الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حوار مع مولانا النفّرى (1) لماذا التوقف فالنقلة؟

حوار مع مولانا النفّرى (1) لماذا التوقف فالنقلة؟

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت:  10-11-2012

السنة السادسة

العدد: 1898

 

حوار مع مولانا النفّرى (1)

لماذا التوقف فالنقلة؟

ابتداء من اليوم أعلن تراجعى راضيا حامدا عن مواصلة هذه المخاطرة بعنوان “حوار مع الله”، برغم ما أفادتنى بما خرجت منها والحمد لله.

الحكاية أننى حين فتحت ملف “الإدراك” وجدت نفسى فى رحاب هذه “المواقف” مباشرة، كما أن الأصدقاء والزملاء الذين عقبوا أو تساءلوا أو استغربوا النص الأصلى أو ما استلهمته منه قد قاموا بدور رائع مهم، وكان من أهم ما اضطرنى إلى هذه الوقفة الآن.

كتابى المشترك مع الزميل والابن د.إيهاب الخراط، (اللاهوتى الانجليى الطبيب النفسى الحاذق) بعنوان “مواقف النفرى بين التفسير والاستلهام”، كان هو الأصل الذى انطلقت منه هذه المحاولة الحالية حتى بلغت 87 نشرة. الجزء الأول من هذا الكتاب كان بقلمى مستقلا، وكان تفسيرا اجتهاديا – بلغة علوم العصر – لبعض ما استطعت من هذه اللغة الخاصة الرائعة الغامضة، وقد نبهنى ابنى د. محمد إلى رفضه لهذه المحاولة، ولم يبين وجهة نظره تفصيلا، إلا أن ما وصلنى هو أنه خاف على الأصل أن يتسطح أو يتشوه، وعنده حق، وقد وضعت ذلك فى الاعتبار فى مقدمتى للكتاب السالف الذكر كالتالى:

علمُ النفس، مقابل عـلـمٌ بالنفس  فى رحاب نص صوفي

هذا مدخل آخر لما هو “علمٌ بالنفس”، وهو التعبير الذى لن نكف عن استعماله حتى نفتح الأبواب لكل مناهل المعرفة، لنتعرف من خلالها على أنفسنا، فلا يقتصر ذلك على “علم النفس” الذى لم يدّع يوما أنه المصدر الأوحد.

نحن نريد أن نعرف ما هو “نحن”؛ “كيف” ؟ “وإلى أين” ؟ نريد علما بالنفس، جنباً إلى جنب، وربما سبقاً على عطاء العلوم النفسية جميعا والتى كادت تخنقها ألعاب مؤسسات التجارة والسلطة، كما قيد خطوتها ضيق المنهج.

على الرغم من يقيننا الواضح بأن التصوف أساساً هو خبرة معيشة، غير قابلة للكتابة، ومن ثم غير قابلة للشرح والتأويل، إلا أننا بعد ما تلكأنا أكثر مما ينبغى لم نعد نملك إلا أن نعاود المغامرة. فقد اكتشفنا أننا لو استسلمنا لهذه المقولة (العجز عن الكتابة عن ما لا يـُكتب، أو ما لا ينقال بلغة مولانا النفّري) فإننا نساهم فى دفن هذه الخبرة البشرية الإيمانية بعيداً عن وعى من لم يألفها، فلم يَـْرتـَدها، وبالتالى فنحن إذا انسحبنا إنما نساهم بهذا الانسحاب (المتعالى بشكل أو بآخر) فى اختزال الوعى الإنسانى إلى ما أريدَ به من جانب الوصاة والمستـثمرين!!!

نحن لا ندّعى القدرة على الإلمام بفيض ما يوحِى به هذا النص، كما وصل إلينا، وإنما نحاول أن نتطفل على مائدة النفرى، إذ ندور حول متنه، لعلنا نضيف هوامش واعدة نستنشق من خلالها بعض عبير ريح هذا القطب الجليل.

…………

ثم كان هذا الكتاب بجزأيه: الأول: التفسير بما تيسر (وهو ما رفضه محمد إبنى)

 والثانى: هو ما اسميته “التوجه الضام” الذى جمع قارئين للنص مسلٌمُ ومسيحى ليقرآ نفس النص: صلاةً واستلهاما.

وبعد

إذن فقد كنت واعيا من البداية بنوع الصعوبة، لكننى لم أكن متبينا بقدر كاف مدى الخطورة، وحين حذا حذوى بعض الأصدقاء والأبناء رعبت أكثر فأكثر خشية أن يعفينا السماح بالغموض من مسئولية الوقوف والكدح كدحا.

شعرت الآن أن علىّ أن أعود إلى نشر تفسير المرحوم أحمد بهجت لهذه الكتابات، وهو التفسير الذى أثبته فى مقدمة كتابى السالف الذكر مقتطفا من الأهرام (صندوق الدنيا) 15/12/1999.

تفسير أحمد بهجت لكتابة المواقف

قبل المقدمة

ا) ظهر النفرى يلفه غموض كغموض عصره، نحن لا نعرف من هو، ولا نعرف لماذا لم يتحدث عن مصنـفـاته وأساتذته أو شيوخه،..0قال:

“إذاضقت ذرعا بدواعى نفسك فاسكن إلى زوجتك، فإن ضقت فإلى أهل علمك، فإن ضقت فإلى أهل معرفتك، فإن ضقت فسر فى الأرض، فإن ضقت فالزم بابى، فإن ضقت فيه فاصبر، فإن ضقت فيه فاصبر (كررها حتى قال) اصبر ينفتح لك نور”

ومن فرط تواضعه لم يكتب ما كان يقول، إنما كان يؤلف كتابه شفهيا لمريديه، ويكتفى بذلك.

ب) …ويبدو أن النفرى قد تلقى الأمر بألا يبوح للآخرين بما يقع له من تجارب، ومن هنا جاءت لغته مجازية تماما، وفيها الكثير من الجرأة والمغامرة فى النحت والاشتقاق، الذى يصل إلى حد الإغراب، وترتب على ذلك…(الخروج) عن اللسان المعتاد والمنطق المألوف، ويوقفنا على هوة، هى حسب قـول النفرى :

“برزخ فيه قبر العقل ، وفيه قبور الأشياء”

 فشرح نص النفرى يصبح مهمة فيها الكثير من المخاطرة،

وإن كان البحث عن الحكمة يستحق المخاطرة.

………. و”أوقفني” معناها أن الله أيقظ قابليتى لتلقى التجلي.

و”قال لي” معناها أنه عرّفنى بأن رفَعَ حجابى فعرفتُ، فكأنه قال لي.

…، فبدل أن يقول الواحد منهم (من الصوفية): انـقدح فى ذهنى هذا الخاطر، يقول: قال لى ربى، إيمانا منه بأن نبع الحقيقة و ملهمها هو الله سبحانه.

وبعد (أخرى)

  شعرت أيضا أنه من المناسب تفسيراً للنقلة الحالية أن أعيد نشر منهج القراءة كما جاء فى مقدمة الكتاب السالف الذكر، وهو كما يلى:

كيف نقرأ نصّا ما؟

وقبل ذلك : ما هو النصّ؟

النص هو كل منظومة تتماثل فى أفق الوعى، فتستثير الفهم، أو الحوار، أو الإضافة، أو التكملة، أو الجدل، أو التفرع الخلاّق، أو التكامل، أو كل ذلك مجتمعا.

وقارئ النص هو من تفتّح وعيه للمُـدرَك المتاح ليعيد تشكيله بما أمكن، وهذا موقف لا يشترِط القراءة والكتابة، بقدر ما يشترط الدراية واليقظة.

الإنسان هو نفسه “نص” يحتاج فى قراءته إلى ما يحتاجه أى نص.

و لعل المشروع العملاق المسمى مشروع الجينوم الذى يحاول قراءة الخريطة الجينية للإنسان، هو محاولة علمية رائدة لقراءة النص البشرى بفك شفرة مكوناته الجينية. وحتى هذه القراءة بعد أن تتم، وعلى الرغم من أنها تعد بأن تكون قراءة بيولوجية مستفيضة، سوف تحتاج إلى قراءات كثيرة لاحقة: ناقـدة ومستلهِـمة.

كل “آخر”(كل إنسان آخر) هو نص “آخر”، مختلف عن أى نص “آخر”.

المريض النفسى هو نص أكثر تعريا، وأكثر تحديا، وهو “نص” يحتاج إلى قراءة، أكثر منه اضطراب يحتاج إلي”لافتة”(تشخيص). ولعل هذه الحقيقة كانت تكمن فى خلفية الوعى فى مواجهة نص بهذا التعـقيد، وهذا العمق، وهذا الخلود.

التفسير فى مقابل الاستلهام

إن أخطر ما لحق بالنصوص الخالدة هو محاولة اختزالها بما يسمّى التفسير، إنها تحتاج إلى موقف نقدى أكثر من أى شئ آخر. .’إننا نسمح لأنفسنا بالقول بأنها تحتاج إلى موقف إبداعى يـستلهمها، وربما يتكامل بها ومعها أكثر من حاجتها إلى تفسير أو تأويل.

إن تعبير نقد النص الفلانى قد يرعب بعض المتصلبين حتى الرفض، مع أن النقد الحقيقى هو إثراء لأى نص كان.

النقد هو امتداد للنص الأصلى وليس انتقاصا منه، ثم إننا لا نزعم أن هذه المحاولة الحالية هى نوع من النقد بقدر ما هى أشبه بابتهالات موازية، أو تعرية مستثارة من نصّ له احترامه، نص فرض نفسه بأكثر من لغة، لعدة قرون على الرغم من غموضه الظاهر، والتباسه ومحاف مخاطره.

ليكن هدفنا الأول هو الإسهام فى محاولة حل إشكالة المنهج فى تناول بعض المعطيات فى مواجهة الوعى البشري: التفسير فى مقابل الاستلهام.

هذا هو اجتهادنا، نرجو من الله أن يثيبنا عليه، سواء حالفنا الصواب، أم وقعنا فى المحظور.

ويبدو أننى لم أطمئن برغم كل ذلك فأنهيت هذا المقطع من المقدمة كالتالى:

قبل القراءة: هذه المحاولة لا تُقرأ كما اعتدتَ أن تقرأ غيرها من نصوص. هو نص نأمل أن يقع فى مكان طيّب من وعيك، بعيدا عن وصايتك، فإن لم يحدث ، فاتركه فأنت لستَ ملزما بإكماله.

ثم إن لاح لك ـ بعد فترة ما ـ أن تعود إليه، فارجع واحدة واحدة دون أن تفرض عليه ما حال دونه وإياك فى المرّة السابقة.

فإن نجح أن يحرك بعض أوجه وعيك، فاصبر على ما وصلك منه دون أن تحاول فهمه : جدا وسريعا.

وقد يكون فى ما بلغك بعض ما أردنا، أو قد تتجاوزه إلى بعد ما أردنا، فيكون حوارا حقيقيا، لا مبارزة كلامية، ولا تبريرا منطقيا.

من يدرى؟

أخيرا:

برغم كل ذلك وقع المحظور ولمدة أكثر من عام ونصف (87 نشرة) ومع تزايد المخاطر (والمخاوف) قررت أن أتوقف عن مواصلة حوارى مع الله سبحانه وتعالى بشكل مباشر، وذلك بعد أن انتهيت من تحديث نصوص استلهاماتى التى وردت فى الكتاب الأول، وبدأت الرجوع إلى مواقف جديدة علىّ تماما فلاحظت نصوصا يستحيل قبولها، بل وثمة نصوص يمكن أن تبلغ – ولو لأول وهلة – عكس ما أتصور أنه المراد، فتساءلت عن منهج مصداقية النقل والتسجيل، وكنت أعرف أنه فى الأصل نص شفاهى بصفة عامة، وأن المؤرخين اختلفوا حول من سجله: هل هو ابن النفرى أو ابن بنته، فتساءلت: يا ترى كم من الوقت مضى بين ما قاله النفرى وبين التسجيل، وكلام كثير خطر لى مثل الذى خطر لى فيما هو أهم من كلام النفرى، بل إننى تساءلت أيضا: ماذا لو عرضت هذه النصوص على مولانا النفرى نفسه فماذا كان سيجيز منها، وماذا كان سيحدّث؟ وماذا كان سيصصح؟.

من كل ذلك وغيره قررت التالى:

أولا: أن أتوقف عن هذه المخاطرة وأحول حوارى مع مولانا النفرى بدلا من هذه الجرأة المخاطرة التى سمحت لى بالتوجه بالحديث إلى الله سبحانه وتعالى.

ثانيا: أن انتقى من المواقف بعضها أو فقرات منهما كما أجده يصلح للحوار مع مولانا دون الالتزام بتغطية كل ما ورد.

ثالثا: أن أقوم بتعريف القارئ (ربما الأسبوع القادم) بالنفرى شخصيا، وباختلاف الآراء حول مصداقية النقل للمتن، يا حبذا نبذة مختصرة عن مترجمه إلى الانجليزية صاحب الفضل أرثر برى.

ثم أبدأ بعد ذلك هذه “التحويلة” إلى الحوار مع النفرى (وربما مع بعض هؤلاء  من راوٍ أو مترجم) بما يتيح لى موقفا نقديا أكثر رحابة، وإن كان أقل حدسا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *