الأهرام الجمعة: 20-11-2020
أ.د. يحيى الرخاوى
تعلمت من المجانين
ومهنتى تجعلنى أرى البعض عرايا نفسيا
بطل رواية (الشحاذ) قادنى إلى نجيب محفوظ بسبب حيرته وضجره من نفسه ومن العالم ولجوئه للخلاء والوحدة!
انقراض الإنسان حقيقة لو لم يرجع لفطرته ويسمح بعمل كل أمخاخه وليس (المخ الرمزى المنطقى) فقط!
حوار: صلاح البيلى
****
رجل تحتار من أين تبدأ الحوار معه، هل تتحدث معه باعتباره واحدا من أكبر أطباء النفس في مصر والعالم، أو كواحد من كبار المثقفين في مصر ممن يمتلكون تجربة حياتية ومعرفية عميقة؟! إنه د. يحيى الرخاوى الطبيب، والشاعر الذى كتب عدة دواوين منها (أغوار النفس) بالعامية المصرية، و(سر اللعبة) بالفصحى وقد أهداه إلى الشاعرين صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الأبنودى، وهو المبدع الذى كتب تقاسيم وأصداء على (أصداء السيرة الذاتية) لنجيب محفوظ، وهو صاحب نظرية جديدة تماما في العلاج النفسى تقوم على قيادة المريض لاكتشاف إنسانيته والعودة إليها، وأيضا نظرية (نقد النص البشرى) حيث يعتبر كل إنسان نصا، وهو فوق كل ذلك أحد حرافيش نجيب محفوظ لسنوات طوال سجل بعضها في كتبه المتتابعة عن محفوظ تحت عنوان (في شرف صحبته) وهو يعتبر نفسه مريدا بالمعنى الصوفى في يد شيخه محفوظ حيث كان ويظل يتعلم منه لليوم، منذ أن وقع في غرام أدبه وهو طالب ثانوى.
واليوم رغم وقوفه على عتبة السابعة والثمانين من عمره يظل د. الرخاوى يقظا واعيا يواظف على أداء مهنته في عيادته ومستشفاه بكل خلجة من خلجاته، لا يعرف التكبر ولا التعالى ولا تعنيه المظاهر الكاذبة، وهكذا خرج هذا الحوار.
كتبت كثيرا عن نجيب محفوظ ونشرت قصصا مفصلة للقاءات جمعت بينكما، فهل بقى شيء لم تكتبه عن محفوظ أو لم يكتب عنه؟
د. يحيى :
نجيب محفوظ مثل البحر كلما غرفت منه زاد، وكلما تعمقت فيه وجدت دررا أو لؤلؤا جديدا وعطاؤه لا ينفد أبدا ولن ينقطع ولن يتوقف، ومن حق كل واحد أن يعيد اكتشافه كما يشاء، نحن نتكلم عن أكبر مبدع وأكبر إنسان يحمل أكبر قدر من التسامح مع الآخر وقدرة معجزة على صحبة كل أنواع البشر ويرى في كل منهم الوجه الإنسانى، هو رجل طيب، وبالمعنى الصوفى هو (شيخ طريقة) وكنت بالنسبة له مثل (المريد) مع شيخى، ورغم أن أبى كان أبا جيدا جدا إلا أننى كنت أبحث عن أب دائما، ومن هنا عرفت نجيب محفوظ فكان لى بمثابة الأب والشيخ، ومنذ أ، عرفته أمنت به وقاد طريقى كشيخ وأنا مريد في يده، لقد كتب (أصداء السيرة الذاتية) ولم يكتب سيرته الذاتية، لأنه من الصعب في بلادنا أن تكتب سيرتك الذاتية بكل صدق وأمانة!.
كثيرون ممن كانوا حول نجيب محفوظ استغلوا قربهم منه والبعض الآخر زعم قرابته فكيف ترى كل هذا الخليط وأنت واحد ممن عرف شلة (الحرافيش) القديمة؟
د. يحيى :
من يزعم أنه عرف نجيب محفوظ أو صحبه لسنوان انظر لرأيه وما يكتبه، هل يتوافق مع فكر محفوظ أم لا؟ خصوصا أن نجيب كان شخصا استثنائيا لا يرد أحدا ولا يرفض إنسانا بل يجتمع عليه كل الناس على اختلافهم وهو قادر على رؤية الجانب الإنسانى الطيب في كل إنسان، وكان شديد التسامح، لقد عرفته به وأنا طالب ثانوى، كان ذلك سنة 1948م وكنت في الرابعة عشرة من عمرى وكنت في السنة الرابعة ثانوى أو ما كنا نسميها (الثقافة العامة) وكنت أسير مع زملائى صباحا إلى مدرستنا (مدرسة مصر الجديدة الثانوية) فقال لى أحدهم: إنه اكتشف من يستأهل القراءة، ونصحنى بقراءة (القاهرة الجديدة) وفعلت، وبدأت حكايتى معه وتعرفت على نفسى من خلاله وقرأت له (السراب) ثم (خان الخليلى) حتى آخر عمل له، ولم أسع للقائه حتى كنا سنة 1970 وقرأت له روايته (الشحاذ) فذهبت إليه في مكتبه بجريدة (الأهرام) وسألته عن بطل الرواية (عمر الحمزاوى) وسألته عن التصوف كحل لما آل إليه حال البشر وعن علاقن شخصيا بذلك، فنبهنى إلى ما لا أنساه أبدأ، وكلما شطحت ألما أو كدت أنسحب إنهاكا، قال لى بالحرب: (إن ما لا يصح لكل الناس هو حل محدود في الواقع والتاريخ)، أغتظت من جملته وكدت أقتنع، ولما عرفته عن قرب بعد ذلك لسنوات كنت أعود إلى نفس السؤال ويصيغ أخرى حتى قال لى مرة بعد أن استمع إلى طويلا: (ياليت)، أي لم ينكر أن يصبح التصوف حلا جماعيا وليس فرديا، وارتحت.
ذكرت في دراستك عن فيضان طبقات الوعى في مجموعة (رأيت فيما يرى النائم) أن محفوظ صاحب لغة خاصة جدا أقرب إلى الشعر أحيانا فكيف تميز في لغته إلى ذلك الحد؟
د. يحيى :
نجيب محفوظ كاتب سلس يكتب الفصحى حتى على لسان أبطاله في (غرزة حشيش) أو في (مخدع فتاة هوى) دون تكلف أو تراجع، لغته الشعرية هي جسد العمل مثلما يقول في (أهل الهوى): (المندفعين بعنف البراءة العمياء) و (تورد وجه الفتى وخانه السرور فأضاء به وجهه) و(فتنهد الظلام استجابة وتلاشى الحضور في الحال) وكما قال في (من فضلك وإحسانك): (وانهمرت سيو مترعة بالنشاط والهيام والطرب وانتفض القلب في رقصة رائعة موحية بالإلهام والجذل) و(الزمن نصل حاد وحاشية رقيقة).
قلت إنك ذهبت لمحفوظ لتسأله عن التصوف كحل جماعى وأنكر هو ذلك ثم كررت عليه نفس السؤال في جلسات أخرى، في رأيك أنت هل التجربة الصوفية يمكنها أن تصبح حلا جماعيا أم تبقى فردية كما قال لك محفوظ؟
د. يحيى :
لا أظن، فهو مثلما نقول عن (الله)فربنا هو الحل ولكن لو حددناه لن نصل إليه وسنعجز عن الوصول إليه (ليس كمثله شيء)، فنحن نسعى ونجرى طول حياتنا كى نصل إليه، وكذلك التصوف يكشف لنا عن طبقات نعتبرها الحل ومنابر، كلها عبارة عن طرق، لذلك قالوا وصفوها (الطرف الصوفية) وهو تعبير عبقى لأنها طرق وليست حلا، طرق موصلة وليست نهاية، هو طريق إلى نوعية من الحياة تليق بالإنسان.
أهديت كتابك (عندما يتعرى الإنسان) وهو عن الطب النفسى الآخر الذى تسميه من الناس إلى الناس في طبعته الرابعة… إلى أصحاب الفضل الذين عجزت أن أساعدهم كما ينبغي في محنة المرض، فمن كنت تقصد؟
د. يحيى :
كتبت هذا الكتاب سنة 1968 وعمرى 34 سنة ومدة خبرتى في الطب النفسى عشر سنوات، وكان عنوانه (صور من عيادة نفسية) ولما كبرت وزادت خبرتى وتغير مفهومى للطب النفسى أسميته (من الناس إلى الناس) لأشير به إلى طب نفسى غير تقليدى، إنهم حين قالوا (خذوا الحكمة من أفواه المجانين) لم يتعدوا الحقيقة، ربما يغير قصد، أو ربما بقصد السخرية، لأنه ربما ثبت لمن يبحث عن الحقيقة أن المجانين هم العقلاء أو العكس، ونحن بذلك لا نحبذ الجنون ولا ندعو إليه ولكننا نحترمه ونبحث عن الحق والعدل والخير والإنسان من خلال دراسة مأساته.
فأحوال النفس البشرية لا يتعلمها الإنسان من الكلام، وقوانينها لا يصدر بها أحكام، وعلينا أن نقيم الحقيقة أو المعرفة التي نتصورها بقدر ما تحتمل اللحظة الحاضرة من إدراك الأمور، وكتبت هذا الكتاب وغيره لأننى مؤمن بأن العلم الذى لا ينتفع به الناس هو أمانة ضائعة، وخازنه كسارق الجوهرة الذى لا يستطيع بيعها، فيحبسها ويعيش في فقره مع أوهام المطاردة وخدعة امتلاك شيء ثمين وما هو بثمين!
إن مرضاى هم الذين علمونى معتقداتى، وهم الذين فرضوا على النقلة من (مطبطباتى) إلى إنسان يضع خبرته وعواطفه مع التطور، فصراع الإنسان في المرض النفسى يمثل صراعه مع أجداده الذين حمل خلاياهم وأثارهم، وهذه الآثار القديمة تثور عليه حين ينساها فيكون المرض، وتعلمت ألا أنسى التاريخ وأنا أصنع المستقبل، أنا لا أتفرج على الناسأو الحياة بل أعيشها.
قرأت لك في أكثر من كتاب ودراسة إبداعك لمفهوم (نقد النص البشرى) كطريقة للعلاج النفسى، فماذا تقصد بها، وهل يصبح الإنسان الفرد نصا وكيف؟
د. يحيى :
هذا المفهوم شغلنى عشرات السنين ولم أكتب عنه إلا من أربع سنوات فقط ونقد النص البشرى يعنى عندى إن الإنسان يبدع نفسه (المريض والطبيب المعالج) معا في نفس اللحظة، المسألة مستمرة ولا نهاية لها ولا يصح أن يتعالى المعالج أو يسخر من مريضه أو ينكر عليه شيئا وإلا لن يصبح معالجا، فالإنسان أعظم إبداع في الكون كما أبدعه بديع السموات والأرض، والمرض النفسى هو تشويه وانحراف بهذا النص المبدع، وكل نص بشرى هو تناص حال كونه يحافظ على الفطرة بإبداع متجدد، أما في حالة خلله أو تشرذمه أو انحرافه وهو ما يسمى مرضا فإن التناص الموجه المسئول يمكن أن يسهم في استعادة تركيبه وإصلاحه، فنقد النص البشرى أعنى به محاولة تزكية النفس البشرية إلى اصلها لتحتوى فجورها وتقواها جدلا فيتخلق منهما السعي الإبداعى طول الوقت، فالخروج عن السواء يتم من خلال فقد الواحدية إلى التشرذم أو تحويل النبض إلى دوائر جامدة مغلقة، والتناص مع النصوص البشرية المحيطة السليمة والمتاحة من معالجين يعطى البشر فرصة أكبر في مداومة إبداع الذات.
انتشر في هذا الزمان كثيرون يظنون في أنفسهم أنهم (المهدى المنتظر) فماذا جرى لأبناء هذا الزمان؟
د. يحيى :
كتبت في هذا المفهوم وأجريت جلسات لإخراج (المهدى) من كل واحد عادى جدا، فكل إنسان هو (المهدى المنتظر) طالما يمشى بين الناس لهدايتهم ولو بكلمة، فالمهدى الذى بداخلك هو المهدى الذى بداخلى طالما أننا التزمنا بالهداية بداية من أنفسنا ثم بمن حولنا إلى آخر واحد في الدنيا، ولكن إذا أصبح الأمر هوسا وظن شخص ما بأنه (المهدى المنتظر) فهذا هو المرض النفسى بمعنى أنه عجز عن تحقيق ذاته في الواقع فانسحب في كهف داخل نفسه.
بصراحة، هل البشرية تتقدم أن تنتكس؟
د. يحيى :
تنتكس وقد كتبت عن ذلك في كتابى (تزييف الوعى البشرى) وكتبت عن انقراض الإنسان، (نحن ننتكس ونص) لماذا؟ لأننا أغبياء، نحن البشر أغبى من الضفادع وهكذا البشرية اليوم.
والنجاة كيف تكون؟
د. يحيى :
أن يعود الإنسان لإنسانيته كما خلقه الله للأسف البشرية تعمل اليوم بأخر مخ فقط وهو (المخ الرمزى المنطقى) أما كل الأمخاخ التي من المفروض أن نعمل بها ركناها جانبا، فالنجاة أن يسمح الإنسان لكل أمخاخه أن تعمل وليس مجرد السعي وراء رموز فارغة من مادة ومناصب وغيرها.
هل تعتبر نفسك شاعرا أم لا خاصة أنك تنكر صفة الشاعر نفسك طول الوقت؟
د. يحيى :
حقا مكثت أنكر أنى شاعر سنوات طويلة حتى أهدانى الأبنودى كتبه ووصفنى بالشاعر الواعر) فصدقت أنى شاعر، وبشهادة صلاح عبد الصبور والأبنودى أنى شاعر حيث أكتب (حالة) وليس (حلية أو أسلوبا)، وعن نفسى اعتبر (أينشتاين) بمفهومى شاعرا وكتبت ذلك من خلال حركية إبداعه وليس من خلال ناتج عبقريته، ويحضرنى هنا كتاب (العلم والشعر) لــ (ريتشاردز) ترجمة محمد مصطفى بدوى والذى قال فيه المؤلف أن الشعر مكمل للمعرفة الكلية وأن العلم والشعر لابد أن يتضافرا تكاملا لا أن يتنافرا استبعادا، ويواصل: الشعر باستطاعته أن ينقذنا، لأنه وسيلة للتغلب على الفوضى، وعلى هذا اعتبرت (أينشتاين) شاعرا، أليس هو القاتل: (العلم بلا دين أعرج والدين بلا علم أعمى) أي يدعو لأن يتكاملا لمصلحة الإنسان دون وصاية أو اختزال أحدهما للآخر، وبذلك فإن (أينشتاين) يعيد إحياء الألفاظ في سياق تشكيلى جديد، وهذا هو الشعر، ورأى أن العلم إبداع فظيع جدا وعليه وصفت (أينشتاين) بالشاعر.
صباح الخير يا مولانا:
المقتطف : فصراع الإنسان في المرض النفسى يمثل صراعه مع أجداده الذين حمل خلاياهم وأثارهم، وهذه الآثار القديمة تثور عليه حين ينساها فيكون المرض…
التعليق : استمتعت بالحوار كله ،واستوقفتنى بعض عباراته ،لكن هذا المقتطف جعلنى ابتسم قائله : مولانا كالنهر الذى تتناغم عناصره لتفصح عنه كله …لمن عرف كيف يغترف …