نشرت فى الوفد
30-3-2011
ديمقراطية كى جى ون (2 من 3)
يوميات مواطن أصبح محترما برقمه القومى، ولكن..!!
إذا كنت بعد عشر سنوات قد تراجعت من كى جى تو إلى كى جى ون فى مدرسة الديمقراطية، فإن المنتظر أن أتقدم إلى الوراء بمرور الزمن حتى أفصل نهائيا، باعتبارى مشاغبا أو متخلفا غير قابل للتعلم، وبرغم روعة ما حدث يوم الاستفتاء، فقد جاءت نتيجته أصعب من فهمى، حتى خفت استدعاء ولى أمرى (نجيب محفوظ) ليبلغوه بفشله فى إعدادى لمثل هذه المدرسة، مع أنه والله العظيم ثلاثا غلب غلابه معى وهو يحاول تلقينى ألف باء أصولها،
لم أكد أفرح باحتمال تصالحى على الديمقراطية الجارية، ولو مؤقتا بفضل رقمى القومى وما حدث يوم الاستفتاء، حتى عاودنى “رهاب” المدارس من جديد وأنا أتابع آليات ما جرى حتى ظهرت نتيجة الاستفتاء كما ظهرت، وأيضا حتى صدر قرار مجلس الأمن الدميقراطى جدا بالحظر الجوى على ليبيا دون إسرائيل، برغم أن الحكام فى البلدين يقتلون نفس الأبرياء لشعبين عربيين بنفس الوسيلة ونفس البشاعة ونفس الظلم.
برغم كل ذلك، خرجت من خبرة الاستفتاء فرحا بتحقيق أمنيتى التى أعلنتها سنة 1984 فى هذه الصحيفة الكريمة: التى حددتها فى حلم يراودنى بأننى يمكن أن أعيش بقية عمرى محترما فى بلد محترم، بفضل الديمقراطية وهذاالكلام، فقررت أن أعاود كتابة يومياتى كمواطن يحاول الصدق وهو يلاعب ما يسمى الديمقراطية طولا وعرضا، محلية ومستوردة، وعن بعد، وذلك بدءا بيومية قارب عمرها 27 عاما :
من الوفد 7 يوليو 1984 (بالحرف الواحد من مقال: “يوميات ناخب حزين”):
“…..راودنى أمل عنيد أنى انسان محترم، أعيش فى بلد محترم، وأنى أستطيع لذلك – وبذلك – أن أقول رأيى فيمن يحكمنى، بل أن أصدر قرار تعيينه، وأن أخطئ فى ذلك أو أصيب، وأن يصححنى رأى الأخرين، وحساب ضميرى، ومتابعة اجتهادى، وتوفيق ربى، كان ذلك بمناسبة عودة حزب الوفد بحكم قضائى ليحيا العدل، ولست وفديا.
(ثم بعد أكثر من ثلث قرن)
المقطم السبت 19 مارس 2011
طلبت من سائق المستشفى أن يذهب فى السابعة والنصف صباحا ليتعرف على مكان اللجنة، فطمأننى إلى أنه عرف مكان اللجنيتين المخصصتين لحى المقطم منذ ليلة أمس، وتعجبنا هو وأنا ألا يوجد فى المقطم كله سوى لجنتان، مع أن المهاجرين الجدد (زلزال المقطم: قبيلة المصرى المبدع أحمد فؤاد نجم) يحتاجون إلى عشرة لجان وحدهم، ما علينا طمأننى السائق، وتناولت عصاى لأننى توقعت طول الوقفة برغم هذا البكور، وفعلا كان الطابور ممتدا، وفرحت ووقفت فى آخره أقرأ الوجوه مؤتنسا، وفرحت، وتلفت حولى وأنا أميل على عصاى، وعلم ما بى مَن ورائى، ولم يتعرف على شخصى أحد منهم، وفرحت، وهمّ بعضهم أن يفسح لى مكانا أمامه، واعتذرت، مع أن ركبتى كانتا تئنان، وأثر العمليتان ينقح عليهما أو فيهما، وكان الأطباء قد كلفونى بشخط مناسب أن أمشى ساعة على الأقل كل يوم، ولكنهم منعونى تماما من أن أقف أكثر من دقائق، حتى أنى ألقى أبحاثى العلمية فى المؤتمرات جالسا بعد استئذان رئيس الجسلة، فكرت بدلاً من الانتظار واقفا أن أتمشى بجوار الطابور حتى يأتى دورى، قلت لجارى المصرى الطيب ما خطر لى، لكن يبدو أنه راح يشفق علىّ أكثر فأفهمته أن ذلك لصالحى وطلبت منه أن يحتفظ لى بمكانى، فزادت شفقته أكثر فأكثر، وهو يصدقنى وأنا أصدقه،
شعرت بينى وبين نفسى أنه سيقول “نعم”، ولعله وصله أننى سأقول “لا” (لا أعرف كيف)، الجميل أنه لم يسألنى، ولم أسأله، (مصرى <=> مصرى)، كيف اكتسبنا كل هذا معا فى نفس الوقت؟؟ عمرى ضعف عمره على الأقل، المهم : وعدنى أنه سوف يحتفظ لى بمكانى وبالتالى فيمكننى أن أمشى مطمئنا، واستأذن هو نيابة عنى من يقف خلفه بذكاء وطيبة، فرحبوا، وقبل أن أنطلق فى المشى، ظهر ضابط شاب – مع أنه عقيد – فى مرمى البصر، ففرح جارى ونصحنى أن أذهب وأطلب منه تقديمى لعذرى الطبى الواضح والعصا فى يدى، والألم يكاد يطل من وجهى برغم فرحتى، قلت له إننى أخجل أن أفعل، ثم إننى أحقق بوقفتى هذه أملا كنت أتمناه منذ خمس وخمسين عاما، قال أى أمل، قلت أن اشعر أننى محترم فى بلد محترم، ولم يستفسر أكثر.
زاد نقح ركبتىّ، وأنا طبيب ، وأعرف أنه لا ينبغى أن أعاند تعلميات الطب، لاحظ جارى بعض ذلك وعرض أن يذهب هو لسيادة العقيد ويشرح له حالتى، وكان طابور الحريم قد انتصف، فشكرته من جديد وقررت أن أحاول بنفسى، حتى لا أتمادى اصطناع التجلد والمباهاة – أمام نفسى- بهذه الحركات.
ذهبت إلى سيادة العقيد: وجه بشوش بشاشة هذا الصباح، رد تحيتى، وأفهمته وضعى الصحى، وأضفت أن استثنائى لا يخالف القانون فى الدول المتحضرة، وبما أنهم سمحوا بطابور للرجال وآخر للنساء، فمن المنطقى أن يسمحوا بطابور “للمعوقين”، وضحكت، وضحك هو بطيبة والد مع أنى أنجبه!! ووعدنى أن يدبر الأمر حين تحضر اللجنة (لم تكن الساعة قد بلغت الثامنة)، وتركته عائدا إلى موقعى وهو يدعو لى بالشفاء، استقبلنى جارى مرحبا وكأننى أوحشته، وهو كذلك أوحشنى بعد فراق دقائق، أى والله، (مصرى <==> مصرى)، ، طالت الوقفة وركبتاى تهمسان لى أن “عيب كذا” (عيب كده)، وإذا بى أكتشف أننى أقف بجوار رصيف عالٍ نسبيا، وأنى اصطحبت معى صحف الصباح من باب الاحتياط لمثل هذا الانتظار، ووجدت الحل المناسب أن أجلس على الرصيف فى تلك الشمس الجميلة مثل وجوه هؤلاء الناس وجلست مقابل موقعى فى الطابور، ورحت أتحرك جالسا كلما تحرك، وكان رصيفا عاليا وكأنه مصطبة فى بلدنا، جلست فرحا ورحت أقرأ الصحف راضيا، هأنذا مواطن محترم، لى رقم قومى، أستطيع به أن أغير مسار بلدى، (تحيا الديمقراطية)، رحت أنتظر دورى مؤتنسا بناسى، وكأنى كنت حيوانا حبيسا فى حديقة حيوان يملك مفاتيحها حراس أشداء ولمدة ستين عاما، ثم جاء من أرجعنى طليقا إلى “موطنى الأصلى“.
لمحت سيادة العقيد يمر بجوار الطابور من الناحية الأخرى ولم يرنى، لعله لم يتوقع أننى جالس على الرصيف الناحية الأخرى، ولم أفهم سبب مروره هكذا، لكنه سرعان ما عاد ولمحنى، فتقدم ناحيتى واخترق الطابور مستأذنا حتى وصل إلىّ وهو يقول : “أين أنت ؟ أنا أبحث عنك”. لم اصدق، وأشار بيده، فقمت، واستأذنت جارى، وذهبت مع هذا الإبن الرسمى وهو يوسع لى دون أن يتعرف على شخصى (غالبا، وإلا كان نادانى باسمى مثلا)، وتبعته، وأدخلنى وهو يشير للواقفين إلى عصاى، وهم يوسعون ويرحبون، ودخلت وأنا أعتذر لكل من أمرَ عليهم، وخيل إلىّ أننى بالغت فى العرج غير الموجود إلا فى حالة عودة الالتهاب الذى كاد يعود ولكن ليس إلى هذه الدرجة، وحين وصلت إلى اللجنة وانصرف سيادة العقيد، وجدت نفسى أننى ما زلت أعتذر، فسألنى أحد أفراد اللجنة عن سبب اعتذارى، وهو لا يعرف أننى دخلت فى غير دورى، فقلت له “أبدا، أنا أعتذر لسوء ظنى طول هذه السنين بأهل بلدى وبالديمقراطية”، لكن يبدو أننى قلت ذلك فى سرى، لأنه لم يعقب، ولم يدهش، ومضى فى مهمته.
رجعت من هذه الخبرة التى استغرقت أقل من ساعة، وأنا راض تماما فقد حققتُ أملا لاح لى سنة 1956 (عبد الناصر) وكنت متأكدا من عدم تحققه فى مدى عمرى، ثم كتبت عنه سنة 1984 (عودة حزب الوفد بحكم المحكمة) ولكنى أحبطت آنذاك وبعدها حتى كفرت أكثر بهذه الآلية الديمقراطية الفاسدة، لكن هاهو يتحقق سنة 2011، وقررت أن أكتب عن هذه الخبرة فورا، لكننى فضلت أن أنتظر حتى تظهر النتائج (أنظر بقية سلسلة المقالات)
المقطم الجمعة 18 مارس 2011 (لاحظ: اليوم السابق)
طلبت الراهبة الفاضلة التى تعمل معى بمستشفاى أن تقابلنى، وهى لم تطلب منى مثل ذلك أبدا من قبل، وبعد ديباجة من التحيات وتأكيد حظها الطيب بأنها تعمل فى وسطٍ سمْح ..إلخ، أخرجتْ لى ورقتان: إحداهما موقعة بخط كبيربـ “الإخوان المسلمون“، تدعو للتصويت بـ “نعم”، وتبُين الأسباب، والورقة تنتهى (رقم 7) بما يعنى أننا لو صوتنا بـ “نعم” ، فإن ذلك سوف يفشل محاولة إلغاء المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن دين الدولة الرسمى الإسلام (ولم يأت ذكر بقية المادة). وقالت لى الآخت الراهبة إن هذه الورقة وزعت فى كل مساجد مصر بعد صلاة الجمعة أمس، فهل هذا يجوز؟ وانقبضتُ، ولم أعقب عليها مباشرة، ولم أسألها منذ متى تهتم بالسياسة هكذا؟ لكننى فرحت لأنها مصرية جميلة متحمسة إلى هذه الدرجة، ثم أعطتنى ورقة أخرى تدعو إلى التصويت بـ “لا” مبينة الأسباب (لم تقل لى إنها توزع فى الكنائس، لكننى لم أستبعد ذلك، ولم أسألها) ، استفسرت منها عن سبب المقابلة تحديدا، فقالت لى أنها تقترح، أو ترجونى، لا أذكر: أن أعقد اجتماعا مع العاملين بالمستشفى (العمال والممرضين والأطباء)، لأدعوهم ليصوتوا بـ “لا” ، وكأنها تعرف رأيى دون أن تسألنى لكنها لا تعرف أسبابى غالبا، والتى تختلف عن أسبابها قطعا، فأفهمتها أننى الرئيس هنا، وأننى لو فعلت ذلك فهو بمثابة استغلال سلطتى بشكل غير ديمقراطى (قال يعنى!)، وأن النتيجة قد تأتى بعكس ما تريد، فليس عندى من يتابعهم حتى الصناديق!!.
وانصرفت الراهبة الفاضلة وقد ملأتنى غما، لم ينفرج إلا بما حدث فى اليوم التالى، كما أوضحت حالا، ثم عاد الغم إلا قليلا بعد ظهور النتائج التى أكاد أجزم أنها غير مزورة إلا نادرا جدا، لكن الغم كان شديدا مع أننى قبلت النتيجة تماما، لكنى عدت أتساءل عن مدى صلاحيتى للاستمرار فى “مدرسة الديمقراطية”، وقد تراجع موقعى من الصف: “كى جى تو” إلى “كى جى ون”، وشعرت باحتمال أن أحرم من الدراسة برمتها، حيث لا توجد مدرسة بهذا الاسم (مدرسة الديمقراطية) سواها، ولا فى بلاد بره، ولا فى القطاع الخاص!!
عاد الغم، وحفزنى أن أراجع موقفى وأنا أقلب النتائج أمامى، وأتابع فى نفس الوقت قصف الناتو لأسلحة القذافى المجرم الحقير، دون حقول بتروله (ولا مؤاخذة).
لماذا يا ترى يا أيها الديمقراطيون جدا؟
هل لابد أن نسرب بترولا تحت أراضى اسرائيل والضفة وغزة، لتفرضوا حظرا جويا على نتانياهو؟
وللحديث بقية.