نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 27-6-2015
السنة الثامنة
العدد: 2857
حوار مع مولانا النفّرى (138)
حوار حول الحوار (2)
حوار مع مولانا النفّرى (136)
الامتحانات صعبة وضرورية ورائعة وواعدة ولا بديل لها
بقية تعقيبات د. محمد يحيى الرخاوى
مقدمة:
توقفت الأسبوع الماضى فى الرد على د. محمد يحيى عند أول فقرتين، وتناولت فيها موافقتى تماما على تجنب الرجوع إلى نسخ أخرى، وأيضا فرحت بوصف طبيعة نص النفرى من حيث قوة سلطته، وضرورة معايشته ابتداءً، ثم يأتى الفهم أو لا يأتى، وربما يستحسن ألا يأتى، لاحقا.
ولم أتناول كيف يكون الحياء أحد تجليات المعرفة الإدراكية الشاملة الوجدانية، وهذه فرصة للتكملة اليوم، كالتالى:
………….
…………
د. محمد يحيى الرخاوى
على سبيل المثال، اعترضت أمامكم على إعطاء أى أهمية للهوامش التوثيقية أسفل النص التى تقارن بين النسخ الموجودة فى مكتبات متعددة، والحقيقة أننى مازلت معترضاً. يرتبط بهذا الأمر أن أغلب نصوص النفرى إنما هى نصوص محرِّكة، ولا تُفهم، بل إنها لم تكتب (أو تملى، أو غير ذلك من تواريخ التوثيق المحتملة) لكى تفهم أصلا.
د. يحيى:
بصراحة دعمنى رأيك هذا جدا فى الاستغناء عنها، خاصة بعد أن حاولت أن اختار من النسخ الأخرى ما اعتبره أكثر تلاؤما مع السياق، وفشلت، لأنه لا يوجد سياق محدد المعالم أستطيع أن أثبت أو أنفى ما يتفق معه.
أما أنها نصوص محِّركة فهى محركة وتطمئننى على العنوان الذى كتبت وأكتب به كثيرا من قصار المقالات بعنوان: “تعتعة” وأنت تتابع ذلك من سنوات، وهو تشبيه مع الفارق طبعا.
أما أنها لم تكتب لكى تفهم فهذا صحيح، لكنها كتبت لتقع على صفحة الإدراك الكلية المباشرة، على ما أعتقد.
د. محمد يحيى الرخاوى
إنما الفهم من السلطة، ولنصوص النفرى سلطة مرعبة، ومخجلة، لا يستعان عليها بالفهم، بل هى أعلى من سلطة أى فهم، هذا لمن يستطيع التنازل عن حجاب الفهم (الحرف). للنفرى فى هذا الشأن سطران متتاليان (من موقف الحجاب) كثيراً ما أرجع إليهما وأستشهد بهما (لأسباب متعددة):
وقال لى إن لم ينعقد الحياء بهذا الرمز لم ينعقد أبداً.
وقال لى الرضا الثانى إنما هو فهم فى هذا الشأن.
الحياء هنا رضا أول، وصول أول للرسالة، أما الرضا الثانى فهو “فهم فى هذا الشأن”… هكذا بصيغة النكرة التى تشير للنقصان وعدم الإحاطة، وأعتقد أن هذا شرط من شروط التعامل مع النفرى.
أذكر أنك أشرت فى إحدى النشرات لضرورة النقصان هذه، حتى قررتم اللجوء لمنهج الصدفة لاختيار نص تتعاملون معه فى يومية النفرى، وأننى سعدت بهذا وائتنست للمدى، لأننى كثيراً ما أفعل ذلك: أفتح أى صفحة، وأقرأ ما يتصادف. والحقيقة، أن عشر معشار ما يتصادف يكفى وزيادة الزيادة لتهييج الحياء لدرجة لا تحتمل. فلماذا إذن، وبأى حق أدعى السعى للفهم، وأنا لم أكد أتحمل أو أقدر على معايشة الحياء كله بعد؟؟؟
د. يحيى:
مرة أخرى: فرحت بوصفك حضور نصوص النفرى بأنها “سلطة” بهذه القوة لأنه من خلال هذا الوصف عرفت كيف يصلنى منها حضور قوى بذاته فى ذاته،
ولا أعرف كيف حضرنى من اسماء الله الحسنى اسم “الصمد” وتذكر يا محمد أننى سألتك منذ يومين عن علاقتك بهذا الاسم وحين استوضحتنتى لم أزد حرفا.
الله الصمد تصلنى حضورا قويا قادرا بلا فراغ، مفعم بالعزة بلا كبر، قادر على الدعم الشديد ممتزجا بالرحمة، وبالكمال الباقى بلا تخلخل، حين وصلنى وصفك لنصوص مولانا بأن لها هذه السلطة: رجحت أنها استمدت سلطتها هذه من الله “الصمد” عز وجل!
لكننى أختلف معك فى ترادف الفهم مع الحرف، صحيح أن الفهم هو أحد تجليات الحرف لكن للحرف معان أخرى وصلتنى من مولانا لا تقتصر على الفهم وإنما نمتد إلى الرمز، والشكل، والظاهر، والكلام، والمنهج المغلق، وأى وسيلة للتعبير المباشر.
ثم يأتى السطر التالى ليخطرنا أن ثَمَّ رضا أول ورضا ثان، فلا أظن أن هذا يعنى بشكل مباشر أن الحياء هو رضا أول، فالثانى هنا قد يكون ثانيا حتى إن لم يكن ثَمَّ أول، فلم أرحب كثيرا بتشبيه مولانا لنا أن الرضا الثانى هو فهم، وخاصة إذا اقتصر ما هو فهم على ما هو فهم، أما إذا امتد فشمل الإدراك والعقل الوجدانى فأهلا به وسهلا، وأن ينضم وجدان “الرضا” إلى محيط المعرفة فهذا كرم آخر يوسع دائرة التلقى ويعمق معنى الرضا الإدراك الفهم المستقر المحرّك فى آن، بعيدا عن الرضا الاستكانة والتسيلم الأبله.
ثم أفرح بانتباهك لصفة النكرة لما هو فهم.
فى هذه الفقرة تتحدث يا محمد عن “الحياء” فاستقبل حديثك باعتباره أحد تجليات المعرفة الوجدانية الإدراكية الشاملة، ثم إن تعبير تهيج الحياء قد وصلنى فى منطقة الطاقة والحركة، والنبض والإيقاع الحيوى جميعا، فلا يلزم لهذا التهيج إلا المعايشة كما ذكرت، هنا يتراجع الفهم عن دوره وعن لزومه، وخاصة لو كان من النوع الذى يركز على التفسير فإغلاق دوائر التمادى بنقطة وأول السطر، حين يكون للنص هذه السلطة، ثم يتصف بهذه القدرة لتحريك التلقى ومن ثّمَّ الحياء، يكون الرضا هو فهم فى هذا الشأن، ويصبح تعبير “معايشة” النص تعبيراً مناسبا جدا لكل ذلك يكاد يكون بلا بديل.
لكن لى تحفظ هنا فى ما وصلنى – لعله خطأ منى – من احتمال ترادف الحياء مع الخجل، فقد جاء فى تعقيبك أنت أن لنصوص النفرى سلطة مرعبة و”مخجلة”، ثم استطردت تتكلم عن الحياء لا عن الخجل.
أما أنها مرعبة فهى كذلك، لكنه رعب البًَهْر والدهشة والمعرفة الغامضة الجديدة، أما أنه ينعقد الحياء برموزها فهذا لا يعنى أنها مخجلة، وفرق بين أن تكون مخجلة وأن تكون محركة لحياء معرفى وجدانى مشتمل، فهذا شأن آخر.
ثم دعنى استطرد معك فى رمضان عن بعض علاقتى بالحياء، وإلى درجة اقل بالخجل، فالحياء عندى فضيلة اقتحام محسوب، ومعرفة دهِشَة، وفيه نبض حياة، وهو من أصل فعل حَيَى، وطول عمرى أفرح حين أعرف أن الحياء هو “شعبة من الإيمان” ولا مانع عندى أن أربطه بالآية الكريمة بأنه “وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”، بل دعنى ونحن فى رمضان ربما تسلية صيام أحكى لك ما لابد أنك سمعته منى نقلا عن أبى عن ذلك الأعرابى الذى جزع جزعاً شديدا أن يخلع حياء حضوره حين يواجه لئيما يضطره لذلك، واسمح لى أن أعيد عليك هذا الشعر الطريف الذى اعتبره “صورة كاريكاتيرية” للموقف أكثر منه شعرا بالمعنى الذى أحبه، قال هذا الأعرابى:
واللــــه واللـــه مرتيـن لحفـــر بــئـــر بإبـرتيــن
ونزح بحـرين زاخريـن بمخيطيـــــن منمنميـــن
وكنس ارض الحجاز طُرًّا في يـوم ريـح بريـشـتــيـن
ونـــزع طودين راسيين وحـمـل ثـوريـن باليــديــن
ولا وقوفي علــــي لئيم يضـيع منـه حـيـاء عـيــنـي
أنظر هذا الظرف الذى يصور صعوبة من يضطر أن يتنازل عن حيائه ليواجه لؤم اللئام، هذا هو الحياء التواصل البشرى المعرفى الدمث.
أما الخجل فهو يبدو أحيانا مرادفا للحياء، لكن ما وصلنى من أغلب ما رجعت إليه من مصادر دعم ظنى أنه ليس هو الحياء بحال، هو ليس فضيلة يحرص المرء على التمسك بها، بل هو فى أحسن حالاته تفاعل تلقائى عند الشعور بالحرج، وكثيرا ما يصاحبه أو يتبعه شعور بالذنب، وأنت تعرف علاقتى “بالشعور بالذنب”، وقد خطر لى أيضا أن الحياء فعل، أما الخجل فهو رد فعل، وبعض الخجل فيه تعبير عن الخزى، والاضطراب عامة، وكل هذا بعيد عن الحياء الذى يقترن بهذه المعرفة القوية الدهشة المقتحمة فى أناة.
د. محمد يحيى الرخاوى
كتبت مؤخراً لصديقة اتهمت النفرى بأنه “يعانى من اضطراب فى التفكير (قالت بالحرف: formal thought disorder) بما يجعل فهمه مستحيلاً”، كتبت لها ما نصه: “لا.. على الإطلاق، ولكن قراءته تتطلب أن يكون “أى” فهم (أو انعدام للفهم) مسؤولية فردية واختياراً فردياً للقارئ”. وأنا موقن أن النفرى تعمد اختيار اللغة التى تفرض هذه المسؤولية، وأنه وفق فى تعمده وفى اختياره فى حدود الممكن. لا يُقرؤ نص النفرى إلا على مسؤولية قارئه، وأدعى أن من عبقريته أن فعل ذلك بتعمد، ودون شرح، لأنه نص لا يُشرح لمن لا يجد لكلماته صدى أو رنيناً فى وجدانه، ولا حتى يمكن شرحه لمن يجد هذا الرنين؛ فهو رنين نبدأ منه قبل أن نفهم، لنستحى، ثم قد نفهم أو لا نفهم.
د. يحيى:
الحمد لله أننى لا أعرف هذه الصديقة، وإلا كنت عاقبتها بدعوتها لقراءة ما كتبته عن الاضطراب الجوهرى للتفكير وعلاقته بالمعرفة الهشة: Amorphous Cognition معمل الإبداع ومفرخة الأحلام وأصل الشعر، ولا أعرف كيف صبرتَ يا محمد ورددت هذا الرد المتواضع، لأن من يتصدى بمثل هذا الحكم يُستحسن – بعد احترامه والتماس العذر له – ألا يُرَدّ عليه إلا بعد حين، وهذا ليس استعلاءً ولكن بصراحة لفرط معايشتى لهذه المنطقة بين الحلم والإبداع والجنون ثم إبحارى مؤخرا فى المحيط المسمى “بالوعى البشرى”، أسفت لهذا الاختزال الحًُكمِىّ، غفر الله لها وآنار بصيرتها، لتحمل مسئولية التلقى أوسع وأعمق.
د. محمد يحيى الرخاوى
أما ردكم فى هذه النشرة؛ فقد أخجلنى، وأسعدنى بما تعلمت منه واندهشت.
أخجلنى أننى لم أضع احتمالات لهذه المعانى المتعددة والمتنوعة لما هو “بلاء”.
واندهشت لتداخل هذه المعانى وقرابتها لبعضها ومرونتها التى تبلغ حد اللعب المتفجر الملهم.
وتعلمت أن البلاء امتحان: وأن الامتحان من المحنة، التى قد تكون مصيبة تصيبك فتوقعك فى محنة، أو قد تكون –أيضاً- نعمة تتنعم بها فتمتحن فيها، وبها….
وإذا بى أكتشف أيضاً أن “الاختبار” من “الخبرة”، وكأن كل خبرة هى فى الحق: اختبار، أى كأن الاختبار خبرة، معايشة، امتحان، ومحنة، وكل محنة خبرة، وكل خبرة محنة…
وإذا بـ “البلاء” و “الامتحان” و “الاختبار” جميعاً، من معانى “المعايشة”، لا من معانى القياس (يتم قياسك)
أى: إذا بها ليست من معانى الاختبار أو الامتحان بمقصود القياس أو التقييم أو الـ Test أو الـ exam أو الـ evaluation ، هذه المعانى التى لم يعد لوعينا منها فكاكاً منذ أسيئت قراءة معانى الجنة والنار والحساب، دون النظر والتنظر فى معنى تكرار التعبير “بغير حساب”.
فبالتأكيد شكراً…
د. يحيى:
أنا الذى أشكرك يا محمد، كسرتَ وحدتى يا رجل وشجعتنى، برغم تحفظى على المعاجم كمصدر وصىّ رحت آنس بها وهى تكشف لنا عن ثراء لغتنا الحضارة، التى كلما غُصْتُ فى تشكيلاتها الثرية أسَفُ على أن من ابتدعوها ابتداعا لم يتركوا لنا إلا هذه المعاجم الكريمة التى اسْتَعْمَلَها غير أهلها أصناما تثقل خطى حركية مواصلة إبداع لغتنا، وسجنا تفسيرنا نافيا لكل ما “ليس كذلك”
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
مرة أخرى أشكرك
بارك الله فيك،
وعليك السلام.