الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (3)

حوار مع مولانا النفّرى (3)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 24-11-2012

السنة السادسة

 العدد:  1912

 

حوار مع مولانا النفّرى (3)

كيف نقرأ النص بغض النظر عن صاحبه؟!!

وكأنك معنا يا مولانا هذه الأيام ونجن نواجه مرحلة من أصعب مراحل تطور هذا النوع من الأحياء المسمى “الإنسان” حيث طغى الحرف (بلغتك) على “المعرفة”، وعلى “الموقف”، وعلى “السعى” وعلى “الكدح”، وأكاد أقول: وعلى التطور إلى وجه الله سبحانه وتعالى، القضايا التى تثيرها مواقفك هى قضايا معاصرة معاصرة معاصرة بكل معنى الكلمة، وحين بدأت نشر قراءتى لبعض عطائك كنت أنوى أن أوضح ذلك حتى تكون الفائدة حاضرة فتصل إلى عدد أكبر من المهتمين بالبشر والبشرية فى رحاب الله ونحوه، بل ربما تصل إلى غير المهتمين أيضا رغما عنهم، لكننى افتنعت برأى محمد ابنى خوفا على قيمة ما تركت لنا من شعر، بصراحة غلبتنى الفرحة بالشاعرية والغموض المضىء حتى توارت فكرة الاستفادة من اختراقات المنهج وتوسيع دوائر وقنوات المعرفة ورضيت بالاستلهام شبه الشعرى مؤخرا.

فى نفس الوقت وأنا استلهم بعض مواقفك ربما صدفة، وغالبا هو توجيه من ربى إلى ما ينبغى أولا، وجدت نفسى غارقا سابحا فى محيط الإدراك، انطلاقا من تجاوز الحواس الخمس من ناحية، واحتراما للحلم من ناحية، واختراقا للمنهج طول الوقت، وفى خضم هذا المحيط إذا بى ألامس الحلم والجنون والشعر، وأنت تعلم يا مولانا كيف أنى وأنا اقتحم هذه المنطقة قد تجاوزت كل مناهج الحرف، بل والزمن المألوف.

إنه بفضلك يا مولانا سمحت لنفسى أن أتجرأ فأوجه ابتهالاتى ودعواتى إلى الله سبجانه وتعالى مباشرة، رضا عنه، وعشما فيه، وقسما عليه، لكننى فوجئت بالخطر يزحف إلى هذا المنهج، كما زحف الرطان على قصيدة الشعر فتوقفت.

عدت يا مولانا إلى سيرتك، وبالذات ما كتبه صاحب الفضل “أرثر جون أربرى” الذى كان بفضل ترجمته “لمواقفك” إلى الانجليزية أننا أوليناها العناية اللائقة بها والتى تزداد يوما بعد يوم، ولكن بدرجات متباينة من العمق والمسئولية، رجعت إلى موقفى من الشعر، وإلى لومى للنقاد  على تقصيرهم فى فرز قصيدة النثر من الرطان، وفهمت أكثر الصعوبة التى تلقيها مواقفك فى وجوه الجميع.

 أصارحك القول يا مولانا أننى كنت سمعت عن كيف كتبت هذه المواقف (والمخاطبات) لدرجة الزعم بأنك لست كاتبها شخصيا، وأنها كانت شفاهية ثم سجلها حفيدك أو بعض محبيك، ولم أتوقف كثيرا عند هذه الأخبار (أو الحقائق) إلا مؤخرا حين كنت أقابل نصا من نصوصك أكاد أجزم أنك كنت تقصد عكسه، فأضع حرف نفى مثل “لم” (مثلا) من عندى فتصلنى الرسالة، طبعا لم أفعل ذلك ولا مرة واحدة، فهو ليس من حقى ولا من حق أى أحد.

لكننى عدت يا مولانا إلى مواقفى من الثقافة الشفاهية التى هُمشت تهمشيا أفقد الإنسان ثروة بلا  حدود، مع أنها هى الأصل، ليس فقط لموقفها الزمنى الأسبق وإنما نتيجة للمدة التى استغرقتها فى تاريخ هذا الكائن البشرى، فى مقابل الحضارة الكتابية، وعدت أيضا إلى شكوكى فيما يسمى “التاريخ” المسجل، حتى لو سمِّى “علم التاريخ” والذى تعرف أننى أعتبره على أحسن الفروض “وجهة نظر”، لا أكثر، حتى لو دُعم بالوثائق المكتوبة التى سميت بعضها يوما “الكذب الموثق”، وكذلك عرجت إلى تحفظاتى على قواعد ومنهج علم الجرح والتعديل فى ضوء المعلومات العلمية الأحدث عن مدى الذاكرة البشرية وطبيعتها.

 تراكم كل ذلك حتى توقفت كما ذكرت الأسبوع قبل الماضى، وكنت قد وعدت الأسبوع الماضى أن أحكى عن سيرتك وعن “المنهج” الذى أوصل إلينا قصائدك تلك ، وعن مُترجمك أرثر جون أربرى لكننى فضلت أن أكتفى بقراءة بعض معالم ما يخص المنهج الجديد ومعنى حوارى معك.

أبدأ بمقتطفات من “لمحات من حياة محمد عبد الجبار النفرى” تأليف: آرثر جون آربري وترجمة: سعيد الغانمى.

  • “لسنا نعرف سوى القليل عن حياة النّفرى، وهذا القليل مستمد بمجمله من أقوال شارحه عفيف الدين التلمسانى، المتوفى سنة 690 هـ-). وها نحن نقتبس من أقواله حرفيا، اعتمادا على مخطوطة مكتب الهند:
  • الورقة: 72 ب: «….،…. قيل أن الذي ألف هذه المواقف هو ولد ولد الشيخ النّفري، رحمه الله، وليس هو الشيخ نفسه. إذ كان الشيخ لم يؤلف كتابا، إن ما كان يكتب: هذه التنزلات فى جزازات : [جذاذات أوراق، نقلت بعده[ إنه كان لا يقيم بأرض، ولا يتعر ف إلى أحد.

وذكر إنه توفى بأرض مصر في بعض قراها. والله أعلم بجلية أمره» انظر: التلمساني: شرح مواقف النّفري، نشرة: د. جمال المرزوقي، القاهرة، 1997، ص 259.

هذا أول تحفظ أرعبنى، إذا لم تكن أنت  يا مولانا قد كتبت ما وصلنا (كاحتمال) اللهم إلا تلك الجزازات (أو الجذاذات) وإذا كنت لم تقم فى بأرض، ولا  تتعرف على أحد، فكيف نتنقل عنك هكذا، ونقف أمام الهمزة والشولة والبياظة  وكأنك تعنى كل هذا هكذا جدا؟

ومع ذلك (أنظر بعد)

يتأكد هذا الزعم من جديد فى ورقتين نقرأ فيهما:

  • الورقة: 111 ب: «وإن ما أوجب هذا ما نقل من أن الذي رتب هذه المواقف وألّف ترتيبها، هو ابن بنت الشيخ، ولم يكن الشيخ هو الذي رتبها. ولو رتبها الشيخ لكانت على أحسن من هذا النظام»  طالقاهرة، ص 293.
  • الورقة: 149 بـ: “…هذا يدل على أن الذي ألف هذه المواقف لم يكن هو النّفري، بل هو بعض أحبابه، وقيل: هو ابن بنته) “ط القاهرة، ص 522.

إذن فنحن أمام تحدٍّ  لخصه أرثر “برى” فى نهاية بحثه:

*  الحقيقة حتى لو لم يصدر هذا القول عن التلمساني، فإننا نجد أنفسنا مسوقين إلى الاعتقاد بأن العمل، كما وصل لنا، لا ينتمي إلى النفرى على نحو تام، بل إن شكله الأدبي يدل على تدخل يد أخرى فيه. ولم يكن من النادر أن يتدخل أتباع الشيوخ المميزين لتحرير كتابات أشياخهم بعد وفاتهم. ومن المستحيل البت ما إذا كان ابن النفري أو حفيده هو المسؤول في هذه الحالة عن تحرير كتاباته من دون دليل آخر، ولكن من المهم أن نتذكر دائما أن النفري لم يكلف نفسه عناء جمع كتاباته.

وبعد

أكتفى بهذ القدر من التشكيك الذى آمل أن يحقق بعض الأغراض التالية ونحن ننتقل إلى هذا المنهج الجديد فى الحوار مع مولانا النفرى:

1) ألا يصل بنا الحماس لدرجة تقديس هذا النص الذى بين أيدينا

2) ألا نسمح لأنفسنا أن نذهب إلى أقصى الناحية الأخرى فنهمل مثل هذه النصوص الغالية مهما وصلت درجة الشك فى حقيقة كاتبها وطبيعة مصدرها إلى هذا الحد.

3) أن نحترم النصوص المجهولة المؤلف، تماما، ربما من نفس منطلق احترام الأساطير التى تنوقلت شفهيا، ثم كتبت – أو لم تكتب – مؤخرا دون مؤلف.

4) أن نتعامل مع النص فى ذاته، دون الوقوف عند محاولة تقمص مؤلف بعينه، مع أن هذا ينقص النص بعض نبضه، فأنا – مثلا – لا أقرأ نص النفرى إلا وهو شخصيا معى (ربما مثلما يحدث وأنا أقرأ “صفحات تدريب محفوظ” كل خميس حاليا)

5) أن نتشجع فى فعل “الانتقاء” دون التزام مطلق بكل المتاح (كما كنت أفعل حتى الآن)

6) أن يستلهم القصائد مَن تحركه شعرا، مع التحذير ألا يكون الخطاب من الله، وإنما إلى الله، كما حاولت حتى الآن، وإن كنت مع التزامى بهذا الحذر قد فضلت التوقف.

7) ألا يَسمح لنا هذا الضعف فى النقل والإسناد أن نضيف حرفا واحد أو نحذف حرفا واحدا، ونحن نتصور أنه يقيم المعنى كما نريد، مهما كان المبرر.

8) أن نستلهم من هذه النصوص ما نحتاجه فيما يتعلق بمناهج وقنوات المعرفة، فتتفتح الآفاق أمام مناطق الغيب الإبداعى، والجهل المعرفى، والوعى الخلاق الصامت، وإيقاع التطور النابض.

9) أن نتقى الله طول الوقت فى كل ذلك.

10) أن يساعدنا بعض ذلك على التعرف على هذا الكائن الرائع – الإنسان – فى طريقه إلى خالقه كما خلقه، بما خلقه.

وبعد

بدءًا بتطبيق هذا المنهج الانتقائى اخترت هذه القصائد من موقف “العز” لأحاور مولانا حولها الأسبوع القادم.

  • و”قال لى:

لولاى ما أبصرت العيون مناظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها”.

  • وقال لى:

 لو أبديت لغة العز لخطفت الأفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الرمال عصفت عليها الرياح العواصف.

  • وقال لى:

 لو نطق ناطق العز لصمتت نواطق كل وصف، ورجعت إلى العدم مبالغ كل حرف.

  • وقال لى:

 لا أنا التعرف ولا أنا العلم، ولا أنا كالتعرف ولا أنا كالعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *