الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (61) : من موقف “الأعمال”

حوار مع مولانا النفّرى (61) : من موقف “الأعمال”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 4-1-2014

السنة السابعة

العدد: 2318  

 

 حوار مع مولانا النفّرى (61)

من موقف “الأعمال”

مقدمة:

كنت قد تجرأت الأسبوع الماضى واستأذنتك يا مولانا أن أخاطب ربى مباشرة وأناجيه حين فاض بى الوجد وأنا أقرأ مأساة الحلاج لعبد الصبور، وأيضا بعض محاكمة سقراط، لكننى اليوم تراجعت لأسمح لنفسى أن أعود أحاورك أحيانا أو غالبا، إلا إذا فاض بى الوجد من جديد، لا عيب يا مولانا فى منهج يتغير حسب جرعة التلقى أو زخم الرسالة.

 كلما ناقشت ابنى محمد – وانت تعرفه يا مولانا، فهو يحبك ويتعلم منك وينمو بك حتى كاد يصبح وصيا على مواقفك ومخاطباتك ولو استطاع لنهانى عن مواصلة ما أفعله الآن فى كلماتك ومع كلماتك منذ سنوات، كنت أناقشه ونحن نتناول الغداء معا عند أمه عن ملاحظاتى على النص الذى وصلنا من المواقف (فلم أعرج بعد إلى المخاطبات) وعن احتمال أن يكون قد سقط من المتن (أثناء النقل، أو التسجيل، أو الطباعة، أو إعادة الطباعة) حرف هنا أو لفظ هناك، وأننى أكاد أعرف ما سقط أو انحرف من السياق، لكننى لا أجرؤ -تحت أى عذر- أن أصحح أو أكمل أو أغيّر. استمع إلىّ ابنى، ونظر إلى نظرة حانية (أو ربما مشفقة، لكنها ليست شذرا!!) وقال لى: (ليس بالنص) “أنا لست محققا للتراث، أنا لا أستطيع ولا أريد أن أكون كذلك، أنا يكفينى ما يصلنى مما هو كما هو”، وتصورت مغيظا أنه يعتبر مثل هذه الأخطاء المحتملة جزءا لا يتجزأ من طبيعة مثل هذا التراث، وفرحت بإجابته، لكننى لم أستسلم لها.

بعد انصرافى من احتفالية الغداء تذكرت ما فعله استاذى المرحوم محمود محمد شاكر وهو يحقق كتاب سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام “امتاع الأسماع” للمقريزى: وهو الكتاب الذى أهدانى إياه شخصيا وأنا فى الخامسة عشرة، وفهمت منه معنى التحقيق وكيف أنه عليه أن يرجع إلى عدة مراجع أخرى فى نفس الموضوع (السيرة العطرة هنا)، ومن يومها وأنا أقف مندهشا معجبا أمام الإتقان والأمانة، وعرفت معنى البحث العلمى، والنقد العلمى لعدد من المصادر معا، وهو يراجعها ويصنف الروايات المختلفة، ثم يثبت رأيه مدعما بالأسانيد المنطقية والتاريخية ..الخ.

تمنيت بينى وبين نفسى أن يكون ذلك متاحا لمثل ما تركت لنا يا مولانا.

ثم إننى رجعت إلى بريد الجمعة أمس وقد لاحظت كيف أن الاستفسارات والتعقيبات التى جاءتنى على نشرة الموقف الأخير لك يا مولانا، وقراءتى له، كانت أكثر من التعقيبات التى جاءتنى على أية نشرة أخرى، وأن أغلبها كان يعلن أنه “لم يفهم”، “لم يفهم”، وكانت أغلب ردودى أن هذه نصوص ليست للفهمْ، وإنما للإدراك، والأرجح عندى أن كثيرين من المعقبين لم يلموا بعد بالفرق النوعى بين الفهم والإدراك، وتذكرت اللعبتين اللتين لعبناهما فى جلسات العلاج الجمعى (وغيره) “دانا لما بافهمشى يمكن…” و“أنا خايف اقول كلام من غير كلام لحسن...”

وشكرت ابنى فى نفسى،

 لكن المشكلة يا مولانا لم تحل تماما عندى،

 فعذرا لكما.

أرجع إلى مقتطف اليوم فأكتفى بما يلى

وقال لمولانا النفرى فى موقف “الأعمال”

                                  تعلم ولا تسمع من العلم وأعمل ولا تنظر إلى العمل

  فقلت لمولانا:

العلم المؤسسى يا مولانا لم يعد يوظَّف للتعلم، وإنما لنفى الجهل الضرورى لاستكمال ما هو تعلّم بحق، العلم الذى ضده الجهل كما علمتنا وتُعلمنا يا مولانا، ليس إلا أصواتا تتاقل نسمعها ولا تغوص فينا، وأحيانا يصبح أصناما تقدس تُصدر أصداء رطانا، أو يصبح أضواء لامعة سرعان ما تنطفئ حتى لو أضاءت ظلام السماء لحظات، إذا توقف تَلقِّـينا هذا النوع من العلم عند الاستماع فهو ليس تعلّما، بل إنه أكثر من ذلك فقد يمحو التعلم أحيانا، أنت تعرف يا مولانا أننى – وتلاميذى – نتعلم من واقع الممارسة، وكثيرا ما نجد واقع الممارسة يتعارض مع “أصوات” العلم الأحدث الثابت فى كتب رصينة مرصوصة، فيسمع منها المنبهرون بها: لدرجة ينكرون معها ما يرون رأى العين.

التعلم تغير فى السلوك والأهم: هو تغير فى التركيب، الاستماع لا يغير فى هذا أو ذاك إلا إذا غاص فى الجسم واللحم والدم، هذا أيضا هو ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك المؤمن الذى خلط الإيمان بلحمه ودمه ليس للنار فيه نصيب، الإيمان يغير البشر لأنه يدخل القلوب، فهو تعلّم كدحا إلى وجهه تعالى، أما إذا توقف التدين عند مرحلة ألفاظ الدين المسموعة فلابد أن نتذكر قول كتابنا الكريم للأعراب الذين قالوا آمنا وتوقفوا عند هذا القول، فينبههم كتابنا الكريم أن يواصلوا السعى بعد إعلان إسلامهم، لعل الإيمان يدخل فى قلوبهم، فيتعلمون ولا يكتفون سماع الحرف أو الرمز أو ظاهر المسألة.

الجزء الثانى من مقتطف اليوم يقول: “واعمل ولا تنظر إلى العمل” فيصلنى يا مولانا أن هذا النوع من العمل الذى يحذرنا الموقف ألا نكتفى بالنظر إليه هو سبيل آخر، بل سبيل أول للتعلم، وأننا لو جعلنا العمل قيمة فى  ذاته تستحق النظر إليها فنحن نحرم أنفسنا من أن تغوص حركيته (قبل نتائجه) فى خلايانا.

العمل يا مولانا معرفة أخرى، وما أعنيه، أو ما وصلنى، من العمل هنا     – كنموذج دون استبعاد غير ذلك – هو العمل الجسدى، وناتجه هذه الأيام محدود جدا بعد أن حلت أصابعنا محل أجسادنا فانفصلت الكتابة عن الفعل، وانفصلت الحركة عن ناتجها لتحتل الحروف كل مساحات وطبقات الوعى.

ألا “ننظر” إلى العمل يتضمن ألا نتوقف عند نتائجه خارجنا، بمعنى ألا يصبح قيمة فى ذاته بعيدا عن تغير تركيبنا بمايصله من حركية العمل (الفعل)

النهى عن الاستماع إلى العلم، والنهى عن النظر إلى العمل ليس نهيا مطلقا، لكنه وصلنى باعتباره نهيا عن “التوقف عند مرحلة الاستماع لحروف العلم أو “الاكتفاء بها” وكذلك النهى عن النظر فى العمل، هو نهى عن “التوقف” عند ناتج العمل والرضا به، بديلا عن الوعى بفاعلية حركيته فى ذاتها للتغير، أى التعلم أى النمو، أى الكدح، أى الإيمان”.

فهو السماح بأن نسمع من العلم فقد يساعنا ذلك على أن نواصل التعلم

وهو السماح بأن ننظر إلى العمل شريطة ألا ينفصل عنا ليحل محلنا.

هل هو كذلك يا مولانا؟

هل هذا يمكن أن يكون كذلك يا محمد  يا إبنى؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *