نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-6-2013
السنة السادسة
العدد: 2115
حوار مع مولانا النفّرى (32)
من تجليات “الدخول والخروج” ما بين العلم والجهل، وبعدهما
من كتاب المخاطبات:
يا عبد إِنْ لَمْ يُخْرِجْكَ الْعِلْمُ عَنِ الْعِلْمِ،
وَ لَمْ تَدْخُل بالعلْم إلاّ في العِلْمِ، فأَنْتَ في حِجابٍ مِنْ عِلْمٍ.
فقلت لمولانا:
ليس لى علاقة بالمخاطبات مثلما لى بالمقامات، وبينى وبينك أنا لا أميز بينهما إلا بمقولة “يا عبدُ” ابتداء، وهو نداء جميل أحبه لأننى أتصَوّر أنه يتجاوز الخصوصية بينك وبينه ليعم كل من ارتقى لينعم بعبوديته.
هذه المخاطبة يا مولانا، قد أوجزتْ فأوفتْ إذْ وصفت ما آل إليه العلم حين أصبح دينا مؤسسيا جديدا: أيديولوجيا قامعة، وكهنة أوصياء، وطقوس ومحرمات، واستثمار ملتبس وأصبح التكفير، والاتهام بالهرطقة من أصحاب هذا الدين المؤسسى القامع أكثر تواترا وأسهل محاكمة من تكفير أصحاب أى دين عريق آخر، ومع ذلك لا يسمى تكفيرا، بل يعتبر دفاعا عن هذه الكنيسة الجديدة.
يعلمك يا مولانا، فَتُعَلِّمُنَا أن يكون العلم الحقيقى هو السبيل الأشرف والأعمق لتجاوزه، إذ يدخلنا هذا العلم إلى ما بعده وما قبله وما حوله، فلا يسجننا داخل ظلمة مغارة علمٍ جدرانها مصمتة، وأبجديتها مغلقة إلا على أصحابها حفظة كلمة السر، حتى لا يفتح خزائن شفراتها إلا كهنة طقوسها. من لى بشيخى محفوظ يسمعنا وهو يدافع عن العلم دفاع المحبين، وكأنه لم يبلغه ما آل إليه العلم بواسطة من يزعم امتلاك ناصيته، فقيّد بسلاسله كل من لم يتبع نص حروفه التى تجعل العلم ليس علما.
علمتنا يامولانا، مما علمك الله ألا نأخذ كل هذا مبررا يصدّنا عن العلم، لأننا إذا ما قبلنا أن نتبع من يصدنا عن العلم – كما ذكرنا الأسبوع الماضى- حرمنا أنفسنا من حقنا فى الجهل الذى هو الطريق المفتوح إلى المعرفة المتصاعدة، علمتنا يا مولانا وتعلمنا كيف يكون اقتحامنا محراب العلم بكل احترام وحذر ليكون الصراط المؤدى إلى الجهل، الذى هو السبيل إلى علم آخر يؤدى إلى جهل أعظم فهكذا، حين ننسى نور الجهل الذى يلوح لنا ونحن نسير فخورين بأضواء العلم فحسب، لا نبرح أماكننا فندور حول ضياء مصنوع لا يضىء إلا ما هو مضاء به، وهذا هو الحجاب الخادع المخادع وهو أخفى من خداع ظلام غرور العلم وجدران كنائسه المغلقة.
من حق أى واحد وضع العلم فى ناحية والجهل فى أقصى الناحية الأخرى أن يرفض هذا الكلام، أو على الأقل أن ينغلق دونه، لكن حين يصبح العلم طريقا إليه مرورا بالجهل، ويصبح الجهل نورا إلى علم به وليس وصاية تحيط بما لا يحاط: يُحَلّ الاشكال ليشرق نور الإدراك نحوه كافيا عنهما معا، غير مستغنٍ عن بعض خدماتهما إليه، دون وصاية
ألم يقل لك يا مولانا فى مخاطبة أخرى:
يا عبد أُحْلُلْنِى مَحَلَّ جَهْلِكَ وَعِلْمِكَ مِنْكَ، لا تَجْهَلُ وَلا تَعْلَم.
فأتعلم أن أظل أعلم وأتعلم حتى لا أعلم، وأن أظل أجهل وأحتمل حتى لا أجهل، ليحل محلهما بعض نوره الذى يسعفنى به كدحى إليه، فلا أعلم ولا أجهل، فيكون النفى إثباتا وهو المعين.