نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-12-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4487
(رباعيات.. ورباعيات) (1)
(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)
استهلال:
هذه المحاولة هى من باكورة الأعمال النقدية التى قدّمتها فى ندوات ثقافية (الجمعية المصرية للنقد الأدبى، جمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى)، أو قمت بنشرها فى دوريات .
وأحب فى البداية أن أشير إلى أنه على تعدد محاولاتى فى النقد، فإننى دأبت على أن أنفى عن قراءاتى هذه، أنها تنتمى إلى ما يسمّى “النقد النفسي”، وهأنذا أعلن أننى فشلت فى مواصلة هذا الزعم، ولن أعود إلى مناقشة هذه الإشكالة مكتفياً بأن أبين حدود ما أمارسه من نقد على الوجه التالي:
أولا: إن ما أمارسه من نقد لا ينتمى مباشرة أو كثيرا، إلى ما يسمّى التحليل النفسى للأدب (2).
ثانيا: إن أية معلومات نفسية، مهما بلغت مصداقيتها، لا تصلح أن تُعامل باعتبارها المرجعية التى يقاس بها العمل الإبداعى، بل إنها تأخذ منه، علما ومعرفة عن النفس، أكثر مما تضيف إليه، ولهذا حاولت استعمال مصطلح التعبير الأدبى “للنفس” وقمت بنشر مجموعة من دراساتى النقدية بهذا الاسم. (3)
ثالثا: إن اتفاق مصدرين للمعارف (الأدب وعلم النفس هنا كمثال) فى كشف معلومة أو إضافة معرفة، هو نوع من “المصداقية بالاتفاق”، أى أن المصدرين قد يدعمان ما وصلا إليه من إضاءة، وإن اختلفت الأداة وزوايا الرؤية.
الفصل الأول
صلاح جاهين
وشخصيته الفرحانقباضية
(من رباعياته أساسا)
أولاً: الشخصية الفرحانقباضية (4)
تكاد تكون رباعيات جاهين نوعا من السيرة الذاتية، دون أن يعلن ذلك، لهذا سوف أبدأ بما قرره هو عن شخصيته واسماها “الشخصية الفرحانقباضية” مستشهدا بما جاء فى الرباعيات أساسا، قبل الانتقال فى الفصل الثانى إلى بعض الدراسة المقارنة مع رباعيات عمر الخيام ونجيب سرور.
مقدمة
لقد أعفانا الشاعر الأديب الرسام الإنسان متعدد المواهب “صلاح جاهين”، من تسمية حالته النفسية، التى تكمن وراء كتاباته ونشاطاته المترامية الخلاقة، فقد طلع علينا فى مجلة “صباح الخير” بوصف حالته تلك بهذه الصفة التى استعرتـُها منه هنا، وقد كان صلاح أدق تعبيراً وأشجع موقفا وأكثر صراحة من كثير من المختصين، فقد ذكر أنها حالة “عقلية”، ونحن كثيرا ما نخلط بين “العقلية” و”النفسية”، ولعل الفرق لا يتجاوز جرأة بعضنا، وتحفظ الآخرين من المشتغلين بهذه العلوم، أى أن جوهر الحقائق لا يختلف كثيرا (5)، لكنه الفرق بين الشجاعة والتخفى، بين المواجهة والتسويف، المهم أن صلاح جاهين أعفانا من كل هذا، وسمى الحالة بالاسم الأكثر صدقا وصراحة.
ووصف صلاح لشخصيته على أنها “حالة”، وليست “مرضا”، يؤكد مرة أخرى عمق بصيرته؛ إذ أن هذه التسمية تشير ضمنا أننا نتحرك فى دائرة السواء مهما استعمل صفة “العقلية” ومهما تراوح السلوك الظاهرى لما يسمى “الشخصية النوابية” Cycloid (6) تلك الشخصية التى يتمثل حضورها فى نوبات تجليات الإيقاع الحيوى فى الإبداع.
والإيقاعحيوى هو الصفة الأساسية للوجود البشرى، بل للوجود كله، وبالتالى فهو ليس مرضا أصلا، أما لماذا يظهر سلوكيا عند البعض فى شكل دورات نوبات المزاج العادية، فى حين أنه يصبح مرضا عند آخرين فى شكل نوبات دورية لعديد من الأمراض العضوية (مثل قرحة المعدة، وتقرح القولون، وكثير من الأمراض الجلدية) والنفسية (مثل كل الأمراض النفسية الدورية وخاصة الهوس والاكتئاب)، ثم أخيرا قد يظهر فى شكل نوبات إبداع فائق عند فريق ثالث؟ فذلك يتوقف على فرص استيعاب طاقة النبض الحيوى التى تشمل كلا من: (1) السماح و(2) المجال و(3) الأداة، فبقدر ما تجد نبضات الإيقاع الحيوى مساحة للطلاقة، وسماحاً بالمحاولة، ومجالا للتشكيل، وأداة للتعبير، يكون تجليها إبداعا وحيوية وصحة، وبقدر تواضع أو ضيق أو انتفاء بعض أو كل هذا، يكون المرض.
وهذا ما ستحاول أن تبينه هذه الدراسة.
عمق الحزن، وقمة الفرح، ولاَ مرض:
يعيش صلاح جاهين عمق الحزن وقمة الفرح فى نوبات معبِّرة دالة، وهو يمارس هذه المشاعر فى أوج الصحة.. والفرق بين إطلاق الطاقة دون مرض، وانطلاقها عشوائيا دون حدود أو ضابط هو الفرق بين الإبداع والمرض، ففى طور الهوس مثلا نجد أن الاهتمامات المتعددة لا تصل أبدا إلى أى هدف، أما فى حالة الصحة فهى اهتمامات وملكات تعيد تخليق الواقع وتمتلك قدرة إعادة التنظيم فى مثابرة غائية مبدعة.
وعلى الجانب الآخر فإن ثمَّ فرقاً هائلاً حتى التناقض، بين معايشة الألم مع الاستمرار فى مواجهة الحياة واختراق الصعوبات وبين الاستسلام للحزن مع الانهباط (7)الأول يمكن أن يكون قمة الصحة المتمثلة فى اختراق الصعوبات دون إلغاء معايشة الألم الخلاّق، والثانى هو الهزيمة المنسحبة (المسماة الاكتئاب عادة).
ظهر هذا التناوب فى إبداع صلاح جاهين عامة، لكنه يظهر بوجه خاص فى “رباعياته” التى تُمَثل جرعة مكثفة من فكر نابض، تكاد تقترب فى تكاملها من فلسفة حياة بأكملها، وهى تفى بإيضاح هذا التناوب، بين الإقبال والإدبار، أو بين الفرح والانقباض، أو بين الهوس والاكتئاب. وهذا ما التزمتْ به هذه القراءة التى لا تكتمل إلا بالعودة إلى بقية إنتاجه.
وقبل أن نعرض مباشرة لهذا التناوب الخلاق عند صلاح، بين الفرح والاكتئاب، سوف نقدم خلفية عن موقفه الوجودى اليقظ، وحيرته المبدعة المتسائلة بصفة عامّة، مع تركيز خاص على الرباعيات؛ باعتبارها جُمّاع فلسفته فعلا، وهذه الخلفية تـُعتبر، بشكل ما، بمثابة التركيب الأساس وراء تناوب الفرح والانقباض؛ مما سوف نتناوله فى الجزء الثانى من هذا الفصل.
صلاح: السؤال الحائر والوجود الباحث:
يعلن صلاح جاهين موقفه الوجودى الحائر بشكل مباشر، فى كثير من إبداعاته، فيبدو وهو يدافع عن قضية وجوده، بكل الصور، وكأنه يدفع تهمة لا يعرفها، فنراه فى “قصاقيص ورق” فى موقف الاتهام، يطلق غناءه وأنينه وهو يدافع عن جريمة لا يعرف أبعادها ولا دوره فيها، وكأنه مسئول عن ذنب وجوده الذى لم يخترْه، وهو لا يجد تفسيرا لهذا “الشعور بالذنب” الذى يدفعه إلى “المرافعة”.. الباكية مرة:
مؤيد بكل أنين الكمنجات فى كل الوجود
العذبة البريئة حيناً:
بتهنينة الأمهات للعيال فى المهود
المَرِحة المنطلقة تارة أخرى:
بصوت القـُـبل.. وكل ابتسامة بحق وحقيق
وهو يحس أنه فى حياته مهاجَم بغير ذنب، متهم بغير تهمة، أمام أسياد وهميين يريدون نهش لحمه:
سيادى الحدَادِى اللى حايمهْ على رمِّتي
ولعل هذا الموقف هو الدافع الأصيل وراء انطلاقه فى كل هذا الإنتاج الفنى الوفير؛ ليواصل معركة الوجود، فهو إما أن يعبر عن صراعاته بهذا الأسلوب، وإما المرض، لذلك نجده يؤكد أهمية التنفيث بالكلام.. وإلا.
ده اللى ما يتكلمش ياكتر همه
وهو يحذّرنا من ترددنا عن الإفصاح عن نشيجنا الداخلى بالغناء
ياعندليب ما تخافش من غنوتك
كتم الغـُنَا هوَّا اللى حيموتك
هذا هو ما فعله صلاح، وإن كان يبدو أنه لم يـُـغـْنِه بدرجة كافية، إن ما يعنيه صلاح هنا بالغناء، إنما يشمل التعبير والإبداع والتناغم معا، وهذا هو المَخرج الحقيقى السليم لزخم الطاقة الذى تتفجر به النفس، ونكرر من جديد أننا ما لم نجد أسلوبا مناسبا ومجالا كافيا ومتلقيا معايشا لتشكيلات هذه الطاقة الحيوية المتدفقة التى تتجمّع فى أروع صورها فى الإبداع، وكأنها تجمع خصلات الإشعاع فى بؤرة هذا التخلّق الجديد، فإن مصير هذه النوبات هو التشتت بغير نظام، والضغط بغير توجيه فهو المرض.
واختزال الإبداع باعتباره حلاّ لصراع نفسى، هو تسطيح لا يقدّم تفسيرا مناسبا لزخم الإبداع ودوره فى إعادة تشكيل الحياة، وصلاح، ـمثلا، لا يستعمل إبداعه لمجرد حل الصراع، أو تفريغ طاقة محبوسة، وهو لا يهدف بإبداعه أن يقوم بوظيفة التطهير التى بالغ فى وصف أهميتها “أرسطو” ذلك أن الإبداع ليس مسألة تفريغ أو تنفيث مثل صمام إناء البخار، وإنما هناك حاجة أصيلة فى الكيان البشرى يمكن أن نطلق عليها: الحاجة إلى الإبداع، حاجة تلح فى التعبير فى أية صورة من الصور بالأداة المتاحة، وإبداع صلاح، فى الرباعيات بوجه خاص، يسرى عميقا، رصينا رائقا فى آن، حتى يبدو أنه يروى وجودنا مثلما تذوب الثلوج فى عروق الماء المنساب بين صخور الجبال؛ لتكون السيل المتجمع فى نهير جميل، يصبح مصدرا لرِيـِّـنـَا، فنبدع بدورنا ما نستطيع، ونحن نتلقاه.
نسمعه معا وهو يشير إلى القصيدة التى ينوى أن يكتبها،القصيدة التى تلوّح له حتى يكتبها، التى تلح عليه أن يكتبها؛ ثم إنه بكل سلاسة الوجود، يكتفى بإعلان هذا التهيؤ الجاهز، ثم يعفى نفسه من قهر الالتزام بكتابتها :
ح اكتبها وان ما كتبتهاش أنا حر
الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة.
والقصيدة تقول من البداية:
فى يوم من الأيام راح اكتب قصيدة
عن قطتى، عن الكمنجة الشريدة
عن نخلتين فوق العلالى السعيدة
عن العـنب عن الهدوم الجديدة
عن طفل بقميص نوم
عن قوس بعد الصلا فى العيد
عن طرطشات البحر ح اكتب يوم
ح اكتب قصيدة
ح أكتبها وإن ما كتبتهاش أنا حر
الطير ما هوش ملزوم بالزقزقة
هنا تفرقة واضحة بين “كتم الغنا هو اللى حيموتك” وبين “الطير ماهوش ملزوم بالزقزقة“، وكلاهما يشير إلى وظيفة تدفق الإبداع بشكل يتجاوز مجرد التفريغ والتطهير، حتى لو لم يظهر مباشرة فى الشكل الواعِدِ به.
صلاح هو رباعياته: سيرة ذاتية:
وإذا أردنا أن نحسن قراءة مثل هذا الإبداع، فلا بد أن نحسن النظر من أكثر من زاوية معا؛ فهذا النوع من التدفق الإبداعى لا يرفض حلا لصراع، ولا يتعالى على غناء للتطهير، لكنه ينساب أبدا فى أصالة مستقلة بذاتها لذاتها، قبل وبعد هذا كله.
و صلاح جاهين يكاد، فى كثير من الأحيان، يتجاوز ذاته وهو يتقمص تاريخ البشرية، فيعلن – من خلال ذلك – روعة جدل التطور عبر خبرات الأجيال السابقة، حين تتكثف فى ذات متفردة لا تدّعى “الواحدية ” المختزلة فيما هو “أنا أكون”، وإنما تصبح نموذجا لتاريخ البشرية فى اللحظة الراهنة، وهى ممتلئة بكل حركية الوجود متعدد المستويات والوسائل واللغات:
أنا شاب لكن عمرى ولا ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعى زحام
خايف ولكن خوفى منى أنا
أخرس، ولكن قلبى مليان كلام
……….
(ونواصل مع صلاح أيضا الأسبوع القادم)
[1] – المقتطف من كتاب “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط
[2] – يمكن الرجوع إلى هذا الرأى بالتفصيل فى أطروحة للكاتب بعنوان “العلوم النفسية والنقد الأدبى” مجلة فصول المجلد التاسع، العدد 3، 4، سنة 1991
[3] – إلا أن أ.د مصطفى الضبع فى هيئة قصور الثقافة اقترح عنوان “تبادل الأقنعة” ووجدته عنوانا جميلا دالا، فوافقت عليه ونشرت المجموعة التى تضمنت نقد لبعض أعمال ديستويفسكى أساسا بتاريخ 2006 من منشورات قصور الثقافة باسم “تبادل الأقنعة”.
[4] – نشرت فى صورتها الأولى فى كتاب: “حياتنا والطب النفسي”، دار الغد للثقافة والنشر، القاهرة، 1972- للمؤلف – بعنوان “صلاح جاهين وشخصيته الفرحانقباضية” وقد أجريت تعديلات ليست قليلة فى النسخة الحالية.
[5] – كتبت هذه الفقرة فى فترة حماسة باكرة، منذ نصف قرن، وأظن أننى كنت ـ حينذاك ـ أحاول تقريب كلمة “العقلية” من الناس؛ حتى لا تظل تصنيفاً منفـِّرا، لكننى الآن أتراجع لأن التفرقة واجبة، وباختصار: فإن ما يسمى الأمراض النفسية (أو العصاب) هو نوع من فرط العادية، حتى المعاناة، فالإعاقة النسبية، أما ما يسمى الأمراض العقلية (أو الذهان) فهو فشل كل من النموذج العادى للحياة مع إجهاض محاولات التجاوز (الإبداع) فى آن واحد
[6] – لا تقتصر النوابية على الهوس والاكتئاب وقد أضفت نوعين موازين: النوع الأول الشخصية “المُغيرانسحابية“؛ حيث تتراوح نوابيتها بين الإغارة والإقدام، فى مقابل الانسحاب والهرب، أما النوع الثانى فهو الشخصية “الشكّاحتوائية”، وتفصيلهما فى كتابى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 ص 477.
[7] – الانهباط: هى الكلمة التى اقترحها الأستاذ المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصي؛ لتكون بديلاً عن كلمة الاكتئاب؛ حتى لا نستعمل الكلمة نفسها فى السواء والمرض، بمعنى أنه إذا وصل الاكتئاب إلى درجة مرضية، سمى انهباطاً، وهكذا نحفظ للاكتئاب حقه فى التواجد كحالة سوية.