نشرة “الإنسان والتطور”
26-5-2010
السنة الثالثة
العدد: 999
فى فقه العلاقات البشرية: دراسة فى علم السيكوباثولوجى (67)
لوحات تشكيلية من العلاج النفسى والحياة
شرح على المتن: ديوان أغوار النفس اللوحة (32)
مقدمة:
مرة أخرى: مازلنا ننطلق من السيرة الذاتية إلى العلاج النفسى
هذه الحلقة تكمل محاولة رؤيتى شخصيا لما هو “أنا”
ليس بالضرورة من خلال ما يسمى استبصارا كما ذكرت سالفا
وأيضا ليس بالضرورة بصفتى معالجا،
لكن ثمَة وصلة ما، كما هو جار فى كل حلقات “المعلم”.
(6)
وساعات أشوفنى حكيم وعمرى ألف عام.
شايف تمام عارف تمام .
كل اللى راح، واللى احنا فيه،
واللى حاييجى بدون أوان.
كنت دائما أعرف أن هذه اللحظات الباهرة الخطرة، من المعرفة الكاملة المحيطة ينبغى أن توضع فى مكانها، وإلا توقف النمو، وأُضِيرَ الجميع، وأولهم أنا.
مسئولية المعرفة تحتد حين نواصل المعرفة، لكن حين نتصور، لأى سبب من الأسباب (حقيقة نسبية، أم غرورا، أم جنونا، أم جهلا) أننا قد عرفنا كل شىء، فمعنى ذلك أنه لم يعد ثمَّ معنى لوجودنا بشرا، من أقبح ما قرأت للمتنبى، بيته المشهور
“وعلمت حتى لا اسائل واحداً عن علم واحدة لك أزدادها”،
وعلى النقيض من ذلك فكما علّمنا مولانا النفّرى فإن فضل الجهل، الذى ليس ضده العلم، هو مفتاح المعرفة الممتدة، عرفت ذلك من مرضاى مثلا (عرض بعض ذلك فى الندوة الأخيرة لجمعية الطب النفسى التطورى، مايو 2010 عن “الكلام التانى”) ومن كل مصادر الإبداع والعلوم الأحدث.
لكننى أعرف من خلال مرضاى أيضا، وأحيانا من خلال خبرات عابرة سريعة، أن هناك يقين آخر، ليس يقينا بوفرة المعلومات حتى الإلمام بكل العلوم كما زعم المتنبى، أو كما أتصور أنا حجم معلومات أبى العلاء المعرى، وإنما هو يقين معرفة تعلن التماهى بين أصغر مكوناتنا (الدنا) وأوسع مجالات الوعى الكونى إلى الحق تبارك وتعالى، هذه لحظات يقين تلغى الزمن لتحتويه، دون إنكار، وتشمل الكون لتمثله دون انمحاء، وهى فى حضورها الإيجابى: نقطة عودة إلى التفاصيل على أرض الواقع، أما فى تشوّهِها السلبى، فهى نقطة توقف عند اللاشىء، على أنه كل شىء.
مع احترامى لكل ما تعلمته من المرضى، فإن أغلب خبراتهم فيما يمكن أن يسمى “المعرفة الكلية اليقينية” هى خبرات سلبية تشمل العالم ولكن تمحوه فى الذات وليس العكس، وقد وصفتها هكذا:
وعرفت يقيناً أن المعرفة الحقة،
هى فى المعرفة الحقة،
دون دليل أو برهان
إلى أن قلت:
لِمَ أشْرقَ فى نوركْ؟
فانطمس العالم إلاىْ
نفس هذه اللحظة قد تكون هى لحظة التقاء الأجزاء المتناثرة فى توجه ضاٍّم نحو تجمع يقين الإشراق، نحو المطلق الممتد، نحو الإبداع الممكن وفى ذلك قلت:
فى ذاك اليوم: رقصت حبات الرمل، وتعانق ورق الأشجار،
وسرت قطرات الحب.. من طين الأرض إلى غصن الوردة،
وتفتحت الأزهار … فى داخل قلبى، فى قلب الكون.
وارتفع الحاجز بين كيانى والأكوان العليا
.. أصبحتُ قديما حتى لا شئ قديم قبلى،
وامتد وجودى فى افاق المستقبل،
دون نهاية
فعرفت الله،
وعرفت الأصل وأصل الأصل،
لا أدعى أننى رأيت نفسى فى تلك اللحظات كثيرا أو طويلا، لكننى أزعم أننى حين أقترب منها، أو تقترب منى أخاف، وأزيحها جانبا، وأنزل بسرعة إلى أرض الواقع، أبحث عن جهلى أحتمى به، وعن الآخر أختلف معه، فيزول خطر هذا النوع (الضرورى أحيانا) من المعرفة.
كررت مرارا أننى لا أومن بالديمقراطية الرائجة حلا أوحداً كما يزعمون، برغم أنها الحل الأقل خطرا مرحليا، لكننى أومن بها هنا فى هذا المقام لأنها تمثل الكابح (الفرملة) الذى يحدّ من اندفاع هذا النوع من اليقين الذى يتجلى فى أبشع صوره حين يتصف به حاكم فرد مطلق، فيقلبه أوامر ونواه، وقتلا وقهرا، وظلما لشعبه وسحقا لمخالفيه. أعترف أننا ابتلينا بمثل هؤلاء الحكام على مر التاريخ بشكل لا يحتاج للاستشهاد. المصيبة أن مثل هذا اليقين إذا أصيب به حاكم فرد، فإنه قد يكون على صواب أحيانا، فيعمل إنجازا لوطنه أو لشعبه لا يمكن أن يحققه بغير هذا اليقين، لكن المحصلة النهائية مهما برقت مثل هذه الإنجازات المتفرقة وأفادت، هى سلبية وكارثية غالبا.
نعم كنت أرانى معرضا لهذا الاحتمال أحيانا، وهذا قريب من بعض ما جاء فى مقدمة هذه القصيدة.
نشرة 21-4-2010 دراسة فى علم السيكوباثولجى( المعلم من كتير)
فأنتبه بسرعة، وأعود فرحا “بعاديتى” و”جهلى” كما ذكرت.
أما رؤيتى ذاتى من خلال جدلى مع والدى فقد رسمتها هكذا:
(7)
وساعات أشوفنى أبويا صُحْ.
بس الزيادة إنى لابس بدله وارطن باللسان،
وأقول كلام : قال إيه لصالح البشر،
وللتاريخ !!
لكنه الله يرحمه :
كان يعبد اللوزة وطين الأرض والورد الطويل،
مزيكته كانت مكنة الرى تغنى تحت جميزه كبيرة مضللة،
واسأل فى نفسى:
أنهو اللى أصلح للتاريخ ؟
الكلمه، والحب السعيد، فى أوده ضلمة منعكشه؟
أو لوزه حلوه مفتحه؟؟
علاقتى بأبى علاقة طويلة شائكة رائعة، كتبت فى ترحالاتى فصلا كاملا عن “أمى” (الترحال الثالث – ص 73 – 102) ، لكننى لم أفرد فصلا لأبى، أحسن!! ما زال أبى ياتينى فى أحلامى حتى هذه السن، وكلما حضر واستيقظت سألت نفسى: ألم أتمثله تماما بعد؟ لماذ يظل أبى يشغل داخلى هكذا مستقلا حتى الآن بما يتيح له أن يحضر فى عالمى الآخر من جديد (هكذا أعايش المعنى التمثيلى النمائى للأحلام “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”).
هذه اللقطة تبدأ بالتنبيه إلى أن جدل “الإبن-الاب”، يبدأ بالاعتراف بالتقمص
“وساعات أشوفنى أبويا صُح”
وبالتالى تتراجع تلك المعركة الوهمية التى تبالغ فى التركيز عليها الثقافة الغربية، بما أتصور معه أنه أمر معطل للنمو الفردى والتطور حيث تبدو السلطة (ممثلة فى الأب) كأنها إعاقة للتطور على طول الحظ.
فى خبرتى (وفى رأى إريك بيرن كذلك) أن التصالح مع الوالد (الداخلى بالذات= الذات الوالدية Parent ego state) هى من أهم ما يطلق قدرات النمو والتكامل. التصالح لا يعنى الاستسلام، ومن لا يرى والديه فى نفسه، فيقبلهما ويتخطاهما إذْ يستوعبهما بعد أن يصالحهما، فقد يمضى سائر عمره فى معركة بين ذواته لا تنتهى. التصالح وارد ولكن كمرحلة قبل الاستيعاب حتى التمثيل، بما يقابل التمثيل الغذائى فى النظرية الإيقاعية التطورية، حين تنقلب المادة الغذائية إلى جزء لا يتجزأ من نسيج الجسم الحيوى.
بالتمثُّل الجدلىّ يتحول “الأب المُدخل” إلى جزء من نسيج المعلومات البيولوجى، فهوالنمو المتمادى.
فى العلاج النفسى، المعالج والد، خصوصا فى ثقافتنا، والأمر لا يحتاج إلى تصوير العلاقة العلاجية على أنها إعادة، أو تكرار، أو استعادة علاقة والدية قديمة وهو ما يسميه التحليل النفسى “طرح” المشاعر السابقة على المعالج، وإنما هى علاقة نمائية طبيعية تتجدد، وتتكرر، مع اختلافات فى التفاصيل والمآل، مع كل أزمة نمو، بل ومع كل نبضة إيقاع حيوى، وعلى قدر قبول المعالج لدور الأب، ثم قدرته على التخلى عن هذا الدور لصالح نمو المريض، وقدرة المريض على قبول الاعتمادية الإيجابية المتبادلة (وليست الرضيعية)، يكون التقدم على مسار العلاج
بعد قبول التماثل مع الوالد (أشوفنى أبويا صُحْ) يبدأ تبين الاختلافات الضرورية لصالح النمو دون تكرار النص الوالدى حرفيا.
كانت لوالدى علاقة خاصة جدا بالطبيعة، بخيوط الفجر، بهسهسة الليل، بلوزة القطن المفتحة، وأيضا بلوزة القطن “المبندقة” (المغلقة كالبندقة)، بصوت “الحلزونة” وهى تدور، بأنفاس خفير الحظيرة وهو نائم يحرسها،
كان يُعبد اللوزْة وطين الأرض والوِرد الطويل،
كان يستطيع أن يميز صوت مكنة الرى ملكنا بالذات، كان يميزها من بين سائر الماكينات على بعد عدة كيلومترات، كان يسمع خيطانها وهو جالس فى شرفة “الدور الثالث” يقرأ ورده بعد قيام الليل.
استيقظت – طفلا- ذات ليلة، واثناء مرورى بالردهة إلى دورة المياه، نادانى والدى، وكلفنى أن أنادى الغفير من الحظيرة ليكلفه أن يذهب إلى الحقل البعيد (العورة) حيث كان والدى يعلم أننا نروى أرضنا تلك الليلة “بالمكنة”، وحين سألته لماذا، قال لى لأنه لم يعد يسمع صوت ماكينتنا، ويريد أن يرسله ليطمئنه، لماذا توقفت. فأرهفتُ السمع، وسمعت أصوات مكائن كثيرة، فأخبرته أن ثمة أصوات لمكن تأتى من نفس اتجاه حقلنا المعنى، فقال لى أنه ليس من بينها مكنتنا، فهو يعرف صوتها،
أيقظت الخفير، وذهب، واستفسرت منه فى الصباح، وصدق أبى.
مزيكته كانت مكنة الرى تغنى تحت جميزه كبيرة مضللة،
كان والدى (توفى 1968) يحضرنى (يحضرنا) أحيانا ونحن نمارس هذه الخبرة التى أفرزت هذا الديوان “أغوار النفس” (1978) ومن ثم هذا الشرح “فقه العلاقات البشرية” الآن، كان يحضرنا ونحن نسرح بخيالنا متصورين أن اجتماعاتنا تلك سوف تطلق قدراتنا معا ، وبالتالى سوف تمكننا من إصلاح الكون و هداية البشر و إبلاغ رسالة الوجود، شعرا، أو طِبٌّا، أو فلسفة، أو بالعلم الجديد، أو بالفن الجميل، كان يحضرنى والدى ناقدا، لا محتجا، ولا رافضا، وكنت أعتذر له حيث لا يراه غيرى طبعا، وأقارن بين ما نفعل، وبين علاقته الوثيقة بالطين، والزرع، واللغة، والله،
واسأل فى نفسى:
أنهو اللى أصلح للتاريخ؟
الكلمه، والحب السعيد، فى أوده ضلمة منعكشه؟
أو لوزه حلوه مفتّحه؟؟
علاقة هذه الفقرة بالعلاج النفسى هى أنها ربما تنفى الإشاعة القائلة “إنه علاج بالكلام”، صحيح أن الكلام هو الوسيلة الأولى للتواصل فى العلاج وغير العلاج، لكن ينبغى أن يظل الكلام مجرد “حامل رسالة” لابد أن تُختبر على أرض الواقع وفى نبض العلاقات، الكلام ، فى العلاج النفسى وغيره، إن لم يستوعبه الواقع، (فى شكل العمل والعلاقات خارج إطار العلاج والإنتاج اليومى البسيط ، وغير البسيط، واستعادة حيوية نبض الإيقاع الحيوى) يمكن أن يؤدى إلى عقلنة معيقةintellectualization، أو حتى لفظنة مغتربة verbalism.
التطور كله، قبل ظهور الكائن البشرى العاقل homo sapiens (الناطق) تم بدون كلام، فإذا جاءت هذه الإضافات (الكلام، والوعى بالوعى، والعقل المنطقى) لتضيف إلى مسيرة التطور إمكانيات التخطيط، والتنظيم، واقتصاديات الوقت، والتكافل، فبها ونعمت، أما إذا حلت محل قوانين التطور الطبيعية الأسبق حتى تضمر، فهى معيقة إعاقة قد تصل إلى التهديد بالانقراض.
ولهذا حديث آخر.
وإلى النشرة القادمة