نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4550
(رباعيات.. ورباعيات) (1) (10)
(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)
الفصل الثانى: الدراسة المقارنة: (* رباعيات جاهين * عمر الخيام * نجيب سرور)
ثالثاً: رباعيات نجيب سرور
الهجوم الدفاعى..ومرارة المعركة
مقدمة:
وصلتنى رباعيات نجيب سرور (2) مثل السوط الصلب المخشوشن المحمى طرفه بالنار، حتى احمرّ جمرا، وقد غـُمس فى سُمٍّ ناجع، يلهب ويُدمى ويُوقظنا ويفزعنا بتلاحق لا يسمح حتى باستيعاب الألم، ثم يتركنا ليسرى السم فى موتنا لعلنا نستيقظ (باعتباره “ناجعا”) (3)، أو فلندفع الثمن ونحن نستنشق ترابَ، وعفن وجودنا القبيح القذر.
جمعتُ رباعيات سرور فى هذه الجملة أيضا، التى مثلت عندى بمثابة “الفرضْ”
يقول سرور من خلال رباعياته:
“أنا وحيد يا أولاد القحبة، وأنتم عميان قساة وكل منكم مشروع خائن، إن لم يكن قد خان بعد وأخص بالذكر اليهود والأغنياء، أولاد الكلب السفاحين، القتل والصمت والجنون هو جزاؤكم العادل، لو أنكم تهاونتم معهم، أو نسيتم ما هو أنتم، وأبو العلاء المعرّى أحكم كل حكماء العصور، وحتى القبر لن يرحمكم. خذوها الجلدة تلو الُجْلدة، الرباعية تلو الرباعية، أنا لست محتارا أصلا؛ فقضيتى ساطعة كالشمس: إنكم أغبياء سفاحين وأنا وحيد مكلوم أنزف قيحا، ليتناثر قذى فى عيونكم“.
نجيب سرور فى رباعياته أساسا، وربما فى حياته لم يعرف الأمان أصلا، اللهم إلا “تلويحاً عابراً” طمّعه وخانه، فانطلق يضاعف من جرعة التوجس؛ باعتبار أن الهجوم خير وسيلة للدفاع، فامتطى جواد شعره الجامح، وذهب يلهب ظهر العالم بسوط مسموم الطرف، تساعده فى استمرار عدوانه أغانى الفخر، وأهازيج الفتونة؛ يحمى بذلك نفسه وحيدا فى مواجهة العالم الكاذب اللعين.
وقد خَلَتْ رباعياته بعكس رباعيات الخيام من الشكوى المباشرة، والتألم الصادق البسيط، إلا أن هذا لا ينفى وجود الألم، بل لعله يؤكد عمق حدته إلى درجة لا تسمح بمواجهته، أو إعلانه، أو مجرد الحديث عنه، أو الإشارة إليه إلا مُسْقطا فينا وعلينا، وهو يقف فينا (مثل الخيام) خطيبا، ولكن شتان بين خطيب وخطيب، فمنبر نجيب سرور هو ظهر جواده الجامح، فى حين كان الخيام يقف خلف منبره (مقصف خمره أيضا = البار) بائعا أوهام أو كؤوس السعادة الذاتوية.
والحل الذى يطرحه سرور، هو القتل بلا إبطاء، وحتى احتجاجه الانسحابى الداعى إلى الصمت، لم يكن إلا سيفا بتارا، يشهرهُ فى وجه القدر.
الصمت المتكلم
وعلى الرغم من البداية الشاكة فى جدوى الكلمات، كما وردت فى أول رباعية، وهى هى وردت فى آخر رباعية:
فليكن صمت جميع الشعراء
قـدرا يُشـهر فى وجـه القدر
(1/6)، (525/86) (4)
على الرغم من ذلك فهو لا يسكت، بل يعلم تماما ماذا يمكن أن تُحدث كلماته من أثر:
إنهم يخشَوْنَنَا فالشعر سحر
هبـة اللـه لكــل الأنبيـاء
(193/74)
وهو يعلن صراحة ما يدعونا لقراءة الصمت:
اكتبوا الصمت إذن فالصمت حرف
(49/22)
الكلمة والإيقاع
والفرس الجامح الذى يركبه سرور، هو “الكلمة”، والسوط مسموم الطرف، هو “الكلمة”، وفاعلية كلماته تتضاعف، من خلال لُهاث إيقاعه المحموم.
ويكاد القارىء يراه رأى العين، فى رباعياته، وقد أمسك بالكلمة، ففكها، وركَّبها. وصقلها، وسنّها، وأحكم مقودها، ثم غمسها في منقوع المر المسموم، ثم نراه وقد تلـفّع بها، ثم راح يجول ويصول وهو يفرقع ويلطمنا بها فى كل موقع؛ حتى أوجعنا وأنزفنا، ولعله أيقظنا، ولكنه أبدا لا يدعها (الكلمة) تسكن بين أيدينا خشية أن نمتهنها، أو نزيِّن بها عقولنا كما اعتدنا.
اعتقدت وأنا أعيش هذه الرباعيات أنه يكاد لا يستطيع قارىء يقظ أن يتلقى كلمات سرور هذه مسترخيا أبدا، ويبدو أن من صفات إبداع سرور أنه يسيطر على الكلمة بعدوانه، ولا يكتفى بأن يستعملها أداة لعدوانه المغير، (قارن الكلمة عند صلاح جاهين). أنظر إليه وهو يفكها ويقطعها ويلمها وينطـقها (بتشديد الطاء)
كلماتٌ كلماتٌ كلماتْ
إنه يونس ياسين يسوع
(40/19)
ثم:
كلماتٌ فى اشتقاق وانعكاس
مثلما موسى.. وماس؟.. ثم سام
ثم سمٌ.. لنرى النسناس ناس
ويظل الصـَّل (5) يسعى فى الظلام
(41/19)
لاحِظ جرأته على تقسيم كلمة النسناس ولعبه الحـُر بحرفَىْ السين والميم بحيث تراه وهو يفعل ذلك وقد امتلك ناصية الكلمات بل والحروف بإبداعية مخترقة.. (أنظر بعد) وهو يلعب بها وبمقاطعها كما شاء له اللعب، دون أن يفقد القيادة أبدا:
إعكسوا اللص فإن اللص صـل
واعكسوا العكس فإن الصل لص
يا ظلال الكهف ما صِلُّ وظل
ها هو الصقر وبالمعكوس رقص
(42/19)
ومن هذه البداية العدوانية بالكلمات، وعلى الكلمات ذاتها، نستطيع أن نمسك بالخيط الأساس الذى تنتظم من خلاله أغلب، أو كل الرباعيات:
القتل هو الأصل،… والحل هو القتل.
نجيب سرور (نجيب الرباعيات.. وربما نجيب الشخص دون إلزام) لا يعرف الأمان، ذاقه فأثاره واختفى، فأنكره، بل رفضه أصلا وتماما:
لا تقولوا ” وعلى الأرض السلام“
إنـها من غيظ موتانــا تُقات
(6/7)
“كُتب القتل علينا والقتال“
(217/84)
فالقتل الأصل، والقتل الحل، هو القانون الأوحد للوجود؛ ذلك لأن المسيرة البشرية تبدأ بالقتل قبل البداية، وتضع الرباط تلو الرباط، حتى إذا نجا الواحد من أولها، لحقه آخرها. فالجنين هو أول ضحايا الاغتيال مع سبق الإصرار:
فى بطون الناس تُغتال الأجنــّة
(9/8)
فإذا نجا بالصدفة أو بالعناد، وولد – لاسمح الله – فإن الموت يولد على رأسه، وكأنه التوأم الملاحِـق:
يولد الموت على رأس الوليد
(10/9)
فإذا نجا الوليد يوما أو عاما أو يزيد، فعليه أن يكفِّر عن هربه بأن يفعلها هو “نفسه”… وإلاّ:
ما الذى يبقى سوى أن ننتحر
(10/9)
فإذا حدث أنْ أبَىَ الواحد منا أن ينتحر، وراح يحاول الحياة ليعيد صياغتها، فقد وقع – كما يقرر سرور – فى شر أعماله، وعليه أن يدفع الثمن، الحصار فالانفجار، والحصار قد يشمل أن يـُرمى الواحد بالجنون، أو أن يتلفت مذعوراً مدافعا طول الوقت؛ خشية أن يرمَى بالجنون، والانفجار هو أن يجن فعلا وكأنه قد حقّقَ الموت بصورة أخرى:
ما الذى يَلزم كى يُقتل شاعر
إن تأَبَّـى فأبـى أن ينتـحر
الذى يلـزم أن يحيا محاصر
واخنقوا البركان حتى ينفجر
(12/9)
إذن لا مفر، ولا خيار:
والذى يُفلت منا بعد سجن
بعد شنقٍ: سوف يُرمى بالجنون
(18/11)
أصل القتل بالداخل: (غريزة الموت)
بعد عرض هذه الملاحقة بالقتل بكل أنواعه، وقبل عرض دعوة سرور إلى القتل بكل صوره، سوف نتتبع جذورَ المسألة: فسرور يرى، ربما دون قصد، بل لعله يرى برغم قصده كما خطر لى، أن أصْل كل هذه “المقتلة” (وليس المعركة) هو دمار داخلى، لعله هو هو غريزة الموت، وهذه الغريزة التى قال بها فرويد (ثم يقال إنه أنكرها فى آخر أيامه، ولكن المؤكد أن أغلب أتباعه أنكروها)، هى الوجه السلبى التحطيمى لغريزة العدوان (6) وسرور لا يقول ولا يعلن موقفه من غريزة الموت هذه، إلا أنها تطل من بين ثناياه قوية واضحة ولكن سرعان ما تختفى وراء أكوام الأشلاء ودخان النتن المتصاعد من عفن الجثث. وقد ظهر سرور متلبسا بالإفصاح عنها مباشرة ذات مرة:
ها هى الرحلة مذ كان الزمان
لكأن الطيـر يهوى مصرعه
(3/6)
وهو يعطى للموت نفسه إرادة مستقلة تكاد تغلب أصل” إرادة الموت” لدى الإنسان، الموت قدرٌ حين يقررُ يقدرْ؛ أما إذا أراد أحدنا الموت، فالمسألة ليست جاهزة تحت الطلب!! الموت هنا عند سرور ليس مثل موت الخيام؛ بمعنى نهاية الحياة، إنه الموت الداخلى العنيد.
عندما أختار موتى لا أموت
لا يمـوت المرء إلا مـُقسرا
(8/8)
فالموت هنا كائن مجسد غريزى، وهو كائن قادر فاعل، وهو الذى له اليد العليا حتى يقهَرُ ويقسر:
عندما يختارنى موتى أموت
آه.. من يختار لى أن أجْبَرا
(8/8)
وتعبير.. “يختارنى موتى” له دلالة خاصة؛ ليفرق بين تعبير الخيام مثلا عن الموت، فموتى (بياء المتكلم)، غير ذلك الموت الذى هو على رقاب العباد، وروعة الشطر الثانى، تشير إلى الحتمية الغريزية لهذا الكيان (الموت) الذى تحرك فى الداخل؛ وتلك هى الحقيقة التى التقطها سرور بحدسه، فكأن غريزة الموت قد رجحت كفتها عنده نتيجة “للافتقار” إلى الأمن الأولى”وأيضاً نتيجة لهياج” التوجس الأولى وحين حدث ذلك.. حين انفصلت غريزة الموت عن الكيان الكلى، ثم أُسقطت فى كل صور القتل، فى مواجهة العالم، أصبحت قدرا لا مفر منه، فإذا بها هى هو، فكأنه “أُجبر” على سلوك هذا السبيل التحطيمى نتيجة “لاختيار” أعمق وأخطر وأسبق.
وغريزة الموت هذه، تبدو نقيض غريزة العدوان بمعناه الاقتحامى والدفاعى، وقد ميزتُ فى بحثى السابق عن “العدوان والإبداع”، بين العدوانية التحطيمية Destructiveness، والعدوان Aggression كخطوة جسورة للأمام، ميزت بينهما باعتبار أن الغريزة إذا انفصلت عن الكل، فإننا نلقاها وقد ارتدت للداخل، أو انطلقت منفصلة إلى الخارج، أو شوَّهت المسيرة وعوقت الخطى، أو حدث كل ذلك معا، وهذه هى العدوانية، أما إذا ظلّت غريزة العدوان ملتحمة بالكل، فى جدل حى مقتربٍ مقتحمٍ مع الموضوع وهو يتضفّر فى كلية مسئولة، فهو الإقدام لا العدوانية، وهو الإسهام فى التفكيك تمهيدا لإعادة التشكيل = “الإبداع” .
والعدوان فى رباعيات سرور كما نرى قد انفصل فعلا، فأصبح قوة جامحة واضحة الهدف، أحادية النظر، أصبح جسما غريبا: نيزكا منفصلا خطيرا، لكنه لحقه بشعره وإبداعه كما نرى.
…………….
ونكمل الأسبوع القادم ومازلنا مع نجيب سرور “السر المستحيل، والسر البديل”
[1] – المقتطف من كتاب “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.
[2] – فى النسخة التى بين يدى: رباعيات نجيب سرور (الطبعة الأولى 1978) منشورات مدبولى، كتب المؤلف فى آخر صفحة: السبت الأول من يونيو سنة 1974 مستشفى الدكتور النبوى المهندس للأمراض العقلية. ولا أتصور أنه كتب هذه الرباعيات جميعا فى ذلك المستشفى العقلى، أثناء تلك النوبة. لعله فقط أنهاها أو سوّدها هناك، ثم أعاد تنظيمها وصياغتها فيما بعد. وإن كان لا يمكن نفى الاحتمال الأول احتراما لشجاعته.
[3] – نجع الشىء نجوعا: نفع وظهر أثره.
[4] – نهج الترقيم ذاته (رقم الرباعية ـ شرطة مائلة ـ رقم الصفحة) نسخة منشورات مدبولى، 1978 (قمت بترقيم الرباعيات شخصيا).
[5] – الصل (بكسر الصاد وتشديدها): الحية من أخبث الحيات
[6] – يحيى الرخاوى “العدوان والإبداع” – مجلة الإنسان والتطور الفصلية – عدد يوليو 1980، (ص 94 ـ 28)