نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 13-4-2013
السنة السادسة
العدد: 2052
حوار مع مولانا النفّرى (23)
مديح الجهل المعرفى، والتحفظ على العلم الزائف (1 -؟)
مازلت يا مولانا أعجب من حديثك عن “العلم”، أعنى ما قاله لك بشأن العلم، بهذه القوة الناقدة المفيقة الصادمة، وهو الحديث الذى يكتمل بالإعلاء من شأن الجهل المعرفى بهذا التوقير والاحترام والترحيب، المفروض يا مولانا أننى أستاذ جامعى، وأمارس (أو مارست) البحث العلمى التقليدى، فنحن لا نحصل على مثل هذه الوظيفة إلا من خلال هذا المسمى “العلم”، ثم إنى كنت عضوا فى لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة لأكثر من عشر سنوات حتى استقلت غير مأسوف علىّ حين ظللت أنبّه إلى خطورة تقديس ما يسمونه “علما”، وأيضا ثقافة علمية، وكانوا يتهمون كل ما هو ليس علما (فى حدود تعريفهم للعلم وفرض منهجهم) بالهرطقة، (وهم لا يسمونها كذلك)، حتى اتهموا يا مولانا “العلم المعرفى” الحديث والأحدث بنفس التهمة، ولم يرجعهم عن ذلك عطاء العلم المعرفى العصبى بأدواتهم نفسها التى يقدسونها، لأنه لم يخدم إلههم المزيف. انسحبت يا مولانا وأنا أتصور أن المعرفة هى الأشمل والأكثر موضوعية، وأن العلم الذى لا ينضوى تحت لوائها، مع أن بعضه ينفيها نفيا طالما هى عصية على أن تقاس بمقاييسه، هذا العلم المغلق على أصحابه هو دين جديد زائف، لا يحل فقط محل أيديولوجية الأديان، ولكنه يحل محل السعى ومحل الوقفة ومحل الله الحق الصمد، تركتهم يا مولانا غير آسف، تركتهم وأنا أعذرهم وأدعو لهم ولا أندم على السنوات التى قضيتها بينهم فقد سمحوا لى فى أحيان ليست قليلة أن أقول ما أراه، وإن لم يتغير موقفهم.
وحين استدرجتنى هذه النشرات إلى كتاب “الأساس فى الطب النفسى” وجدت نفسى فى محيط “الإدراك” أكثر من الفهم والتفكير، أعنى قبل وبعد الفهم والتفكير، أطمأننت أكثر إلى دعوتك – من خلال ما وصلك – إلى هذا الجهل العظيم فقد ساعدتنى على العوم فى محيط الإدراك المترامى، الإدراك يا مولانا أزاح التفكير ليمهد لنا سبيلا لمعرفته سبحانه، ناهيك عن رؤيته بلا وصاية من الحرف أو العلم؟ المحصلة يا مولاى هو أن مبحث الإدراك قد قربنى إلى ما تقربنا إليه كلماته إليك، بما يصلنا منه عبرك عن العلم والجهل هكذا.
هل يا ترى آن الأوان أن نتبين أن الإدراك وعلاقته بالوعى ومستوياته هو السبيل إلى التعرف على الجهل المعرفى العظيم الذى تشجعنا عليه وتطمئننا إليه؟ ثم ما علاقة الجهل المعرفى بالغيب اليقين بالوعى الأمانة؟ تماسك وتكامل وتكافل العروة الوثقى.
كنت دائما يا مولانا حين أقرأ كلمة “العلم” كما ترد فى أغلب ما وصلنا منك عنه، أتعجب لهذا السبق الذى كشف ما كان سيؤول إليه العلم (الدين الجديد) بعد أكثر من ألف عام.
وبعد
عذرا، فهذه المقدمة ضرورية لأننى قررت أن أتناول ما جمعه أحد مريديك ومحبيك وهو د.توفيق رشد من المغرب الجميل (1) من مواقفك ومخاطباتك فى هذا الموضوع، أتناوله مسلسلا أسبوعا بعد أسبوع آملا أن أوصّل ما وصلنى لمن سوف يصاحبنا فى محاولة الاقتراب مما تركته لنا هكذا، ولينظر كل منا حوله ليميز العلم الزائف من العلم الحق وسوف يعرف أى “علم” كان يشير إليك أن تحرص على الولوج إليه جنبا إلى جنب مع الجهل المعرفى، فى رحاب الجهل الحقيقى، وبالجهل الحافز.
دعنى أولا أشكر هذا المغربىّ الجميل أ.د. “توفيق رشد” وأدعو له، فهو قد أحبك فجمع لنا ما تيسر تحت لافتة تقول: “مديح الجهل والحيرة”، وسوف أتناول أغلب ما جمعه تباعا، حتى لو كنت قد تناولته سابقا، ولن أرجع لما قلته قبل ذلك سواء فى حوارى مع الله أو معك يا مولانا، ثم نرى بعد ذلك إذا قدر لكل هذا أن يجتمع فى نسخة ورقية إن كان ثَمَّ تكرار يحتاج إلى توفيق، أو أن قراءتى لنفس النص تجددت نتيجة لتجدد جهلى فعلمى فجهلى فعلمى دون توقف.
وقال لمولانا النفرى من “موقف القوة”:
وقال لى:
لّما قَويت في الجهل، قويت في العلم
فقلت لمولانا:
إذن فهذا هو المدخل الأرحب والأعمق، القوة فى كل شىء بِحَسَبِهْ، القوة فى الجهل تشمل احترامه سبيلا إلى معرفة أعمق فهو قوى، وسبيلا إلى علم أشرق فهو قوى، وسبيلا إلى غيب أرحب فهو أشد صلابة، القوة فى هذا الجهل هى التى تزيل عن العلم زيف القداسة فتجعله يتكامل مع الجهل والغيب والوعى فهو العلم الأقوى، وهكذا أفهم “كلما قويت فى الجهل قويت فى العلم”
اللهم زدنى جهلا أقوى به فتزيدنى علما إلى جهل جديد متجدد.
*****
وقال لمولانا النفرى من “موقف المحضر والحرف”
وقال لى:
أعدى عدوٍّ لك إنما يحاول إِخْرَاجَكَ مِنَ الجَهْلِ لا مِنَ العِلْم.
فقلت لمولانا:
كثير ممن يسمون العلماء يقفلون أبواب المعرفة إلا ما ثبت بتجاربهم المحكمة أو أعدادهم المنظمة أو موازينهم الكمية المحددة، وأيضا: باختزالاتهم لما يبحثونه، ثم بتعميمهم لما يجدونه، فتغلق بالتالى الأبواب دون ساحة الجهل الفسيحة التى تَعِدُ أبدا بامتداد لا يحيط به شىء من علمه إلا بما شاء، وهم إذ يفعلون ذلك يغلقون أبواب الغيب ولسان حالهم يقول: كل ما لم نستطع إثباته بأدواتنا فهو خرافة، دون أن ينظروا فى حدود مساحة (لا ساحة) تجاربهم، ولا فى قصور أدواتهم.
الذى يخرجنى من هذا العلم هو ليس عدوى، فلعله أشفق علىّ أن أختنق داخل حجراتهم المنغلقة، أما الذى يخرجنى من الجهل فهو يسحبنى إلى جب العلم الزائف بكل غروره المظلم، فهو أعدى أعدائى فعلا. الذى يخرجنى من الجهل يوهمنى أننى قد:
وعلمتُ حتى ما أسائل واحداً … عن علم واحدةٍ لكى أزدادها
أهكذا يا عمنا المتنبى تحرم نفسك بغرورك الذى قتلك غير شهيد غالبا، تحرم نفسك من سؤال أى واحد عن أى واحدة لكى تزدادها، هل عرفتَ كم كنت عدو نفسك حين أغلقت أبوابك هكذا على علم حرمك من الجهل العظيم، ومن السؤال، ومن الدهشة ومن الناس؟
فى مهنتنا يا مولانا يتبادلون كتبا وأوراقا بأسماء علمية تغلق كل منافذ المعارف غيرها، وهم يحشرونها حشرا فى أدمغة صغار زملائنا بحسم مغلق، فتشل حركة وجدانهم ويطمس إداركهم فلا يرون من مرضاهم إلا أسماء الأمراض ولافتات الأعراض، ويمضى الواحد منهم آمنا ما دام الظلام ساكنا محيطا، فيتنازل عن حركته الحية مع مرضاه فى ساحة الجهل المضيئة.
المصيبة يا مولانا أن بعض القوانين الرسمية أصبحت تفرض حتمية الخروج من الجهل إلى ذلك العلم المظلم، حتى أنها تحكم على من لا يرضى بذلك مُقاساً بمقاييسهم أنه مخالف للقانون، ويستأهل العقاب.
****
ونواصل مع انتقاءات مريدك د. توفيق رشد الأسبوع القادم القراءة عن الجهل والعلم أيضا.
*****
[1] – فى الموقع الذى اسماه www.philomaroc.net وهو موقع مضئ مفيد.