الشرقى كما يتمثل فى كتابات لاوتسو وبوذية ‘زن’. فالحق أن أوجه الشبه ملفته يلمحها المرء لتوه حين ينظر فى بعض الشواهد من طريق الفضلية للاوتسو (باينر 1946):
- الوجود يند عن قدرة الكلمات على الإفصاح: قد نستخدم الألفاظ فى تعريفه ولكن ليس من بينها لفظ مطلق.
- الوجود لا ينشئه شيء وينشيء كل شيء …. إنه أبو العالم.
- الوجود لا متناه. الوجود لا وجه لتعريفه. ورغم أنه يبدو كأنه مجرد كسرة خشب فى يدك لتحفر عليها كما تشاء، فليس لك أن تلعب بها باستخفاف ثم تطرحها أرضا.
- طريقة الفعل هى أن تكون.
بل تمسك بمركز وجودك . . فكلما تخليت عنه قلما تتعلم “المترجم”
[3] – يتجلى هذا التشابه بين العلاج الجشطلتى والعلاج الوجودى، الذى هو أقرب إلى التطابق = والتماهى، فى الوصايا الآتية التى أسماها نارانجو (1970) وصفة العلاج الجشطلتى:
- عش الآن، عش هنا – كف عن التفكير الحالم والتفكير العابث
- أفصح عن دخيلة نفسك أكثر مما تتلاعب وتبرر وتبين
- لا تضيق على ذاتك آفاق الخبرة والوعى – لا تقبل إلا أوامرك الخاصة
- تحمل مسئولية مشاعرك الشخصية وأفكارك وأفعالك
وأخيرا: كن نفسك وارض بما هو أنت “المترجم “
[4] – تحتمل اللفظة ترجمات أخرى مثل: الهموم المطلقة، القصوى، الأساسية، الجوهرية . . . وقد آثرنا تعبير الهموم النهائية لتوحيد المصطلح قبل أى شيء، على أن نلق به فى الذهن المعانى الأخرى المصاحبة له فى اللفظة الإنجليزية. ‘المترجم”
[5] – نسبة إلى مبدأ الاقتصاد فى الفكر(نصل أوكام) ومفاده أن افضل التفسيرات( الظاهرة… الخ) هو ذلك الذى يتطلب أقل عدد من الافتراضات. “المترجم”
[6] – القلق عند فرويد هو إشارة خطر أو نذير خطر فإذا ما سمح الكائن لدوافعه الغريزية بالتعبير، سيصبح مهددا: إما باجتياح الأنا وإبهاظها، أو بانتقام محتوم من البيئة.
وبينما تحد ميكانزمات الدفاع من التعبير المباشر عن هذه الدوافع، فإنها تتيح لها تعبيرا غير مباشر – فى صورة مزاحة displaced أو مصعدة sublimated أو رمزية symbolic
[7] – آثرنا تعبير المنزلة الخاصة على تعبيرات أخرى ممكنة مثل: المكانة الاستثنائية، الخصوصية، الخطوت الخاصة، الوضع الخاص، المقام الخاص. ‘المترجم’
[8] – يقول مارتن هيدجر فى كتابه ‘ الوجود والزمان’ إن الآن الرئيسى فى الزمن الوجودى هو المستقبل. إنه لا يتحرك من الماضى عبر الحاضر إلى المستقبل، بل ينطلق من المستقبل عبر الماضى إلى الحاضر. إنه وهو يصل إلى المستقبل يرتد ثانية ليتمثل الماضى الذى صنع الحاضر. ولا يعنى هيدجر هنا، بطبيعة الحال، تلك الأشكال المجردة للزمن مثل زمن أرسطو أو نيوتن أو ليبنتز أو برجسون أو أينشتين، بل يعنى الزمن الوجودى الشخصى، زمن الوجود الفردى المتعين ومتصل حياته. ‘المترجم’