نشر فى جريدة الأخبار
بتاريخ 23-9-2010
حديث فى النفس والثقافة والتصوف والسياسة
المجتمع المصرى مازال الأكثر أماناً رغم حالات العنف
أجرى الحوار/ مجدى العفيفى
عندما يتحدث أهل الاختصاص يصبح للحديث قيمة خاصة، وتصبح القيمة مضافة اذا كان المتحدث عالما واديبا وكاتبا فى وقت واحد، فالرؤية تتسع أكثر لتحتوى الكثير من علامات الاستفهام التى تحتاج الانطفاء، كما هو الحال مع د. يحيى الرخاوى، فهو عالم النفس وطبيبها، وهو الاديب الروائى والشاعر، وكلا الوجهين ينهلان من معين واحد هو النفس الإنسانية بعذاباتها وأشواقها،، وأنواعها ونوعياتها من نفس لوامة، ونفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، وما دون ذلك. . يؤكد د.يحيى الرخاوى كعالم نفس ان الأمان فى الإيمان، وأن الدين ليس ضرورة نفسية ابتدعها الإنسان ليمشى حاله، انما هو التجلى السلوكى لغريزة التوازن الحيوى التى تحقق هارمونية دوائر الوعى الممتدة إلى ما وسع كرسيه السماوات والأرض بلا نهاية، وفى نفس الوقت هو تنظيم جماعى اجتماعي، وما لم يتشوه، فهو طريق واعد بالتكامل البشري، إلى وجه الحق تعالي.. ويرفض ما يسمى بـ “المواطن العالمى” لكن الذى يوجد حقيقة الآن على الساحة العالمية هو “مشروع الإنسان الأكمل” .. ويبشر الدكتور الرخاوى بأن جوهر الشخصية المصرية بخير وان المجتمع المصرى مازال من أكثر المجتمعات أمانا والعلاقات فيما بيننا ما زالت من أدفأ وأطيب العلاقات.. ويطالب – فى هذه المحاورة – باعادة تعريف الخرافة حتى لا تختلط مع الغيب، وفى نفس الوقت بإعادة النظر فى دور التكنولوجيا فى حياتنا، ويحذر العالم النفسى من الإفراط فى التفسيرات النفسية للذين يطرحون أدق خصوصياتهم على هواء القنوات الفضائية، ويصف ذلك بأنه قشور القشور لا أكثر، وفائدته متواضعة جدا.. ولأن ذكاء السؤال يحمل جوابه فى احيان كثيرة، فهو يري – فى اطار نقد الذات وليس جلد الذات – ان من أهم عيوب مجتمعنا أننا نجيب قبل أن يكتمل السؤال، ويتمني ممارسة ثقافة الأسئلة ، لأننا نتوقف عند أسئلة إجاباتها ليست إلا تحصيل حاصل.
1- من اللحظة الراهنة تجلت الومضة الأولى لهذه المحاورة، فسألت د. الرخاوى: فى أى مرحلة من التاريخ أنت تعيش فالثنائيات المتعارضة تتجاور، والمتناقضات تتآلف فى المجتمع والعصر عموما؟
د. يحيى:
أعيش “هنا الآن”، أنا أعيش عصرى الحاضر لحظة بلحظة، لا أتحسر على الماضى أبدا، فاليوم هو أروع لحظات الزمان، لأن زمن الفعل هو “الآن”، والمستقبل هو نتاج ما أفعله “الآن” أما حكايات ثنائيات المجتمع المصرى فأنا أتعجب ممن يعترض عليها، المجتمع بدون ثنائيات تتناقض وتتصارع وتتحاور وتتشكل معا: يصبح مجتمعا ماسخا راكدا، وللأسف فإن بعض من يرفض هذه الثنائيات ويصفها بالفصام هو جاهل بالفصام كما أنه جاهل بحركية الثنائيات.
2- كنت شاهدا صحفيا على توهجك الإبداعى فى مطالع مسيرتك منذ عقد السبعينيات، أيام أصدرت رواية (الواقعة: المشى على الصراط، ومدرسة العراة) ما بين تلك البداية والمرحلة الآنية التى تواكبها اليوم.. ما هى المحطات التى انتظمت سيرورتك وصيرورتك؟
د. يحيى:
أشكرك وأتحفظ على حكاية (التوهج الإبداعي) هذه، فأنا أنتمى لنظرية تقول إن الإبداع هو إحدى صور نشاط الشخص العادى، وبالذات فى عملية نشاط الحلم، أما ما ذكرت وأسميته التوهج الإبداعى فهو ليس إلا الناتج الإبداعى الذى أفرزته اجتهاداتى التى تحركت من خلال بعض خبرتى المهنية بالذات حتى ذلك الحين. هذا، وقد أتممت الجزء الثالث من هذا العمل الذى أشرت إليه، فصارت ثلاثية ونشر هذا الجزء الثالث بواسطة الهيئة العامة للكتاب باسم ” ملحمة الرحيل والعوْد”، سنة، 2008 ثم أنى أكتب نشرة يومية منذ ثلاث سنوات فى موقعى www.rakhawy.org باسم الإنسان والتطور.
3- فى الحرم الجامعي .. في العيادة ..فى المستشفي.. فى صومعته المنزلية..فى المسافة المتحركة بين البحث العلمى والابداع الأدبى قصا وشعرا ونقدا ونصا،والممارسة العملية للطب النفسي.. ثمة خيوط قوية، وقوى خفية، ما دلالة تعدد أشكال إنتاجك، هل هو “مأزق وجودى” وأنت القائل: “ لا أضرب الدفوف فى مواكب الكلام، ولا أدغدغ النغمْ. لا أنحتُ النقوشَ حول أطراف الجملْ، أو أطلبُ الرّضَا. ولا أقولُ ما يقرّظ الجمالَ..، يحتضرْ. أو يُسكر الثوّار بالأمل”.
د. يحيى:
يا خبر!! من أين لك هذه القصيدة التى لا أذكر أنها نشرت أصلا، هى قصيدة “ياليت شعرى لست شاعرا” وهى نفى لتصنيفى شاعرا، وايضا بها احتمال ادعاء تواضع وهو أخبث من الفخر، أما موقفى من كل ما ذكرت فيمكن أن تسميه “مأزق منهج” بعد مأزق اتساع البصيرة بفضل ما تعرضت له من مواكبة حركية “مرضاى”، وخاصة المجانين منهم، هذه الحركة المتنوعة الأشكال أوصلتنى إلى رؤية أشمل من أن تستوعبها هي غالبا المناهج التقليدية المتاحة (وخاصة البحث العلمى السلطوي) لم تستطع أن تحتوى هذه المناهج ما وصلنى من ممارستى مهنتى وتعرية ذاتى معاً، فكان ما كان من هذا التنوع باستعمال أكثر من أداة ومنهج، والتنقل فيما بينهما، وان كان ذلك قد أثر حتماً على تركيزى على منهج واحد أو شكل واحد من أشكال الإبداع، وأتصور أننى لو اكتفيت بمنهج واحد وأتقنته لحققت ما كان ينبغى أن أحققه، لست متأكدا.
منطلقات إيمانية
4- تتكشف فى أعمالك إيماءات شتى الى جذور التكوين والمرجعيات العرفية والمعرفية والاخلاقية والجمالية، وإشارات ملتبسة الى عدم فصل مصادر المعرفة لديك (العلم والدين والفن والأسطورة) فصلا تعسفيا بعضها عن بعض..
د. يحيى:
هذا صحيح، ذلك العلم المؤسسي، أصبح منغلقا فى منهج يستحق اسمه الجديد “دين العلم، وهو منهج لا يستطيع أن يغطى تاريخ الانسان الذى يحوى تاريخ الحياة كلها، الأحياء قبلنا حافظت على بقائها، برغم أن الذى نجح فى اتقاء الانقراض هو، 001٪ – أى واحد فى الألف- من كل الأحياء من بينها الانسان والجراد والنمل مثلا، فكيف يصل بالانسان الغرور أن ينكر، أو يتكبر علي، كل البرامج المعرفية التى يحملها بداخله، من هنا تأتى منطلقاتى إلى الايمان كمعرفة وكشف عن طريق الدين، وأحيانا بشكل مباشر، وإلى الفن أيضا وهو وسيلة تحريك للوعى ومن ثم الكشف فهو معرفة، أما الاسطورة فهى التاريخ الحقيقى الذى سجله وعى الشعوب، وهو عندى أكثر مصداقية من التاريخ المكتوب الموثق بشكل أو بآخر، الذى حفظ الاسطورة هو وعى الشعوب المتواصل فكيف لا تكون مصدرا للمعرفة، كل ذلك كشفه لى مرضاي، أنا أعالج مريضى الآن بأن أقرأه ناقدا لنعيد تشكيله معا، كما يعيد الناقد تشكيل النص الأدبي، الفرق بين نقد النص الأدبى ونقص النص البشرى هو أن النص البشرى يشترك فى النقد معي، المريض الذهاني (المجنون) هو أسطورة حية وهى تكشف عن كثير من طبقات وعيه الأعمق أحياناً فى فجاجة وأحيانا فى ثورة مجهضة.
أسرار الناس على الهواء
5- بمناسبة الحديث عن الجنون الايجابى والاسطورى عندى ملاحظة: فيما مضى كان الكاتب ذو الخبرة والرؤية على صفحات الصحف اليومية هو الطبيب الذى يعالج اوجاع الناس النفسية والعاطفية والوجدانية، ثم جاء وقت أصبح فيه الطب النفسى بعقاقيره وأدويته هو الملجأ، ثم عادت البرامج التليفزيونية تستقطب الجماهير حتى انهم يطرحون ادق خصوصياتهم على الهواء مباشرة، بأساليب الكشف والفضح بلا ستر.. ما دلالة ذلك؟
د. يحيى:
من حق الناس الحصول على المعرفة – بما فى ذلك معرفة أنفسهم – من كل المصادر بلا استثناء، أنا شخصيا أتعلم المعارف النفسية من الأدب بنفس القدر وربما أكثر مما أتعلمها من المصادر النفسية العلمية التقليدية، وقد صدر لى منذ أربعة أعوام كتاب فى النقد بعنوان “تبادل الأقنعة” سنة 2006 من منشورات قصور الثقافة، وهو “بمثابة التفسير الأدبى للنفس” بما يقابل ويوازن ما يسمي “التفسير النفسى للأدب”، فى هذا الكتاب بينت من خلال أعمالى النقدية كيف تعلمت من ديستويفسكى ونجيب محفوظ وغيرهما أعمق أغوار النفس الإنسانية. أما دور الاعلام فى إنارة هذه المنطقة فله وعليه، فمن ناحية قد يصل الأمر إلى تسطيح ضار واختزال مخل، وخاصة فى كثير من الأفلام والمسلسلات، وقد يصل إلى تشويه المريض النفسى وإفساد فهم المرض النفسى وتسطيح ما هو علاج نفسي، لكن هناك عددا أقل من الأعمال الدرامية وبعض الأحاديث قد تساهم فى إضاءة بعض جوانب النفس بشكل جيد، فقط أحذر من الإفراط فى التفسيرات النفسية حتى لا نقع فيما اسميته: “نفسنة الحياة المعاصرة”، أما حكاية يطرحون أدق خصوصياتهم على الهواء، فإنى أرى أن ما يطرح على الهواء هو قشور القشور لا أكثر، وفائدته متواضعة أبلغ التواضع.
ثقافة الأسئلة
6- ولأن الشئ بالشئ يذكر.. ألا تلاحظ تغييب ثقافة الأسئلة، وانها ثقافة نفتقدها ونفتقر اليها مع أننا نحتاج اليها ربما تستقيم منظومة القيم التى أصابها الاختلال، واعلم أنك ترى ان “المستقبل يتوقف فى الإجابة على أسئلة جوهرية تحدد هويتنا وقدراتنا”.
د. يحيى:
يا رجل!! أنت تذكرنى بمواقف مهمة، وكلام جرى على قلمى فعلا، لكن دعنى أذكرك أن مثل هذه المقتطفات لا تؤخذ وحدها وإنما فى سياقها، ثم أقول: عندك حق: إن ذكاء السؤال أحيانا يحمل جوابه، فهو لا يحتاج إلى جواب إلا أن يختزله، إن من أهم عيوب مجتمعنا أننا نجيب قبل أن يكتمل السؤال، أو أننا نتوقف عند أسئلة إجاباتها ليست إلا “تحصيل حاصل”، هذه الأسئلة المسطحة الفاترة تطرح أحيانا من مراكز علمية مسئولة ومهمة جدا مثل مركز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، كثير من تلك الأسئلة تحمل إجاباتها بشكل آليّ، وعدد آخر يكاد يقر ببلاهة المسئول، السؤال الجيد والمحرّك هو الذى يظل مثيرا للدهشة حتى لو لم نجد له إجابة شافية، كتبت مرة عن “فضيلة الدهشة” التى هى الأرضية الخصبة التى يترعرع فيها الإبداع، الإجابات الإيجابية التى أشرت إليها فى سؤالك هى مسألة شخصية تبرر مسيرتى الفردية (الآن) وهى قابلة دائما أبدا للتغيير والتحريك، كما أنها – بصفتها فردية – لا تصلح أن تكون حلا جماعيا للمجتمع، هى مجرد عينة للإصرار على تحمل مسئولية “التفاؤل” بالعمل على تحقيقه بدءًا بالآن، وباستمرار.
الحوار المفقود
7- الحوار مفقود فى المجتمع.. فما هو الحوار المطلوب، وما هى نوعية الحوار المفقود؟
د. يحيى:
أغلب أنواع الحوار الجارى هى مفرغة من زخم الاختلاف المسئول، وهى إما حوارات الكر والفر، أو الفخر والهجاء، أو النفاق والتفويت وادعاء “قبول الآخر” (واللى فى القلب فى القلب) وإليك مقطعا من قصيدة “اللبن المر” من ديواني “سر اللعبة” 1974 “والكل يدافع عن شئ لا يعرفه.. بحماس لا يهدأ أبدا:- ما حال الدنيا؟ – الدفع تأخر – هل نمتَ الليلة؟ – الأسهم زادت – كم سعر الذهب اليوم؟ – المأتم بعد العصر”
ان الحوار الذى افتقده هو الذى يخرج منه المحاور وقد وصلته دعوة إلى أن هناك احتمالا آخر لما بدأ به اختلافه مع من يحاوره، ثم حين ينصرف إلى نفسه يتبقى فى وعيه بعض هذا الذى وصله، هذا نوع نادر الآن من الحوار أفتقده وأحزن علي غيابه.
هارمونية الإيمان
8- ألمح وألمس فى ثوابت الرؤية الإبداعية لديك ان الأمان فى الإيمان، وأن الدرع الحقيقى هو الانتماء للمجتمع ومحاسبة الله، الله بمعنى الحق، والعدل، فهل الدين ضرورة نفسية، وحاجة اجتماعية، لكن ثم من يشكك فى ذلك، ما هى رؤيتك؟
د. يحيى:
الدين غير الإيمان، وإن كان أحد الطرق إليه، وربما هو أهم الطرق إليه، “قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ” حركية الإبداع هى توجه إيمانيّ بالضرورة حتى لو لم يقر بذلك المبدع نفسه. الدين ليس ضرورة نفسية ابتدعها الإنسان ليمشى حاله، هو التجلى السلوكى لغريزة التوازن الحيوى التى تحقق هارمونية دوائر الوعى الممتدة إلى ما وسع كرسيه السماوات والأرض بلا نهاية، وفى نفس الوقت هو تنظيم جماعى اجتماعي، وما لم يتشوه، فهو طريق واعد بالتكامل البشري، إلى وجه الحق تعالى.
“العارف بالله” لا “العارف لله“
9- فى عباءة التصوف .. لك ومضات وتجليات (فى رحاب النفرى) كيف ترى التصوف الآن ودوره وهل هو هروب من الواقع؟ أم قوة دفع خفية؟ هل هو زهد عن ضعف؟
د. يحيى:
هو ليس زهدا أبدا، زهد فى ماذا بالله عليك، كيف يكون المتصوف زاهدا فى الحياة وتصوفه ليس “إلا ملء الوقت بما هو أحق بالوقت” والأغرب فى السؤال هو تصور أن هذا الزهد هو عن ضعف، التصوف الحقيقى لا يسمى كذلك إلا إذا كان مسارا على قمة قوة المواجهة وكدح السعي، وكذلك فإن التصوف هو تعميق الواقع للوصول إلى المعنى الأعمق لاستمرارنا أحياء نسعى فى تناسق مع دوائر الوعى الممتدة. التصوف لا يسمى تصوفا حين يبلغ منتهاه، التصوف سبيل إلى المعرفة، ولنتذكر أن الاسم الذى يطلق على المتصوف أحيانا هو “العارف بالله” وليس “العارف لله” السعى بالله إلى المعرفة غير ادعاء معرفة الله تحديدا.
10- ما تفسيركم لحالات العنف الاجتماعى التى تتفجر بكثرة الآن؟
د. يحيى:
العنف الاجتماعى موجود عبر التاريخ، الأساطير كلها تقريبا تحكى عن عنف اجتماعى بلا حدود، والمجتمعات التى نصفها بالتمدن والتحضر والتقدم مليئة بكل أنواع العنف الاجتماعي، وما ظهر عندنا مؤخرا لا يصل إلى حد الظاهرة، وهو موجود من قديم لكن الإعلام الآن برغم أنه يقوم بدور مهم إلا أن له وجها خطرا إن لم يرتفع إلى مسئوليته، فهو يهول ويعمم ويرهب، ويبالغ حتى تبدو صورة المجتمع علي غير حقيقتها، مجتمعنا مازال من أكثر المجتمعات أمانا، والعلاقات البشرية فيما بيننا ما زالت من أدفأ وأطيب العلاقات وهذا لا ينفى بشاعة وخطورة العنف الاجتماعى الذى تصلنا أخباره مفزعة منذرة.
حاملو توكيلات المصريين
11- كل من هب ودب أصبح يتحدث باسم المصريين نفسيا واجتماعيا، ويطرح همومهم وكأنه حامل توكيلات منهم.. ما هى الضوابط التى ينبغى ان تحكم ذلك؟ وكيف يتحقق التوازن فى الرؤية؟
د. يحيى:
مع عظيم شكرى وتقديرى للدكتور جلال أمين الذى أصدر كتابه الأهم “ماذا حدث للمصريين فى نصف قرن”، وهو كتاب اقرب إلى السيرة الذاتية التى توالت تباعاً فى أعماله بعد ذلك، إلا أنه بهذا الكتاب قد سنَّ سنة خطرة جعلت هذا التعبير”ماذا حدث للمصريين” بدعة على الدكتور جلال أمين وزرها ووزر من عمل بها إلى أن يتوقف هذا السيل المتدفق من الإسقاط ،والتعميم، والشجب، والبكاء (أو التباكي) على الماضي، والأحكام الفوقية، وكل ذلك يخرج لنا صوراً مسطحة وانطباعات فجة عن رأى الكاتب فى نفسه وفى الأقربين منه، وليس عن المصريين.وعلى الجانب الآخر فإن المعلومات التى تصدر عن مراكز محترمة مثل “مركز المعلومات التابع لرئاسة الوزراء، وهى معلومات مهمة، إلا أنها أيضا الاستسلام لها وللتعميم استسهالا، وهى تحتاج لقراءة نقدية فى كل من “المنهج” و”تمثيل العينة” و”إيحائية الأسئلة” و”سذاجتها” فى كثير من الأحيان، كل ذلك يحتاج إلى قراءة جادة ناقدة لاحتمالات التعميم، وإلى الحذر من عبادة الأرقام ، حين طلبت مني احدى دور النشر أن أكتب كتابا عن “ماذا حدث للمصريين” عجزت، وخطر لى أن أغيّر العنوان إلي “بعض وصف بعض مصر الآن” لكن الفرصة لم تسمح بإكمال العمل.
جوهر الشخصية المصرية
12- انت ضد التعميم.. والمنهج العلمى يساند رؤاك .. لكن يمكن تكثيف جوهر الشخصية المصرية من منظور عالم نفسى وكاتب وأديب مثلك .. و فى هذا السياق ثمة مفارقات من قبيل: كثرة الاعمال الفنية الكوميدية لشعب يعيش فى حالة من الاكتئاب والتشتت وضبابية الرؤية، وحديث الفقر مع احصائيات تقول أن المصريين يدفعون 32 مليار جنيه فواتير الاتصالات، و28 ملياراً للدروس الخصوصية.. وفاتورة رمضان السنوية 500 مليون جنيه.
د. يحيى:
أولا: أظن اننى أوردت الاجابة على الجزء الأول من هذا التساؤل فى إجابتى عن السؤال السابق.
ثانيا: أنا لم أعد أشاهد الاعمال الكوميدية الأحدث، وأعتقد أنها مختلفة تماما عما كنت معتادا مشاهدته من أول مسرحيات الريحانى حتى ريا وسكينة مرورا بفؤاد المهندس، أنا اسأل أولادى وأحفادى عن مسرحية كوميدية جديدة تستأهل، ولا يجيبوننى إجابات شافية ربما لتشتيت وقتهم ومشاهداتهم هم الآخرين بين الفضائيات والمحليات، وربما لأن أغلب ما يسمى الكوميديا الآن أصبح قفشات وإفيهات (غالبا)
ثالثا: أنا أرفض غالبا هذا التعبير الذى يتكرر مؤخرا “نحن نعيش فى حالة “اكتئاب” من قال هذا ولماذا؟ علينا أن نتذكر أنه ليس كل من ضَجِر لأنه رأى ما يستحق الضجر يمكن أن نعلق عليه لافتة مرضية اسمها “الاكتئاب”، علينا أن نُرعب من اللامبالاة وليس من الاكتئاب، الانسان المصرى الذى يعيش ما نعيشه معاً هذه الأيام، ولا يحزن للجارى هو لا يشاركنا آلامنا ومسئوليتنا وحيرتنا وظروفنا، وكل هذا لا ينبغى أن يتناقض مع الكوميديا، أحيانا تكشف الكوميديا عن واقع عارٍ يحرك فينا اكتئابا ضاحكا ساخرا قاسيا.
هذا هو المثقف الحقيقى
تشخيص المشاكل.. كثير، وتجسيد الاوضاع المختلة.. أكثر، كميات هائلة من هذا وذاك، نريد الحلول من أهل الذكر كل فى مجال اختصاصه ، وكفانا جلدا للذات.. أنتم المثقفون أشعلوا المصابيح، وأنت تلاحظ فى مرحلتنا الراهنة أن العقل المصرى يتمطى فى تكاسل خائف بعد طول سبات، وهو يتحسس طريقه بين شواهد القبور ومعلقات المتاحف، ألم تقل:
كل القلم ما اتقصف يطلعْ لُه سن جديدْ، وايش تعمل الكلْمَةْ يَابَا، والقدَرْ مواعيد
خلق القلم مِالعَدَمْ أوراقْ، وِ..مَلاَهَا، وانْ كان عاجبْنٍى وَجَبْ، ولاّ أتنّى بعيدْ.
13- أتوقف عند ما جاء فى السؤال “أنتم المثقفون” ثم أتوقف من جديد عند تعبير “بعد طول سبات”، فلا أنا من هؤلاء المثفقين ولا المثفقون قد طال سباتهم.
د. يحيى:
المثفف عندى ليس هو من يجلس فى المجلس الأعلى للثقافة، ولكنه الشخص الذى يستوعب الوعى الجمعى لناسه الأقرب (من أى جماعة أو ثفافة فرعية) ويمثله، ثم يمتد وعيه إلى وعى دوائر أوسع فأوسع ثم يشارك فى دفع ناسه من خلال ذلك إلى ما هو أرقى وأثرى وأجدّ إبداعا. أما ما اقتطفته من شعرى العامى فهو تعبير عن إلحاح قلمى عليّ أن أواصل محاولاتى بكل لغة ومنهج، مهما بدا الإحباط مكررا، وهذا المقطع يحضرنى كلما هممت باتخاذ قرار التوقف ولو لفترة.
الناس والسياسة
14- تعب الناس من السياسة ومن تداعيات أحداثها.. هل تساهم السياسة فى إصابة الناس بمزيد من الهموم النفسية؟
د. يحيى:
الانسان سياسى بطبعه، تماما مثلما أن الانسان اجتماعى بطبعه، لا أحد يملك أن يخلع عن نفسه دوره السياسي، السياسة هى المشاركة الايجابيه، وايضا السلبية، فى تحديد المجرى العام لحياة الناس، ومن هنا أعتقد أننا جميعا نشارك فى السياسة بوعى أو بغير قصد. أما عن المشاركة الفعليه برغم الإحباط المتكرر، فهذا هو ما يتحرك الآن بعناد مشكور، برغم ما يحيطنا من هموم وآلام، ولهذا كله دلالاته الصعبة.
15- الحراك السياسى والاجتماعى فى المجتمع المصري .. ما دلالته اليوم وغدا؟
د. يحيى:
هو حراك حقيقي، لكنه يتراوح بين حسن النيه والحماس والصياح والأمل البعيد، وبعضه حراك فئوى محدود بمطالب خاصة، لكنه يمكن أن يحمل علامات سياسية إيجابية ولو بطريق غير مباشر، تعبير “الاحتقان” الذى يتردد أحيانا يضيف إلى هذا الحراك معنى جيد، لكن عموما أنا لا أرى فى المستقبل القريب علامات تدل على أن هذا الحراك سوف يؤدى إلى التغيير المنتظر أو المأمول، ومع ذلك أنا مع استمراره، مع الحذر من سوء استعماله.
16- هل أنت مواطن عالمي؟
هل تعتقد بوجود ما يسمي (المواطن العالمي) فى هذه الآونة من العصر؟.
د. يحيى:
الذى يوجد حقيقة الآن على الساحة، العالمية هو “مشروع الإنسان الأكمل” تعبير “المواطن العالمى” هو أقرب إلى تسويق فكرة العولمة، ومن يدعو إلى ذلك فى خبث يذكرنى بحكاية التحكيم بين ” على ” و” معاوية ” رضى الله عنهما، وذلك حين يقولون لنا وهم يسوقون العولمة: اخلعوا أوطانكم لتنتموا إلى ما هو “مواطن عالمى” فنستجيب لهم فى بلَهْ، وإذا بهم يقولون “هيه وضحكنا عليكم واحتفظنا نحن بأوطاننا وشوفينيتنا أسيادا لكم، لأنكم أصبحتم بلا معالم، بلا وطن” مشروع الانسان القادم سوف تفرزه ثورة المعلومات التواصلية عبر التقنيات الأحدث، حيث يتكون الآن عبر العالم وعى انسانى مشترك يكاد ينجح فى تجاوز الوصايا الاعلامية والسلطوية المركزية الجاثمة المعارف المغلقة.
17- ما تقييمك لحالتى الجذب من هذين الطرفين: طرف يشحن الناس بالفن الدرامى وثرثرة الفضائيات، وطرف يبذل المستحيل لشحنهم روحيا ودينيا؟
د. يحيى:
إن كنت تقصد دور الإعلام فيهما- وما يصلنى مصادفة من الجانبين هو تسطيح واستعجال، فلا الفن الدرامى يحرك الوعى للنقلة المرجوّه، ولا الشحن الروحى الجارى يضيف إلى حركية المعرفة الإيمانية، بل إن ما يصلنى هو التسكين والتلقين والوصاية الفوقية.