خدش الظلام

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 15-7-2015   

السنة الثامنة

العدد: 2875

خدش الظلام

-1-

ضوء القمر يسرى فضيا متلألئا فى حياء عذراء تعرف قيمة جمالها، وتضن به، يفضى به الجبل من حضن إلى حضن. عدد قليل من النخيل يقبع فى زاوية بعيدة حيث اختار الماء أن يتجمع أحيانا،  وكان عليك أن تسير بضعاً وخمسين خطوة قبل أن تتبين أنه نخيل مختلفٌ أطواله، يقف منك كأنه يحرسك من  ريح المدينة أن تفسد ما أنت فيه،  وهو يخترق وعيك، بما هو، حتى ليحرسك ـ أيضاً ـ من جفاف ذاكرتك اللحوح. فإذا عدت إلى مكانك الأول حول النار عاد معك. فـَرُحـْتَ تسمع حفيف سعفه : وكأنه يهمس لك. وما كان كذلك قبل ذلك.

-2-

 قال مصطفى النادى: “هل سمعتم”؟. فضحك عبد الرؤوف سليمان فى سرّه، فسمع أحمد عبد السميع ضحكته، ولم يفهمها، فاقترب محمد رفعت من حسن مجاهد، المسئول عن إنضاج السمك، ورآه منهمكا فى نفخ النار بلا جدوى، فشكّكه أن النار سوف تكفى لإنضاج لفة السمك المتبلة الملفوفة فى الورق المفضض.

-3-

اقترب الصوت فأخذت أنيسة سليمان  المسألة بجدّية أكبر. هى المرأة الوحيدة الموجودة معهم، سألت: “صوت ماذا هذا ؟” فردّ أحمد عبد الرحمن بيقين لا يختلج: “صوت ضبع”. وتساءل إبراهيم عبد الحافظ: من أين أتى أحمد عبد الرحمن بكل هذا اليقين؟ وهل سمع  صوت ضبع من قبل، أو حتى رأى ضبعاً له صوت قبل ذلك؟ صحيح أن الصوت ليس عواء ذئب، ولا نباح كلب، ولكن هذا لا يعنى أن يكون صوت ضبع، هكذا خبط لصق.

-4-

رفضت أنيسة سليمان أن تستجيب لدعوة أن تذهب هى إلى داخل السيارة، وتبقى هناك حتى يستبين الأمر. فقد كانت فى حالة رائعة من الدهشة والألفة والرغبة واليقظة والجنس والتوجس.  موجة غمرتها صاحَبَتْها رعشة جسدية نفذت حتى نخاع العظم إلا قليلا، وحين فشلت تماما أن تصف ـ لنفسها ـ ما هى فيه راحت تبحث عن ضده، حتى تتأكد مما هو. فوجدته ضد شعورها وهى تعبر أحد شوارع القاهرة المزدحمة، وهو عكس  شعورها قبيل سماع أخبار لندن. وكذلك هو ضد ما تعيشه وهى تشاهد توزيع جوائز الشمعدان، أو تحضر المناقشات العلمية حول ثقب الأوزون.

كل هذه المقارنات لم تنفعها فى تحديد ما يغمرها الآن ، وإن كانت قد أشارت إلى ما أرضاها وطمأنها  إلا قليلا.

-5-

 قال عم عليان، وهو يتأكد من ثبات بضع عنزات فى أماكنها بجوار الخيمة الممزقة، قال وهو ينظر فى اتجاه الصوت فى ضوء القمر: “لا تخشوا شيئاً ما دمتم فى ضيافتى، ثم إننى لا أراه هناك حتى الآن، وحين أراه سوف أنبهكم إذا لزم الأمر”

)وكان مسعد القاضى قد نبّه عبد الرقيب فودة، أن يسارع بتناول يد عمّ عليان؛ حين يمدها للسلام، لأنه  ضرير(

-6-

تكرر الصوت وكأنه يقترب، فاقترح محمد السيد إبراهيم أن يضيئوا أنوار السيارة العالية فى اتجاه الصوت، وأن يدير المحرك بأعلى قوة، وأن يدقوا بوق السيارة عدة مرات؛ حتى يفزع الوحش المزعوم فينصرف. واعترض الجميع، ولكن أحدا لم يعلن اعتراضه.  وكان أكثرهم احتجاجاً هو عبد المولى، مع أنه هو الذى قام ونفّذ اقتراح محمد السيد إبراهيم بحذافيره.

-7-

تسحّب  مصطفى النادى، ففوجىء، خلف ساتر، بالمليحة العذراء وهى مستلقية على فخذ أمها الطيبة التى راحت  تنقّى  شعرها ـ فى ضوء القمرـ من شوائب غير مرئية.

 قال لنفسه بتصميم جديد: إنه قد عدل نهائيا عن أن يلقى بماء النار فوق وجه تلك التى هجرته بنذالة هناك. وقال أيضا وهو يبتسم مفتقدا حقدا كاد يحرقه “خيرها فى غيرها”.

-8-

 اختفى الصوت، لكن خدش الظلام لم يندمل، فتسرب القمر وضوؤه حتى انطفأت لمعته، ولم يبق منها إلا تقليد منصهر الفضة البارد.  شىء مزيف أشبه بـ”الصيغة” التى كانت الحاجة أمينة خالة أنيسه سليمان تتحلى بها  لضيق ذات اليد، تلمع كالفضة لكنّها تنثنى كالصفيح.

-9-

 كانت العودة ثقيلة، كأن السيارة تسير بمجدافين فوق سطح نهر من الرصاص الذى ينصهر ببطء عنيد.

لاحت فيما بَعْدَ الأفق مساكن شعبية رُصَّت وحداتها فوق بعضها، مثل علب الثقاب الفارغة، وطفحت على واجهاتها بثور الملابس المدلاة على حبال الغسيل المتراخية.

-10-

 أدرك رمضان سامى  فجأة ـ هكذا حدّثته نفسه ـ أن العلاقة بين الغابة الحمراء فى سان فرانسيسكو، وبين معبد الشمس فى سويسرا، هى علاقة تبرر أن يكون الانتحار الجماعى هو الصرخة التى تذيب الحاجز الجليدى الزائف بين القتل والانتحار، حتى لا ينقرض البشر بسبب ورطة الكذب الموثق.

-11-

 بلع نبيل أبو الروس ريقه، ولعن الأمر الواقع.

-12-

 وتساءل  مختار عبد الحكيم: “هل من الضرورى أن …؟”

( ولم يكمل).

-13-

لكن نفيسة التى كانت لاتزال تعيش فى غمرة ما كان، اعترضت بشدة قائلة وكأنها تصيح:

ـ ليس الأمر هكذا تماما،  أنا لا أوافق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *