جريدة التحرير
26-5-2012
تعتعة التحرير
خيرا، اللهم اجعلها خيرا
ما يحدث فى الأسبوعين الأخيرين أو أكثر قليلا هو إيجابى بشكل ما، خاصة لو اكتمل إلى نتيجة موضوعية يمكن اختبارها بالأداء والمحكات الواقعية فى زمن محدد مُعْلن وملزِم، وحين يظهر الإيجابى، مهما ندر، وسط كوم من السلبيات، فعلينا أن نفرح لأنه هو الذى يمكث فى الأرض، أما ما عدا ذلك فهو سوف يتطاير زبدا يذهب جفاء، إن آجلا أو عاجلا. أشعر أن المؤسسات البازغة بكل عيوبها ونقصها وتخبطها وأخطائها، تتشكل بملامح أكثر فأكثر تحديدا، فتسمح (أو لا تسمح) بالتصحيح، المهم أنها بدأت تتشكل، وتخطئ وتصيب، (اكتب هذا ومؤسسة الرئاسة على وشك أن تتشكل فأؤجل التعليق عليها، لكن يبدو أنها ستسير على نفس السيناريو، خيراً!!)..
نبدأ بمؤسسة مجلس الشعب، وقد تكونت كيفما تكونت، لكنها تكونت وفور أن ظهر للناس الذين شاركوا فى تكوينها والمسئولية عليهم: أنها تنقصها الخبرة، وتحكمها اللهفة والعجلة والغرور، لكنها تكونت!!، وهذا مكسب فى ذاته، مهما أخطأوا، خاصة وقد بدت ملامح شجاعة التراجع تظهر فى بعض الترضيات، والحلول الوسط (القبيحة).
مؤسسة الأمن عادت بهدوء وتصعيد متدرج تحاول أن تؤدى واجبها، بدءا بظهور جنود المرور فى الشوارع مهما تواضع أثر أدائهم، حتى اسشهاد رجالها الشرفاء، ليذكرنا هذا الشهيد الأخير “سيد صبحى” بكل من استشهد من رجالها، الذين هم أبناء هذا الشعب أصلا ودائما، فالشهادة لا تستثنى الحلة “الميرى”، وشهيد الجيش الأخير فى العباسية “سمير أنور الكيال” يؤكد هذا المبدأ عند الناس، فهو لا يحتاج إلى تأكيد عند رب العالمين.
لن أتحدث عن مؤسسة القضاء فهى ليست مؤسسة بازغة، هى قائمة قادرة كما كانت دائما مهما عابها ما شاع عنها بالحق والباطل، وهى تقف برصانة وتماسك وشجاعة فى مواجهة العبث الإعلامى، والعبث الميدانى، حتى العبث البرلمانى، تقف شامخة وهى ترفض التسليم لعواطف (ولا أقول غوغائية) الشارع أو النواب، ولهذا حديث آخر، ما دامت ليست من المؤسسات حديثة التشكيل
مؤسسة الإعلام أفاقت فى الأسابيع الأخيرة أيضا مع احتفاليات ومهرجانات التعريف بالمرشحين فظهر المذيع، أو مقدمة البرنامج، بموضوعية وأمانة يواجه هذا الذى سيصبح رئيس البلاد بعد أيام، ولم تشغلنى إجابات المرشحين بقدر ما فرحت لأسئلة الإعلاميين، إذ كان المنظر رائعا ودالا، وأنا أرى الرئيس المقبل وهو يقف موقف التلميذ برهبة وحذر ولجلجلة مشروعة، تماما مثل الامتحانات الشفهية التى كنا نخافها أكثر من الامتحان التحريرى، و”الأستاذ” المذيع (أو المقدمة) يسأله السؤال تلو السؤال بأمانة ليس فيها إهانة أواستظراف أو محاولة خديعة، كانت “العملية” نفسها هى مبعث فرحتى، وبالذات تلك المناظرة الوحيدة التى جرت، وقد تعجبت وأسفت لاعتذار أغلب الباقين ، وتصورت أنه إذا كانت مثل هذه المناظرة اختيارية فى المرحلة الأولى والمرشحون ثلاثة عشر، فأتمنى – بشكل ما- أن تصبح إجبارية لو جرت إعادة بين مرشحين اثنين .
منذ أيام، فى برنامج “الحق فى الحلم”، (القناة الأولى) سألنى المقدم (عاطف كامل) عن رأيى فى المناظرة، ومن الذى كسبها، فاعتذرت لأنى لم اشاهد منها سوى بضع دقائق، ولو أننى مع الرأى القائل أن من كسب الجولة هو طرف ثالث (أو أكثر)، وهو الذى جمع النقط لصالحه من أخطاء أو اهتزاز المتنافسين، وهذا لا يعيب الذى كسب بشكل تلقائى بفضل وعى الشعب الناضج، ليست نتيجة المناظرة هى التى أثلجت صدرى بل كانت فرحتى هى بوعى الناس الذى حقق المثل المصرى العامى الجميل القائل “نطّرت على بتاع الملح غنّى بتاع القلقاس، وقال: أهى جت على ناس ناس”.
قلت فى هذا البرنامج بعد أن اعتذرت عن الإجابة على السؤال الأصلى إننى فى خلال تلك الدقائق، شطح خيالى وهو يصور لى السيد الرئيس مبارك (وليس ابنه) ، وقد وقف هذه الوقفة أمام أى من المرشحين الثلاثة عشر، واعترفت أننى ضحكت بصوت مرتفع وأنا أتابع خيالي، لم أضحك سخرية ولا استهانة ولا شماتة، ولكننى تصورت المذيع أو المقدم، وقد اختاره وزير الإعلام شخصيا، تصورته وهو ينتقى الأسئلة التى ستتطرح على سيادة الرئيس الفائز قبل الهنا بسنة، وأنها لا بد أن تمر على عشر جهات رقابية قبل أن يسمح بها، وأنهم سيحفّظون الرئيس الإجابات قبلها، وتصورت كذلك أنه بقدر ما يكسب منافسه فى الظهور برجاحة العقل وسلامة المنطق وواقعية الحلول، سوف تزيد عدد سنوات سجنه بالسلامة (مع أنه خسر كرسى الرئاسة فى النهاية!!) لأنه تجرأ أن يكون أرجح عقلا، وأقنع ردا، ولن تكون التهمة طبعا هى رجاحة العقل وبعد النظر، بل لأنه وقف فى الممنوع بسيارة بغير أرقام، ورخصة قيادة مزورة.
نعم، هذا الذى حدث ويحدث أخيرا هو خير، اللهم اجعله خيرا، وقد حدث بفضل الديمقراطية – مهما كانت مضروبة أو مستوردة- بعد أن اقنعنى شيخى محفوظ أنها الأحسن، لأن أحسن الأسوأ هو الأحسن، وأمرى إلى الله!!
فى نفس البرنامج طُرح سؤال يقول: “كيف أن كثيرا من المثقفين والعلماء، وهم بهذا القدر من الذكاء والاطلاع والمتابعة، ما زالوا عاجزين عن ترجيح كفة أى مرشح يختارونه رئيساً؟” واعترفت أننى من بين هؤلاء، وقلت إن ذلك ليس عيبا ولا هو عجز عن الحكم، لكنه حيرة من يعيش يقين أن الانتخابات، مثل كل انتخابات، هى شهادة سوف يحاسبنا الله عليها، فضلا عن مشاركة الناخب فى مسئولية أداء من يختار، ثم أكدت أن هذه الحيرة فى ذاتها يمكن أن تكون علامة إيجابية ليس فقط عند المثقفين والعلماء الذين عليهم أن يمعنوا النظر ويحسنوا الحسابات أكثر، وإنما كذلك عند عامة الناس الذين تعلموا غالبا من خبرة انتخابات مجلس الشعب الأخيرة أن الحكاية جدا، وبالتالى أن صوتهم سوف يفرق، وأنها مسئولية، ذاتية، وأخلاقية ودينية وحضارية معا.
ثم خطر لى أن يكون من بين دلالات هذه الحيرة و”تأجيل” الحكم احتمال أن يكون قد وصل للناس أنه قد آن الأوان أن نطمئن إلى أن الشعب قد أدرك أن المسألة ليست “من الذى يتولى أمرنا”، بقدر ماهى “كيف تدار أمورنا”، وهى نقلة أصعب تحتاج إلى وقت أطول وتجارب أشق، تحت مظلة العدل والقانون، وبأقل قدر من ألعاب المال الراشى، والإعلام المغرض، والتنويم الذاهل.
أليس فى بعض ذلك ما ينبىء بخير؟
خيراً! ربنا يجعله خيراً.