“يوميا” الإنسان والتطور
9-3-2008
العدد: 191
خلاصة مقدمة ملف الإدمان (5)
مراجعات ومواقف، وملامح المخرج
مقدمة
أود أن أؤكد من جديد أننى لم أستوح رؤيتى لهذه الظاهرة بالصورة التى أقدمها بها، إلا من خلال انطباعاتى طوال بضعة عقود من الممارسة الإكلينيكية، وقد ترتب على ذلك أننى أعدت النظر بشكل شامل فى معظم المواقف التى تتناول الظاهرة من الزوايا المختلفة وفيما يلى بعض ذلك:
أولا: الموقف الطبى
تبدو ظاهرة الإدمان من وجهة نظر أغلب الأطباء، وكأنها ظاهرة طبية فى المقام الأول، وبالتالى فهى تحتاج إلى علاج بواسطة طبيب، فى مستشفى عادة، يا حبذا لو كان مغلقا، وبواسطة عقاقير بديلة، أو شافية ..الخ.
وللأسف- فقد تبين بالممارسة – أن كل ذلك يحتاج إلى وقفة مراجعة فى أكثر من اتجاه، ومن بعض ذلك:
1- إن المدمن ربما يقبل على الإدمان – كما ذكرنا – (يومية الإدمان، ومنظومة القيم 2-3-2008) توقيا للمرض النفسى القادم، أو المهدد، أو المنذر بمعنى: إن الإدمان قد يكون إجهاضاًُ للمرض فى البداية، قبل أن يكون إعلانا لمرض فى ذاته، فكأن الإدمان من هذا المنطلق يبدأ كبديل للمرض النفسى القادم أو البادئ أو المهدد، قبل أن يصبح مرضا مستقلا فى ذاته، بذاته، وعلى ذلك ينبغى أن يقل الحماس للمبادرة باعتباره مشكلة طبية منفصلة؟
2- إن الاضطراب الغالب مع، وخلف، الإدمان، هو من نوع اضطراب الشخصية (دون العصاب أو الذهان)، وهذا النوع، فى عمقه، يعتبر مشكلة اجتماعية (وقانونية أحيانا) أكثرمنه مشكلة طبية. ولا يوجد – إذن – مايبرر غلبة التطبيب على غيره من سبل المعالجة.
3- إن الإدمان قد يأخذ شكل ما هو بديل التطبيب مما سمى “التداوى الذاتى”، وقد أشرنا إلى ذلك سابقا(يومية ما الذى “تقوله” ظاهرة الإدمان؟ 5-3-2008)، ربما وصل الأمر إلى اكتشاف عملية انتقائية يمكن رصدها بالنسبة لاختيارات المدمنين على اختلاف أمراضهم النفسية الكامنة أو الظاهرة على سبيل التداوى الذاتى الانتقائى بهذه المادة دون تلك، لذلك المرض دون غيره، (مثل الهيروين للإكتئاب مثلا)، إذا بالغنا فى قبول هذا الاحتمال على علاته فإنه قد يجدر بنا – منطقا – أن نقبل فكرة أن الإدمان أحيانا يكون طبا بديلا قبل أن يصبح مرضا بديلا، لكنه طب له أعراض جانبية تصل أحيانا إلى أن تكون ألعن من المرض المراد شفاؤه.
4- إن اندفاعات الطب النفسى المعاصر نحو ما يسمى بالنموذج الطبى (وهو فى الحقيقة: النموذج الكيميائى الميكنى الكمى) هو موقف -كما ألمحنا سابقا- قد يساهم فى نشر ظاهرة الإدمان، لا فى التقليل منها. ذلك لأن هذا النموذج الطبى المزعموم يؤكد -بشكل مباشر وغير مباشر- على ضرورة الإدمان الكيميائى (الطبى) بوجه خاص، وإن اختلفت المسميات، وتفاوتت المضاعفات، يفعل ذلك تحت عناوين العلاجات الطويلة المدى، أو حتى العلاج مدى الحياة، وما شابه.
5- إن استغلال ضعف الثقافة الطبية عموما بإيهام الناس والمدمنين بحلول طبية سحرية تقوم بغسيل الدم تحت تخدير عام لبضع ساعات (أحيانا تسمى علاج الإدمان بالجراحة حيث تزرع “كبسولة ما” تحت الجلد.. تحت تخدير عام)، ثم يُبلغ المعالج (الجراح!!) المدمنَ بعد أيام أنه رجع “نظيفا” كما ولدته أمه، كل هذا يمارس تحت اسم الطب، ومع أنه له أصول تحت ما يسمى “إزالة التسمم السريع”، فإن مجتمعنا الذى ينبهر لأى حل سريع، يعتبر أن هذا هو “غاية المراد”، ونهاية المطاف، ونحن ندرج هذا تحت بند الموقف الطبى لأن الذى يقوم به “أطباء”، وهو أمر يحتاج وقفة حاسمة وتثقيف ممتد، وضمائر حية.
إذن ماذا؟
نحن نحتاج إلى تعديل جذرى لهذا الموقف الطبى، ومن ذلك:
1- ينبغى تحديد وضع مشكلة الإدمان بالنسبة للممارسة الطبية، باعتبار أن الطب الدوائى يتناول بعض مضاعفات الإدمان العاجلة دون جوهرها الراسخ.
2- ينبغى أن نقف موقفا نقديا شاملا فى مواجهة هذه الشائعات شبه العلمية التى تقول بأن الحياة العصرية، تحتاج أول ما تحتاج إلى مهدئات كيميائية عصرية!!!!!
(حتى قال لنا بعض الزملاء فى أحد الاجتماعات وهو يخلط الجد بالهزل، أنه بعد غلاء اللحوم يمكن لمن لا يجد الكيلو بكذا أن يستبدله بقرص “أتيفان” بعشرة قروش مثلا، أو أن على الحكومة أن تضع المهدئات مع ماء الشرب مثل الكلور ….الخ).
3- على الطبيب – بما يمثله- أن يضع نصب عينيه المقاييس الإيجابية التى يقيس بها نتائج مهمته العلاجية، ولا يقتصر على مواصلة تحليل البول والتجسس على الدم!!.
قبل التعاطى وبعد الانقطاع لمدد طويلة، فلا يكتفى بقياساته وتقديراته أثناء التعاطى ثم حول فترة الانقطاع .
4-على الطبيب ألا يستدرج إلى مهرجانات الترهيب والترغيب الإعلامية والدينية، وأن يحذر الاطمئنان لما تقوم به من تخويف فاشل لمن وقع فى مستنقع الإدمان فلم يعد يخيفه شئ.
أى أنه على الطبيب أن يقود الإعلام ما استطاع إلى الوجهة السليمة وهو يؤكد على ضرورة تناول الموقف من جذوره بالبحث عن ما تعنيه الظاهرة عامة، ثم ما تقوم به لكل فرد على حدة، وكيف نستفيد من كل ذلك.
5- بالنسبة لإزالة التسمم السريع، ينبغى أن يوضح الأمر لمن اختاره أن المسألة ليست غسيل دم، ولا علاج جراحى، وأنها – لمن اختارها – ينبغى ألا تكون إلا الخطوة الأولى فى برنامج ممتد.
6- وأخيرا، فعلى الطبيب ألا يكتم مشاهداته الإكلينيكية منتظرا تقييمها كميا بمنهج علمى محدد، منهج قد يختزلها أو يشوهها، بل إن واجبه الأول أن يقدمها إلى الباحثين المنهجيين – فى صورة فروض عاملة، كما يقدمها إلى التربويين والسياسيين فى صورة شهادة من جوف المعمعة، ليس له حق كتمانها، ولو فى صورتها الفجة.
ثانيا: الموقف”البحث علمى”
تكاد ظاهرة الإدمان – مثل الكثير من الظواهر النفسية – أن تكون غير قابلة للبحث بالطرق التقليدية، ولعل هذا من أهم الأسباب التى جعلت نتائج الأبحاث عاجزة عن الإسهام الحقيقى فى مواجهة الظاهرة، لدرجة أننى ألمحت إلى احتمال أنها قد تخدع المهتمين بالظاهرة إذا ركزت الأبحاث على جوانب ثانوية، أو أجريت من خلال القياس بمقاييس ظاهرة، لا تسبرغور الظاهرة كلها، ولا تهتم بلغتها أو معانيها أو مراميها ..
ومن أهم ما يوقعنا فيه المنهج العلمى التقليدى السائد ما يلى:
1- إننا نعتمد فى الحصول على المعلومات على تقييم لفظى فى أغلب الأحوال
2- إننا نهتم بالنتائج العاجلة، وأحيانا ما نرضى بها
3- إننا نهتم بالتغيرات والآثار الكمية (دون، أو لدرجة أقل من، النتائج الكيفية)
4- إننا نركز على اختفاء ظاهرة ما (أو أعراضٍٍ ما) دون أن نبحث- فى نفس اللحظة- عن مواكبة هذا الاختفاء مع تحريك أعراض وسمات قد تكون أخفى وأخطر.
5- إننا نركز تركيزا مبالغا فيه ونحن نبحث عن أسباب الظاهرة، (السببية الحتمية) وهو أمر ليس هينا مهما بدا الترابط ظاهرا ومؤكدا بين متغير وآخر، لأنه مع التعقيد التكثيفى للظاهرة البشرية يكاد يستحيل فى مجال الشخصية واضطرابها تحديد السبب أوالأسباب التى أدت إلى هذا الانحراف أوذاك السلوك، وكل ما يمكن الإشارة إليه -دون يقين- فى أغلب الأحيان- هو تزامن أو تتابع أ و ترابط متغيرين لدرجة أولأخرى.
وحتى يقوم نشاط البحث العلمى، فى بلدنا هذا، فى وقتنا هذا، بما نتوقع منه فى الإسهام فى توجيه مسارنا ومعالجة صعوباتنا بالنسبة لظاهرة الإدمان خاصة، لا بد وأن نراعى الاختلاف الجوهرى بين ظهور هذه الظاهرة فى مجتمعاتنا وبين ظهورها فى مجتمعات أخرى مختلفة.
وأشير هنا إلى بعض التنبيهات الواجب الالتفات إليها بشكل أو بآخر فى هذا الصدد:
1) لا ينبغى أن يقتصر النشاط البحثى على نسخ المنهج الشائع والمتاح، لمجرد أنه محكم أو ممكن أو مستورد.
2) لا ينبغى أن تُقرأ النتائج قراءة تعلن ترابطا ما بين متغير واحد، ونتيجة محدودة، إذ لابد ليكون البحث العلمى موضوعيا ونافعا، أن نحسن صياغة “جملة مفيدة” من هذه الأبجدية، وهذه الجملة المفيدة لا يمكن أن تتكون إلا من خلال وعى بشرى موضوعى أمين مبدع مهتم
3) إن البحث العلمى عامة، وفى مثل هذه الظاهرة خاصة يحتاج إلى باحثين أخلاقيين سياسيين فى المقام الأول، وهذا لا يتفق مع الإشاعة شبه المنهجية التى تصر بشكل نظرى مثالىّ على ضرورة حياد الباحث، وانفصال ذاته وتحيزاته عن موضوع البحث، فالمطلوب من الباحث هو أن يكون صاحب موقف يرصد به تحيزاته ويخفف منها، لا ينكرها أو يتنكر لها، ومادام هو صاحب موقف معلن أو خفى، فلابد من إعداده ليكون موقفه فى اتجاه بناء الإنسان والتأكيد على الموضوعية.
4) لابد إذن من تنشئة باحثين على وعى سياسى (بالمعنى الأشمل للكلمة)، وبالتزام أخلاقى يجعلهم مؤرقين شخصيا إذ يواجهون الظاهرة – تقشفا حضاريا -، وبانتماء إيمانى يسمح بالإبداع ويحدد أولويات ومستويات التوافق بحركية دائبة.
5) من خلال مثل هؤلاء الباحثين يمكن أن تتخلق مناهج جديدة للبحث العلمى، لا تستبعد الانطباعات الذاتية (أهمها الإكلينيكية) ولكنها تضعها فى موضعها المناسب فى سياق الجهاد المعرفى الأكبر، ويتم تقييم المصداقية من خلال مصداقية الباحث والأداة ليس فقط فى مجال البحث وداخل حدوده، وإنما فى مختلف أنواع وجودهم الإنسانى.
6) كل ذلك سوف يسمح لنا باستلهام الفروض النابعة من الممارسة الإكلينيكية، ومن الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية على حد سواء، فروضاً تتشكل من عمق ظروفنا شديدة الخصوصية، فلا يقتصر البحث العلمى على مجرد محاولة إعادة تحقيق فروض وأردة من مجتمع آخر، له ظروف أخرى، فى مرحلة تطور مختلفة.
7) كما ينبغى تقييم النتائج المجردة للأبحاث بفائدتها الحقيقية متى وضعت توصياتها موضع التنفيذ، مع التتبع والتعديل من واقع الممارسة.
وإلا فما جدوى البحث العلمى أصلا؟
ثالثا: الموقف السياسى
لا تستعمل كلمة السياسة هنا بالمعنى الشائع المتعلق بنظام حكم معين أو بنوع إدارة سلطة بذاتها، وإنما تستعمل بالمعنى الأعمق والأدق الذى يؤكد على أن كل وجود إنسانى يندرج فى نظام عام له حقوق وعليه واجبات يتم تنفيذها من خلال حركة مجاميع الناس وحوارهم، هو وجود سياسى فى المقام الأول مهما كانت تسميته الشائعة.
من هذا المنطلق، وبكل المسئولية، فإن مشكلة الإدمان هى مشكلة سياسية أساسا، ولن يكون لهذه المشكلة حل حقيقى إلا بتغيير جوهرى -على مستوى الوطن, وعلى مستوى العالم، تغيير يقع بشكل أو بآخر تحت ما هو مسئولية سياسية، تصب -إن آجلا أو عاجلا – فى مسيرة تطور الإنسان مهما اختلفت التسميات.
معنى ذلك أن مهمة التصدى لمشكلة الإدمان هى مشكلة الدولة والناس كافة، قبل أن تكون مشكلة طبية أو اجتماعية، وإحالتها إلى رجال الطب، أو مختصى النفس، أو متحمسى الوعظ، كل ذلك هو اختزال للمشكلة وتغافل عن حقيقة معناها.
وعلى ذلك فإن كفاءة نظام سياسى معين، قد تقاس ضمنا بمدى كفاءته فى القضاء على مثل هذه الظاهرة، سواء كدليل على قوته وإحكام قبضته، أو كدليل على نجاحه فى تحريك الانتماء وتنمية المسئولية الجماعية (والفردية ضمنا) فعلا يوميا وناتجا حضاريا.
أكتفى – بعد ذلك- بالتنبيه على ما أوحته لى انطباعاتى الإكلينيكية السالفة الذكر فى هذا الموقف الأشمل على الوجه التالى:
1- على الموقف السياسى أن يقود، مستلهما كل المواقف الأخرى (الطبية، والبحث علمية، والدينية..إلى آخره).
2- تتوقف تفاصيل مهمة القيادة السياسية فى هذه الحرب الحضارية والتطورية على متغيرات كثيرة، ليس هذا مجال شرحها هنا، ولكنها تأخذ فى الاعتبار سلطة الحكم، ودرجة النضج، وقبضة القانون، مما يختلف من بلد لبلد، ومن مرحلة إلى مرحلة.
3- لا أترك هذه النقطة دون أن أذكر أن العمل السياسى، إذا كان له أن يكون مسئولية حضارية – هو ليس من اختصاص السلطة دون الناس، و كل نظام له شكل خاص فى التأكيد على وسائل وأشكال تنظيم هذه الحركة بين السلطة والناس، وطبيعة التمثيل بينهما، وكل ذلك هو الذى يعطى معنى لما أسميته العمل السياسى فى هذا المقام.
رابعا: الموقف الدينى
لا بد أن نفرق ابتداء بين الاستخدام السطحى للدين وبين التدين الحقيقى الذى يمشى على أرجل: عبادات، وخلقا، ومعاملات، وجهادا داخليا وخارجيا فى حوار متصل، فى ظل ممارسة طبيعية ليس لها سقف، وجهاد أكبر ليس له نهاية، بمعنى أنه لابد أن نفرق بين استعمال اللغة الدينية، وبين اتباع التعليمات الدينية، ثم سلوك السبل الإيمانية، ففى الحالة الأولى تكثر الأصوات وتقل الممارسة، وفى الحالة الثانية تزيد الممارسة وتصبح خيرا طيبا فاعلا نافعا ومتحركا، وفى الحالة الثالثة يتواصل الإبداع “إليه” دون توقف.
على أن هذه التفرقة ليست تفضيلا لأحد الجوانب، لكنها دعوة لتتكامل الصورة السلوكية والتنظيمية العباداتية، مع الموقف الإيمانى الحياتى الأعمق فى دوره الإبداعى الخلاق.
أهمية هذا التوضيح هو التأكيد على الاستفادة مما هو دين وتدين وإيمان على مستويات متعددة، حرصا على النفع الحقيقى من كل ما هو دين حقيقى، وإيمان حركى متصل.
كذلك يحسن التنبيه على أن المدمن بوجه خاص لا يستجيب للإفراط فى الحديث باللغة الدينية المباشرة، بقدر ما يمكن أن يقتدى بسلوك ظاهر يُحتَذى بشكل غير مباشر.
كذلك فقد تشيع صورة تسكينية للتدين ربما تأتى بنتيجة عاجلة حسنة الشكل، ولكن ينبغى النظر فى حقيقة مدى فاعليتها، وطول بقائها، إذا ما تذكرنا مستويات حاجات من يلجأ إلى الإدمان وهو يبحث عن تغيير فى الوعى وتحريك له وليس مجرد تسكين، كما أنه أيضا يبحث عن المعنى، وعن الامتداد، وعن الحق بما يشبه الثورة فى البداية، وكل هذه القيم يمكن أن يحصل عليها من جهاد إيمانى حقيقى يقلب وجوده الجاف المنقطع (كالجسم الغريب فى الكون) إلى وجود نام ممتد فى التناسق الكونى والمعنى الحقيقى.
إن تنمية الجانب الإبداعى فيما هو إيمان، هو أمر جوهرى وأساسى، ليس فى مقاومة ظاهرة الإدمان فحسب، وإنما فى المسارالحضارى والتطورى بشكل عام.
وفى حدود ممارستى الإكلينيكية السالفة الذكر أشير إلى أن حضور معالج نشط (فى العلاج النفسى مثلا) بشكل حركى قادر، يحاول أن يصل الحاضر بالتوجه الآنى إلى ما بعد حدود الإنسان الفرد، فيما يتعلق بالإيمان بالغيب بوجه خاص، هذا الحضور له أثر لا يمكن التقليل منه فى عرض بدائل صحية حقيقية تملأ وعى الآخر بالمعنى والامتداد والتناسق معا، إذ لا يكتفى بالتسكين والتحميس والوعود فحسب.
هذه الممارسة الأعمق للجهاد هى متصلة بالمخرج المقترح لهذا المأزق التطورى، الذى أحد مظاهره مشكلة الإدمان.
إذن ماذا؟
1- ينبغى أن نتذكر حكاية أن الدين مخدر للشعوب، وأن لها أصلاً ناتجاً من سوء استعمالنا للدين بمعنى التسكيْن والتطمين السطحى من جهة، ثم القمع والحد دون الإبداع ودون حركية الوعى من جهة أخرى، ومع ذلك يمكن أن يكون لها معنى آخر بمعنى أنه يمكن أن يحل الدين بشكل أو بآخر محل المخدرات كمرحلة بادئة، شرط أن يبدأ يبدأ التحرك منه: جهادا وسعيا إلى الوعى الفائق المرادف لحركية الإيمان “عوْدا إلى الأصل.
2- إن كثيرا من القيم الدينية الإيجابية يمكن أن نجد ما يقابلها فى برامج التأهيل الممتد.
3- إن تحريك الوعى بالسعى الإيمانى قد يعد بتغير إبداعى يحقق نقلات وجدل بين مستويات الوعى نحو الوعى الفائق بما يغنى عن الحاجة إلى هذه التشكيلات الكيماوية الخطرة.
4- إن ممارسة التأهيل مع مدمنيين من أديان مختلفة يتجهون إلى نفس الوجهة يمكن أن يكون مجالا – ولو لاشعوريا – لممارسة الجدل الحقيقى بين الناس المختلفين، بديلا عن مزاع الحوار السطحى المزعوم بين الأديان.
الخلاصة والمخرج والنمو والإيقاع الحيوى
فيما يلى أعرض نتيجة ماوصلنا إليه، وقد تخلق منه نوع من التصور الفرضى النابع من الواقع الإكلينيكى للخروج من هذا المأزق على الوجه التالى:
إما أن نستسلم ونحن نعلن أن ظاهرة الإدمان بما وصلت إليه من هذا العنف التدميرى تعلن نهاية مرحلة بيولوجية فى تاريخ الجنس كأحد مظاهر التمادى فى الاستغراق فى مقومات انتحارالبشرية، مع تذكر أن ثمة ظواهر أخرى أخطر وأقدر على فناء الجنس (مثل الحروب، وتغير المناخ، وتلوث البيئة)، ومع ذلك، فهى مازالت فى متناول إيجابيات الإنسان وفى حدود سيطرة قدراته حتى اللحظة الراهنة.
وإما أن نعتبر أنها نذير يعلن خطأ فى المسار يطلق صيحته بهدف التنبيه إلى ضرورة احترام حاجات الإنسان غير المشبعة (السابق الإشارة إلى بعضها مما ظهر فى الممارسة الإكلينيكية) وبالتالى فإن هذا النذير يدعونا إلى محاولة إشباعها بوسائل أكثر إيجابية وأقدر استمرارا.
وهذا هو الأرجح، وهو ما أفضله وأقرأه على الوجه التالى:
1- إن الإنسان فى مرحلته الحالية – أكثر من أى وقت مضى – قد ملك أدوات معرفة أكثر فأكثر: معرفة نفسه وخارجه على حد سواء، فأصبح مهددا بجرعة من الوعى لم يتهيأ لها بقدرات تستطيع استيعابها فى حركة إبداعية مناسبة.
2- فإذا أضفنا إلى مساحة الرؤية ومداها أن محتوى الرؤية أصبح زاخرا بكل ماهو باهر وخطير، من حيث القدرة على التنبؤ بمصائب قادمة، وتدهورات محتملة، وعلاقات مضروبة، وحيوات مهدرة.
3- ثم بعد ذلك أضفنا عجز الميكانيزمات النفسية العادية (الحيل النفسية) عن إغلاق نوافذ هذا الوعى المنتشر للتخفيف من واقعية وموضوعية (وربما حتمية) تلك الأخطار الزاحفة,
4- إذا أضفنا كل هذا إلى بعضه البعض لأمكن إدراك معنى لجوء الإنسان المعاصر إلى هذا التمادى فى الإفراط فى استعمال التخدير الكيميائى، سواء تحت عنوان ظاهرة فرط التطبيب النفسى، أو تحت عنوان ظاهرة الإدمان.
وكأن هذا المدخل يلزمنا بإعادة النظر فى أصل الظاهرتين معا، رغم اختلاف درجة المخاطر، ومدى التدمير:
أ) ثمة محاولة طبنفسية خطرة تروج للتمادى فى الإفراط فى التداوى بالعقاقير، معظم الوقت أو طول الوقت، تواكبها وتوازيها محاولة تخدير ذاتى متزايد حتى يصل إلى نهاية إدمانية مدمرة. وكلا من المحاولتين تسعى إلىالتقليل من حدة الوعى الملاحق بالرؤية المتزايدة: فى مداها ومحتواها جميعا.
ب) إذا نحن سلمنا بذلك، كان لزاما علينا – ابتداء – أن نسعى إلى القبول بالأمر الواقع فى محاولة الاعتراف المبدئى بضرورة ضبط جرعة بالتخدير ولو بلغ الإدمان بشكل أو بآخر. بما أن هذا الاعتراف يبدو ضد طبيعة الأشياء، وضد حلم الإنسان باضطراد النمو والتمادى فى تعميق الوعى، فلا بد من التسليم بأن هذا الاعتراف هو مرحلى بالضرورة
جـ) ذلك أن هذا الاعتراف ليس سوى خطوة تكتيكية فى استراتيجية ممتدة، حيث أن التسليم بضرورة الحد من الرؤية بما يعنى ضرورة التخدير لا يعنى الاعتراف باستعمال مواد كيميائية بقدر ما يدعو إلى البحث عن وسائل تسمح بتناسب القدرة مع الرؤية فى مراحل النمو المختلفة.
د) إن هذا يستلزم أن ننظر إلى نمو الإنسان من منظور الإيقاع الحيوى، لندرك أن نمو الإنسان لا يسير فى شكل خطى مسلسل، وإنما يتم تطوره فى جدل إيقاعى متناوب تناوب الليل والنهار، تناوب النوم واليقظة، وتناوب الحلم والنوم غير الحالم، وضبط جرعة الرؤية مع كفاءة القدرة لا بد أن يسير بنفس الإيقاع. فإذا كان الإنسان فى حاجة إلى تخدير مؤقت مناسب، بالطرق الطبيعية، فى مرحلة بذاتها (مرحلة تحصيل المعلومات وترتيبها)، فهو فى حاجة فى مرحلة أخرى إلى تحريك موجه من خلال إطلاق قدرته الإبداعية لاستيعاب جرعات متزايدة من الرؤى والبعث (وهذه هى مرحلة البسط المتناوبة مع مرحلة التحصيل)، يتمثل البسط الإبداعى فى تحريك الوعى فى توجه هادف مسئول، يحاول تنظيم المعلومات التى حصل عليها الوجود البشرى أثناء ما أسميناه بالتخدير الجيد الهادئ، وهذا ما يقابل تحريك الوعى الذى قد يلجأ إليه المدمن بشكل أو بآخر رقحاما وافتعالا، فإذا هو تحقق بانتظام الإيقاع الحيوى، مع الاستعداد له بتنمية قدرات الإبداع حتى يمكن أن تستوعب الجرعات المتزايدة منالرؤية والمواجهة,إذا تم هذا وذاك فإن الإنسان لا يحتاج إلى أى تعتيم أو تحريك بوسائل صناعية(طبية أوعشوائية) خطرة.
وقفة ووعود:
بعد هذه المقدمة التى طالت إلى خمس نشرات، نرجو أن تتاح لنا فرصة تقديم معلومات وتوصيات وتوجيهات وقائية عملية، بقدر ما سوف نعرض لمحات من حالات محددة، كل ذلك مرتبط بثقافتنا أكثر فأكثر.