نشرت فى الوفد
7-4-2010
تعتعة الوفد
“ظاهرة البرادعى”: معناها، وبعض ما عليها
أتصور أن ما يقوم به هذا الرجل الفاضل فى هذه الأيام من أجل بلده، لم يكن يخطر على باله قبل شهور أو سنوات، عرفت والده مصطفى البرادعى، وعايشت مواقفه، (عمرى يسمح بذلك) واحترمته، كما تابعت تاريخ ابنه، محمد البرادعى، تاريخه العلمى أساسا، والدبلوماسى العالمى المسئول أيضا، واحترمته كذلك جدا، وفخرت به أيضا فى حدود ما تسمح به مخاوفى، وفهمت، أو تصورت أننى فهمت لماذا قبل هذا الدور الجديد فى هذه السن، ولو بعض الوقت.
لا أظن أن أحدا يتصور أن كل الذى يجرى الآن سوف يتمخض عن أى احتمال أن يلى البرادعى شخصيا (أو أى برادعى) أى منصب قيادى جدا، مسئول فعلا، يتيح لنا أى تغيير أيا كان، ليس معنى ذلك ان نكف عن مواصلة ما يجرى، يأسا أو بعد نظر، الوعى الشعبى يتكوّن بتراكم ما يصله من أحداث، وما يحاوله من تجارب، وما يتعلمه من خبرات، ولا يصح إطلاقا أن نقيس فائدة أية معلومة، أو جدوى أية خبرة، أو أو ناتج أية تجربة، منفصلة بذاتها، وإلا توقفت مسيرة نمو الوعى عند الجماعة (وعند الفرد كذلك). فكرة التراكم، ثم التغيير النوعى فى طفرة ملائمة هى التى حكمت التطور طوال تاريخ الحياة، من كل ذلك أنا مع استمرار ما يجرى أن يظل يجرى بكل همة ونشاط وإيمان بحق هذا الشعب أن يحكم نفسه يوما ما. يمكن القياس على الحديث الشريف فنقول: إعمل للبرادعى كأنه سيتولى قيادة السفينة غدا، وواجِهِ النظام كأنه باق إلى الأبد !!
قيل وكيف كان ذلك؟
الوعى بالتاريخ، وبالزمن، يلزمنا أن نعرف أن يوما عند ربك هو كألف سنة مما نعد، وبالتالى فعلينا أن نتعامل مع الستين سنة إياهم، والثلاثين سنة إياهم أيضا، على أنهم بضع ثوان عند ربنا، وأيضا: بحسابات تطور الحياة كلها على ظهر الأرض.
كل ذلك يجعلنا نركز على الأداء الأصح، والأصلح، دون ربطه بأية نتائج عاجلة.
فلتستمر الحملة، وليتحرك الأمل، ولن يفوز البرادعى، بل ربما لن تتاح له الفرصة لترشيح نفسه أصلا، وحتى إذا أتيحت فهى مسرحية محسومة النهاية من واقع الخبرات السابقة، وبرغم كل ذلك فثم خير كثير يجرى الآن، يحتاج منا الحذر والاستمرار معا.
فمن ناحية علينا أن نرصد سلبيات هذا الاندفاع حول البرادعى، دون أن يوقفنا ذلك عن مزيد من هذا الاندفاع وأكثر، وعلى سبيل المثال أنبه إلى احتمال أن يكون فى هذا الاندفاع ما يشير إلى أن الناس، بعد أن أنهكوا انتظارا، يستسهلون الحصول على رئيس “سابق التجهيز”، ما دامت لم تتح لهم الفرص لأن يفرز وعيهم الجماعى الشعبى واحدا منهم يخرج من عمق وعيهم، ليتخلق بهم، فيمثلهم. نعم: من حق الناس أن يلتفوا حول رئيس محتمل “سابق التجهيز” حين يكون البديل هو أن يساقوا وراء رئيس غير جاهز أصلاً، ويبدو أنه يستحيل تجهيزه حسب ما يصلنى من تحفيظ وتلميع من الظاهر لا، ولن يجدى، حتى لو حسنت النوايا!!.
فإذا حاولنا أن نقرأ ظاهرة البرادعى، بدون اسمه تحديدا، وبدون أى أمل فى تحقيق خير عاجل، فسوف نكتشف أن لما يجرى الآن معان شديدة الإيجابية، قوية الدلالة كريمة الوعد، ومنها:
أولا: إن هذا الشعب قد فاض به، ولم يعد يحتمل مزيدا من التلويح بالوعود، أو التهديد بـ”قلة الاستقرار”!!.
ثانيا: إن هذا الشعب الذى فاض به، لم يعد يكتفى بإعلان أنه قد فاض به، بل إنه قد انتقل إلى التعبير عن كيف أنه قد “نفد صبره”
ثالثا: إن هذا الشعب “يعرف” الجارى أمام الكواليس، ووراء الكواليس، أكثر كثيرا مما تتصور الحكومة
رابعا: إن هذا الشعب لم يهمد، ولن يهمد أبدا، وكلما ظن حاكم مستقر، أنه استقر، تقلقل الكرسى من تحته لأن شعبا مثل هذا الشعب لا يقبل استقرارا نتيجة وضع ثقل راسخ أعلى هامته: يشل خطواته تحت زعم أنه خائف عليه أن يتعثر، وإنما هو يستقر بسلامة توجه حركيته، وتوازنها مع نبض تاريخه، ودينامية أحلامه.
خامسا: إن هذا الشعب يحترم العلم والعلماء، فالذين خطر ببالهم صلاحية البرادعى رمزا للأمل الذى لم يمت، لم يكن لأنه حصل على جائزة نوبل للسلام، فمناحم بيجن نالها، ولكن لأنه عالم أثبت موقعه بعلمه على مستوى العالم (وأعتقد أنه قارن تفكيره العلمى، الفرضى الاستنتاجى، بتفكير منافسيه السطحى الخطابى أو اليقينى)
سادسا: إن هذا الشعب يحترم الذكاء العملى الواقعى، وهو من أصعب أنواع الذكاء، وحتى بطرس غالى العظيم لم يتمتع بمثله، وقد خرج أيضا بطلا مغضوبا عليه، فى حين بقى البرادعى بطلا مقبولا رغما عنهم، وفى كلٍّ خير (مقارنة بمنافسين لا يعرفون أصلا شيئا اسمه قبول تحدى التناقضات، أواختراق الغموض…. إلخ)
سابعا: إن هذا الشعب يحترم السن، لا لمجرد السن، ولكن السن الذى امتلأ بخبرة السنين، مقاسة بلبنات التقدم الشخصى وسط الأشواك، والأنواء، والأهواء (ربما تمت مقارنة ضمنية أيضا بسن أصغر، لم تتح له الفرصة حتى أن يملأ سنينه بزخم الألم، أو دفع الحيرة، أو لذع الحاجة،.. وإنما بحسابات الجمع والطرح والنسب المئوية، وهى مهمة، لكنها ليست هى!! إلخ)
ثامنا: إن هذا الشعب ليس ضد ما يمثله الغرب على طول الخط، ولكنه ضد خبث وقذارة غسيل المخ باستعمال سادة الغرب لمنجزاتهم فى سحق حرية الناس، وحرمانهم من حقهم فى الإبداع، والعدل والتطور عبر العالم. فأنا أظن أن حضور البرادعى الراقى الدمث قد مثل لنا بعض ما يمكن أن ننتقيه من حضارة الغرب.
وبعد
برغم كل ذلك فإنى أخشى ما أخشاه هو أن ينساق هذا الإنسان الكريم العالم الحكيم، وراء مستشارين يخلطون بين ما تفضل به علينا الزمن من اكتشاف إيجابياتنا مثل ما ذكرنا، وبين محاولة إرضاء فئات متناقضة، (إرضاء جميع الأطراف!!) بشكل يمسخ حضوره، وقد يختزل أو ينفى كل ما يمكن حصده من الدلالات الإيجابية السابقة. دعونى أضرب مثلا واحدا لما خِِفت منه وأنا أشاهد صوره وهو ينتقل من حضن المصرى الكهل الطيب على أبواب الأزهر إلى مقعد الضيف المكرم فى الكاتدرائية، إلى حضن شباب المنصورة، بصراحة: خفت من احتمال إيهامه أن مهمته هى أساسا: إرضاء جميع الأطراف ، فننسى دلالات ميزاته بعيدا عن جميع الأطراف.
يا سيدى البرادعى الطيب الحكيم: من بعد الشكر الواجب والاحترام الحقيقى، دعنى ألفت نظرك حبا وتقديرا إلى أن من يلتفون حولك هكذا هم من أكرم، وأخلص، وأشرف المصريين، الذين يحتاجون حكمتك وأمانتك وعلمك، لكنهم قبل وبعد ذلك ليسوا إلا: رهط من المثقفين، وصفوة من المتحمسين، والأكاديميين، والمثاليين، والشباب الجميل، وهؤلاء ليسوا هم الشعب المصرى على أية حال، أو دعنى أقول لك هم ليسوا “كل” الشعب المصرى جدا، مع أنهم قد يكونون الطريق الأجمل إليه، يوما ما، عسى ألا يكون بعيدا.