الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد ابريل 1986 / عدد أبريل 1986- ضربة جزاء (قصة)

عدد أبريل 1986- ضربة جزاء (قصة)

عدد أبريل 1986

قصة

ضربة جزاء

عصام اللباد

فى ظل أحد حوائط الملعب الضخم، بعيدا عن زئير حناجر المشجعين… وبعيدا عن حرارة شمس الظهيرة الشديدة الاصفرار المتعامدة على الرؤوس، تكوم الصبية الصغار على الأرضية الأسمنتية المحرقة بجلاليبهم التى لا تستر عوراتهم الصغيرة الرخوة،و التى اختفت نقوشها وبهتت ألوانها تماما تحت طبقات سميكة من الزيوت، والأتربة، والترميمات المتعددة فى أجزائها المختلفة.

كان يقف فى مواجهتهم بجسده العريض الضخم، وشاربه الكثيف المبعثر… المعلم مرسى، الذى قطب حاجبيه عن قصد فى قسوة، كأنما يؤكد للصغار عنفه، ويذكرهم بوعيده، وأوامره.

 كانت حرارة الظهيرة تحرق أطراف الصغار، وتثير نشاط الحشرات والجراثيم الدقيقة التى تسكن جلودهم المتسخة، وتنشر القلق والألم فى تلك الأجساد الضامرة.

أشار المعلم مرسى بسبابته المنتفخة الى بعض الصناديق التى أنحشر بداخل كل منها عدد ضخم من زجاجات المياه الغازية الملونة، تبعها بأشارات لعدد من الصبية انطلقوا حاملين تلك الصناديق الثقيلة مهرولين الى الدرجة الأولى وهم يصرخون، منادين على  سلعتهم فى فرحة رغم بعدهم عن المدرجات، ربما اشتياقا للتواجد بين الجماهير بعيدا عن السبابة المتوعدة والحواجب المقتضبة، أو ربما اثباتا للاجادة والقدرة على العمل أمام معلمهم الغليظ الخشن.

………………….

كان جابر ينتظر أن تتجه سبابة المعلم مرسى المنتفخة إليه. حيث يتكوم مستندا الى الحائط وقد بدأ لهيب الصيف يتسرب من الأرض الصلبة الى عظام مؤخرته الضامرة ويكويها.

أنها المرة الأولى فى العمل.

توالت الاشارات التى انطلق فى أثر كل منها عدد من الصغار مترنحين تحت ثقل الصناديق الضخمة التى أمالت الجذوع.

………………….

لم يبق غيره الآن، متكورا بجوار الحائط، ينزف جسده عرقا، ويكاد الملل والضيق والرغبة فى الهروب أن يبكوه.

وجاءت فرصة الخلاص من هذا الألم والضيق عندما بسط المعلم مرسى راحة يده، ورفرف باصابعه مشيرا له بالنهوض. وقبل ان تستقيم ساقا الصبى كانت كف معلمه الضخمة قد هوت على صدغه فى لطمة عنيفة، أطاحت بجسده، وكشفت ظهره ومؤخرته الجافة المتسخة، واشلعت فى قلبه فزعا مخيفا.

لم تكن تلك الصفعة الا أمرا بالتزام الاستقامة والطاعة، ودرسا مسبقا اعتاد الرجل الغليظ تلقينه لصبيانه الجدد، ولم يقدم له تفسيرا وأنما دفع بيديه احدى الصناديق المعباة، ودك به عظام صدر الصبى الذى احتضنه، وانطلق فى الحال الى مقصورة الملعب حيث اشير إليه.

أخذت خطوات الصبى فى الاسراع، كان قلبه يعدو قبله، وقد تبخر تماما من وعيه ما لحق به منذ قليل، ولم يعد شئ ما يحتل راسه الصغير الا اللهفة والشوق لرؤية ارض الملعب الخضراء، وزى الفريق الذى يفضله كل صبية حارتهم.

أيضا سيستطيع بسهولة أن يبيع كل زجاجاته، وأن يرى وجوه اللاعبين.

حتى مدرب الفريق، والمذيع العجوز سيراهم جمعيا.

بل قال له الصبية أن كاميرات التليفزيون ربما تلتقط صورته أيضا.    

………………….

مر جابر مهرولا وضئيلا، من تحت البوابة المرتفعة حيث فاجأته ارض الملعب الخضراء، وجها لوجه.

كانت الحشائش تبدو يانعة، أكثر اخضرارا مما تصور.

والأقدام القوية تدوس عليها، امامه بالتمام.

ولون فريقه كان يبدو زاهيا ومفرحا.

كل شئ رائع.

وكأن كل شئ اصبح له.

………………….

اتسعت عينا الصبى، واحمرت وجنتاه الغائرتان، واندفعت محاليل جسده الى رأسه الصغير.

كانت المبارة رائعة……. فالجماهير تفور وتهدأ، والحماس يزداد.

تصطدم الكرة بالأقدام والقوائم، وتعود.

الحناجر تصرخ، وتمزق داخل الصبى الذى يقفز طربا، قد اتسعت فتحة الفم حتى الأذنين.

يذكر كل ما رآه لصبيان حارته.

………………….

وضع الصبى المشدوه صند وقه الضخم بين فخديه، وتربع بين الأجساد.

………………….

وكأنما كان صراخ الحناجر، وطيران الكرات كالدوامات التى تأتى من فوق الحشائش الخضراء، ومن حوله، تندفع إليه، تديره داخلها وتبتلعه، نعم تلفظه وتعيده الى مكانه، حيث تبتلعه من جديد دوامات جديدة.

………………….

كانت عقارب الثوانى فى ساعة الملعب تعدو، وينهى طرفها محيط الدائرة فى سرعة متناهية.

لم يبق من وقت المباراة غيردقائق، وعقارب الثوانى تعدو ودوامات الدهشة والفرحة والحماس تغرق جمجمة الصبى الذى يجلس هناك محتضنا صندوقه الضخم  بين فخذيه العاريين.

………………….

لم يعلم أحد لماذا انتفض جسد الصبى.

شهق ولم يدخل الأنفاس رئتيه.

التقت عيناه الوجلة بحاجبين مقتضبين، وشارب كثيف مبعثر.

كان المعلم مرسى يقترب، هابطا المدرجات فى اتجاهه، وسط الأجساد المتلاصقة، وسبابته تعلو وتهبط، لم تسكن.

………………….

تذكر الصبى صندوقه، وزجاجاته الراقدة فيه فى سلام.

اهتز قلبه بعنف، واسرفت رئتاه فى النشاط، وبدأت روحه كأنما تلوذ بالفرار من فتحتى منخاره.

تناثرت كل أحاسيسه، وراحت ساقيه النحيلتين تعدوان ببقيته بعيدا، تاركا خلفه صندوقه وحيدا تحت الأقدام.

لم يعد فى أذنيه سوى صوت المعلم مرسى يدفعه بعيدا وهو يهدر.

………………….

أطلق حكم المباراة صفارته، وهرول على النجيل، تجاه مرمى الفريق الأحمر، واشار:

ضربة جزاء.

اشتعلت المدرجات الحمراء. ازداد الصخب على القرار، وثارت الألوف، ثم تطايرت الأحجار والزجاجات من كل جانب.

برز جنود الأمن، وتدافقوا وأحاطوا بأعلى المقصورة حيث الوجهاء والشخصيات الهامة، مدافعين عنهم، ومانعين نفاذ الأضرار لهم.

………………….

صوت المعلم مرسى يدوى بأذنى جابر الذى مازال يعدو بين الصفوف،قابضا بيده على زجاجته الفارغة ومفتاحه الصلب الذى يدق به عليها.

………………….

وجه الصبى ينضح بالعرق الذى ينهمر من فتحات ومسام الجلد على ظهر الرقبة والجبهة، وكان الرعب والفزع يتطايران عبر فتحتى عينيه الضيقتين.

استمر الصبى فى اختراق الصفوف الى أعلى المقصورة.

الزجاجة الفارغة ملتصقة بكفه.

المئات تقترب أيضا.

و الجنود يصيحون فيهم بالابتعاد.

………………….

صوت المعلم مرسى يهدر.

………………….

الجندى يصرخ فى قسوة، ويرفع عصاه الغليظة.

حاجبا المعلم يقتضبان، وصوته يهدر فى الأذنين.

……………………

يرفع الجندى ذراعه المفتول، ويهوى بها.

ترتطم الضربة القوية بالرأس الصغير فتشقها.

تندفع الدماء من سقف الراس حارة، لزجة، قانية، تتسرب بين الأحجار والزجاجات المفتتة.

……………………

صفارة طويلة منغمة تعلن الهدف.

……………………..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *