عدد أبريل 1986
قصة قصيرة
تـرحـال
السيد زرد
عربة القطار تتأرجح، فأتأرجح أنا الآخر، واحساس شديد بالامتهان يسحقنى.
القطار يسير نائحا ومسريا عن نفسه باصدار أصوات شنيعة، لا تزيل عن القطار وحشته، لكنها تمنحنى “بسخاء” احساسا بالمرارة وتزيد من جفاف حلقى.
الاعياء يكاد يشل حواسى، فقط الريح التى تجتاح العربة هى التى تبقينى متيقظا.
أشعر بتعاطف تجاه قطار الليل الذى يقلنى، أأسف لوحدته وهيكله البائس محطم المقاعد منزوع الأبواب والنوافذ.
ضعيفا منكودا كورقة نزعتها الريح من شجرتها وظلت تؤرجحها فى الخلاء حتى ضلت طريقها، أحس بنفسى.
بدأت أعتاد العربة وما تحويه من أشياء وبشر وأشباح وظهور منحنية ورؤوس متلفعه، كلها مصطبغة باللون الأصفر الذى تدثرها به المصابيح الشاحبة وغبار الطريق.
أرثى نفسى، أقيم ألف مأتم بقلبى.. فمتى الوصول؟
وكانت هى، كأن شيطانا مريدا أراد أن يسخر منى ويزيد من عذابى، فألقى بها فى مواجهتى. انسانة ضئيلة، رغم الضوء الشاحب والعين المحتقنة. يصفعنى صدرها الضامر وتعاستها البادية، فلا املك الا أن أرثى لها وأجاذبها أطراف الحديث. ما أبشع أن يجتمع الفقر والدمامة.
أرثيك يا أخت، أرثى فقرك ودمامتك وأنوثتك السلبية. لا تجديك ضحكاتى المصطعنة وكلماتى الحنون. قولى يا أخت ماذا يجديك، هل يجديك أن أفقا عينى، أن ألقى بنفسى من نافذة القطار… أو أن أحبك؟
القاطرة تسير والزمن يسير. ها نحن تجاوزنا منتصف الرحلة وتجاوزنا منتصف الليل. وذاهبة أنت يا أختى مثلى الى الأهل كى تقولى الكلمة وتسمعيها،” كل سنة وأنتم طيبون”. أنى يا أخت بعدما عاينته وعانيته اشك فى أن ثمة عيد، أشك فى أن ثمة أهل.
ارتحال أول:
كان الصبح رائعا، وكان احساس رقيق لا هو بالفرح ولا هو بالحزن يتخللنى. كانت أفكارى تتقافز حولى “بشقاوة” تفر منى وتناوشنى.. وربما كنت سعيدا.
قلت أحاور هلعى الكامن فى الأعماق:” أن الموت بعيد، فعلام الخوف من المجهول؟”
قلت للبنت ذات العين اللماعة: “بدأت بالأمس فى كتابة قصة، لكنى لم أتمها، فهى حكاية وأنا لا أعرف – ولا أميل- الى حكى الحكايات” .
ارتفعت الشمس فى السماء، فأصبحت اشد وضوحا الى حد يبعث على الخجل. تشربنا الأشعة الدافئة، وانصهرت اليد المقيتة التى تضغط راس البنت ذات العين اللماعة، فأطلقت ضحكة اشهى من ثمرة يانعة، بل كانت الضحكة كجنيه ذهبى اصطدم بأشعة الشمس، فانبهرت عينى وانصهر الشمع عن روحى، وبدأنا نمازج بين الألوان.
الجرح المتقيح لا ينتظر سوى لمسة خفيفة، حتى ينبثق منه القيح. تبدأ العجفاء ذات الصدر الضامر فى حكى الحكاية:
-” تركت أمى العجوز بمدينتى الصغيرة، وأتيت المدينة الكبيرة، كى أعلم بها الصغار، وكى أتعلم كيف أكون غريبة.. فمن تكون أنت؟ “
– “أنا.. مطرب لا يعرف الغناء، ” مسافر لا يحسن السفر”.. أردت أن أكون فارسا هماما، لكن- أصدقكم القول – هذا ليس زمن الفرسان، بل زمن الغربة وقطارات الليل” .
لم تفهم رفيقة الطريق شيئا، فأرادت أن تضحك، لكنها لم تقدر، فارتسمت على وجهها ابتسامة شوهاء أحزنتنى. أردت أن أسرى عنها، فاقترحت أن نغمض أعيننا ونحلم.
قالت بعد فترة: “لم أستطيع أن أحلم، لكننى فكرت بك.. كم أنت غريب! “
قلت – وكنت قد فتحت عينى منذ مدة – :” لم أستطع أن أحلم، لم أستطع أن أفكر، فقط شعرت بالرعب وبأن القطار يتهاوى”.
ارتحال ثان:
قال الذى كان صديقى الأثير:
– ” يجب أن تخرج من ذاتك الى العالم الرحب. ليس أدبا عظيما ذلك الذى يتحدث عن الذات وهمومها، وأنما هو الذى يتحدث عن العالم وما يموج به”.
– قلت – مشيرا الى صدرى: ” العالم يبدأ هنا، وينتهى هنا”.
قال – وكنا قد انتقلنا الى موضوع آخر- :
– “الواقع المشوه لا ينتج سوى مشاعر مشوهة، لكن العقل من الممكن أن يظل محتفظا بسوائه”.
قلت:” ما جدوى العقل اذا لم تظل الروح مضيئة. ليس العقل دربى، وأنما التلقائية وصدق المشاعر وبراءة القلب، عنهم أبحث”.
يا ارتجاجات القطار، ياظلمة الليل ويا برد السفر.. أنى أنفطر.
اشارك رفيقة الطريق الاهتزاز والارتجاف، ولم تعد ثمة مسرة.
ليست حماقة أن يفكر المحتضر فيمن سيرثيه.. ليست حماقة أن تصبح أمنية الانسان كوبا من الشاى وفراشا دافئا.
فلتغربى يا أخت حكايتك، لكن أرجو أن تعفنينى من تعبير الامتنان المستذل المرتسم على وجهك تجاه كل كلمة أقولها لك، فلم أعد احتمل.
هناك أذنى مهيئتين للسمع، وهاك قلبى امسحى به نعليك كى تدخلى – لو استطعت – الملكوت مطهرة.
– ” تضنينى الوحدة ويفزعنى الناس، لكن لا أحد.. لا أحد يهتم بى” …. قالت العجفاء.
ارتحال ثالث:
البضة البيضاء التى طفحت النعمة من بشرتها فتخثرت – على جسدها – معطفا ثمينا جعلنى اشعر بالدفء، قالت أن لها مشاكلها ومعاناتها ضحكت وقلت أن السلطان أيضا يعانى، وأن معاناة الجوع لا مثيل لها. وكانت هى صادقة وكنت أنا صادقا، وكانت نجمة ماكرة تتلصص على من بين السحب وتغمز بعينها، وكمان العالم خيرا ساعتئذ.
الهمود يشملنا ويقرض فينا آخر ما بقى من قوة. وها هو القطار يعاود سيره بعد أن تعطل. تخرج من حلوقنا الجافة كلمات جافة مقرورة وفقيرة، تسقط فى الآذان المتثلجة أو تسقط من نافذة القطار لتموت وحيدة فى العراء.
بدا لعينى المحتقنتين أن العربة لم تعد تحوى سوى اشباح.
أصبحت الظهور المنحنية والرؤوس المتلفعة، حيوانات خرافية… ولا شئ يلوح خارج النوافذ.
العجفاء التى أصبحت اشد بؤسا ودمامة، قالت تستقطر آخر ما بقى فى من عطف وقدرة على الرثاء:
-” العالم زاد قتامة فى ناظرى منذ زمن. أصبحت أخجل من أن احلم أو أتمنى، مثلما تحلم أى فتاة وتتمنى. أصبحت أخجل من أن اغنى عندما أكون وحيدة. حينما كنت لم أزل صغيرة كنت أعتقد أن الهى الرحيم يختزن لى مسرة، يخفيها فى طيات الأيام كى يفاجئنى بها. وكنت ارقب عطيته، حين اسير فى الطريق أتوقع أن أجدها عند المنحنى، حين أنام أتوقع أن أجدها عند تيقظى، لكن الآن…. “.
ارتحال أخير:
رنوت الى صورتها المنعكسة فى المرآة، أتملاها. وكنت أعلم أنها هى الأخرى ترى صورتى المنعكسة فى المرآة. انتشيت بفكرة ان صورتينا منعكستان فى ذات الوقت،وأننا قد توحدنا فى المرآة.
عندما التفت نحوها…. لم تكن موجودة.
لا زالت القاطرة تسير.
ديسمبر 80