علم بالنفس: من رؤى الصوفية
فى رحاب النفرى
موقف ما لا ينقال (2)
بدأنا من العدد الماضى هذا الباب، فوقفنا مع مولانا النفرى، أو فى رحابه، بل على بابه وقفنا فى موقف ما لا ينقال، وقدمنا ثلاث إضاءات هى:
1- أوقفنى فى ما لا ينقال، وقال لى: به تجتمع فى ما لا ينقال
2- وقال: إن لم تشهد مالا ينقال تشتت بما ينقال
3- وقال: ما ينقال يصرفك إلى القوليه، والقولية قول، والقول حرف، والحرف تصريف، وما لا ينقال يشهدك فى كل شئ تعرفى إليه، ويشهدك من كل شئ مواضع معرفته.
وقبل أن نستطرد فى الوقوف مع النفرى وبه، نود أن ننبه إلى محدودية هذا الاجتهاد فى هذا الباب، وخاصة فيما يتعلق بالأصل اللغوى وتصرفاته، فما ينبغى ألا يخفى على القارئ خاصة هو أن النفرى مثل سائر الصوفية وعلى رأسهم، أنما يستعمل لغته الخاصة، كما أنه يخترع ويبتدع ألفاظا جديدة، ثم أن السياق يغير من مواقع الكلم، فالمهني. ورغم أننى أرجع إلى المعاجم قليلا أو كثيرا، إلا أننى لا ألتزم بها دائما. كما أنها لا تسعفنى عادة فأقف أمام اللفظ فى رهبة أستوحيه: نبضا، وحرفا، وفى سياقه، ثم أقول فى رحاب ما قال (وما لم ينقال):
4- وقال لي: العبارة ميل، فإذا شهدت ما لا يتغير، لم تمل.
( وفى نسخة ب& ت (1): العبارة ميل، فإذا شهدت ما لا يتعبر لم تمل).
(وفى نسخة ب: فإذا شهدت مالا يتغير لم تقبل).
(وفى نسخة ج: فإذا شهدت مالا يتغير لم تميل).
فنقول:
أما أن العبارة ميل، فهى كذلك لأنك متى عبرت، صغت الجوهر فى ألفاظ، لا تكفى عادة للإحاطة بالكل الذى كان يريد أن يظهر، فهى ميل لأنها جزء يخدع وكأنه الكل، وهى ميل لأن المتلقى إنما يتلقاها بما يصله منها، وما يريد أن يستقبلها به، وليس بما هو مفروض أن تبلغه بمجرد أن تنطق، فهى تميل بالمتلقى عن الأصل.
فهل معنى ذلك أن نتجنب التعبير، أم أن نجعله مجرد وسيلة ضمن وسائل أخرى لا يصح أن ننساها لصعوبتها ؟؟.
يستطرد النفرى:
فإذا شهدت مالا يتعير لم تمل
وكأن المشاهدة المباشرة قد تحمى الإنسان أن يخدع فى العبارة التى تغري- لسهولة تداولها -أن تحل محل المشاهدة.
ولكن المشاهدة هى مشاهدة الدوام الدائم، الأصل الخالد، الله سبحانه.
وهذه مرتبة قصوى لا نطمع أن نغرى بها من لايقدر عليها، لكن لا بأس من أن يبلغ بعض معالمها، فالذى يستطيع أن يشهد الحقيقة المطلقة، قد يتواضع فى تقديس العبارة تواضعا يجعلها تؤدى وظيفتها فى حدود الإشارات والإيحاءات، ولكن ليس كوسيلة أولى وأخيرة فى التواصل والتحديد، وبهذا لا يميل.
أما إذا صحت رواية نسخة ب & ت “فإذا شهدت ما لا يتعبر لم تمل“ فإننا نقول:
إن الذى يعطى للعبارة موضوعيتها هى أن تؤدى وظيفتها فى حدودها، ولا يحدد حدودها إلا أن نعرف أنها أعجز عن الإحاطة بكل الخبرات، فهناك من الخبرات مالا يمكن أن يوضع فى عبارات (مالا يتعبر) ومشاهدة هذه المنطقة من المعرفة قد يفيد فى أن تجعل العبارة أقل إمالة، لأن التمسك بها والوقوف عندها يصبح أكثر تواضعا، وفى حدود إمكانيتها،(وهذا ما أشرنا إليه أيضا فى معنى الإيمان بالغيب).
أما النسخة ب، فإنى أفضل أن أعقلها حاليا، فشهادة مالا نقبل لا تقوم بشحذ الموضوعية لدرجة عدم الميل، وإن كانت تفيد فى التأميد على أن المشاهد لا يشاهد مجرد رغباته فيما يسمى الإدراك الآمل wishfull perccption وأنما هو قادر على مشاهدة ما لا يقبل ولايزيد، مما قد يشحذ موضوعيته، ولو أنى غير متحمس كثيرا لهذا التفسير (حاليا).
أما نسخة ج، فقد ما ورد بها من اختلاف خطأ كتابيا(2)
5- وقال لى: القول يصرف إلى الوجد، والتواجد بالقول يصرف إلى المواجيد بالمقولات.
فنقول:
ولو أننى كنت أفضل ألا أقف عند هذه الإنارة لما بها من استعمالات خاصة لما هو مشتقات لفظ (وجد) فعندى أن الوجد هو جوهر كلى معرفى عاطفى إرادى شامل، لكن النفرى هنا يستعمل جانبا محددا خاصا لما هو وجد فيما يتعلق – على ما أعتقد – بما هو انفعال، وهذا من واقع السياق لهذا التعبير بربطه بسياق التعبير السابق مباشرة والمشار إليه فيما هو ميل، فالانفعال متصل بما هو هوي، والهوى ميل، لذلك سوف آخذ الوجد ومشتقاته فى هذه الحدود ليس إلا.
وأبدا من الآخر للأول:
فالموقف عامة – فيما لا ينقال – ينبهنا إلى ضرورة الحذر من، وترك، ما يصرفنا عن الحقيقة، فكلمة يصرف هنا يعقبها ما لا يصح أن يكون:
فلا يصح أن تكون المواجيد (ودعنا نفهمها على أنها الموجودات) بالمقولات، لأن المواجيد هى قبل وبعد المقولات (أنظر قراءتنا للإنارة 4 – السابقة).
وما يجعلنا ننصرف إلى هذا الطريق الخطأ هو ميل سابق نتيجة لأننا أخذنا القول (العبارة) بمأخذ انفعالى (هوى) فصرفنا إلى الوجد (بالمعنى المحدود) وكذلك إلى التواجد بالقول، مع أن القول هو بعض التواجد وناتج عنه ليس إلا، وكأن ثمة تأكيدا هنا إلى أن التواجد قائم بلاقول وبدونه.
فهذا الانصراف السابق عن الحقيقة (الموضوعية) أدى إلى الانصراف اللاحق به مباشرة كما أشرنا حالا.
– أما ما جاء بلانسخة: ج، فهو أسهل وربما أقرب (فلعله اصح)، فهى تقول:
” القول يصرف إلى المواحيد، والمواجيد بالقول تصرف إلى المواجيد بالمقولات”.
فنحن هنا نقرا المواجيد باعتبارها الموجودات المختزلة التى تتحدد بأسمائها أو بصفاتها اللفظية، وهذا ما يشرحه مباشرة تحديد أنها “المواجيد بالقول” أى بالعبارة الواصفة لما يوجد بمضمونها، لا المشيرة إلى الموجود بدونها قبلها وبعدها، فمتى وجد الموجود نتيجة لوصفه بالقول، أصبحت المواجيد بالمقولات وليست بذاتها، وهذا ما يصرف عن شمولية المعرفة وموضوعيتها مما ينهى عنه النفرى هنا ودائما.
6– وقال لى: المواجيد بالمقولات كفر على حكم التعريف.
وهذه الإنارة أيضا تؤكد – بشكل ما – ما ذهبنا إليه فى قراءتنا للنسخة ج حالا، فهو هنا لا يكتفى بأن يعلن انه إذا كانت المواجيد ستقتصر على أن تكون المقولات – لا حقيقتها – قبل وبعد المقولات، أو إذا كانت معرفتنا ستتوقف عند ما توجده المقولات وليس المشاهدة (وغيرها)، فإن ذلك لا يعد انصرافا عن الموضوعية بمعرفة ناقصة (ميل أو هوى)، بل إنه كفر.
ثم تأتى عبارة “على حكم التعريف فنفهمها على ان هذا الكفر هو كذلك بنص تعريف الكفر، كما يقال بالانجليزيةby definition أو أنه إذا اقتصر ما هو موجود على ما هو متضمن فى مقولة معلنة (عبارة قيلت) فإن ذلك ينقص من التعريف بحقيقة لدرجة الكفر، أى إنكاره جهلا وعماء.
7- وقال لى : لا تسمع فى من الحرف، ولا تأخذ خبرى عن الحرف.
فينتقل مباشرة إلى ما يشرح الغموض السابق، فالحقيقة الموضوعية المطلقة هى قرينة الوجود الإلهى إن لم تكن مرادفة له، والمعرفة المجزأة، أو بتعبير اصح التجزيئية لا يمكن أن توصلنا إلى الحقيقة الموضوعية المطلقة، إلى الله، ولفظ الحرف جاء هنا ليفسر تعبيرات “العبارة”و المقولة” وحتى المواجيد (بالمقولة أو بالعبارة) فكلها حروف، فهى نقص لم يرتق إلى تكوين كلمة، ناهيك عن جملة، ناهيك عن جملة مفيدة، ناهيك عن حقيقة موضوعية، ناهيك عن حقيقة موضوعية مطلقة، الله سبحانه!!
ذلك لأنه يستحيل أن نعرف الكل من مدخل الجزء إذا ما كان هذا الجزء بهذا النفور المتحوصل وهذا الغرور الذى يغرى بأن يحل محل الكل فى غباء مختزل،ومن ثم يأتى هذا التحذير المباشر بانه يستحيل أن يصل بنا ما هو حرف، فى ذاته كما تحوصل وانفصل، إلى ما هو موضوعى مطلق، فالحرف هكذا عاحز عن أن يوصل لنا صوتا دالا إلى (فى) الخالق الأعظم، وكذلك يستحيل أن يخبر عنه بما هو، وهذا لا يعنى الاستغناء عن الحرف، ولكنه يعنى ضرورة عدم الوقوف عنده، أو دونه.
ذلك أنه:
8- وقال لى: الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عنى.
وهذا ما فصلناه فى عجز العبارة والمقولة أن تدل على مضمون الوجود الجوهر، فما بالك بأن تلم بمطلق الوجود الموضوعى!!
9- وقال لى: أنا جاعل الحرف والمخبر عنه.
والتساؤل المثار هنا هو: إذا كان الخالق هو الذى سمح لهذه الألفاظ أن تكون وأن تحمل معانيها لتشير إلى بعض مخلوقاته، أو موجوداته، فكيف يمكنها أن تتطاول – بذاتها – إلى أن تدل عليه، أو تشير إليه؟ وهنا نقف فى مواجهة قضية معرفة الله بمخلوقاته ورواية سيدنا إبراهيم، والإشارة إلى ضرورة النظر فى بديع خلقه، ومحكم آياته طريقا إلى الايمان به، وأحسب أن هذا النظر فى مخلوقات الله لم يوص به للوصول إلى خبرة المشاهدة، لكنه لا يعدو ان يكون إثبات التواجد بالمنطق كخطوة مبدئية لا أكثر ولا أقل، لكن القضية التى يتناولها النفرى هنا ليست إثبات وجود وإنما هى تعرف مشاهدة، وحضور يقين، فهذه الآيات والمخلوقات قد تثبت وجودا منطقيا، لكنها – حالة كونها حرفا / عبارة / مقولة – لا تستطيع أبدا أن تلم بالحقيقة الموضوعية المطلقة
فماذا يلم بها ؟ وكيف السبيل إليها؟؟.
10- وقال لى :أنا المخبر عنى لمن أشاء أن أخبره.
يبدو أنه لا سبيل إلا به، وما هذه الحروف،و العبارات، والمقولات، والمواجيد، إلا تحريك فرعى، يدور ولا يحدد، يثير ولا يخبر، لكنها فى يقينى لازمة لاستمرار القلقلة وتحديد الهوامش، وبقدر تملكنا ناصيتها دون السجن فى داخلها، وبقدر حذقنا استعمالها دون التوقف عند الاحتكام إليها،بقدر هذا وذاك فنحن نجاهد فى اتجاهه، فنشاء أن يشاء، فخبرنا عنه لمن شاء.
11- وقال لى: لإخبارى علامة بإشهاد، لا توجد بسواه، ولا يبدو إخبارى إلا فيه.
وفى نسخة ج – لإخبارى علامة إشهاد.
ولعله من المناسب أن نبدأ بها
فمولانا النفرى هنا يمضى يعلمنا – من جديد – أن المشاهدة هى الأصل، وهى الدليل، وهى العلامة،و هى علامة فريدة حاضرة شاملة مشتملة، وهى خاصة شديدة الخصوصية، لا توجد بسواء، فإذا وجدت فهى النور إليه، وبدون هذا الإشهاد يستحيل الاستنتاج والاستدلال والإشارة والإخبار، ومرة أخرى أتصور أن هذا لا يمكن أن ينتهى بنا إلى كلية الغموض، ولكنه يحذرنا من التوقف عند جزئية الحروف، كما ينبهنا إلى أن أى إخبار دون علامة الإشهاد هذه هو إخبار مؤقت، أو سطحى، أو مرحلى، لا ينبغى أن نرفضه، لكنه ليس هو على كل حال، قد يكون الطريق إلى ضده أو بعيدا عنه.
فإذا رجعنا إلى نص النسخة الأصل “علامة بإشهاد”، لوجدنا المعنى مازال قريبا بما لا يحتاج إلى إضافة.
12- وقال لى :لا تزال تكتب ما دمت تحسب، فإذا لم تحسب لم تكتب.
فأى كتابة يعنى ياترى؟ وهل تسجيل هذه المواقف – مثلا – هو من الكتابة؟
ولانتردد فى أن نقول أنه هنا ينهى عن نوع معين من الكتابة (سيتأكد هذا حالا فى الإنارات التالية حتى نهاية موقف ما لا ينقال كله)، فأى نوع هذا هو الذى ينهى عنه؟؟.
أول إشارة تقول إنها الكتابة التى تتعلق بالحساب، فإذا رجعنا إلى سياق الموقف كله، بل إلى السياق العام كله، لأدركنا دون عناء أن الحساب هنا حساب المنطق المسلسل، وحساب المكسب والخسارة، وحساب المعنى الظاهر، وحساب الحرف المغرور، ولأن كل هذه الحسابات لا تدور إلا فى هوامش الهوامش، ولا تجد جذبا محوريا يضمها إلى بعضها البعض، وإليه، فأنها تحتاج إلى الكتابة وكأنى بمولانا النفرى قد عاش عصرنا الحالى، وعاين وشاهد ما سمى بأزمة، أو مأزق المثقفين، حين أصبحت الكتابة بديلا عن معايشة الخبرة على أرض الواقع، وكأنه – إذن – يشير إلى الإبداع الاغترابى بشكل أو بآخر، ولا أحسب أنه قد وقع فى خطأ النهى عنه نهيا مطلقا، او لعله فعل، فهو على أى حال – وفى هذا السياق بالذات (موقف ما لا ينقال) يشير إلى أن الكتابة – المتعلقة خاصة بالحساب – هى من أسطح أنواع ما ينقال، فإذا كانت بديلا عما لا ينقال، أو مخيفة له، أو معنية عنه، فهى الاغتراب لا أكثر، أما إذا كانت دليلا إليه، موحية به، فهذا ما لم يتطرق إليه حالا، (فنكتفى بهذه الإشارة حتى نرى).
13- وقال لى: إذا لم تحسب، ولم تكتب، ضربت لك بسهم فى الأمية، لأن النبى “الأمى” لا يكتب ولا يحسب(3)
وهنا يأتى التفسير الرائع الذى غاب عن كثير من المفسرين لما هو أمية، فالأمية هنا، التى فخر بها النبى هى المعرفة التى تتجاوز هذا النوع من الكتابة والحساب، وكثيرا ما نبهت إلى أن ما يسمى محو الأمية بالصورة المسطحة المعاصرة، قد يكون إسهاما فى تجهيل منظم لصالح البعد عن المعرفة الأصل، هذا لا يعنى دفاعا عن العجز عن فك الخط، إلا أنه تنبيه إلى أن الذى ندعو إليه (بدعوى تعليم القراءة والكتابة باعتبارها محوا للأمية) ليس فكا للخط، وأنما هو قيد بالخط، وكم حاولت ان افهم طلبتى ان الفلسفة مازالت تنبض فى وجدان بعض أصدقائى من الفلاحين الأميين أكثر مما يعيشها بعض أساتذة الفلسفة، فيصعب عليهم تصور ذلك، فيأتى مولانا النفرى يقولها صريحة ومباشرة.
فالنهى عن الكتابة والحساب هنا هو الطريق إلى شحذ قدرات المعرفة الفطرية – لا الفجة ولا البدائية – فسهم الأمية بهذه الصورة، وهو وسيلة معرفة وليس نصيب جهل، وهو إعلان المباشرة وتنمية المكاشفة بكل ما يعنى ذلك من مسئولية المجاهدة ومعاناة الاكتشاف.
14- وقال لى: لا تكتب ولا تهم، ولا تحاسب ولا تطالع
وهنا يأتى النهى مباشراً، ومحدد فهل يا ترى هذا النهى بهذه الصورة هو دعوة إلى الجهل، وخاصة ونحن نتوقف عند :“ولا تطالع”؟؟
نكاد نقول – بداهة – أبدا، يستحيل، فمن حيث المبدأ، إن السياق العام هو الذى يحدد لنا ماهية النهى عنه تخصيصا دون تعميم، كذلك فإن الإنارة السابقة مباشرة – كما أوضحنا – هى متعلقة مباشرة بهذا النهى الصريح، فالمنهى عنه هنا هو هذه النشاطات إذا اغتربت، فأضلت الواحد منا عن أصله حقيقة وفعلا،و هو ما شاع حديثا فى كل فروع علوم الدنيا والدين، فكثير من النشاط المسمى بالبحث العلمى، أو حتى بعض ما يسمى الإبداع، لا يعدو أن يكون كذلك.
و انى أعترف هنا بأنى أنهى طلبتى فى التدريب على العلاج النفسى أن يقراوا فى العلاج النفسى إلا بعد الممارسة الطويلة، أى بعد مباشرة واقع الحال، حتى لا يكون العلم المكتوب وصيا على المعرفة المشاهدة والمعاشة، هذا لمن يريد ان يعرف ما هو نفس وما هو طبيعة بشرية وما هو حرفة مداواة، فما بالك بالساعى إلى الحقيقة الموضوعية المطلقة فى كلية جلالها؟؟.
هذا بالنسبة للكتابة والحساب والمطالعة، فما حكاية الهم هنا؟.
أرجح أنه يقصد الهم بمعنى الدخول فى تفاصيل التفاصيل حتى يضيع الكل، وهذا من أخطر عيوب ما يسمى البحث العلمى حاليا،(فقد فهمت هذه الكلمة هنا من باب: وتهمم الشئ: تحسسه، وتهمم رأسه: فلاه) (ولم أفهمها من باب الغم، أو الهمة ،الخ…).
ومن هنا:
15- وقال لى: الهم يكتبُ الحق والباطل، والمطالعة تحسبُ الأخذ والترك.
فهو ينبهنا إلى أن تحسس الشئ بتفاصيله الظاهرة إنما يحدد معالم الصواب والخطأ بمقاييس الصواب والخطأ، تماما مثل الكتابة التى تحدد حساب المكسب والخسارة: الأخذ والترك . فى حين أننا هنا قى مقام يتجاوز هذه المقاييس ايضا( إن لم يتجاوز مقاييس الحلال والحرام ضمنا مما لا يقال)، ويرتبط بهذه القضية قضية الأخلاق بمستوياتها المتعددة، وهذا المستوى المشار إليه هنا (الصواب والخطأ – الحق والباطل – الأخذ والترك) هو مستوى حسابى خطى محدود، أما تجاوزه إلى ما نحن فيه مما لا ينقال، فهو مستوى الحقيقة، المشاهدة، الموضوعية، مما لا ينفع معه ما سمى هنا (بما يشمل ويصاحب: التحسس، والتفاصيل، والحساب ، والكتابة).
ثم يؤكد هذا المعنى بكل وضوح لدرجة مرعبة:
16- وقال لى: ليس منى ولا من نسبتى من كتب الحق والباطل وحسب الأخذ والترك.
وهذا الحسم المرعب قد يعنى لأول وهلة نهياً مطلقا، لكننا لابد أن نتحسب ونحن نقر بذلك، لأن هذا النهى بهذه الصورة لم يات إلا بعد تمهيد وإيضاح بلا حدود لماهية الكتابة والحساب فى هذا الموقف بالذات فلابد أن نفهم ذلك فى إطار أن المنهى عنه لدرجة التبرؤ منه، هو الاكتفاء بذلك دون سواه، أى أنه لا يجوز لنا أن نعتبر ذلك (الكتابة والحساب) هى السبيل إلى التوجه إليه حتى لا تصبح بديلا للحقيقة الموضوعية، كما أنه لا الحساب ولا الكتابة هى المعرفة النهائية، حيث أن الاكتفاء بهما لابد أن يجهض أى إبداع دينى حقيقى، (وبالتالى فهو فعلا “ليس منى ولا من نسبتى”(4)
وأخيرا
17- وقالى لى : كل كاتب يقرا كتابته، وكل قارئ يحسب قراءته.
وأحسب أن ختام هذا الموقف يأتى بشكل متحد هكذا، وكأنه بعد أن أوضح وحذر، ثم أشار وارشد، ثم نهى وانذر، وكأنه راح يعلن أنه من يصر أن تكون الكتابة والقراءة (المطالعة) هى اساس الحق والباطل،و الأخذ والترك، فليشبع بما فعل ولير نهاية مساره، لأنه لم يجد نفسه إلا داخل حلقة ذاته وغباء حساباته، وتحوصل معارفه، فهو لم يتجاوز، ولم يغامر، ولم يستسلم ،ولم يسلم، ولم يهجم، فلم يشاهد، ولم يعرف.
فليشبع بما كتب، وليفرح بما قرأ، فهو ليس منا وليس بشئ.
ولابد من أن نفرق بين ما يعنيه هذا التحذير وهذا النهى وبين موقف “إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” ففى هذه الآية الكريمة ما قد يوحى بأن هذا الموقف النفرى قد نهى عنه، لكننا نجد أن القراءة هنا (فى الآية) لاحقة للتجربة والمعايشة، وأنها قراءة كتاب سطرت فيه الخبرة، وليست مطالعة بيانات الأخذ والترك التى توحى بأنها دليل المعرفة ومرشد إلى الصواب والخطأ، والحساب هنا (فى الآية) هو حساب بعدى، وهو أقرب إلى المواجهة الكلية، أما الحساب المنهى عنه عند النفرى، فهو الحساب القبلى، حساب المكسب والخسارة، وحساب الحرف والعبارة.
وبعـد
فهذا موقف واحد من مواقف مولانا النفرى، يعرى زيف الواقع الذى انتهى إليه ديننا، وانتهى إليه علمنا، وانتهت إليه معارفنا.
لكننا نحذر من تصور أن الحل هو التراجع عن الحساب والكتابة والعبارة والحرف، وإنما الحل هو التقدم حتى اتقانها جميعا كوسائل محدودة إلى معرفة غير محدودة، مع رفض الانشقاق الذى يضع وسائل المعرفة على خطين متوازيين.
ولكن لهذا حديث آخر.
[1] – نكرر الإشارة إلى أن النسخة التى بين أيدينا هى طبعة كامبريدج، مكتبة المتنبي، والتى تحوى مراجعتها على سبع نسخ نشير إليها بالحروف التى ينبغى أن يرجع إليها فى العدد الماضي، أو فى المرجع الأصلي.
[2] – أو قد يكون خطأ نحويا أيضا، وعلى أنه تمكن قراءتها لم بمعنى لماذا تميل.
[3] – توجد اختلافات فى نسخ م، ج، م، ل، أ، ب، ت، ولكنها كلها تتعلق بالشكل، أو بإضافة (صلعم) مثلا، دون المساس بجوهر ما ذهبنا إليه مما لايحتاج إلى محاولات مختلفة.
[4] – هناك بدائل بالنسبة للفظ “نسبتى فى النسخ ج، م، مما لم نجد معه اجتهادا حاضرا يسمح بالعروج إليها حالا.