نشرة “الإنسان والتطور”
7-12-2011
السنة الخامسة
العدد: 1559
حكاية كتاب قديم لم يظهر (4)
تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية
Nosology & Diagnosis in Psychiatry
الحلقة الرابعة: تاريخ حيرتى مع فكرة التشخيص (2)
الفصل الأول: الجزء الثانى
المحاكمة:
… كنت بعد ذلك(1) فى الاجتماعات العلمية بقسم الأمراض النفسية بكلية الطب قصر العيني; من أنصار تشخيص يبدو غريبا نوعا ما هو “الذهان الكامن”(2) وكذلك “الفصام الكامن”:(3) وكان أغلب زملائى لا يتفقون معى حتى الهجوم أحيانا، وعندهم حق… لأن الشيء الكامن ليس ظاهرا، فكيف يصبح تشخيصاً معلناً وبالاسم، الكامن يظل كامنا وما علينا إلا أن ننتظر حتى يظهر، وكنت أجيب وأتساءل فى نفس الوقت “وإلى أن يظهر… هل نعالجه على أنه حالة قلق عادية مثلا لمجرد أن ظاهرها هو القلق؟” ويقول بعضهم “نعم.. حتى يثبت بالدليل القاطع والبرهان الساطع! أنه ليس كذلك”، وكنت أرفض أن ننتظر الدليل القاطع والبرهان الساطع وكأننا فى المحكمة، وكنت فى نفس الوقت ألتمس العذر لزملائى الذين تعودوا على التحديد من دراستهم الطبية دون تنمية القدرات الأخرى لفهم الإنسان كإنسان له أبعاده العميقة دون تدريب خيالهم على الامتداد ولو للتوقى، بمعنى أن تشخيص الكامن ربما يتيح لنا الفرصة ألا يظهر أصلاً، فتكون الوقاية.
لم أكن أستطيع أن أتصور أبدا أنه يمكن تجزئة الانسان إلى قطع فاسدة وأخرى سليمة، ثم نجمع القطع الفاسدة بجوار بعضها البعض والقطع السليمة بجوار بعضها البعض، ثم نجمع القطع الفاسدة معا ونشكلها كما يسمح نرتبها أو معلوماتنا الظاهرة، ثم نطلق عليها اسم “كذا” فيكون هذا هو التشخيص، ويهدأ توترنا بعد أن نصل إلى غاية المراد من رب العباد… !!، كان ذلك يؤرقنى وقد يبعدنى قليلا أو كثيرا عن المريض.
كان منظرنا ونحن نعقد الاجتماعات العلمية لفحص حالة معا، ومناقشتها لمحاولة الاتفاق على تشخيص، من ثَمّ العلاج، يشعرنى أحيانا أننا فى ساحة محكمة، وأن وكيل النيابة “الزميل الذى يقدم الحالة” يقرأ اعترافات المتهم (المريض)، وتتضخم الصورة فى خيالى، فأزيد عليها من الرتوش ما يجسمها مسرحية قضائية لا ترتبط بالعلاج والهدف من اجتماعنا إلا بأربطة واهية باهتة.
وأفيق من خيالى، وأعترف أن ما يحدث فى العلاج الفعلى كان يسير فى اتجاه طيب بالرغم من التشخيص، وليس بسببه غالبا إذن لماذا التشخيص؟
(2) المؤتمر:
فى المؤتمر الذى عقد فى إبريل 1989 قدمت نقدى لآخر تشخيص أمريكى (حتى ذلك الحين) DSM III، وأثناء المناقشة بعد الورقة قام زميل مصرى طيب تعلم جدا فى “بلاد بَرّه” يدافع عن هذا التقسيم مجيبا على السؤال المحورى الذى أوردته فى ورقتى “لماذا التشخيص من مصدر واحد بكل هذا الالتزام الحرفي؟ قال الزميل ما موجزه إن ذلك يتم لأسباب قانونية أساسا يحتمى بها الطبيب من أية مشاكل مستقبلية فى القضاء، فالطبيب مادام يمشى على نظام الحكومة (التشخيصية) ويتبع الدليل المتفق عليه، حتى لو كان ذلك على حساب المريض، فالقانون يحميه، احترمته طبعا احتراما حقيقيا، وعذرته، ثم حمدت الله فى سرى على تخلفنا وتذكرت بكل عرفان واحترام ثقة مرضانا فى أطبائنا، تلك الثقة التى تتيح لنا حتى الآن أن نساعدهم أعمق وأسرع دون تدخل المحامين أو شركات التأمين أو الحكومة التشخيصية لصالح شركات الدواء غالبا، فعندنا يتم التعاقد مع المريض على مستويات متعددة أقلها ظاهر وقانونىّ، وأغلبها عميق وأخلاقى ودينى، فيقفز إلينا هدف العلاج أولا، وربما أخيرا من خلال الخبرة.
لم أكن وحدى فى هذا الموقف، فقد بلغ الأمر بزميل عالم، أستاذى أيضا، هو أ.د. محمود سامى عبد الجواد، أنه كان يشخص الحالة أحيانا بعلاجها، يعنى يقول هذه “هستيريا عادية” وتلك “هستيريا ستيلازينية”(4) أى التى تعالج بعقار اسمه ستيلازين مثلا، وكان يقولها صادقا متفكها معا، فتعلمت منه أنه يقصد هذا النوع من الهستيريا الذى هو أقرب إلى الذهان، آخذا فى الاعتبار الشخصية قبل المرض والتاريخ العائلى والأداء السابق… الخ.
ثم كم فرحت حين قرأت مؤخرا (لاحظ التاريخ) 1990 فى المجلة البريطانية للأمراض النفسية، بحثا جمع فيه الباحث عددا من الأمراض التى تستجيب لعلاج مضادات الاكتئاب، وبدلا من أن يقول أن هذه الأمراض هى نوع مكافئ للاكتئاب، قال إن هذه الأمراض تمثل “طيفا ما” من الأمراض، وأن ما يجمعها هو أنها تستجيب لنفس العلاج(5)، دون حتمية أن تكون اكتئابا، وهذا قريب من رأى زميلنا هذا الذى كان يصنف أمراضه باستجابتها لعقار بذاته، وكلنا نفعل ذلك رضينا أم لم نرض(6)
الخلاصة مؤقتا:
من كل ذلك أخلص إلى القول أن مجرد وضع لافتة التشخيص هو إجراء قاصر -غالبا- عن توجيه العلاج، وعموما – والحمد لله- فإن العلاج عادة يسير حسب “حيثيات الحكم” وليس حسب منطوقه،
إذن:.. ما جدوى التشخيص؟
الشهادة لله أننى – برغم كل ذلك- كنت أخسر المعارك الكلامية فى تشخيص ما هو “كامن” لأنه “كامن” ولأننا ليس عندنا القدرة على رؤية هذا الكمون، ولكن خسارتى للمعارك الكلامية شبه العلمية لم تغير نظرتى أبدا لمن هو الإنسان، ولا هزت إحساسى بنوع معاناته وعمق مشكلته.. كنت أحس بها أعمق من مجرد القلق الصراعى، ومحاولة التغلب عليه، كنت أحس أن هذا الاضطراب الكامن يتعلق بمشكلة نوع وجود المريض والأهم ما يتعلق باحتمالات اتجاه مسار نمو ذاته وليس فقط، بطريقة تكيفه، وكان كل الزملاء يتحدثون عن هذا الشعور الحائر بصورة أو بأخرى:
”هذه حالة قلق.. ولكن !!..” ”لابد من القول بأن هناك شيئا ما… أخطر” ”ما علينا إلا أن ننتظر،… ربما يتبين الأمر فيما بعد” إلى آخر هذه التعليقات الصادقة.
ضد الطب النفسى:
لعل أول من أشار إلى عدم أهمية التشخيص هو هنريك نيومانHenrich Neumann سنة 1860 الذى أعلن أن الطب النفسى لن يتقدم إلا بإلقاء كل التشخيصات جانبا، ثم ألمح إلى ذلك كارل ياسبرزKarl Jaspers، ثم تمثلت هذه الفكرة فى كثير من الأفكار الحديثة وخاصة من مدارس الظواهريين والوجوديين، مثل كتابات لانج Laing وكوبر Cooper القاسية الصريحة، وامتد هذا المدّ الثورى، أو شبه الثورى تحت عنوان “ضد الطب النفسي” Antipsychiatry فى محاولة: تحطيم هذا الصنم، وأعتقد أن كل من مارس الطب النفسى بأمانة اجتاحته رغبة فى يوم ما، خاصة فى البداية أن يحطم صنم التشخيص، ولكن التحطيم وحده لا يغنى شيئا بل قد يزيد الأمر تعقيدا، ما لم تسارع بتشكيل الجديد من الحطام.
بعد البريق الذى لوحت به هذه الحركة المضادة للطب النفسى فى الخمسينات وأوائل الستينات، انتهت نهاية تستحقها، لأنها تجاوزت الحدود فى إنكار التشخيص والمبالغة فى وضع اللوم على المجتمع والأسرة والسياسة، بل تمادت حتى إنكار العلاج الكيميائى والفيزيائى، بل إطلاق سراح المرضى الخطرين والمتدهورين.
وقد فرحت جزئيا بنهايتها لأن سلبياتها غلبت، لكنها كانت فرحة مشوبة بالحذر، مثل الفرحة بنهاية الاتحاد السوفيتى ، ليتركنا فى أيدى من لا يرحم من شركات الدواء فى الطب النفسى، وشركات السلاح والرفاهية متعددة الجنسيات فى مجالات السياسة والاقتصاد 1992)(7)
وأيضا فى البحث العلمى:
فى هذه المقدمة أنا لا أتناول الموضوع بأسلوب البحث العلمى وإنما بتاريخ تطور فكرى، وإن كانت هذه المشكلة قد مثلت شغلى الشاغل من أول ما بدأت التفكير فى شيء اسمه البحث العلمى، فقد كانت نفس المشكلة هى بعض موضوع رسالتى للحصول على درجة الدكتوراه فى الطب الباطنى فرع الأمراض النفسية، إذ كان الدافع الأساسى لاختيار موضوع البحث هو إزاحة الستار عن هذه الحالات الكامنة.
وكانت هناك طرق تساعد على التشخيص منها “التشخيص بالإثارة” أى أننا نثير الأعراض الكامنة ببعض العقاقير حتى تكتمل الرؤية، ومنها التشخيص بمساعدة “الأقيسة النفسية للشخصية”، وقد كان هذا هو بحثى فى الدكتوراه فى هذه المنطقة أملا فى الوصول الى حل، ولم أصل إلى حل.. بل زاد شكى وقلقى، فالاختبار الذى استعملته وهو اختبار الشخصية المتعدد الأوجهMMPI فشل أن يصبح مساعدا على التشخيص وذلك مع استعمال عقار مثير هو الميثامفتيامين، بل إن فشله قد ألجأ بعض المشتغلين به أن يحاولوا تصنيف الأمراض برموز من هذا الاختبار لتحل محل التشخيص، فبدل أن يقال فلان عنده المرض الفلانى مثلا يقال إن المريض فلانا رمزه كذا (29،7) مثلا… الخ.
خرجت من هذا البحث –بحث الدكتوراة- بعديد من علامات الاستفهام والجداول والأرقام التى لم أجد لها معنى يرضينى. لكن ما استفدته من هذه الخبرة هو أن المريض حين يتعرى بالعقار الذى كنت أستعمله للإثارة يصبح أقرب منى، وأوضح،… وبالتالى تتمرن حواسى على أن أفهم أكثر، كان هذا كل ما فى الأمر، أما نتائج هذا البحث فلم تقدم ولم تؤخر فى علمى شيئا (كما ذكرت) إلا أنى ازددت علما.. بجهلى..(8)
وحين بدأت الممارسة على نطاق أوسع لعدة سنوات فى عملى الخاص، وكنت أقابل شخصا مميزا أو فنانا ممن يتصادف أن يسألونى النصيحة، كنت أخجل وأتردد فى أن أضع له تشخيصا،وأحس أن هذا “وشم” سخيف لا يليق به، وإذا كنت قد رفضته للمريض العادى فقد كان رفضى أشد وأقوى بالنسبة لهذه الفئة.
ورغم هذا كله فقد كنت أفترض دائما أن النقص فى قدراتى أنا شخصيا لسبب أو لآخر.
فى الخارج:
مرت الأيام وقرأت ومارست وبحثت، ولم يشف غليلى شئ، فى هذا الصدد قلت لابد أن هذا النقص الذى أعانى منه هو لأنى لم أسافر “بلاد بره”، ولكن ها هو ذا أستاذى الأمين – الأستاذ الدكتور عبد العزيزعسكر- الذى سافر وصبر وصابر ما زال يمارس مثل حيرتى، ولكننى عدت أمنِّى نفسى أنه: ربما كان الحل ما زال فى بلاد بره..، وخاصة أن بعض زملائى الذين عادوا من بلاد الانجليز كانوا أكثر تحديدا – وإن كانوا أقل تجديدا – وبالتالى أكثر علما، وأقل حيرة.(9)
ثم سافرت فى مهمتى العلمية إلى فرنسا، وكان برنامجى لحسن الحظ برنامجا لبعض الوقت الأصلى فى الطب النفسى، فخصصت أغلب الوقت الحقيقى للاستكشاف المعرفى والتعرى الثقافى، وقد أمضيت أغلب فترات مهمتى فى مستشفى سانت آن (أكبر المستشفيات النفسية وسط باريس)، وكان أعظم ما فى هذه البلاد هو الحرية، ليس فى مظاهر الحياة فحسب، ولكن فى طريقة التفكير وأصالته، وتجلى ذلك عيانا بيانات فى هذا المستشفى بوضعه الجغرافى والتاريخى وسط باريس، فكان ملتقى المدارس النفسية والطب نفسية المختلفة، وكنت أحس أنى فى سوق عكاظ، يأتى كل صاحب مدرسة فى يوم محدد فى نفس القاعة أو ما يجاورها، ويأتى اليه مريدوه تطوعا، ويلقى وجهة نظره بحماس أو بتحيز أو بهجوم مضاد، “هو حر”، ثم فى اليوم التالى يأتى فى نفس المكان صاحب مدرسة أخرى بمريديه أيضا… وتتكرر القصة، وأهم ما وصلنى من ذلك هو أن هذه الحرية العلمية والحلقات الدراسية لم يكن لها ارتباط ببرنامج دراسى معين أو بامتحان يهدد، أو بشهادة تعطى أو تؤخذ أو حتى بالجامعة نفسها، فرغم وجود القسم الجامعى فى نفس هذا المستشفى الجامعى العام معا، إلا أن النشاط العلمى الحر كان أكثر غنى وأرحب ساحة من الاقتصار على الجامعة ونشاطها المحدود.
وكأن مشكلة التشخيص كانت تنتظرنى هناك، فقذ نظم لنا الأستاذ الدكتور ب يشو P.Pichot أستاذ كرسى علم النفس الإكلينيكى بكلية الطب جامعة باريس (وهو طبيب يمارس أساسا الطب النفسى من على كرسى علم النفس، لعدم وجود كراسى “كفاية”..، نفس القصة !!. ولكنه كان مهتما اهتماما خاصا بالأقيسة النفسية.. أقول نظم لنا- نحن الأجانب من العالم الثالث أساسا (وحتى اليابان كانوا يضعونها فى العالم الثالث.. حينذاك) محاضرات عن وجهة النظر الفرنسية فى تشخيص وتقسيم الأمراض النفسية، وكانت وجهة نظر حرة نسبيا، اقتنعت بكثير منها، ورفضت أكثر مما اقتنعت به، وكنت حين أناقش الأستاذ بيشو فى بعض التشخيصات التى لا يمكن الجزم بها إلا بعد شفاء المريض، وكأننا نعلن “تشخيص المريض بأثر رجعي” كان يخرج الهواء من بين شفتتيه على طريقة الفرنسيين ويرفع حاجبيه… و…فقط.
وكان أطيب ما فى هذه الحرية وأجمل ما فى هذا العالم هو الاعتراف بالقصور واحترامه، وبدأت أطمئن على أن قصورى ليس قصورا وجهلا شخصيا بحتا – وكان هناك من الاختلافات بين المدرسة الفرنسية (والأوربية عامة) والمدرسة الأنجلوسكسونية (الانجليز والأمريكان) ما يطمئننى إلى مشروعية حيرتى فى بعض النواحى، ولما كان تعليمى هو على الطريقة الانجليزية وطبعى أميل إلى الطباع الشرق أوسطية فقد وجدت عند الفرنسيين شيئا يخرجنى من قيود التشخيص المتحجر.
الأسلوبية فى التشخص:
وقد حاول الأستاذ بيشو ذو الاهتمامات الاحصائية والعقل المنظم بالحساب، أن يستخدم عقله الالكترونى ويتعمق فى مشكله التشخيص، فيقوم ببحوث بالمراسلة، إذ يرسل مجموعة من الأعراض إلى بضعة مئات من أطباء النفس فى أمريكا وفرنسا وألمانيا وغيرها، ويسألهم أسئلة محددة عن أى من هذه الأعراض تصف التشخيص الفلانى عندهم، ثم يحاول أن يربط بين استجابتهم مع بعضها البعض، وسمى ذلك “الأسلوبية فى التشخيص” (10) فى مختلف البلاد نسبة إلى أن التشخيصات ترجع الى أسلوب آلى محدد يحكمه تنظيم معين فى العقل، وقد خرج بنتائج عامة تشير الى أن الأطباء فى كل بلد يكادون يتفقون فى تجميع الأعراض فى مجموعات، ولكن اختلافهم هو فى الأسماء التى يطلقونها على كل مجموعة، وقد أفاد ذلك فى إمكان المقارنة بين مجموعات الأطباء فى البلاد المختلفة، فإذا قال طبيب أمريكى على مريض أن ما عنده هو “فصام ضلالى “Paranoid Schizophrenia فإن ذلك يعنى عند الفرنسى “مرض الضلال المزمن” Delire chronique وعند الألمانى “كذا”… وهكذا، وكأنه ينبغى أن توجد شفرة للترجمة من مجموعة لأخرى ومن بلد لآخر.
لم أكف عن التساؤلات، لأنه إذ كان ذلك كذلك.. فلماذا لا يتفقون؟ وهل يمثل هؤلاء الأطباء الذين أجرى عليهم البحث بالمراسلة مفاهيم الطب النفسى الحديث؟ وحتى لو كان تمثيلا للأغلبية.. فهل الأغلبية على صواب؟؟ وما شأن رأى الأقلية؟(11)
وحاولت أن أحضر المدارس الأخرى التحليلية وغير التحليلية لأهتدى فحضرت للأستاذ الدكتور “جاك لاكان”، ولم أفهم منه شيئا، ولم يكن هذا فقط بسبب اللغة، فالفرنسيون لا يفهمون منه شيئا أيضا أو هكذا قالوا لى، لكننى التقط منه ما يكفينى من حيث تجاوز التشخيص إلى عمق الوجود فى أزمة المرض(12)
كان لاكان يحضر مع مريديه الى سوق عكاظ (نفس المستشفي: سانت آن) بنفس الطريقة “العكاظية” التى أشرت إليها، لكنه والحمد لله لم يكن يتطرق إلى التشخيص، ربما، أوربما تطرق وأنا لم أفهم، لكننى عرفت من زميلى وصديقى د. رفيق حاتم أنه ” ضد الحرف” ، الحرف الذى شجبه النفرى حتى لو سمى علما، والذى اقتصر عليه الـ DSM III بشكل يمكن أن يشوه عقول الممارسين
ثم انتظمت عبر مشاهدات إكلينيكية تليفزيونية – فى فرنسا – فى عيادة تحليلية للأطفال والمراهقين مع الأستاذين الدكتورين دياتكين، و ليبوفيسى، وكنت مع هؤلاء وأولئك التحليلين أعجب أشد العجب من العمق الذى يصلون إليه فى فهم النفس، ونفس الأطفال بوجه خاص فى سوائهم ومرضهم، ووضعهم التشخيص جانبا، ولكننى كنت أمتلئ غيظا من الحظر الذى يمارسه أغلب هؤلاء التحليليين على الربط بين هذه الممارسات العميقة، وبين ما هو “بيولوجى” الذى هو محور فكرى جنبا إلى جنب مع موقفى المضاد لكل ما هو جزئى كيميائى بحت.
المهم، رحمتنى رحلتى إلى فرنسا من الشعور بالنقص واتهام عقلى بالقصور، وأحسست فى رحاب الحرية الفرنسية أنى أستطيع أن أرفض وأن أحتج وأن أفكر، وتيقنت من أن الفرنسيين والألمان كانوا دائما أصحاب أغلب الأفكار الأصيلة، حتى انتهت، مخطئا غالبا، إلى أن كثيرا من الانجليز، وأيضا بعض الأمريكان الذين أخرجوا شيئا جديدا فى فرعى وغيره كانوا من أصل ألمانى..
وشعرت بالسجن الذى نسجن أنفسنا خلفه ونحن نحبس فكرنا وراء أسوار المدرسة الانجليزية تعليما ومتابعة للبحث العلمى(13)
[1] – لا حظ أن هذا الكلام كان كتب سنة 1971، والإشارة هنا إلى الستينات، ومازال الأمر كذلك !!
[2] – Latent Psychosis
[3] – Latent Schizophrenia
[4] – نسبة إلى العقار الأفضل فى علاجها برغم أنه أساسا مضاد للذهان والهسيتريا لا تعد ضمن الذهان
[5]-Hudson، J. and Pope Jr. (1990) Affective Spectrum Disorder: Does Antidepressant Response Identify a Family of Disorders With a Common Pathophysiology Am.J. Psychiatry 147:2، 552-562.
[6] – قبل أن تظهر هيراركية الخوارزمية Algorhtlym ثم تموت فى مهدها
[7] – 2011 وربما مثل الرعب الذى نعيشه هذه الأيام أن تنتهى ثورات الربيع العربيى 2011 مثل هذه النهاية! فوضى غير خلاقة.
[8] – ثم بمرور الأيام ازددت احتراما لجهلى، ولتخلفى عن النشر، فأحيانا يكون الجهل وقاية من علم زائف، لعله هو علم الحرف الذى اقتطفته فى ورقتى الأخيرة عن التكامل من منظور إسلامى،والتى أشرت إليها فيما سبق، مستشهدا بالنفرى حين يقول:
فاخرج من الحرف تعلم علما لا ضد له وهو الربانى.
وتجهل جهلا لا ضد له وهو اليقين الحقيقى.
وقد فسرت الحرف على أنه العلم المختزل، reductionistic science واللغة الجامدة التى تكبل العقل لا التى تفتحه، أو هو الـDSM III كمثال)
[9] – فضل الجهل والحيرة
[10] – Stereotypy in Diagnosis
[11] – حضر بعد ذلك الأستاذ بيشو إلى مصر فى مؤتمر سنة 1978 وزرته بعدها فى باريس زيارة عابرة، ورأيت أنه هو أيضا قد تراجع بانتظام، وهو لم يكن متقدما أبدا بالمعنى الثورى، إلا أنه أبلغنى كذلك أن التقسيم الفرنسى الذى حصلت عليه مكتوبا على الآلة الكاتبة كمسودة لم يطبع أبدا، ولم ير النور مستقلا، مع أنه هو التقسيم الذى استعنت به فى إعداد مسودة التقسيم المصرى، DMPI سنة 71 -72 وأضاف بيشو أن الإغارة بالتقسيم الأمريكى قد انتشرت حتى اختفت الشخصية الفرنسية فى التشخيص.
بل إن الأمر ازداد ظلاما وتسليما بعد موت هنرى إى، وبعد مزيد من الأمركة ، والأسلوبية، حتى فى فرنسا، هذا ما بلغنى أيضا مؤخرا، ولا أعلم شيئا حاليا 2011 عن ما وصلت إليه ثورة الاستقلال الأوروبى فى فرعنا، وهل تواكبت مع ثورة الاقتصاد وثورة الرأسمالية الوطنية ضد المالية العولمية المالية
[12] – سافر أحد أصدقائى من طلبتى مؤخرا إلى فرنسا، وهو من الذين يجيدون الفرنسية مثل العربية (د.رفيق حاتم) وعمل فى فرنسا عامين، وعايش الانبهار بفكر لاكان، رغم عدم فهم الفرنسيين أنفسهم لمعظم ما يقول “لاكان” كما ذكرت، وأيضا ما يكتب، وكان من أغرب المصادفة أنه وجد نقط تشابه هائل بين طريقة تفكيرى وبين فكر “لاكان”، بغض النظر عن الاختلاف فى البعد البيولوجى لا التحليلى الذى أتمسك به، بل إن الأغرب من ذلك أن بعض الفرنسيين صنفونى – عن طريق صديقة مشتركة- بأننى ممثل مدرسة لاكان فى مصر، وأنا لم أقرأ حرفا عن لاكان، ولم أفهم حرفا مما قال فى المناسبتين اليتيمتين اللتين حضرتهما له فى مستشفى سانت آن، لكننى حين استمعت إلى زميلى د. حاتم وجدت لاكان فى شعرى أكثرمما وجدته فى أبحاثى العلمية، وخاصة فى أطروحته عن ” الشيء”،وعلاقة اللغة بالتواجد فى الواقع ،
مثلا: هذه القصيدة الذى أقتطف منها بدايتها هنا تقول نفس الشيء، وهى تؤكد علاقة اللغة، بالشيء غير المحقق، ونفى المعنى بمجرد أن يلبس الرمز …. الخ. وهى قصيدة من سلسلة رؤى بعنوان مقامات لم تنشر إلا فى موقعى إلكترونيا- وقد تفيد فى عرض قوة التقاء الفكر من مداخل معرفية متعدد، وأيضا من خلال ثقافات متعددة:
مفتتح القصيدة:
لا لم يــقــل بعد الذى لا يرتسم أبدا، لأن الرسم ضد الإسم، ضد الحرف، ضد العين: ضدالحق ، ضد الوجد سهما يغـــمد الجمل المفيدة فى الرمال الزاحفة.
[13] – (كل ذلك انتهى مع الإغارة الأمريكية المنظمة، لكنها نهاية إلى بداية، من يدرى، ولعل البداية تبدأ من هنا من مصر، الآن 1992 وليس بعد، نعم من الدول المتخلفة التى يمكن أن يكون تخلفها ميزة تثرى أهل التقدم وأدعياءه رغم أنفهم).