الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / دراسة فى علم السيكوباثولوجى (الكتاب الثانى): الحلقة (27) : حركية استحالة العلاقة الممكنة بين البشر (1 من 2)

دراسة فى علم السيكوباثولوجى (الكتاب الثانى): الحلقة (27) : حركية استحالة العلاقة الممكنة بين البشر (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

8-9-2009

السنة الثانية

 العدد: 739

العين الثانية ((1))

الحلقة (27)sewakah

حركية استحالة العلاقة الممكنة بين البشر (1 من 2)

حين أعدت قراءة متن هذه القصيدة، فوجئت بهذا التكثيف المركز، والنقلات السريعة.

الصورة هنا كانت أكثر  تنوعا وتداخلا وتدفقا. لو صح الحدس الذى شكلّها إذن فمهمة الطبيب النفسى تزداد صعوبة ومسئولية، حين يقول صلاح جاهين فى رباعيته الرائعة :إيه تطلبى يا نفس فوق كل ده، حظك بيضحك وانتى متنكده، ردت قالت لى النفس قول للبشر، ما يبصوليش بعيون حزينة كده”، تحترم هذا التلقى لعمق عيون البشر ووصفها بأنها حزينة، الأمر لا يتوقف عند تصنيف جاد مبدع: شعرى أو طبى، بأن هذه نظرة حزينة، وتلك نظرة نداهة، وأخرى فرحة، وغيرها مندهشة، إذْ يبدو أن هناك بعدا، أو أبعادا أخرى، على مستوى إنسانى كلى، ومن خلال العيون اساسا، وليس تماما،

 يمكن رصد هذه النداءات وهذه اللغات وهذه الألوان فى العيون مع العجز التام عن تسميتها،

ما العمل؟

الجانب الآخر الذى وصلنى حين قرأت هذه القصيدة من جديد، هو أن الحياة الطبيعية الحقيقية قد تكون بنفس هذا التداخل والتكثيف، وأن أى اختزال أو تحليل لها هو أيضا نوع من الاغتراب أو التشويه، فالسويقة (والسوق، والمولد،  ومحطة القطار، وميدان فى حى شعبى ..إلخ) فى حركتها المتداخلة المتكاملة تكاد تكون هى الوجه الخارجى لهذه الوجدانات المتنوعة كما تطل من عيون تجلت فى هذا التشكيل،

 الطبيب القادر على أن يتلقى هذا الازدحام دون الإسراع باختزاله أو تصنيفه يمكنه أن يتعرف على مريضه بشكل أكثر حركية فى وعى أكثر رحابة، يسرى ذلك على سائر العلاقات الحقيقية المبدعة بين البشر

هل يمكن أن ينمو هذا النوع من العلاقات من خلال مواصلة ممارسة الحياة بطريقة أقرب وأعمق؟

 هل يمكن أن نتواصل دون الإسراع بحبس مشاعرنا فى ألفاظ هى غير قادرة على احتوائها إلا بعد تفتيتها وتسطيحها وحبسها داخل ما لا تحتاجه من تعبير أو تفسير؟

هل يمكن التدريب على تعليق الحكم بعض الوقت قبل الإسراع فى لصق أقرب صفة (أو اسم عَرَض) لما يصلنا من الآخر (مريضاأو سليما) أولا بأول؟

 حين نقرأ هذه القصيدة، برغم أنها – مثل كل قصائد هذا الباب – لا تصف حالة مرضية، ولا سوية على أرض الواقع، لا بد أن نتردد بعد ذلك فى أن نسارع  بوصف  المرض والناس والعيون استقطابا : ‏إما‏ ‏حزين‏ ‏أو‏ ‏فرحان‏، إما خائف أو مطمئن؟  هذا أمر وارد، وقد يكون مفيدا أحيانا، لكنه ليس كل القصة، وليس غاية العلاقة ولا غورها ولا طبقاتها

تبدأ القصيدة من أرض الواقع الخارجى، من السويقة، وأعتقد أن منظر السويقة التى كانت تعقد مرتين فى الأسبوع فى قريتنا ، الإثنين والخميس، كان مازال عالقا فى وعيى وأنا أكتبها، السويقة هى تصغير سوق غالبا، لكن هل يوجد تصغير للسويقة نفسها؟ بالإضافة إلى السويقة التى كانت تعقد على طرف البلدة فى نهاية مبانيها مع بداية حقولها، كانت هناك سويقة السويقة (إن صح التصغير) تعقد صباح كل يوم سبت على شريط قطر الدلتا قرب محطته، هى تجمع صغير يعقد قبل طلوع الشمس على قضبان القطار فعلا، ولم يكن معترفا به من كل الناس باعتباره سويقة رسمية!! (مثل سويقة الاثنين والخميس)، كان بمثابة تسهيل مرحلى لتبادل الأغراض والنقود قبل ركوب قطار الدلتا إلى سوق السبت فى قرية أكبر على بعد خسمة كيلو مترات (أصبحت هذه القرية مركزا مؤخرا) ، سويقة السويقة هذه كانت تغنى بعض الذين عزموا على شد الرحال إلى المركز من السفر، هذا إذا نجحوا  أن يقضون حاجتهم شراء أو بيعا أو كليهما أثناء انتظار قطار الدلتا ذى الخط الواحد، وهكذا  يوفر الذى أتم غرضه قبل السفر على نفسه المشوار ، ويعود وقد تحقق مأربه من السوق التمهيدى هذا (سويقة السبت الصغرى).

  ‏قطار‏ ‏الدلتا‏ ‏له‏ ‏شخصيته‏ ‏الخاصة‏ ‏ومواقيته‏ ‏المتباعدة‏ ‏غير‏ ‏المنتظمة‏ ‏وآثاره‏ ‏فى ‏كل‏ ‏من‏ ‏عايشه‏ ‏طفلا‏، ‏وهو‏ ‏يمثل‏ ‏لطفولتى ‏علامة‏ ‏شخصية‏ ‏جدا‏ ‏لم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أنساها‏، هذا‏ ‏المنظر‏ ‏الذى ‏بدأت به هذا التشكيل ‏ ‏كان‏ ‏يثير‏ ‏دهشتى، بل وخوفى،  ‏طفلا‏ ‏حين‏ ‏تصر‏ ‏نسوة‏ ‏البلد‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اجتماعهن‏ ‏لتسويق‏ ‏حاجياتهن‏ ‏على ‏شريط‏ ‏القطار‏ ‏ذاته‏ ‏وهن‏ ‏يعلمن‏ ‏تمام‏ ‏العلم‏ ‏أن‏ ‏القطار‏ ‏قادم‏ ، ‏ولكن‏ ‏يبدو أن جميعهن (بعكسى طفلا)  كن متأكدات‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يدهسهن‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فإنه‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏ميعاد ثابت‏ ‏فلا‏ ‏داعى ‏لوضعه‏ ‏فى ‏الحساب.. ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏يداخلنى ‏خوف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تخيب‏ ‏حساباتهن‏ ‏مرة‏، ‏ويدهمهن‏ ‏القطار‏ ‏على‏ ‏غرة‏، ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏المباغتة‏.‏

كان‏ ‏القطار‏ ‏يأتى ‏ويصفر‏ ‏ويتلكع حتى يتفرقن‏ ‏فى ‏مرح‏ ‏وفزع‏ ‏مصطنع‏، ‏ولا‏ ‏يلبثن‏ ‏أن‏ ‏يعدن‏ ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏بعد‏ ‏مروره، وبعد أن يركبه منهن من سوف تواصل السفر إلى سوق السبت :

‏والنظرةْ‏ ‏ْْالصاحية الواسعة ‏الزحمهْ ‏، ‏

زىّ ‏سويقةْ‏ ‏السبتْ‏، ‏فى ‏بلدنا‏.‏

زى ‏القفف‏ ‏المليانة‏ ‏حاجات‏ْْ ‏وحاجاتْ‏،‏

محطوطه‏ْْ ‏بالذاتْ‏،‏8-9-2009

‏ ‏على ‏قلب‏ ‏شريط‏ْْ ‏قطر‏ ‏الدَّلتا‏.‏

كلّ‏ ‏ما‏ ‏القطر‏ ‏يصفَّر‏، ‏بتلاقى ‏الزحمة‏ ‏اتفضتْ‏.‏

والقفف‏ ‏السودا‏ ‏الَّنسْوان‏ْْ، ‏

بتشيل‏ ‏القفف‏ ‏البيضاَ‏ ‏الملْيَانهَ‏ ‏‏حاجات‏ ‏وحاجات‏.‏

وَمَّا‏ ‏القطر‏ ‏يعدى:

‏ترجع‏ْْ ‏كومْة‏ ‏القففِ‏ ‏النسوانْ‏، ‏القفف‏ِِ ‏النسوانْ‏:‏

تتلخبط‏ ‏على ‏بعض‏، ‏كما‏ ‏دقن‏ ‏الشايب‏.

المرأة فى بلدنا ليست مجرد قفة تنحط وتنشال، تملأ وتفرغ، التشبيه هنا لا يحط بالمرأة لتصبح مجرد قفة، بل أظن أنه يرتقى بالقفة (الشىء) لتصبح كائنا حيا تشارك صاحبتها التشكيل.

 أظن أن ما جاء بعد ذلك فى هذه العيون هو غير قابل للشرح دون أن يتشوه، بل لعله أيضا لا يمكن استلهامه ليفيدنا فيما نحن بصدده لفهم النفس الإنسانية، شعرت أنى ‏لو‏ ‏حاولت‏ ‏شرح‏ ‏هذه‏ ‏المشاعر‏ ‏المتداخلة المعبرة ‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏العين‏ كما رسمتها دون أن أقصد، ‏لاضطررت‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏كله‏ ‏وعلم‏ ‏السيكوباثولوجى ‏والعلاج‏ ‏النفسى ‏معا‏، إن غاية ما يمكن أن أتوقف عنده آملا ألا يخل بتكامل الصورة كلها على بعضها بشكل أو بآخر، هو بعض الإشارات كما يلى :

  • إن العين، فى لحظة بذاتها، قد تقولكل شىء معا، فى نفس الجزء من الثانية “كل كلام الدنيا، وف نفس الوقت“،هذه الحقيقة تذكرنا بجهلنا بقيمة هذه الوحدة الزمنية المتناهية الصغر، والتى بلغتنى بشكل رائع من باشلار فى “حدس اللحظة”، والتى أعتبرها ثروة العلاج النفسى، الجمعى خاصة، وفى نفس الوقت أتصور أنها هى هى لحظة التحول النوعى فى أزمات التطور، وبعض خبرات الإبداع، “كل كلام الدنيا وفى نفس الوقت”
  • الغوص فى العين فى هذه اللحظة واستيعاب كليتها هو ممكن وفقط، أما ترجمتها إلى ألفاظ أو إلى أى تشكيل آخر فهو الاستحالة نفسها، هذه المحاولة هى ليست إلا تقريبا لا يمكن أن أكون قد قصدت إليه بوعى كامل حتى أجمعها هكذا
  • إن الشعر، هو الأقدر على احتواء مثل هذا التكثيف من أى تعريف علمى أو نثرى مجتهد
  • إن ممارسة الطب النفسى الحديث بدون تدريب مثل هذا الحدس الفنى على هذه الإحاطة الكلية، قد تكون تراجعا عن ممارسات علاجية كانت فى يوم من الأيام أقدر وأشمل
  • إن الأمل معقود فى الاستفادة والإفادة مما استحدث من إضافات علمية أمينة (لا تسويقية ملتبسة)، يمكن أن يثرى هذه الخبرة التشكيلية النقيدة التى نزعم أنه يمكن تدريبها بشكل أو بآخر ،

هيا نقرأ هذه الفقرة ونكتفى بها حتى نستوعبها بما قصدنا إليه من دعوة للتلقى بشكل آخر

أهى نظرة عينهْ زى سويقة السبت

فيها كلام الدنيا، وفْ نفس الوقت

فيها‏”‏رغبهْ‏” ‏على ‏”‏دعوه‏ْْ”، ‏على ‏”‏إشمعنَى‏”، ‏على‏”‏رعشِةْ‏ ‏خوفْ‏”،‏

على “‏صرخة‏ ‏طفلْ‏”، ‏على ‏حَـلَمةْ‏ ‏بزْ‏،‏

على “‏عايزه‏ ‏اختارْ‏”،

‏و‏”‏انا‏ ‏مالى ‏ياعمْ‏”،‏

‏”‏مش‏ ‏عايزه‏ ‏ألمْ‏”،‏

على “‏نِفْسِى ‏أعيش‏”، “‏بس‏ ‏ما‏ ‏تمشيشْ‏”،‏

‏”‏خلينى ‏معاكْ‏”، “‏خلينى ‏ْبعيدْ‏”،‏

التناقض هنا ليس تناقضا بقدر ما هو تداخل حركى جدلى متضفر، إذْ يختلط النداء بالدفع فى نفس اللحظة، ويتداخل الألم مع الرغبة ..إلخ إلخ مما يمكن أن يمسخ التشكيل كلما تمادينا فى التوصيف. قف.

ينتهى هذا المقطع بإعلان الرغبة فى الحياة بالمعنى البسيط، وفى نفس الوقت بالمعنى الحقيقى،

  • قرار “أن تعيش” هو أصل كل الوجود، وهو قرار يستحيل بنوعية بشرية حقيقية إلا فى وجود آخر، إن مجرد الاعتراف بهذا القرار “قررت أن أعيش بشرا” ، يعلن اعترافا ضمنيا بأنه لا عيش هكذا إلا فى رحاب وعى بشر “أخر” يقرر نفس القرار،
  • فى الندوة الأخيرة لجميعة الطب النفسى التطورى (عودة لفتح ملف الفصام) يوم الجمعة الماضى (4 سبتمبر) انتبهت إلى أن الإنسان المعاصر ما زال يعيش فى الموقع البارنوى paranoid position  فى معظم تعاملاته معظم الوقت، على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع أيضا
  • اكتشفت برغم طول الخبرة ندرة الموقع الاكتئابى الأكثر نضجا على مسار النمو هو الذى ما يميز (المفروض يعنى) الإنسان الحالى النامى وهو يواصل تطوره ليتحمل مسئوليته الجديدة،لم تتضح لى ندرة هذا الموقف الاكتئابى إلا مؤخرا جدا، فما هو؟

هو الموقف الذى يعلن نوع العلاقة التى يمكن أن يتميز به الكائن البشرى دون غيره بوجه خاص،

آن الأوان أن أتوقف عند هذه التسمية ، “الموقف  الشيزيدى” Schizoid Position، و”الموقف البارنوى “Paranoid Position ، والموقف الاكتئابى Depressive  Position   أقول إنه قد آن الأوان أن نبحث عن تسميات أخرى تناسب ثقافتنا بوجه خاص:

 إنك بمجرد أن تذكر أو تكتب أو تقرأ كلمة “اكتئابى” أو “بارانوى” يذهب فكرك إلى ما هو مرض، (ولست متأكدا إن كان ذلك يحدث عند ثقافة الإنجليز بالنسبة للكلمة الأصلية بالإنجليزية أم لا)، من هنا يبدأ الخلط إذ أننا فى مقام الكلام عن مراحل النمو التى يمر بها كل فرد بلا استثناء وليس فى مقام وصف مرض بذاته، أو إمراضية خاصة، وبالتالى فعلينا أن نحذر استعمال أبجدية من قاموس المرض النفسى لوصف النمو العادى، ولا يجوز أن نلوم الشخص العادى إذا ما سمع كلمة بارنوى، أو اكتئابى فذهب إدراكه واستقباله إلى أنه شىء يخص المرضى دون غيرهم، الأفضل ولو مرحليا أن نبتدع أسماء لهذه المواقف أقرب إلى طبيعة النمو لنبتعد قدر الإمكان عن هذا الخلط.

بالنسبة للموقف الشيزيى فكرت أن أترك اسمه كما هو لأن الكلمة معربة وليست مترجمة، ولكن دعنا نتكلم عنه باسم  “موقف اللاموضوع“، ثم نسمى الموقف البارنوى “الموقف الكرّفرّى أو الموقف “الكرّ-فرى” أو الأفضل حتى نكتسب شجاعة النحت موقف الكرّ-فر  لمن لم يتعود على الإضغام فى نحت الكلمات، ثم يأتى الموقف الاكتئابى فنسميه “الموقف العلاقاتى البشرى“،

– اسمحو لى أن أعيد توضيح بعض ذلك برغم أننى قمت به من قبل مرارا، ولكن دون هذه التسميات الجديدة:

  • الموقف اللاعلاقاتى: هو موقف يبدأ داخل الرحم ويمتد لأيام أو أسابيع خارجه، وهو التواجد بلا علاقة أصلا بموضوع منفصل عن الذات (“ليس أنا” not me) وهو قد يستمر طاغيا فى كل مراحل النضج فى معظم حالات اضطرابات الشخصية، بحيث يتحول العالم كله تقريبا إلى إسقاطات واستعمالات ذاتية بقدر هائل من الشخصنة Personification والذاتوية Egoism فتصبح الموضوعات كلها مسقطة من الداخل بمعنى أنها موضوعات ذاتية  Self Object  وليست حقيقية، هذا الموقف يمكن إرجاعه تطوريا إلى مرحلة الكيانات الأحادية (حتى أحادية الخلية) حيث كانت لا تحتاج إلى موضوع، إلى آخر، حتى للتكاثر، فقد كانت تتكاثر بالانقسام (ودمتم)
  • موقف “الكر- فر”، : بمجرد أن يتعرف الكائن البشرى النامى على أنه لم يعد فى بطن أمه، وأن هناك عالم خارجى ، وأن هذا العالم الخارجى يحوى موضوعات غيرى، غير ما هو “أنا” Not Me ، يعتبر هذا الكائن النامى أن أى موضوع خارجى هو خطر عليه، ومن هنا يبدأ فى التوجس والحذر والخوف من الاقتراب والخوف من الحب والخوف من أية علاقة،  وهو يمارس فى هذه المرحلة آليات الكر والفر والشك والحذر، يدافع بها عن كيانه وعن استمرار وجوده. هذا موقف فيه “موضوع حقيقى”، وهو يمارس نوعا من التفاعل معه، ولكن فى اتجاه الدفاع عن الذات لا أكثر،

 أما بالنسبة للعلاقات فى هذه المرحلة (الكر- الفر) بين الأفراد من نفس النوع فإن العلاقات ليست منعدمة، لكنها قاصرة على الرعاية لتنشئة الأصغر، وعلى اللذة لحفظ النوع (الجنس للتكاثر)، وعلى التجمع معا، أيضا للحماية، دفاعا عن النوع، إذن توجد علاقات فى هذا الموقف، على هذا المستوى التلقائى، هذه العلاقات تحكمها آليات البقاء وغرائز حفظ الحياة والنوع،  بأقل قدر من الاختيار والوعى على ما أعتقد.

 يبدو  أن الإنسان المعاصر، أعنى أغلب الناس – كما ذكرت منذ قليل –  ما زالوا يعيشون معظم الوقت بهذا النوع من العلاقات الكرّ-فرية، وهى تظهر طول الوقت فى التوجس المعاملاتى تحت مظلة ألفاظ القانون أو مواثيق حقوق الإنسان كما تتجلى مباشرة فيما يسمى سياسة السوق، والتعصب الدينى المعلن والخفى، الشعورى واللاشعورى، والتعصب العرقى، والتعصب الطبقى، والتنافس فى كل المجالات، خصوصا التنافس الاغترابى، والحروب بأنواعها القديمة والجديدة، (الاستعمارية، والاستغلالية، والاستباقية، والإرهابية…إلخ)، كل هذا ليس إلا كر وفر بين الأفراد وبعضهم البعض، وبين المجموعات وبعضهم البعض، وبين الدول وبعضهم البعض)، هذه حقائق ليست مزعجة، وإنما هى حافزة للانتباه إلى تواضع موقعنا على سلم التطور، وإلى طول المشوار الذى ينتظر منا أن نقطعه د ون ردة إلى ما يشبه الموقف الشيزيدى اللاعلاقاتى تحت زعم النظام العالمى الجديد أو أى نظام يقلل الفروق الفردية والثقافية على حساب العلاقات الإنسانية الأرقى والأصعب فى المواقف البشرية الأكثر وعيا ومسئولية وجدلا

  • الموقف العلاقاتى البشرى: اكتسب الإنسان الوعى، ثم الوعى بالوعى، كمرحلة أخيرة هى الغالبة الآن، وبما أن هذا قد تم مؤخراً فإن مسيرة نموه عليها أن تمر بكل المراحل السابقة لتحتويها وتتجاوزها وتتكامل بها.

 فى تقديمى لندوة يوم الجمعة الماضى كما ذكرت، انتبهت إلى ما ذكرته حالا من  أن أغلب البشر اليوم لم يصلوا إلى هذا المرحلة العلاقاتية البشرية الحقيقية بحق، وأن أغلب الجهود المبذولة إبداعا، وتربية، وتصحيحا، وتكافلا إنسانيا هى تهدف لزيادة حجم جرعة هذا النوع من العلاقات التى تميز البشر دون غيرهم من الكائنات، لكن يبدو أننا نسير ببطء شديد فى الاتجاه الصحيح.

المصيبة أن مزاعم  الحب والتضحية والسماح والمساواة ومثل هذا الكلام ، تمثل أغلبها ردة شيزيدية أكثر من  أنها محاولات تطورية لاقتحام المرحلة التالية بما فيها من خبرة علاقاتية مؤلمة رائعة

الإنسان المعاصر ما زال يعيش الموقف الكرَ فرّى، وأغلب المحاولات الجارية، لتجنب هذا الموقف أو التخفيف منه هى بالنكوص إلى الموقف الشيزيدى، وليس بالتقدم إلى الموقف العلاقاتى البشرى.

الموقف العلاقاتى البشرى: هو الذى يضع الإنسان على قمة هرم الحياة التى نعرفها،

 فهو يعلن أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا فى وجود، ومع، إنسان آخر،

ويكون هذا الإنسان الآخر هو مصدر الاعتراف به،

وهو مرصد شوفانه،

 وهو أيضا مصبّ مشاعره المتبادلة من نفس هذا الوع،

 وهنا يبدأ التميز البشرى فى فرض صعوباته الرائعة.

لما  كان الإنسان قد اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى كما قلنا، فقد أدرك أن ثم “آخرا” هو ضرورى لأنسنته،

الآخر الحقيقى هو مصدر الحياة الأرقى بموقفه هذا الذى يسمى الحب،

ثم يكتشف الإنسان فى منطقة ما من مناطق وعيه، ليست ظاهرة على السطح دائما، أن هذا الآخر الذى هو مصدر هذا الحب (الحياة كإنسان) هو هو أيضا مصدر التهديد بالترك، بالهجر، تبعا لطبيعة حركية العلاقة لا أكثر،

هكذا يقفز الحذر من هذا المحب الموضوعى فعلا، ليس حذرا لدرجة إلغائه كما هو الحال فى الموقف اللاعلاقاتى (الشيزيدى) برغم مظاهر حميمية العلاقة،

 وليس حذرا لدرجة تبرير استمرارية الكر والفر كسبيل أوحد للحفاظ على الحياة، ولكنه حذر يقول :

أنا على يقين من أن مصدر بشريتى هو هذا الآخر المحب

أنا لا أستطيع الاستغناء عنه أو عن من هو مثله

أنا على يقين –فى نفس الوقت– من أنه قد يتركنى

أنا سوف أتألم حين يتركنى، بل إننى متألم الآن لمجرد التفكير فى هذا الاحتمال

أنا لن أتركه

أنا لن أتركه يتركنى

أنا أحبه

أنا أمارس معه نفس الدور تماما

هو يحبنى

هو يمارس معى نفس الدور تماما

كيف أحتفظ بهذا وذاك الآن هنا معا

هذا مؤلم جدا،

لكنه بشرى جدا،

 وهو أفضل من أى حل آخر، أفضل من العودة إلى الكر والفر

وأفضل من الكذب بإسقاط آخر من داخلى بالمواصفات التى لا تهددنى على هذا الشىء خارجى

وأفضل من العودة إلى قوقعتى لاغيا كل آخر

يا لروعة الألم الحب الرؤية الاستمرار

يا لفخرى بى  ساعيا، فرحا، متألما

****

لا أعرف ما الذى اضطرنى لهذا الاستطراد الطويل المعاد غالبا

أهى ندوة الجمعة الماضية

أهى أنى اكتشفت أن كل ديوان سر اللعبة ثم شرحه فى ألف صفحة (وهو الجزء الأول من هذا العمل) لم يتناول (تقريبا) قضية إلا هذه القضية المستحيلة الرائعة الممكة؟ وكذا هذا الديوان وهذا العمل؟

عن الزمن والحركة

لا يمكن أن تفهم إشكالة العلاقة البشرية الناضجة بحجمها وموضوعيتها إلا من خلال بعدى الزمن والحركة

“حتمية بُعد الحركة” هو هو الذى علّمنى أنه لا علاقة بشرية حقيقية إلا بتفعيل برنامج الدخول والخروج مع ترجيح جانبه الإيجابى الذى يحتم عدم تساوى ذراعى الدخول والخروج،

لا يمكن مسخ هذا البرنامج إلى ما هو إيجابى خالص، أو ما هو سلبى خالص، إذ يبدو أن المراوحة هى أيضا بين الحركة اقترابا وابتعادا نشطا، وبين التوقف ترقبا وجمودا وخوفا، “خلينى معاك، خلينى بعيد”

 يمكن أن نقرأ هذا الموقف باعتباره موقف تردد سلبى قبيح،

 كما يمكن قراءته باعتباره وعى بالجانبين معا، دون إيقاف نبض الحركة، مع تحمل الألم، واستمرار تبادل الوعى والرؤى

عن حركية المسافة أيضا:

‏الفقرة التالية فى القصيدة تركز على ما يسمى “المسافة”:

وِاذَا‏ ‏قلت‏ ‏أنا‏ ‏أههْ‏، ‏أنا‏ ‏جىْ،‏

يسمعنى ‏كَمَا‏ ‏صُفارة‏ ‏القطر‏، ‏ويْخَافْ‏.‏

‏ ‏وينط‏ ‏كلام‏ ‏العين‏ ‏جُوَّهْ‏: ‏فى ‏البطنْ‏، ‏

أو‏ ‏تحت‏ ‏الأرضْ‏.‏

وتْلاقى ‏سوادْها‏ ‏وِبَياضها‏ ‏بيجرُوا‏ ‏ورا‏ ‏بعض‏،‏

زى ‏النسوان‏ ‏اللى ‏بتجرى ‏بقففها‏.‏

‏ ‏وامّا‏ ‏ابعد‏ ‏تانى،‏

ترجع‏ ‏كل‏ ‏الكلمات‏ ‏الساكته‏ ‏المليانه‏ ‏ألم‏ ‏وحاجات‏،‏

و‏ “‏تعالَى‏” ‏و‏ “‏رُوح‏ْ” ‏و‏ “‏قوام‏ْْ” ‏و‏ “‏استنَّى‏”،‏

‏”‏وانَا‏ ‏نِفسى ‏تْقَـرّب‏ .. ‏إٍلا‏ ‏شويةْ‏”. “‏طبْ‏ ‏حبّه‏ ‏كمانْ‏” ‏

‏”‏يانهار‏ ‏مش‏ ‏فايت‏ْْ !!، ‏أنا‏ ‏خايفَهْ‏”،‏

‏”‏أنا‏ ‏ماشْيهْ‏”.‏

 إن إحياء حيوية المكان – المسافة- هو ضرورة لفهم وتأكيد وتعميق حيوية العلاقة، جنبا إلى جنب مع حركية الزمن.

 لا توجد علاقة حقيقية بدون مسافة متغيرة، المسافة الثابتة تعلن ضمنا أن العلاقة إما خامدة متجمدة، أو هى غير موجودة أصلا، وأن كلا من برنامجى الدخول والخروج والإيقاع الحيوى إما يعملان بطريقة آلية فى المحل، أو هما متوقفان فعلا أو وظيفيا، أو أنها علاقة  التهامية يحتوى طرف منها الطرف الآخر داخله وبالعكس

نرجع نتذكر نقدنا فى الباب الأول لموقف التحليل النفسى التقليدى من مسألة غلبة التركيز على الماضى والتداعى الحر، ثم نضيف هنا هامشا على رؤيتنا لشكل المسافة وطبيعة الحركة فى هذا الموقف:

يبدو أن ‏التحليل‏ ‏النفسى التقليدى قد ارتاح بوضع المريض ممددا على الحشية، والطبيب (أو المحلل) قابع  خلف رأس المريض دون النظر فى عينيه تحديدا،

 فى  العلاج الأحدث “وجها لوجه”، وفى العلاج الجمعى ، يختلف الأمر تماما، حيت تتحرك المسافات ونحن جلوس فى مواقعنا تحركا فاعلا واقعا يكاد يرى بالعين المجردة، ‏وإن‏ ‏صح‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏المرضى ‏العصابين‏‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يساعد‏ ‏الذهانيين‏ ‏والوجدانيين وكثيرين من اضطرابات الشخصية‏.‏

نكتشف أثناء الخبرات النمائية العميقة -ومنها العلاج النفسى العميق-‏ ‏أن الإنسان (مريضا أو غير مريض) قد يرعب رعبا شديدا من ‏الاقتراب‏ ‏الحقيقى ‏من إنسان حقيقى من‏‏ ‏لحم‏ ‏ودم،‏ له وعى ووعى ووعى بالوعى، مثله ، هذا هو ما أسميه فى كثير من صورى الشعرية : خطر الحب، برغم تحفظاتى من الالتباس المحيط بهذه الكلمة كما ذكرت مكررا، الخوف‏ ‏من‏ ‏الحب‏ (‏مثل‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الحرية‏)  ‏هو‏ ‏أعمق‏ ‏خوف‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نقابله‏ ‏فى ‏أعماق‏ ‏النفس‏ الإنسانية ‏وبالتالى ‏فى ‏المريض‏ ‏، حتى  وإن لم يظهر بشكل مباشر أو ظهر العكس،

 نحن نواجه هذا الموقف‏ ‏فى ‏خبرة‏ ‏النمو‏ ‏أثناء‏ ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ “‏الآخر‏” ‏عدوا‏ ‏ولا‏ ‏منافسا‏ فقط … ‏بل‏ ‏رفيق‏ ‏طريق‏ أيضا …. ‏مما‏ ‏يفتح‏ ‏ ‏ ‏الباب لاقتحام هذه المنطقة البشرية ‏ ‏بديلا‏ ‏عن‏ ‏لعبة‏ ‏الكر‏ ‏والفر تحت‏ ‏أوهام‏ ‏المطاردة، وأيضا بعيدا عن الحب الناعم اللاغى للآخر برغم زعم  وجوده. ‏هذا‏ ‏الرعب‏ ‏من‏ هذا النوع الحقيقى من الحب‏ ‏هو‏ نتيجة ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏التخلى ‏عن‏ ‏دفاع‏ ‏الكر‏ ‏والفر‏، ‏الذى ‏يوهمنا‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏وحده‏ ‏الذى ‏يحافظ‏ ‏على ‏الحياة‏ ‏والبقاء‏، وعن دفاع العمى التسكينى المؤقت. ‏

وبما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏له‏ ‏ما‏ ‏يبرره‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏حيث‏ ‏المجتمع‏ ‏التنافسى ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏بقاء‏ ‏الأفراد‏ ‏فيه بآليات‏ ‏الكر‏ ‏والفر‏، ‏فعلى ‏المعالج‏ ‏أن‏ ‏يضع‏ ‏ذلك‏ ‏دائما فى ‏اعتباره‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏يكسر‏ ‏هذا‏ ‏الدفاع الواقى‏ أو ذاك.‏

ثم تنتهى القصيدة نهاية قاتمة، لكنها مفتوحة

والقفف‏ ‏المليانهْ‏ ‏الغلّهْ‏ ‏الكوسه‏ْْ ‏البادنجانْ‏،‏

الحُـبّ‏ ‏العطف‏ْْ ‏الخوفْ‏ ‏العَوَزَانْ‏،‏

‏ ‏تِفْضَى ‏من‏ ‏كله‏ْْ.‏

ولا‏ ‏يفضل‏ْْ ‏غير‏ ‏قضبان‏ ‏القطر‏.‏

زىّ ‏التعبان‏ ‏الميتْ‏.‏

مستنيَّه‏ ‏السبت‏ ‏الجىْ،‏

‏ ‏اللَّى ‏ما‏ ‏بــيــجيش‏ْْ.‏

هذه النهاية تقول إن ما يبدو من استحالة تحقيق النقلة  البشرية المنتظرة، مع تزايد ألم المحاولة، قد يبدو مبررا للتنازل عن مواصل المحاولة، فتنسحب كل هذه الحركية إلى المجهول، إلى الداخل، إلى سكون الظلام، إلى حجر الثعبان الميت، كل هذا وارد لكنه ليس نهاية المطاف ما دام الإنسان إنسانا مازال به وعى ينبض.

نوع الإنتظار هنا لم يقفل تماما بهذه الصورة القاتمة ، لم يترتب عليه انسحاب مطلق عودة إلى كهف الدار، استغناء عن زخم السويقة، بل إن صاحب أو صاحبة هذه العيون الحية، تظل قابعة بحوار قضبان القطار حتى لوبدت ثعبانا متيا، حتى لو قالت “أنا ماشية” فهى لم تمش، وهى لم تعلن أن “السبت الجى” “عمره ما هو جى”، وإنما التعبير يقول أن الانتظار واعد، وبرغم أن القطار لا يأتى “الآن”، فهو سوف يأتى، وإلا فلماذا استمرار الانتظار بجوار القضبان؟

وبعد

استأذنكم فى نشر النص الكامل غدًا، حتى يتخلص نهائيا من هذه الوصاية البشعة.

مع أمل ألا تنسوا أهمية ودلالات هذه الوصاية البشعة.

1- لاحظ تغيير العنوان وإضافة كلمة “والحياة” إليه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *