عدد أبريل 1986
فنون تشكيلية
الفطريون والبدائيون والمزيفون
عصمت دواستاشى
فى العدد السابق من “الانسان والتطور” كتبت عن الفن الفطرى، ونشرت رسوما للأديب نبيل نعوم، وتحدثت عن رسومه بصفته فنانا فطريا، ثم دعوت قراء هذه المجلة للمشاركة برسومهم لفتح طاقة الابداع الحوارى، ليس فقط بالكلمة، ولكن بالتشكيل الخطى.
ونحمد الله أن الاستجابة كانت سريعة وطيبة.
فأولا: نستضيف فى هذا العدد رسوم الزميل الفنان محمود الهندى المشرف الفنى على مجلة القاهرة، التى نتمنى لها الاستمرار فى الصدور أسبوعيا، دون محاولة تقليصها للصدور شهريا، ثم إيقافها.
وثانيا: وصلت للمجلة رسوم للفنان الشاب جرجس ممتاز(مواليد 1976) وأهم ما لفت انتباهى فى بطاقة التقديم المرفقة بالرسوم والتى حررها الزميل الشاعر أحمد زرزور، أن الفنان الشاب جرجس يختلف معى فى مسألة “الفن الفطري”، ويرى أن الفن ليس مجرد محاولة لوضع بعض الرسوم أو الخطوط، ولكنه “وعى كامل” بالعملية الفنية، ويريدنى أن أحكم على أعماله المرفقة ليس على أنها “فن فطري” ولكن باعتبارها أعمالا مجتهدة، تحاول تحقيق التميز الخاص.
ثم أجد السؤال الموجه لى: هل أرى ثمة ملامح أو توجهات “فطرية” فى أعمال الفنان الشباب جرجس الذى يقول عن نفسه أنه يتعبد للفن، وأن علاقته بالكون علاقة روحية.
وثالثا: أخبرنى الفنان الكبير حسن سليمان بأنه يختلف معى فى ما أطلقته على رسوم نبيل نعوم من أنها رسوم لفنان فطرى.. ففى رأيه أن نبيل نعوم مثقف ولا يمكنه بالتالى الإبداع الفطرى، لأن مثل هذا النوع من الإبداع هو ما يميز القبائل البدائية البعيدة عن سبل الحياة المعاصرة.
هذه الأمور الثلاثة جعلتنى أعاود الكتابة (بعد أذن أسرة تحرير المجلة) حول الفن الذى أصبح فجأة محل اتهام، كما تملص الفنانون من الانتماء إليه، وكأنه وصمة جاهلية، فى حين أن الفطرية هى عماد الحياة وسر استمراريتها.
فأولا: نحن نحب برسوم الفنان محمود الهندى فى هذا العدد ونتمنى أن يبادر الزملاء الفنانون فى تقديم إبداعهم على صفحات الإنسان والتطور.
وثانيا وثالثا: وهما ما يتعلق بالفن الفطرى.. فمن الضرورى أن أوضح ما هو “الفن الفطري” الذى سلطت عليه الأضواء فى إطار الفنون الحديثة، عقب نكسة الحرب العالمية الأولى وتحطيم أسطورة الإنسان الكامل، وكشف الميكنة التى ظلت تتوالد حتى أنجبت آلات الحرب المدمرة.. فبزغ الجمال مرة أخرى من فطرة الإنسان تجاه التشبث بالحياة واحترام التاريخ البدائى للبشر، مهد كل الحضارات التى تنهزم وتموت ويخلق غيرها من جديد، ففى كل إنسان فنان والناس مفطورين على الإبداع والخلق والاستمرارية ا لمتجددة،، بل أن كثيرا من مظاهر الإبداع المبهرة تأتى من أشخاص يعلنون باصرار أنهم لا يعرفون طرق الإبداع الصحيحة، معتقدين عن زيف إعلامى أن للإبداع طرقا صحيحة، وأخرى غير صحيحة.
والصحيح هو أنه : أما إبداع أو لا إبداع، مثل الفن، فأما فن، أو لا فن. وقلت ما زلت أقول أن الفطرة التى فينا هى الواقع النقى الأصيل للإبداع سواء كنا هواة أو محترفين، أو حتى لا نعتقد فى أنفسنا أى شيء. والمزيفون كذلك لأنهم يطمسون الفطرة فى أنفسهم.
فإذا تساءلنا ما هى الفطرة؟… فيعرفها لنا الله سبحانه وتعالى فى قرآنه الكريم: “ومالى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون” (يس: سورة 36 مكية آية 22).
”فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) (الروح: سورة 30 مكية آية 30).
وفطرنى هنا بمعنى خلقنى أما “فطرة الله) فيقال فطر الله الشيء أى أوجده على نظام بديع – والفطرة – الحالة التى خلق الله الناس عليها والمراد بها، هو ما استقرت عليه طباعهم من الخضوع لاله قادر حكيم، ومن كل ما تقره العقول السليمة، بحيث لو تركوا بدون تدخل شياطين الإنس والجن لما تحولوا عنه(1).
والمنجد فى اللغة يقول عن الفطرة وهى جمع فطر أنها الابتداع والاختراع – الصفة التى يتصف بها كل موجود فى أول زمان خلقته صفة الإنسان الطبيعية – الدين – السنة(2).
وكما سبق وأن أوضحت فى مقال السابق (3) عن الفرق بين “البدائية” و “الفطرية” من أنهما ليستا بمعنى واحد – فالبدائية فى الفن تعود إلى شعب بدائى وأصلى. والفطرية تعنى فن شعب متمدين، متأثر بالرغبة فى خلق شعور بالجمال البدائى، ولا علاقة لهاتين الكلمتين بجودة أو قبح العمل الذى أنجز (4).
وهذا لا يمنع وجود إبداع فطرى فيه خشونة البدائية، فيمكن أن نقول عنه أنه إبداع فطرى بدائى حديث مثل أعمال هنرى روسو فى التصوير ومعظم أعمال الأساتذة العظام المحدثين.
وهكذا.. كتبناها كما يكتبها الباحثون واستشهدنا بمراجع.. وكتبنا هوامش واستحضرنا أقوالا وأدلة على أن الفطرية خير وبركة على الناس، ونضارة وأصالة فى الفن، ويمكن أن يوصف بها المثقف وغير المثقف طالما أنه على الطريق الصحيح، نقول “الاسلام دين الفطرة”
أى دين الخلق الصحيح، كذلك نرى أن الفن هو إبداع الفطر. وليس إبداع المتحذلقين المتفلسفين بالخطوط والألوان، وعلى هذا فأنا لا أجد مبررا لخوف الفنان الشاب جرجس من أن أقول عن أعماله أنها “فن فطري”، ولكنها فى الحقيقة فاقدة للحس الفطرى وإلا لأعجبتنى، والسبب: أنه وضع نفسه فى تيار السهولة بدعوى أنه يبدع أعمالا “مجتهدة تحاول تحقيق تميز خاص” وسأوضح هذا فى تقديمى لرسومه.
ثم .. لا أوافق الفنان الكبير حسن سليمان على رأيه بخصوص رسوم نبيل نعوم من أنه مثقف، وبالتالى ليس فطريا والأصح أن فناننا الكبير حسن سليمان كان يقصد أن نبيل نعوم ليس فنانا بدائيا، وهذا هو ما لم أتحدث عنه أبدا، فالبدائية شيء والفطرية شيء آخر، فإن كانت البدائية صفة تميز قلة من الناس يعيشون بعيدا عن الحضارة الراهنة، فإن الفطرية صفة يتميز بها كل الجنس البشرى..، وأى محاولة لأى منا للتخلص من فطريته، لابد وأن تحيله فورا إلى “مزيف معاصر” وما أكثرهم.. ومن دواعى الأسف أن يستسهل كثير من الشباب فى مجالات الإبداع تقليد هذه الاتجاهات المزيفة، بل أنهم يقلدون الإبداعات الأصيلة، دون فهم حقيقى لأبعادها داخل نفوسهم، ودون العمل على أن يولد الإبداع بالخلق الذاتى أو بالفطرة، رغم أن هذا هو ما سيميزهم ويميز إبداعهم(1).
***
رسوم جرجس ممتاز:
تقول بطاقته الفنية المرفقة مع رسومه:
- أنه يدرس بمدرسة تحسين الخطوط ولكنه لا ينتمى إلى مدرسة فنية محددة، ولكنه يميل إلى التجريد، وأنه عن طريق الرسم يحلم ويصرخ ويحب، فقد كانت بداياته الفنية عقب حادث شخصى سبب له بعض الآلام الجسدية .
- وأنه لا يستطيع أن يعبر بالكلام عن أشياء كثيرة ولذا سرعان ما يمسك الفرشاة ويعبر عما فى داخله من صراعات وآمال وأحلام، وأنه يجرد رسومه العارية من معانى الاغراء والجنسية، لأنه يريد أن يواجهنا بالإنسان فى بساطته وحقيقته بلا أقنعة، أو أردية. هذا ما تقوله بطاقة الفنان الشاب جرجس ممتاز، والأهم أنه يتفق معى فى مسألة الفن الفطرى وأن أعماله ليست من الفن الفطرى.
***
لقد أخذت ثلاثة رسوم للفنان الشاب لمصاحبة هذا الموضوع من مجموعة رسومه التى أرسلها وكلها عن الجسم العارى.. أن خطوطه بصفة عامة فيها كثير من الحساسية والفهم، وتتميز بتقطيعها وبخربشتها لاكسابها مزيد من الحيوية، وهى رسوم غير كاملة وهذه كلها حيل تكنيكية يلجأ إليها عادة الفنان المعاصر، ليكسب رسومه شبها بالرسوم البدائية والكهفية، وبالرسوم المحطمة والناقصة للحضارات القديمة، وهذا ما فعله جرجس ممتاز، ولكنه لا يكشف بوضوح على أنه رسام جيد (والرسم هو الدعامة الأساسية فى الفن) بقدر ما تقول هذه الرسوم من أنه يبحث عن أسلوب يميزه.. كنت أود أن أرى له رسوما كاملة لموديل أو دراسات للجسم الإنسانى فيها قوة الدراسة مع قوة التعبير.
فهو إذن رسام واقعى برسم الجسم الإنسانى فى إطار تعبيرى، وبعيد كل البعد عن التجريد، وأنه لا يلجأ إلى الفطرة الكامنة فيه وإنما يلجأ إلى الوعى والتأثر بالآخرين، وهى كلها من ملامح الانطلاقة الفنية الأولى التى عادة ما تنقصها الخبرة والثقافة، ولكنها مشحونة بالطاقة والفعل الفنى.
ولم أفهم كلمة (الجنسية) المدونة فى بطاقته إلا على أنها “الجنس”، ورسومه أن لم تكن جنسية فهى جنسية فى نهاية الأمر.. أنها رسوم لأجسام نساء عارية، بل ألمح أجسام رجال عارية، وفى التحام خطى تشكيلى فاضح..، وعموما فإن قضية الجسم العارى فى الفنون التشكيلية موضوع كبير أرجو أن يتاح لنا مستقبلا القاء الضوء عليه..
لقد كان لجسم المرأة النصيب الأكبر فى اهتمام الفنانين التشكيليين بجمالياته وهو ما لم يكن محور الفنان جرجس لاهتماماته التعبيرية الذاتية.
أننا لن نفعل مثل الأساتذة القدماء رحمهم الله، وننصحه بالدراسة الجادة من الطبيعة، وخاصة وأن دراسة الجسم العارى أصبحت من المحرمات حتى داخل المراسم الدراسية بكليات الفنون الجميلة بمصر..، وإنما نقول له عليك بالفطرة التى هى فيك.. اجعلها تنطلق فى خطوطك وفى أحاسيسك وأنت تملك دون أدنى شك الموهبة والبداية الطيبة..، وإياك.. إياك.. من الغرور.. إننا كلنا الأوفياء للحياة.. ما نزال تلاميذ صغارا لها.. وطريق الفن صعب وشاق ولن تتميز إلا كلما سطعت حقيقتك، وكلما تميزت ثقل هم الفن عليك.. والفن أبو الهموم.
لك كل تمنياتنا وننتظر مزيدا من رسومك..، إن كلمتى الأخيرة فى هذا الموضوع هى أن باب الحوار والمناقشة والجدل ما زال مفتوحا حول الفن الفطر.. وخاصة وأننا نكتب فى مجلة فيها جانبها التخصص الخطير والذى له رأى فى كل ما نفعل ونقول،.. وأننا ننتظر.