نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-6-2014
السنة السابعة
العدد: 2493
حوار مع مولانا النفّرى (86)
“موقف الاختيار” (6)
ويقول مولانا النفرى فى “موقف الاختيار”
أوقفنى فى الاختيار وقال لى:
كلهم مرضى
وقال لى:
هو ذا يدخل الطب عليهم بالغداة والعشى
وأخاطبهم أنا على ألسنة الطب
ويعلمون أننى أنا أكلمهم
ويعدون الطب بالحمية
ولا يعدونى.
فقلت لمولانا:
يا لفرحتى حين أكتشف أننى نسيت أننى زرت بعض مواقفك يا مولانا، حتى تلك التى خاطبت ربى من خلالها، (حوار مع الله) ثم بعد أن خجلت منه رحت أخاطبك انت،
ثم يا فرحتى حين أكتشف أننى نسيت محتوى ما خاطبته وأيضا ما خاطبتك، هذا النسيان– بعد أن غصتُ مؤخراً فى طبيعته وموقعه ووظيفته من خلال لغات علوم أحدث فأحدث – أقول إن هذا النسيان هو خدعة ظاهرة تقوم بوظيفة رائعة، بل وظائف متعددة متداخلة، لم نتمكن من أن نحصيها ونسبر أغوارها بعد، من قديم وأنا أقف أمام خبر يمدَحُ “صُهيب” ومن مثله بأنه نـَسـِىَ، حتى قبل أن يلحق بذلك أنه إذا “ذُكّر ذكر”، هذا النوع من النسيان يتم حين تختلط المعلومات (اليقين، الإدراك، الذكريات، الأحداث، الأمكنة) باللحم والدم، حين تـُتـَمثل مثلما تتمثل المواد الغذائية تماما، فهى لا تختفى عدما، ولا هى تتربع فى موقع بذاته من المخ، وإنما هى تختلط باللحم والدم، بل ويقولون الآن يا مولانا أنها تمتد فيما حولنا، هذا النسيان رائع إذ يبدو أنه ذاكرة أخرى قابعة فاعله جاهزة (إذا ذكـِّر ذكـَره: “ليس للنار فيه نصيب”).
نسيت يا مولانا كيف قرأت بعض فقرات موقف “الاختيار” هذا،
نسيت أننى حين تجرأت وخاطبت ربى مباشرة، مما استلهمته مما قاله لك فى هذا الموقف نفسه، موقف “الاختيار” قال: “إذا رأيت النار فقعْ فيها ولا تهرب، فإنك إن وقعت فيها انطفت، وإن هربت منها طلبْتكَ وأحرقتْكَ“، نسيت أننى اجتهدت حتى تشجعت وتصورت أن هذه النار ليست نار جهنم وإنما هى نار ضريبة الجسارة اللازمة للتقدم إليك، وأن من يهرب منها إنما يهرب منك؛ وهذا هو الجحيم وليست هى،
ونسيت يا مولانا أننى قرأت قوله لك “مالى باب ولا طريق” بعكس ما تلوح به الألفاظ، إذْ وصلنى أن حضوره لا يحتاج أن نطرق بابا أو أن نستأذن فهو أقرب من أن يُسلك إليه أى طريق، وقد وصلنى بعض ذلك وأنا أحاول أن أحسن الانصات إلى المادة الحية وغير الحية وهى تسبح بحمده دون أن تطرق بابا أو تسلك طريقا.
وحين قال لك فى نفس الموقف “نـَمْ لترانى فإنك ترانى، واستيقظ لتراك فإنك لن ترانى” وصلنى كيف يمكن أن يحول تركيز “وعى اليقظة” على “ذاتى” دون أن أراه وأنا فى غفلة يقظتى، فى حين أن “وعى النوم” يطير بى نحوه بلا أجنحة، فيراه، وأملت أن يتبقى من وعى النوم ما يثرى وعى اليقظة ولو قليلا.
سوف أؤجل الإشارة إلى بقية ما استلهمته من نفس الموقف فى نشرتى 25/5/2013، 2/3/2013 ومن شاء أن يرجع إليهما كاملتين فليفعل
والآن دعنا ننتقل إلى ما وصلنى مفاجأة جديدة من نفس هذا الموقف . . ،
وصلنى اليوم يا مولانا ما أفحمنى، وأخشى ما أخشاه هو ألا يصل إلى من هم أولى به ليفيقوا من غفلتهم.
تقول يا مولانا أنه قال لك:
“كلهم مرضى”
تعلمت يا مولانا من هذه النعمة الأخرى التى أمارسها مع مرضاى ونفسى وزملائى وتلاميذى، معنى آخر للمرض غير المقرر علينا، فالمرض عامة هو “اضطراب الطبيعة بعد صفائها”، والمرض كما شاع تحديدا هو “اضطراب الطبيعة البشرية بعد سلامتها”، وقد يصل هذا المرض بمن لم يلحق نفسه أن يقضى سائر عمره فى أسفل سافلين، كما قد يصل المرض إلى القلوب فتعمى بالشك والنفاق والفتور، ولكن يا مولانا لماذا “كلهم” وليس “كلنا”؟ لعل رحمة ربنا استثنت من تنورت بصيرته فتواصى مع من مثله بالحق والصبر، فـ”كلهم” هنا إنما تشمل – غالبا– من رسب فى اختبار الخروج من أسفل سافلين بهذا التواصى بالحق والصبر، فظل ناشزا عن الطبيعة وعن نفسه وعن ربه، ويبدو أننى حين فضلت أن أقرأها “كلنا مرضى” أردت أن أضاعف الانتباه حتى لا أخدع نفسى وأحرمها من الحذر الواجب واليقظة المسئولة طول الوقت.
ثم إنى فوجئت وهو يذكر لك “الطب” هكذا بهذه المباشرة، فتصلنى تعرية محنة هذه المهنة، خاصة هذه الأيام،
الطب يا مولانا هو مهنة محاولة إعادة اللحن الناشز إلى الاتساق مع هارمونية دوائر اللحن الأكبر فالأكبر، وحين يقول أولاد البلد، وعامة أبناء هذا البلد أنه “هو الشافى” لا يخرجون كثيراً عما وصلنى من تحديد دور الطب والتطبيب كوسيلة مساعدة تسهم فى هذه المهمة التى هى فضل منه أساسا، فكل ما على الطبيب هو أن يعمل على الانصات لخطابه وهو يتكلم بلسان الطب، ليبلغ رسالة من ينظم الكون وهو يسهم فى التناسق مع طبيعته وطبيعة الأمانة التى يحملها، مستعملا كل المعارف والوسائل المعينة.
الطبيب الحاذق يا مولانا هو لسان هذا اللحن المتسق الممتد، والحمية التى وصلتنى هى كل طرائق الوقاية والتطبيب، وإذا اقتصر الأمر على الدعم بالحمية الطبية دون الامتداد الواعد بالنقلة التناغمية إلى أصل الدعم ولحن الإيقاع، فإن ذلك لابد أن يحرم الأطباء أنفسهم، ومن ثمَّ مرضاهم، من الاتساق المتصاعد مع إيقاع الطبيعة المتصاعد، ومن هذا الامتداد المتناسق تتوقف مهمتهم عند الحِـمْـية، مع أن من تعمق منهم وارتقى، لابد أن يربط بين ما يفعل وبين أصل التناسق والتناغم.
أشعر بالخجل يا مولانا حين نقرأ هذه الألفاظ بظاهرها، وما أعاننى على تعلم وتجاوز ذلك بعد سنين عددا إلا ما مررت وأمر به ونحن نشكل ونتشكل مع الوعى الجمعى من خلال جماعة المرضى والأطباء، فأنتقل بى إلى الوعى الكونى، فيعيننى ذلك على أن أعد المريض بالاخلاص والمحاولة، وأعد الطب باتباعه فى محاولة أن نتواءم مع الهارمونى والايقاع المتصاعد المتداخل أبدا، لكننى أعده بالحمد والاستمرار لتدعيم كل مستويات الوعى يقوى بعضها بعضا، ويظل هو الشافى – فى البداية والنهاية- بكل ألسنة الطب والعلم والمعرفة.
“كلهم مرضى” ليست نهاية لكنها بداية
الطب يدخل علينا بالغداة والعشى وعلينا أن نحسن الانصات إليه وهو يخاطبهم بألسنتهم، ألسنة الطب، فتتصاعد الصحة من مجرد “الخلو من المرض” إلى الامتداد فى اتساق الإيقاع الحياتى الممتد إلى ما يتجاوزنا، إلى “الغيب المبدع المتوازن”.
ومازلنا فى موقف “الاختيار”
وإلى الأسبوع القادم مالم يقفز لى ما هو أولى.