نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23 -2-2013
السنة السادسة
العدد: 2003
حوار مع مولانا النفّرى (16)
موقف “الموت“
قال مولانا النفرى:
أوقفنى فى الموت فرأيت الأعمال سيئات ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار ورأيت الفقر خصماً يحتج ورأيت كل شىء لا يقدر على شىء ورأيت الملك غروراً ورأيت الملكوت خداعاً، وناديت يا علم فلم يجبنى وناديت يا معرفة فلم تجبنى، ورأيت كل شىء قد أسلمنى ورأيت كل خليقة قد هرب منى وبقيت وحدى، وجاءنى العمل فرأيت فيه الوهم الخفى والخفى الغابر فما نفعنى إلا رحمة ربى، وقال لى أين علمك فرأيت النار.
وقال لى أين عملك، فرأيت النار.
وقال لى أين معرفتك، فرأيت النار.
وكشف لى عن معارفه الفردانية فخمدت النار.
فقلت لمولانا النفرى
هكذا يا مولانا كدت أرى الموت إفاقة مذهلة، لم أحتمل كل هذه الإفاقة ولم أصدق كل ما يبدو نفيا لما كنت فيه، لما حسبت أنه كذلك، كيف يا مولانا أفيق بالموت لأرى الأعمال سيئات، وأرى الخوف يتحكم على الرجاء؟! ماذا يتبقى بعد أن أكتشف أن أعمالى سيئات وبعد أن يتراجع رجائى أمام الخوف وأنت يا مولانا تعلم أننى لا أرجو غير وجهه؟
واردٌ أن أرى الغنى قد صار نارا وأن يلحق بالنار، أن أرى الفقر خصما ربما لأنه منعنى أن أدخل امتحان الغنى، لكن لماذا يحتج؟؟! ووارد أيضا أن أرى الملك غرورا، والملكوت خداعا، لكننى أفزع حين أنادى العلم والمعرفة فلا يجيبانى، إلا إن كان العلم زائفا والمعرفة بديلة، حين ينبهنا يا مولانا، إذ نَبّهك، ألا ننبهر بالعلم لذاته أو نقدس المعرفة للمعرفة نتعلم الفرق بين الوسائل والغايات، أما أن يتنكر لى كلاهما ولا يجيبانى أصلا فلماذا يا ترى؟ هل هى دعوة للمراجعة دون الإسراع بالشجب؟
ثم إنى لم أر الموت عجزا هكذا حتى أفهم كيف أن الوقفة فيه تعلن أن كل شىء لا يقدر على شىء، هل هى دعوة للجوء إلى القدرة الحقيقية القادرة على كل شىء لكل شىء؟
ليكن.. لا أستسلم عاجزا حتى بالموت، هل يكشف الموت اتكالى على خليقة من خلقه وليس عليه؟ فليهرب منى ما يهرب، فهو التسليم دون استسلام، ولتكن وحدتى فى الموت هى بدايتى الجديدة، وعملى الخالص الآخر هو شفيعى، لكن ها هو يا مولانا ينبهك فينبهنى أنه ربما يكون هو الوهم الخفى والخفى الغابر، ليس تماما! ليس هكذا.
كدت استسلم يا مولانا للعدمية وأنا أجهز نفسى لعذاب النار جزاء غفلتى، وإذا بالانقاذ يأتى فى الآخر وقبل الآخر.
قبل الآخر: حين نبهتَنَا أنه لم تنفعك إلا رحمة ربنا، فلتنفعنا معك،
وفى الآخر: حين كشف لك عن معارفه الفردانية فخمدت النار.
كم احترت يا مولانا فى الموت وأنت تعلم كيف أعايش هذه المسألة منذ ما لا أعلم، فما أن لمحت فى فهرس كتابك “موقف الموت”، حتى أمِلت أن آنَسَ برؤيتك وما قاله لك، يتراجع هذه المرة “انتقاء” الأسهل والأقرب، لم أتوقع أن تزيد حيرتى هكذا، لكننى لم أتراجع.
بلغنى منى، وربما منه يا مولانا، أن الموت – كما تعلم – هو نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى إلى وجه الله، وكأنه قد كُشِف لى حق فريد، وإذا بأحد أصدقائى ينبهنى أن هذا هو ما ورد فى “متون هرمس”، (ولم أكن أعلم عنها شيئا) وأننى بذلك لم آت بجديد يذكر، مع أننى أفرح بمثل ذلك الذى يؤكد أن إعادة الاكتشاف إنما يدعم الكشف الأول، وبالعكس.
ثم اعتبرت الموت يا مولانا “إعادة ولادة” نعرف عنها ما وصلنا عنها ونأمل فيها أفضل مما يلوح منها وحولها.
ثم اعتبرت الموت يا مولانا “أزمة نمو” بمعنى أنه نقلة نوعية مثل أزمات النمو الثمانية التى وصفها العلماء أثناء رحلتنا النمائية التى لا نعرف عن أزماتها ما يكفى اللهم إلا أزمة المراهقة وإلى درجة أقل أزمة منتصف العمر، أما أزمة الولادة كأزمة نمو، وأزمة الموت كأزمة نمو فهما أبعد عن علمنا وربما عن معرفتنا إلى أن ينكشف لنا ما تيسر من أى منها.
وكلما وصلنى تصور غامض عن الموت هكذا آمل أكثر فى غفران ربنا ورحمته، وكنت أحسب حين قرأت عنوان هذا الموقف بين مواقفك أن الأمور سوف تتضح أكثر لكننى ترجحتُ بين رعب العدم، وشوك الندم، حتى غمرنى يقين بأن رحمة ربى ومعارفه الفردانية هى الكفيلة أن تجعل ما بدا لى عدما هو كل شىء، فيصبح أى شىء يعد بكل شىء، تحت مظلة رحمته ومعارفه الفرادنية، لأصبح فى غنى عن العلم والمعرفة والملك والملكوت والغنى والفقر، وأقبل وحدتى تماما، لتختفى فى ثنايا حضوره تماما.
الأمانة ثقيلة يا مولانا، ادعُ لنا، فلا منجى منه إلا إليه