الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حكاية كتاب قديم لم يظهر (3) تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية (نقد ومراجعة): الحلقة الثالثة: تاريخ حيرتى مع فكرة “التشخيص”

حكاية كتاب قديم لم يظهر (3) تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية (نقد ومراجعة): الحلقة الثالثة: تاريخ حيرتى مع فكرة “التشخيص”

نشرة “الإنسان والتطور”

6-12-2011

السنة الخامسة

العدد: 1558

 

حكاية كتاب قديم لم يظهر (3)

تصنيف وتشخيص الأمراض النفسية

(نقد ومراجعة)

Nosology & Diagnosis in Psychiatry

Revision & Criticism

الحلقة الثالثة: تاريخ حيرتى مع فكرة “التشخيص”

استهلال (مكرر بعضه):

سوف أكرر فى كل حلقة أنه ليس كتابا ثنائى اللغة، وإنما محاولة تكامل بين لغتين ضرورتين فى هذه المرحلة من تطورنا. أنا أتجنب الترجمة، أو بتعبير أدق، أتجنب الاكتفاء بالترجمة طول الوقت، فى فرعنا خاصة لأسباب ذكرتها سابقا فى أكثر من موقع.

القسم العربى يشمل جرعة شخصية (ذاتية) تحكى تاريخ حيرتى مع التشخيص متدربا وممارسا ثم معلما، وهو أقرب إلى العنوان الفرعى “حكاية كتاب قديم لم يظهر”، وهو يركز على “الحيرة” التى هى أم الفروض فى العلم.

مقدمة (2):

‏1- ‏تعمّدت‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏جمعته‏ ‏هنا‏، ‏إلا‏ ‏قليلا‏، ‏سواء‏ ‏بالعربية‏ ‏أو‏ ‏بالإنجليزية‏، ‏قد‏ ‏سبقت‏ ‏كتابته‏، ‏ثم ‏أضيف‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يضاف‏ ‏فى أقل الحدود، وبتنظيم يميزه غالبا.

‏ 2- ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏أغلب‏ ‏ما‏ ‏جمعت من موضوعات محددة تتعلق بفئات تشخيصية أو مناهج تشخيصية محددة،‏ ‏قد‏ ‏نشر‏ ‏غالبا‏ ‏فى ‏افتتاحيات‏ ‏المجلة‏ ‏المصرية‏ ‏للطب‏ ‏النفسى ‏والمجلة‏ ‏العربية‏ ‏للطب‏ ‏النفسى.‏

‏3- ‏بدأت‏ ‏بترتيب‏ ‏المادة‏ ‏بشكل‏ ‏تاريخي‏: ‏الأقدم‏ ‏فالأحدث‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏بدا‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏غير‏ ‏متفق‏ مع ما ‏تعودنا‏ ‏تتبعه‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏تقسيم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏فأعدت‏ ‏التنظيم‏ ‏لأقرب‏ ‏ما‏ ‏اعتدنا‏ ‏عليه‏، ‏مع‏ ‏إثبا‏ ‏ت‏ ‏تاريخ‏ ‏النشر‏.‏

‏4- ‏تعمّدت‏ ‏ألا‏ ‏أحذف‏ ‏المكرر‏: ‏فمثلا‏ ‏بـُعد‏ “‏النشاط‏” ‏و”الاستتباب‏” ‏أثبته‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مرة‏، ربما لجدّته وأهميته ‏وحتى‏، يمكن للقارئ أن يتتبع‏ ‏بداية‏ ‏الأفكار‏ ‏وتطورها‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يسمح هذا المنهج‏ ‏بالتمكن‏ ‏من‏ ‏الإلمام‏ ‏بالجديد‏ ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏أسلوب‏ ‏تقديم‏.‏

‏5- ‏قمت‏ ‏بتعديل‏ ‏بعض‏ ‏التفاصيل‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏القليل‏ ‏بما‏ ‏قد يتيح‏ ‏بتكاملٍ ما‏ ‏بشكل‏ ‏محتمل‏.‏

‏6- ‏لما كنت‏ ‏أفكر‏ ‏بالعربية‏، ‏وأشكل‏ ‏بالعربية‏، ‏ثم‏ ‏أنطق‏ ‏أو‏ ‏أكتب‏ ‏بغيرها‏ ‏فضلت ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏الخطوط‏ ‏العامة‏ ‏لما‏ ‏ورد‏ ‏فى ‏هذا‏  ‏الكتاب‏ ‏بالانجليزية‏ ‏موجزا‏ ‏بالعربية‏، فى نهاية الجزء العربى‏، مع تكرار أنه ليس ترجمة، وبالتالى – مرة أخرى– ليس كتاباً ثنائى اللغة.

7- بعض المقتطفات بلغ عمرها أكثر من ثلاثين عاما، أما أغلب النص الحالى فقد كتب منذ عشرين عاما تقريبا 1992، وقد احتاج إلى تعديل بعض الصياغة فى أحيان قليلة، وتصحيح بعض الأخطاء أو إضافة بعض الكلمات.

8- بعض الإضافات طالت منى فأضفتها غالبا بهامش أكبر، وبنط أسود، وقد نشرت أيضا فى نشرات الإنسان والتطور التى تنشر يوميا بموقعى منذ خمس سنوات حتى الآن (2011).

قبل الفصْل الأول: ضرورة ولكن..!

 ‏الأفكار والافتراضات‏ ‏الأساسية‏:‏

‏1- ‏التشخيص‏ ‏ضرورى‏، ‏ولا‏ ‏غنى ‏عنه‏ ‏وإلا‏ ‏اختلط‏ ‏كل‏ ‏شيء‏ ‏بكل‏ ‏شيء‏.‏

‏2- ‏اللغة‏ ‏العامة‏ وهى المبرر الأول لضرورة التشخيص لازمة‏، ‏لكن‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الحرص‏ ‏عليها‏ ‏على ‏حساب‏ ‏تشويه‏ ‏الحقيقة‏ ‏الموضوعية‏ ‏وإغفال‏ ‏الهدف‏ ‏العام‏ والخاص وهو العلاج، وليس بالضرورة الأرشفة للإحصاء، أو التقييم الكمى للبحث العلمى.

‏3- ‏كل‏ ‏حرفة‏ ‏فى ‏الدنيا‏، ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مهارة‏ ‏خاصة‏، ‏وتشخيص‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏حرفة‏ ‏وفن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى، ‏وبالتالى ‏هو‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تدريب‏ ‏خاص‏ ‏ومهارة‏ ‏خاصة‏.‏

‏4- ‏إن‏ ‏الأسهل‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الأسلم‏.‏

‏5- ‏إن‏ ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏التشخيص‏ ‏يختلف‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏لآخر‏، ومن موقف لآخر، ‏فتشخيص‏ ‏للعلاج‏ ‏هو‏ ‏شيء‏، ‏وتشخيص‏ ‏لعمل‏ ‏بحث‏ ‏علمى ‏بذاته‏ ‏هو‏ ‏شيء‏ ‏آخر‏، وتشخيص لكتابة تقرير عن متهم لتقديمه لمحكمة هو شئ ثالث، وهكذا.

‏6- ‏إن‏ ‏عدم‏ ‏انتشار‏ ‏استعمال‏ ‏الدليل‏ ‏التشخيصى ‏المصرى ‏بالدرجة‏ ‏الكافية ‏DMPI، ‏لا‏ ‏ينقص‏ ‏من‏ ‏قدرته‏ ‏وقيمته‏، ‏بل‏ ‏يعلن‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏شعور‏ ‏أغلبنا‏ ‏بالنقص‏، ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏قصور‏ ‏هذا‏ ‏النظام‏ ‏وحاجته‏ ‏إلى ‏المراجعة‏ ‏والتعديل(1)‏.‏

‏7- ‏إن‏ ‏للتشخيص‏-‏عامة‏- ‏مستويات‏ ‏لا‏ ‏يغنى ‏أحدها‏ ‏عن‏ ‏الآخر‏، ‏بل‏ ‏عادة‏ ‏يكمل‏ ‏ويفسر‏ ‏أحدها‏ ‏الآخر‏.‏

‏8- ‏إن‏ ‏كل‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏هذه‏ ‏المستويات‏ ‏يحتاج‏ ‏لمهارة‏ ‏خاصّة‏ ‏به‏، ‏والمستوى ‏الذى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يتفق‏ ‏عليه‏ ‏أكبر‏ ‏عدد‏ ‏من‏ ‏المشخصين‏ (‏مثل‏ ‏المستوى ‏السلوكى، ‏ذى ‏المحكات‏ ‏المعرَّفة‏ ‏بلغة‏ ‏واضحة‏) ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏هو‏ ‏المستوى ‏الألزم‏ ‏لمريض‏ ‏بذاته‏ ‏فى ‏ظرف‏ ‏بذاته‏، لتحقيق الهدف من التشخيص المحدد، سواء كان العلاج، أو التقييم القانونى أو البحث العلمى أو غير ذلك، وبالذات لا يرتبط بشكل عملى مسئول بعلاج المريض ذى التشخيص المعنى، كما يلوح عن بعد، مع التذكرة بأن العلاج فالوقاية هما مهمة الطبيب الأولى.

‏9- ‏إن الحرص الشديد على توحيد المعنى ينسينا أن‏ ‏الاختلاف‏ ‏بين‏ ‏المشخصين‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏إضرارا‏ ‏بالمريض‏ ‏أو‏ ‏بلبلة‏ ‏فى ‏الفكر‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الفاحص‏ ‏يرى ‏ما‏ ‏يستطيع‏ ‏من‏ ‏الزاوية‏ ‏التى ‏حذقها‏، ‏والتى ‏أتاح‏ ‏له‏ ‏تركيبه‏ ‏الرؤية‏ ‏من‏ ‏خلالها‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏فاحصا‏ ‏آخر‏ ‏قد‏ ‏يرى ‏رأيا‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏زاوية‏ ‏أخرى‏، ‏والمشخص‏ ‏يشخص‏ ‏نفسه‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يشخص‏ ‏مريضه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏. ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يعيب‏ ‏أيا‏ ‏منهما‏ ‏بل‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏يتكامل‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏مع‏ ‏الآخر‏، ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏ذلك‏.‏

‏10- ‏إن‏ ‏انبهارنا‏ ‏بتشخيص‏ ‏محكم‏، ‏يسهل‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتفق‏ ‏على ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏فيه‏، لكن هذا ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو الإجراء‏ ‏المناسب‏ ‏فى المقام الأول، بمعنى أنه لا فائدة أكيدة فى المقام الأول يشير‏ ‏إلى ‏شيء‏ ‏ذى ‏دلالة‏ ‏خاصة لها‏.‏

وهذا هو المأخذ الأساسى على التشخيص الأمريكى الثالث، فالرابع، وهو ارتفاع معامل الثبات(2) مع ضعف المصداقية(3) (وسوف نفرد لذلك مبحثا كافيا فى حينه، لكن موجز الموقف يقول: إننا بذلك نفرح بالاتفاق على اسم صندوق لا نعرف محتواه.

التوقف المشروع عن مواصلة المحاولة:

مع شكرى البالغ لكل من أبدى استعداده للاسهام فى تحديث دليل التشخيص المصرى، العربى، واحترامى لكل الجهود التى بذلت والتى يمكن أن تبذل فى هذا الصدد أود أن أعلن أننى فى هذه المرحلة لا أطمع بالضرورة فى اتفاق عام مفيد، فاكتفيت الآن بتقديم هذه الافتراضات والأفكار ربما تقوم أساسا بدعوة لتنمية التفكير والسلوك الهادف النابع من تحمل مسئولية الكلمة (التشخيص ليس إلا كلمة مسئولة،

 وقد‏ ‏يكون‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏كل‏ ‏ممارس‏ ‏عند‏ ‏المستوى ‏الذى ‏يسمح‏ ‏له‏ ‏تدريبه‏ ‏وخبرته‏ ‏وسماته‏ ‏الشخصية‏ ‏به‏، ‏فإذا‏ ‏ما‏ ‏تغير‏ ‏أى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏خبرته‏، ‏فلينتقل‏ ‏إلى ‏المستوى ‏الأنسب‏ ‏التالى ‏وهكذا‏، ‏دون‏ ‏أن‏ ‏ينتقص‏ ‏ذلك‏ ‏منه‏ ‏شيئا‏، ‏ودون‏ ‏أن‏ ‏ينتقص‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏غيره‏ ‏شيئا‏.‏

الفصْل الأول:

مقتطفات من أراء باكرة (جدا)

‏1- ‏بعض‏ ‏فصل‏ ‏بعنوان‏ ” ‏الوشم‏ ‏بالتشخيص‏” ‏ورد‏ ‏فى ‏كتابى “‏حيرة‏ ‏طبيب‏ ‏نفسي‏” ‏كتبته‏ ‏ونشر‏ ‏منذ‏ ‏أربعين‏ ‏سنة‏ ( 1972).‏

‏2-‏ جزء‏ ‏من‏ ‏فصل‏ ” ‏الخاتمة‏” ‏فى ‏كتابى ” ‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى (1979)‏

منذ‏ ‏بدأ‏ ‏اشتغالى ‏بهذا‏ ‏الفرع‏ ‏من‏ ‏الطب‏، ‏وأنا‏ ‏أجدنى ‏أتعلق‏ ‏بالإنسان‏ ‏المريض‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏الغوص‏ ‏فى ‏أعراضه‏، ‏أفهمه‏ ‏وأساعده‏ ‏وأحبه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏ألزم‏ ‏نفسى -‏ابتداء‏- ‏بتسمية‏ ‏ما‏ ‏يعانى ‏أسماء‏ ‏خاصة‏، ‏ولكنى ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏ ‏كنت‏ ‏أضطر‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏الروتين‏ ‏مرة‏، ‏ومن‏ ‏باب‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الرؤساء‏ ‏مرة‏، ‏ومن‏ ‏أجل‏ ‏ملء‏ ‏الخانات‏ ‏لتغذية‏ ‏الوحش‏ ‏الإحصائى ‏مرة‏ ‏ثالثة‏، ‏وكان‏ ‏ذلك‏ ‏يحدد‏ ‏الأمور‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏..‏

وتصير‏ ‏لغة‏..‏

ولكن‏ – ‏للأمانة‏ – ‏أقر‏ ‏وأعترف‏ ‏أننى ‏أعتبر‏ ‏نفسى ‏ضعيفا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المجال‏ ‏جدا‏، ‏وحتى ‏الآن(4)

كنت‏ ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الأحيان‏ ‏أن‏ ‏أترجم‏ ‏أقوال‏ ‏المريض‏ ‏ومشاعره‏ ‏إلى ‏أعراض‏، ‏ولعلمى ‏بنقطة‏ ‏ضعفى هذه‏ ‏حاولت‏، ‏فى ‏عملى ‏الخاص‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏. ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏فى ‏ورقة‏ ‏المشاهدة‏ ‏الخاصة‏ ‏بالمرضى ‏هامشا‏ ‏طوليا‏ ‏بجوار‏ ‏الكلام‏ ‏الذى ‏أكتبه‏ ‏من‏ ‏المريض‏ ‏مسترسلا‏، ‏حتى ‏أعود‏ ‏فأترجم‏ ‏فى ‏الهامش‏ ‏ما‏ ‏عجزت‏ ‏أن‏ ‏أترجمه‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏الفحص‏، ‏لكن‏ ‏الهامش‏ ‏ظل‏ ‏أبيضا‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏سوء‏ ‏فى ‏غالب‏ ‏أوراقى.‏

‏ ‏وقد‏ ‏حسبت‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏جميعه‏ ‏نقص‏ ‏فى ‏مرانى ‏أو‏ ‏خبرتى ‏وقد‏ ‏كانت‏ ‏ناقصه‏ ‏فعلا‏.. ‏وما‏ ‏زالت‏، ‏ولكننى ‏استمررت‏ ‏فى ‏ممارسة‏ ‏المهنة‏ ‏بنجاح‏ ‏نسبى – ‏حتى ‏تاريخه‏ ‏على ‏الأقل‏ – ‏وكانت‏ ‏مشكلة‏ ‏تحديد‏ ‏الأعراض‏ ‏تزداد‏ ‏معى ‏لا‏ ‏تنقص‏.‏

وصاحبتْ‏ ‏مشكلة‏ ‏تحديد‏ ‏الأعراض‏ ‏مشكلة‏ ‏ألعن‏ ‏هى ‏تجميع‏ ‏الأعراض‏ ‏فى تشكيلات تسمى “‏أمراضا‏”.‏

كان‏ ‏أستادى ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏عسكر‏ ‏يعلمنا‏ ‏صغارا‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏نشخص‏ ‏المريض تشخيصا نهائيا‏ ‏عند‏ ‏الدخول‏ ‏إلى ‏المستشفى ‏وإنما‏ ‏عند‏ ‏الخروج‏، ‏أو‏ ‏حتى ‏بعد‏ ‏الخروج‏ ‏أو‏ ‏حتى.. ‏أبدا‏، ‏وأن‏ ‏تغيير‏ ‏التشخيص‏ مرة ومرات أثناء تواجده فى المستشفى أو بعد إعادة الفحص ‏ليس‏ ‏عيبا‏ ‏لفرعنا‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏هو‏ ‏ميزة‏ ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏الانسان‏ – ‏سليما‏ ‏كان‏ ‏أم‏ ‏مريضا‏ – ‏هو‏ ‏كيان‏ ‏متغير‏ ‏باستمرار‏، ‏وقد‏ ‏كنت‏ ‏أشك‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏أستاذى ‏يطيب‏ ‏خاطرى ‏ويهون‏ ‏علىّ أخطائى ‏حتى ‏لا‏ ‏يفجعنى ‏فى ‏تشخيص‏ ‏بَعُدَ عن الصواب‏… ‏ولكنى ‏بعد‏ ‏أو‏ ‏واصلت‏ ‏السعى ‏قرابة‏ ‏عشرين‏ ‏سنة‏ ‏أيقنت‏ ‏صدق‏ ‏نصيحة‏ ‏أستاذي

ويكفى ‏أن‏ ‏نعلم‏ ‏أيضا‏ ‏أنه‏ ‏ثبت‏ ‏أن‏ ‏¼ ‏الحالات‏ ‏التى ‏تتردد‏ ‏على ‏العيادة‏ ‏النفسية‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مراكز‏ ‏العالم‏ ‏تحمل‏ ‏تشخيص‏ “‏ماليس‏ ‏كذلك‏” ‏يعنى “‏مرض‏ ‏نفسى ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏مشخص‏”، ‏ونحن‏ ‏لا‏ ‏نستعمل‏ ‏هذا‏ ‏التصنيف‏ ‏بنفس‏ ‏الشجاعة‏ ‏ونفس‏ ‏النسبة‏، ‏ربما‏ ‏لأننا‏ ‏أكثر‏ ‏علما‏ ‏وأكثر‏ ‏دقة‏(!!)‏

‏(كان‏ ‏شرف‏ ‏الجهل‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏سنة‏ 1972، ‏لكن‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏أختفى ‏أيضا‏ ‏الآن‏ ‏سنة‏ 1992، ‏فأصبحنا‏ ‏على ‏يقين‏ ‏جدا‏ ‏جد‏ا ‏مما‏ ‏لا‏ ‏نعرف‏ ‏له‏ ‏معنى، ‏لكننا‏: ‏الأطباء‏ ‏النفسيين‏ ‏متفقون‏ ‏تماما‏ ‏على وضع ‏اسم ‏واضح‏، ‏وسهل‏ له، ‏لأنه واضح لنا وسهل نطقه‏).‏

أنا‏ ‏عندى “‏ايه‏” ‏يا‏ ‏دكتور؟‏:‏

وكانت‏ ‏مشكلة‏ ‏التشخيص‏ ‏تلح‏ ‏على ‏بحدة‏ ‏أكثر‏ ‏أثناء‏ ‏المحاورة‏ ‏مع‏ ‏الأصدقاء‏ ‏المرضى ‏حين‏ ‏يسألنى ‏أحدهم‏ “‏أنا‏ ‏عندى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏دكتور؟‏” ‏وأحتار‏ ‏فى ‏الرد‏ ويتكرر هذا السؤال من الأهل وبحدة أكثر قلقا، وحين أعتذر جهلا أو أؤجل أمانة وعلاجا، ‏يظن‏ المريض عادة (وكذلك الأهل غالبا) ‏أننى ‏أخفى ‏الاسم‏ ‏لأن‏ ‏ما‏ ‏عنده‏ ‏مرض‏ ‏خطير‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شىء‏، ‏وأجدنى ‏أقول‏ “‏أنت‏ ‏انسان‏ ‏تعانى… ‏أما‏ ‏الأسماء‏ ‏فلن‏ ‏تقدم‏ ‏وقد‏ ‏تؤخر‏”(5)، وأقول أحيانا للأم، بطيبة “ماذا ستفعلين بالاسم، هل ستعلقين لافتة على جبهة ابنك، دعينا نبحث سويا ماذا يمكن عمله لابنك أولا”

وفى ‏مرة‏ ‏جاءنى ‏صديق‏ ‏صاحبته‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏سنوات‏، ‏ثم‏ ‏حدثت‏ ‏بيننا‏ ‏فرقة‏ ‏مؤقتة‏ ‏فى ‏المكان‏ ‏والعلاقة‏، ‏وبدأ‏ ‏يرعاه‏ ‏زميل‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏مكان‏ ‏بعيد‏ ‏عنى، ‏جاءنى ‏هذا‏ ‏الصديق‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏يوم‏ ‏ما‏ ‏يطلب‏ ‏تقريرا‏ ‏عن‏ ‏حالته‏; ‏واحترت‏، ‏ماذا‏ ‏أكتب‏ ‏له‏، ‏وماذا‏ ‏سيفهم‏ ‏زميلنا البعيد‏ ‏من‏ ‏رحلتى ‏مع‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏معا‏ ‏طوال‏ ‏سنوات‏ ‏إذا‏ ‏كتبت‏ ‏له‏ ‏عدة‏ ‏سطور‏ ‏أو‏ ‏ألفاظ‏ ‏معدودة؟‏ ‏هل‏ ‏أكتب‏ ‏له‏ ‏تشخيصا‏ ‏يرجع‏ ‏اليه‏ ‏فى ‏كتبه‏ ‏ليعرف مريضنا‏ ‏أكثر‏ ‏أم‏ ‏يجهّله‏ به ‏أكثر؟

ثم‏ ‏وجهت‏ ‏كلامى لهذا ‏المريض‏ قائلا: ‏هأنتذا‏ ‏أمامه‏ ‏فليتعرف‏ ‏عليك‏ ‏بنفسه‏، ‏أنا‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏بالنسبة‏ ‏لك‏ ‏لا‏ ‏تشخيصا‏ ‏ولا‏ ‏إسما‏ ‏غير‏ ‏إسمك‏، ‏بل‏ ‏حتى ‏إسمك‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏ما نريد‏، ‏فلنحدد‏ ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏التقرير‏ ‏ثم‏ ‏نتفاهم‏; ومع‏ ‏ذلك‏، ‏ولأسباب‏ ‏مهنية‏ ‏وأدبية‏، ولأننى أعرف زميلى هذا طالب علم طيب يعرف لغتى الخاصة ‏وجدتنى‏ ‏أكتب‏ ‏تقريرا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏نصه‏:‏

‏ “‏فلان‏ ‏إنسان‏ ‏يعانى…. ‏وهو‏ ‏يقاوم‏ ‏الموت‏ ‏والضياع‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏أوتى ‏الانسان‏ ‏من‏ ‏خير‏ ‏وشر‏” ‏

واعتبرت‏ ‏ذلك‏ ‏تشخيصه‏ ‏فعلا‏..، ‏وأخذت‏ ‏أتساءل‏ ‏ماذا‏ ‏تنفع‏ ‏التشخيصات‏ ‏إذا‏ ‏وصلت‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏المريض‏ ‏والطبيب‏ ‏هذه‏ ‏الدرجة‏ ‏من‏ ‏الفهم؟(6)

‏‏تبينت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المشكلة‏ ‏يعانى ‏منها‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏زملائى ‏الذين‏ ‏يمارسون‏ ‏ويتدربون‏ ‏على ‏العلاج‏ النفسى ‏الجمعى خاصة ‏معى، ‏فكلما‏ ‏ازدادت‏ ‏معرفتنا‏ ‏بمرضانا‏ ‏صعب‏ ‏التشخيص‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏)‏(7)

‏ ‏وهذا‏ ‏السؤال‏ “‏أنا‏ ‏عندى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏دكتور؟‏” ‏سؤال‏ ‏له‏ ‏مبرراته‏ ‏فى ‏المعاملات‏ ‏الرسمية‏ ‏والتقارير‏، ‏ولكنه‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏له‏ ‏مضاعفاته‏ ‏فى ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏فبالإضافة لما ذكرنا حالا من غلبة احتمال اليأس لو ذكرنا اسما لمرض سىء السمعة، مع أنه فى مرحلة باكرة يمكن علاجها، أو لاحتمالات سوء استعمال العلاج الذاتى العشوائى من النت أو الفتاوى الإعلامية أو الشعبية، قد يضع المريض التشخيص (اسم المرض) حاجزا ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الطبيب‏ ‏يحتمى ‏وراءه‏ ‏من‏ ‏الشفاء‏، و‏كأنه‏ ‏خلع‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏مسئولية‏ العودة إلى ‏الحياة‏ ‏السليمة‏ التى تتطلب مشاركته وجهده طول الوقت.

****

‏ ‏صاحبتنى‏ – ‏مشكلة‏ ‏التشخيص‏- ‏منذ‏ ‏أول‏ ‏ممارستى ‏لهذه‏ ‏المهنة‏، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏الذى ‏غذاها‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏هو‏ ‏صدق‏ ‏أستاذى ‏الدكتور‏ ‏عبد‏ ‏العزيز‏ ‏عسكر‏ ‏وعلمه‏، ‏فكم‏ ‏من‏ ‏مناسبة‏ ‏كان‏ ‏يقف‏ ‏فيها‏ ‏محتارا‏ ‏أمام‏ ‏مريض‏ ‏ما‏، ‏يقول‏ “‏ربما‏”، “‏أنا أشعر أن‏ ‏هذا‏ ‏القلق‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ “‏قلق‏” ‏أو‏ “‏ربما‏ ‏أخفى ‏هذا‏ “‏الاكتئاب‏ ‏وراءه‏ ‏فصاما‏، ‏وكانت‏ “‏ربما‏” ‏هذه‏ ‏تطمئنى ‏إلى ‏درجة‏ ‏الصدق‏ ‏الذى ‏أسمعه منه، ‏لكنها‏ ‏تؤرقنى ‏مع‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التساؤلات‏ ‏التى ‏تدور‏ ‏فى ‏عقلى، وتلوّح لى بجهلى.

[1] – ‏(‏وقد‏ ‏أوردت‏ ‏مراجعة‏ ‏لاستعمال‏ ‏هذا‏ ‏الدليل‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏خلال‏ ‏العقدين‏ ‏الأخيرين‏ The fate of the DMP I ‏فى ‏الجزء‏ ‏الأول‏ ‏من‏ ‏الفرض‏ ‏بالإنجليزية؟‏  ‏تحت نفس‏ ‏العنوان)

[2] – Relialrity

[3] – Vavlidity

[4] – الآن هو تاريخ كتابة هذا الكتاب سنة 1971 وقد نشر سنة 1972، (‏ذلك‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏يقظة‏ ‏وعيى ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏المهارة‏ ‏الأستاذية‏، ‏فقد‏ ‏حذقت‏ ‏الترجمة‏ ‏للغة‏ ‏لا‏ ‏أحبها‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏أعلمه‏ ‏لطلبتى: البدء بالمعرفة، ثم الترجمة لمن تصلح له الترجمة إلى مصطلحات وألفاظ).

[5] – تحدث مضاعفات تعيق العلاج حين يأخذ المريض اسم مرضه ويتذكر بعض خبرات مع حالات متدهورة من معارفه أو أقاربه، أو يتذكر بعض قراءات مسطحة فى هذه الصحيفة أو تلك المجلة، ويصاب بيأس معطل أو بتوهم أو تناول علاجات غير مناسبة… الخ.

[6] – ‏‏للأمانة‏ ‏تدهورت‏ ‏حالة‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏الصديق‏ ‏تماما‏، ‏وآخر‏ ‏مرة‏ ‏التقيت‏ ‏به‏ ‏منذ‏ ‏أكثرمن‏ ‏خمس‏ ‏سنوات‏ ‏خيل‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏يتسول‏ ‏حول‏ ‏العيادة‏.‏

[7] – وفى الإشراف على العلاج النفسى أعلم الممارسين كيف ينسون التشخيص ومتى يرجعون إليه. أنظر سلسلة مثلانشرة 1-2-2009:  8-2-2009  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *