الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ديوان “سر اللعبة” هوامش ليست هامشية:  الهامش الرابع و الخامس والسادس

ديوان “سر اللعبة” هوامش ليست هامشية:  الهامش الرابع و الخامس والسادس

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 23-3-2025

السنة الثامنة عشر

العدد: 6413

 ديوان “سر اللعبة”[1]

 الهامش الرابع:

تعرف جديد على الشعر بمعنى أوسع

أزعم أن لى موقفا محددا مما هو شعر، فأرى عدم اقتصاره على ما هو قصيدة سواء عمودية أو غير ذلك، وهذا لا يعنى عندى مجرد امتداد شكله إلى الحضور النثرى فيما يسمى قصيدة النثر.

 وقد انتبهت من خلال ذلك، كما  نـَبـَّهـْتُ إلى أن طبيعة الحركية الشعرية فى عمق عمليات الإبداع عامة يمكن أن تظهر فى تجليات متنوعة، متعددة بما فى ذلك الإبداع العلمى، ولعل أظهر ما يمكن أن يمثل رأيى هذا قد ظهر فى مقالى بعنوان: “أينشتاين شاعراً” فى الأهرام اليومى بتاريخ 30/5/2005، وفيما يلى أهم ما جاء فيه (مقتطفات حرفية):

“…. هل‏ ‏الشاعر‏ ‏هو‏ ‏من‏ “‏يكتب‏” ‏الشعر‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏يتشكل‏ ‏وجوده‏ ‏شعرا؟‏ ‏منذ‏ ‏رجح‏ ‏صلاح‏ ‏عبد‏ ‏الصبور‏ ‏أن‏ ‏الشعر‏ ‏”حالة”‏ ‏لا‏ “‏حلية” ‏ولا‏ “‏أسلوبا”‏، ‏وأنا‏ ‏أعيش‏ ‏هذا‏ ‏الرأى ‏بوعى ‏مكثف‏. ‏عرفت‏ ‏أينشتاين‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حركية‏ ‏إبداعه‏، ‏وليس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ناتج‏ ‏عبقريته‏، ‏يقول‏ ‏أينشتاين‏:

“… ‏إن‏ ‏الألفاظ‏ ‏كما‏ ‏تستعمل‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏المكتوبة‏ ‏أو‏ ‏المنطوقة‏ ‏لاتقوم‏ ‏بأى ‏دور‏ ‏فى ‏ميكانزمات‏ ‏تفكيره‏، ‏وإنما‏ ‏تبدأ‏ ‏عملياته‏ ‏المعرفية‏ ‏بصورة‏ ‏بصرية‏ ‏وعضلية‏، ‏ثم‏ ‏تتدخل‏ ‏الكلمات‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏سمعى “. ‏ويضيف‏: “… ‏إنه‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يسترجع‏ ‏بإرادته‏ ‏هذه‏ ‏الصور‏ ‏وأن‏ ‏يؤلف‏ ‏بينها‏…”.

بالله عليكم هل يوجد توصيف للشعر أدق حبكة وأجمل حضوراً من هذا؟

ثم أُكـْمـِلُ الاقتطاف من نفس المقال:

أعيد‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏ماهية‏ ‏الشعر‏ ‏عامة، ‏من ‏كتاب‏ ‏صغير‏ ‏اسمه‏ “‏العلم‏ ‏والشعر‏”، تأليف‏ “‏أ‏.‏أ‏. ‏رتشاردز‏” ‏ترجمة‏ ‏محمد‏ ‏مصطفى ‏بدوى: ‏كتب‏ ‏المؤلف‏ “.. ‏وللأسف‏ ‏العميق‏ ‏كان‏ ‏الكثيرون‏ -‏ومنهم‏ ‏كيتس‏- ‏مثلا‏ ‏يعتقدون‏ ‏أن‏ ‏النتيجة‏ ‏الحتمية‏ ‏للتقدم‏ ‏العلمى ‏هى ‏هدم‏ ‏فرص‏ ‏وجود‏ ‏الشعر‏”، ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏المؤلف‏ ‏يفند‏ ‏هذا‏ ‏الرأى ‏ليثبت‏ ‏أن‏ ‏الشعر‏ ‏مكمل‏ ‏للمعرفة‏ ‏الكلية‏، ‏وأن‏ ‏العلم‏ ‏والشعر‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يتضفرا‏ ‏تكاملا‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏يتنافسا‏ ‏استبعادا([2]) ‏.‏

رحت‏ ‏أنظر‏ ‏كيف‏ ‏نحتفل‏ ‏بأينشتاين‏ ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏فصحّ‏ ‏عندى ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏هو‏ ‏بمثابة‏: “‏خذ‏ ‏من‏ ‏أينشتاين‏ ‏ما‏ ‏شئت‏ ‏لما‏ ‏شئت‏”، ‏تراوحتْ‏ ‏محاولات‏ ‏تناوله‏ ‏من‏ ‏الإشادة‏ ‏بعبقريته‏، ‏إلى ‏الشك‏ ‏فى ‏أصالته‏، ‏ومن‏ ‏التصفيق‏ ‏له‏ ‏والانبهار‏ ‏به‏ ‏إلى ‏التذكرة‏ ‏المحايدة‏، ‏إلى ‏القدح‏ ‏والتشكيك‏، ‏ومن‏ ‏الاتهام‏ ‏بالتحيز‏ ‏للصهيونية‏ (‏برغم‏ ‏اعتذاره‏ ‏عن‏ ‏رئاسة‏ ‏إسرائيل‏ ‏سنة‏ 1952) ‏إلى ‏الإشادة‏ ‏به‏ ‏محاربا‏ ‏للماكارثية‏ ‏ومعتذرا‏ ‏عما‏ ‏استـُخـْدِمت‏ ‏فيه‏ ‏نظريته‏، ‏مُنـَبـِّها‏ ‏لمقولته‏: “‏المعادلات‏ ‏لا‏ ‏تنفجر‏”!!. ‏وبالنسبة‏ ‏لسيرته‏ ‏الذاتية‏: ‏من‏ ‏أول‏ ‏تشخصيه‏ ‏طفلا‏ ‏”ذاتويا” ‏Autistic (‏خطأ‏ ‏طبعا‏ ‏لالتباسهم‏ ‏فى ‏سبب‏ ‏تأخره‏ ‏فى ‏النطق‏) ‏حتى ‏اتهامه‏ ‏بإهماله‏ ‏ابنه‏ ‏الفصامى ‏فى ‏المستشفى، ‏مرورا‏ ‏باللمز‏ ‏حول‏ ‏علاقته‏ ‏بماتا‏ ‏هارى ‏جاسوسة‏ ‏الكى ‏جى ‏بى.‏

أكتشف‏ ‏أننى ‏أحب‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏اليهودى ‏الجميل‏، ‏ثم‏ ‏إنى ‏رحت‏ ‏أقرأه‏ ‏شاعرا‏: ‏لا‏ ‏فى ‏ناتج‏ ‏إبداعه‏، ‏وإنما‏ ‏استلهاما من‏ ‏موقف‏ ‏حركية‏ ‏وجوده‏، ‏وهو‏ ‏القائل‏:

“… ‏إن‏ ‏أجمل‏ ‏ما‏ ‏نعايشه‏ ‏هو‏ ‏الغموض‏..، ‏ومن‏ ‏لا‏ ‏يشعر‏ ‏بهذه‏ ‏العاطفة‏، ‏فلا‏ ‏يتوقف‏ ‏ويحتار‏ ‏ويقف‏ ‏مأخوذا‏ ‏فى ‏دهشة‏، ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏ميتا‏ ‏مغمض‏ ‏العينين‏”

 ‏أليست‏ ‏هذه‏ ‏الدهشة‏ ‏هى ‏التى ‏تـَلـِمّ‏ ‏أينشتاين‏ ‏فـَيَلـُمُّـها‏ ‏فى ‏إبداعه‏ ‏شعرا‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏ناتجه‏ ‏معادلة‏ ‏رياضية‏ ‏أو‏ ‏موقفا‏ ‏وجوديا؟‏

‏يقول‏ ‏مؤلف‏ “‏العلم‏ ‏والشعر‏” (أ.أ. ريتشاردز):

“..‏الشعر‏ ‏فى ‏مقدوره‏ ‏أن‏ ‏ينقذنا‏، ‏لأنه‏ ‏وسيلة‏ ‏من‏ ‏الوسائل‏ ‏التى ‏يمكننا‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏نتغلب‏ ‏على ‏الفوضى‏”.‏

علاقة‏ ‏أينشتاين‏ ‏بالدين‏ ‏والله‏ ‏سبحانه‏ ‏هى ‏إثبات‏ ‏آخر‏ ‏أنه‏ ‏شاعر‏: ‏يقول‏ ‏أينشتاين‏ “‏العلم‏ ‏بلا‏ ‏دين‏ ‏أعرج‏، ‏والدين‏ ‏بلا‏ ‏علم‏ ‏أعمى”، ‏وهو‏ ‏بذلك‏ ‏لا‏ ‏يفتح‏ ‏الباب‏ ‏لهذا‏ ‏الجهل‏ ‏المزدوج‏ ‏المسمى “‏التفسير‏ ‏العلمى ‏للدين‏”، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏إنما يدعو ليتكاملا‏ ‏معا‏ ‏لصالح‏ ‏الإنسان‏، ‏دون‏ ‏وصاية‏ ‏أحدهما‏ ‏على ‏الآخر‏، ‏أو‏ ‏اختزال‏ ‏أحدهما‏ ‏إلى ‏الآخر‏.‏

أينشتاين‏ ‏يعيد‏ ‏إحياء‏ ‏الألفاظ‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏تشكيلى ‏جديد‏، ‏فهو‏ ‏الشعر‏، ‏نقرأ‏ ‏قوله‏:

“‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نجعل‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏أبسط‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏أبسط‏ ‏من‏ ‏ذلك‏” ‏أو‏ ‏قوله‏

“‏الثقافة‏ ‏هى ‏ما‏ ‏يبقى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تنسى ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تعلمته‏ ‏فى ‏المدرسة‏.” ‏هل‏ ‏نتأمل‏ ‏معا‏ ‏كلمات‏ ‏مثل‏ “‏أبسط‏”، ‏و‏”‏تنسي‏” ‏و‏”‏تعلمته‏” ‏لنعرف‏ ‏كيف‏ ‏تحضر‏ ‏الألفاظ‏ ‏جديدة‏ ‏فى ‏تشكيله‏ ‏هذا؟

 الهامش الخامس:

خيانة العلم والشعر

حين عقب  الأبنودى أيضا على مقابلتـِّى التليفزيونية مع المقدّم النابه “تامر أمين” فى برنامج “البيت بيتك” وتعريتى لمحاولة  اتهام شاب برئ بارتكاب جريمة قتل بشعة فى  بنى مزار [3] ، عقـَّب الأبنودى على هذا اللقاء بأن أشاد بما سمعه فى البرنامج وأنا أفنـِّدُ كل المزاعم التى أرادو بها أن يلصقوا التهمة بهذا الشاب، واعدين إياه بالبراءة إذا هو أدعى الجنون، فرفضتُ أنا ذلك، وفنـَّدْت بـُعـْدَه عن العلم وعن الامانة معا، فكتب الأبنودى يعقـّب على هذا الحديث ونشر التعقيب الذى جاء فيه قوْله: “العلم كالشعر إذا خـُنـْتـَه مرة واحدة خانك إلى الأبد“، وكتبت أنا بدورى ما استلهمته من هذا القول الرائع مقالا قصيرا بعنوان “خيانة العلم والشعر” نشر فى الأهرام: 6/2/2006 وهو متعلق بهدف هذه الهوامش، وهذا بعض ما جاء فيه:

“حين كتبت فى الأهرام (30/5/2005) عن “أينشتاين شاعراً”، هاتفنى د.نبيل على مثنيا على ما كتبت، ففرحت بشهادته وهو مَنْ هو فى المعلوماتية، والثقافة، واللغة([4])، لكننى حين عدت للمقال وجدت به شيئا ناقصا، فى الاتجاه الآخر وهو: كيف يكون الشاعرعالما بدوره؟، كيف يكشف و يضيف للمعرفة؟ وليس فقط كيف يشرق فى الوعى والوجدان؟

فجأة قفز إلى وعيى ذلك العمل الهائل الذى قام به الشاعر عبد الرحمن الأبنودى فى جمع السيرة الهلالية، قلت له ذات مرة إن هذا عمل يعجز عنه الأكاديميون للحصول على الدكتوراة وما بعدها، ولم أنتبه ساعتها إلى فضل شاعريته التشكيلية على تنظيم رؤيته التوثيقية المتقنة الأمينة هكذا.

ثم أننى فوجئت بالأبنودى الرائع ينحت قولا غير مأثور فى مقاله الذى ذكَرَنى فيه وأثنى على موقفى من جرعة شاب بنى مزار، قولا أطلقه بجرأة غير مسبوقة حيث فوجئت به وهو يقول: ” العلم كالشعر إذا خـُنـْتـَه مرة واحدة خانك إلى الأبد“، ثم يضيف: هذا القانون من وضعى وليس لأحد ممن سبقونىيا خبر يا عبد الرحمن، كيف وصلتَ إلى هذا بكل هذه الشجاعة والوضوح: هكذا خـَبـْط لـَصـْق، هذا شعر آخر([5]). تساءلت وأنا أصدقه: كيف عرف بحدس إبداعه أن حـَـمــْـل أمانة العلم أوالشعر تصل إلى هذه الدرجة من المسؤولية فقالها بهذه الروعة المتحدية.

الطب النفسى بالذات، بما فى ذلك الطب النفسى الشرْعى، ينبغى أن يتحرى وهو يصدر أحكاماً عامة على أحداث عامة، مشتبه فيها مَنْ بِهِ شبهة مَرٍضٍ ما، كل حادث متفرد فى ذاته، وكل متهم ليس كمثله أحد، مهما توحد التشخيص، لابد أن نتناوله فى حدود المعلومات المتاحة الموثقة، وما أقلها للإعلام، بل ما أغمضها وأصعبها عند الفحص المباشر العميق أيضا.

 على العالم أو الأخصائى أن يتذكر طول الوقت مَنْ يخاطب؟ ولماذا؟ وأين؟ هل هو يخاطب القاضى؟ أم القارئ العادى؟ أم زميل مشترك فى نقاش علمى…الخ، فى كل هذه الأحوال: صمـْـتُ العالم والأخصائى هو مسئولية وأمانة، مثله مثل كلامه سواء بسواء.

كذلك الشعر حين لا يكتفى بأن يأبى أن يكون نظما راقصا، أو دغدغة لذيذة، أو تحريضا صارخا، فيتحمل مسؤولية تفكيك اللغة وإعادة تركيبها صورا تتحرك أنغاما تعيد تشكيل الوعى البشرى، فهو يحمل أمانة الخالق المبدع([6]).

 

 الهامش السادس:

نقد النص البشرى

هذا الهامش الأخير ربما يكون الأصعب، حتى هممت أن أستغنى عنه خشية المزيد من الإغماض، لكننى عدت فاكتفيت باقتطاف بعض ما جاء فى نشرة “الإنسان والتطور اليومية”، السبت: 23-4-2016 تاركا أمر اختيار قراءته أم تخطيه إلى القارىء .

“…حين وصلت إلى إدراك طبيعة ومسئولية ما أمارس فى علاج مرضاى، وبدأت أستوعب كيف أن النص البشرى هو أعظم إبداع فى الكون كما أبدعه بديع السماوات والأرض وبديع كل شىء، بما فى ذلك قوانين وبرامج التطور، وكيف أن المرض النفسى هو تشويه وانحراف بهذا الإبداع الفائق العظمة المحكم التكوين فى أحسن تقويم، أقول حين انتبهت إلى وجه الشبه هذا فرحت بهذا الكشف، وبزغ مصطلح “نقد النص البشرى”، غير أننى بدأت أجد صعوبة فى توصيف وتوصيل ما أمارس لزملائى الأطباء النفسيين الأصغر بعد أن كنت أعانى من الصعوبة مع الأكبر فقط، ثم لاحظت فتور الأجيال الأحدث فالأحدث عن متابعة نشاطات الإبداع والنقد عامة، أو أى نشاط معرفى خارج تخصصهم، وبالتالى عزفوا عن المشاركة الجادة فى الندوات التى كنا نقدمها فى النقد أساسا، وبالتالى لم تعد متابعة النقد الأدبى جزءا أساسيا من برنامج التدريب الذى كان يسهل مهمتنا العلاجية حتى قبل صك هذا المصطلح الجديد، “نقد النص البشرى”، فكان لزاما علىّ أن أعود كلما لزم الأمر إلى بعض التعريف بما هو”نص”، وبما هو “نقد”

هذا هو ما سوف أبدأ به اليوم مع بعض المقارنات، وإن كنت أعترف ابتداءً أننى وجدت صعوبة بالغة فى المقارنة بين هذين المنهجين، وأنا أحاول أن أقيس “الجارى” على “المجهول” بالنسبة للقارئ المنغلق فى تخصصه الراضى به، ومع ذلك فليس أمامى حل آخر، وفى ذلك أقول:

كل نص بشرى هو تناص([7]) حالة كونه يحافظ على الفطرة بإبداع (إيمان) متجدد

نعنى بالنص البشرى: أى مخلوق بشرى خلقه الله، والتناص بين البشر فى مساره التطورى ليس له علاقة بالنقد المعروف تحت مسمى ثقافى أو إبداعى بذاته فهو قائم طول الوقت وهو برنامج تطورى أقدم من البشر ولا يوجد من ينقده أو يطوره إلا خالقه، اما فى حالة خلله أو انحرافه أو تشرذمه وهو ما يسمى مرضا فإن التناصّ المـُوَجـَّه المسئول يمكن أن يسهم فى استعادة تركيبه وإصلاح ما فسد من الطبيعة البشرية، وهذا هو ما أسميناه “نقد النص البشرى”، وهو الإسهام فى محاولة تزكية (تنمية) النفس البشرية إلى أصلها، لتحتوى فجورها وتقواها جدلا: فيتخلق منهما السعى الإبداعى طول الوقت.

 النص البشرى – كما ذكرنا – هو من إبداع  بديع السماوات والأرض وبديع كل شئ، وبالتالى فنقد النص البشرى لا يعنى مقارنة أو مقاربة بين ما أبدع بديع السماوات والأرض، وبين الجهاد فى المشاركة فى إعادة تشكيل النص البشرى فى مواصلة إبداع نفسه، من خلال جدله الولافى، عبر مشاركته المسامّية مع النصوص البشرية المحيطة والمتاحة، (المحيط السليم، والمعالجين المبدعين بالضرورة) ويبدو أن كل ما على الإنسان هو أن يحافظ على جوهر النص الأصلى وغايته إلى بديعه فى ظروف متغيرة وأزمان مختلفة، وذلك من خلال استعياب فرص دوام عطاء الإيقاعحيوى لنصوص بشرية متجادلة تسهم باستمرار فى تجديد النص بما خُلِقَ بِهْ لمِاَ خُلِق لَه.

ومن منطلق أن الشخص العادى هو أساسا مبدع طالما ينام ويصحو، ويدهش ويتغير، فإن دورات الاستعادة يمكن اعتبارها ممتدة بامتداد الإيقاعحيوى طول الوقت، فهى دائمة ومتجددة من حيث المبدأ.

إن ما يسمح بقبول هذه الأفكار هو مواصلة امتداد الوعى الفردى إلى الوعى الجمعى إلى الوعى الجماعى إلى الوعى الطبيعى إلى الوعى المطلق إلى الوعى المفتوح النهاية إلى الغيب “إليه”، إن ذلك يتم من منطلق أن كل نص بشرى هو تناص حيوى يتجدد بما يُعمّق ما به من منظومات حيوية إيجابية سواء اتخذت أشكال بعث الحضارات (على مستوى الشعوب) أم تجديد الإيمان على مستوى الأفراد([8]).

وما دام الأصل بهذه الواحدية، وما دام الإبداع هو بهذا الاضطراد الإيقاعحيوى الدائم: فإن الخروج عن السواء يتم من خلال فقد الواحدية إلى التشرذم، أو تحويل النبض إلى دوائر جامدة مغلقة أولها هو آخرها طول الوقت.

وعلى ذلك فإن امتداد فكرة أن “كل نص بشرى هو تناصّ”، بما هو: .. “هنا والآن”، يعطى البشر فرصة أكبر، ومسئولية أخطر فى مداومة إبداع الذات وتعهدها من خلال العلاقات البشرية السوية والتصحيحية (العلاجية)، وكذا مواصلة السعى إلى الدوائر الأوسع فالأوسع من الوعى الصريح والغامض، ودفع دائم إلى المصير الأرقى المحتمل.

العلاج ونقد النص البشرى للمريض والمعالج معاً:

فى العلاج يتم التناصّ بين نصٍّ مازال محتفظا بمعالم ما خُلق به وما خُلق له  (وهو المفروض فى المعالج) ونص تعطل أو انحرف أو تشرذم أو تشوَّه، (وهو المريض)، وتقع المسئولية الأكبر طبعا على هذا النص المتماسك النامى (المعالج)، وخاصة أنه لا يستطيع أن يغير بحق إلا إذا تغير هو بحق إلى ما يمكن كما خلقهما الله سبحانه.

 التناص فى النص البشرى العلاجى  يبدأ  بتحريك الحركية الجدلية الإبداعية بين نصّين خالقهما واحد، كلاهما حاضر فى “هنا والآن”، لكن كل نص منهما قد آل إلى ما آل إليه بتحويرات وتغيرات متعددة بقدر حرص وقدرة كل منهما أن يجتمعا عليه وأن  يفترقا عليه، إذن فهو تناص يتطلب إسهاما من النصين البشريين المتفاعلين المتجادلين فى الآن فى ظروف ملائمة، ولا يقتصر هذا التناص الآنى على نصين فحسب، بل كلما اتسعت  دائرة التناص الآنى زاد احتمال العودة إلى قوانين وبرامج الأصل، ومن ثـَمَّ فاضطراد النمو([9]).

وبعد

تمنيت أن أكون قد كتبت هذا الذى وصلنى لاحقا

أثناء وجود هذا الراحل  الرائع عبد الصبور،

وتصورت أن أصل هذا الديوان ووظيفته كان يمكن أن يصل إليه – شاعراً وناقداً – أكثر من أى شخص آخر.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – يحيى الرخاوى، (2017) ديوان: سر اللعبة، الطبعة الثالثة، منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، وقد كانت طبعته الأولى،1978 منشورات دار الغد للثقافة والنشر، والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى  للصحة النفسية شارع 10، وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف، وهذا هو الرابط  www.rakhawy.net.

[2] –  العلم و الشعر ــ ا. ا. ريتشاردز ، صدر لأول مرة عام 1926 ــ ثم نقحها ونقلها إلى العربية ناقد كبير وشاعر أيضا هو الدكتور محمد مصطفى بدوي، وراجعتها الدكتورة سهير القلماوي عام 1970  ـ مكتبة الأنجلو المصرية

[3] –  موجز هذا الحادث هو أن أهالى قرية شمس الدين ببنى مزار فى محافظة المنيا استيقظزا على نبأ ذبح عشرة مواطنين من ثلاثة بيوت بالقرية، أصغرهم رضيع لم يتجاوز الستة شهور، قد أكد بعض أهالى القرية أن الجريمة ربما حدثت فيما بين الساعة الواحدة الى الرابعة صباح الخميس 29/12/2005 ، وقد ثارت حول هذه القضية أقاويل كثيرة، ويبدو أن جهات الشرطة استسهلت أن تلصق التهمة بشاب برىء كان كل خطئه أنه زار طبيبا نفسياً لاكتئاب عابر، واعترف الشاب-مرغماً- بعد أن وعدوه هو وأهله أنه سيُـبَـيَّرأ بسبب جنونه، واستدعيتُ لابداء رأيى وكشفت كل ذلك بكل ما أوتيت من علم ومنطق، وأصررت فى مواجهة تمسك الشرطة بالاعتراف على أنه سيد الأدلة، وأنا أكرر أنه فى مثل هذه الظروف فإن الاعتراف هو أضعف الأدلة، فوصل ذلك إلى الأبنودى مشاهداً وكتب ما كتب، وقد انتهت القضية لصالح الشاب وحكم له بالبراءة دون اتهامه بالجنون.

[4] –  الراحل أ. د. نبيل على رائد المعلوماتية فى العالم العربى، (1 يناير 1938 –26 يناير 2016 )، وله نشاط ابداعى مميز فى مجال علاقة اللغة العربية بالتكنولوجيا والحاسوب، وقد تعرفت عليه من خلال عضويتنا معا لسنوات فى لجنة الثقافة العلمية. المجلس الأعلى للثقافة.

[5] –  بعد كتابتى هذا المقال قرأت للأبنودى مؤخرا فى جريدة وطنى 26/9/2014 ما يشرح هذا الموقف أكثر حين صر َّح قائلا: “أتمني أن أموت وأنا أقول الشعر، أن أقول قصيدة ولا أنهيها حتى أراهن على أن الشعر لم يهجرني لأنني لم أخنه، فالشعر كالرجل الصعيدي إذا خنته مرة خانك إلى الأبد”.

[6] –  هل يا ترى هل فى هذا ما يبرر ظهور هذا الديوان هكذا؟! 

[7] – التَّنَاصّ، أو التعالق النصي  : Intertextuality هو مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه وشراكة بين نص وآخر أو بين عدة نصوص وهو مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى، وهو من أهم الأساليب النقديه الشعرية المعاصرة.

والتناص، أى نصٌّ على نصّ: هى الطريقة التى تناولت بها أغلب أحلام فترة النقاهة لنجيب محفوظ،  من 53  إلى 209، ونشرت فى كتابى: “عن طبيعة الحلم والإبداع دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ ،  الذى صدر عن دار الشروق الطبعة الأولى، 2011، الطبعة الثانية 2015

[8] – تذكر بدعاء الاستيقاظ مثلا: “الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتني وإليه النشور”

[9] – نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 23-4-2016 www.rakhawy.net

 

تعليق واحد

  1. تتقاطر نقاط السم
    من مسام مسوخ البشر
    يرتدون حلي عصرية
    تزدان بكل ما يغلق
    احتمال الحياة

    يخلدوا الي ما يشبه النوم
    في أحضان الحاسبات
    التي تحسب
    عدد فقاعات الحياة
    التي لا بد ان تقفأ!!!

    تلف الثيران
    الي مصير مجهول
    يحكمون رباط الغمامة
    تشرئب روح مزهوقة
    تحاول أن تتنفس
    لا حياة لمن تنادي

    يتلعثم مدعو التحرر
    في بالوعات انفصامية
    دفاعا عن صنم محدث
    لات وعزي العصر
    يلقوا بانفسهم رفاتا
    الي ما يشبه البشر

    يطلقوا اللحي
    ترمز الي صكوك غفران
    لم يؤتوا مفاتيحها
    يغلقوا آفاق أكوان
    لا تغلق
    يظنون احتكار جنان
    هي ملك لخالقها

    لماذا النكوص؟؟؟
    ألأنه الفشل

    خلقنا لنعرف
    لنرقي
    لنحيا بشر
    وأدنا احتمال الحياة
    كي نموت
    لا بل لنعدم الحياة

    لن تعدم الحياة

    جموع البشر
    تفرقوا
    الي ما ينهي البشر

اترك رداً على محمد احمد الرخاوي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *