“يوميا” الإنسان والتطور
14-12-2007
العدد: 105
حوار بريد الجمعة
حـوار بلا ترتيب
على مدى ربع قرن!! بين ابن وأبيه!
اعتذار:
اعتذر لبقية المتحاورين، ليس بالضرورة لأسباب عائلية، ولكن لتقديم هذا الملف متكاملا، لعل وعسى، ثم إننى أنصح أن يطبع ويقرأ على الورق، لست أدرى لماذا، وأنتظر التعليق، فعلاً.
تمهيد
الذى حدث أننى أجلت ردى على د. محمد يحيى الرخاوى (تصادف أنه إبنى) فى حوار الجمعة الماضى، واعداً إياه أن أحاوره هذا الأسبوع هو ود. كريم، وما تيسر مما أجلناه من فيض الابن رامى عادل وطلاقته، ثم إنى اعتذرت لمحمد بأن أودعت مقاله (تعقيبه) فى ملف “المحررون الضيوف” الملحق بالنشرة” دون نقاش حتى الآن.
هذا الصباح قلت: آن الآوان أن أرد اليوم.
* طبعتُ مقال محمد وأعدت قراءته
* طبعتُ معظم المقالات المتعلقة بالموضوع التى ظهرت فى اليومية فى الشهر الأخير.
* وجدتنى قد أشرت إلى مقالى القديم الذى نشرته فى الإنسان والتطور بعنوان “الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى”، وهو المقال الذى أشير إليه دائما كلما عاودت الكتابة فى هذا الموضوع.
* قرأت معظم التعليقات التى رحبت بتعليق محمد، وبعضها كاد يصفق له مثل د. كريم شوقى، د. أسامة عرفه، أ. رامى عادل، يبدو أنهم فرحوا أن ابنى ينكشنى، وينقدنى، وينبهنى، وكلام من هذا.
فجأة وجدت نفسى أمام حوار من نوع آخر، تميز بما يلى:
(1) مقالات بأكملها تناقش نفس الفكرة.
(2) الزمن بين أول مقال وآخر مقال أكثر من ربع قرن.
(3) كان عمرى أيام كتبت المقال الأول 47 سنة وشهران عدد أكتوبر 1981، وعمر محمد الآن :46 سنة إلا شهرين.
(4) عثرت على مقال لمحمد كتبه فى نفس السنة التى كتبت فيها مقالى الأول، وتعجبت أنه مرتبط بموضوع متداخل مع موضوع التعدد وكان عنوانه “حول طبيعة المعرفة“: المواجهة بين الفطرة والتعلم” نشر فى عدد يناير 1982
(5) رجعت إلى يومية 26/11/2007 بعنوان “القشرة والفطرة والتعدد والواحدية“ فوجدت ما يوازى مقال محمد (كان بعد طالبا جامعيا فى السنة الثالثة كلية الأداب) عن الفطرة والتعليم، وقدم فيه منظومتيه اللتين اسماهما أنذاك “المنظومة الفطرية“، “المنظومة المكتسبة“، ليخرج من تفاعلهما ما اسماه “المنظومة التطورية“.
(6) عثرت على فقرة مهمة – مضيئة – فى مقال “تعدد الكيانات وحركية الإبداع“.
ونظرت فى كل ذلك معاً، فقررت أن أجعل حوار اليوم – مهما طال – “حوار مقالات“، بفروق زمنية وفكرية بين الأجيال، وبين المقالات، فروق تتراوح بين عشرين وثلاثين عاما تقريبا. رأيت أن لها دلالتها وأهميتها.
تردد وتساؤلات
بعد كل ذلك غمرتنى أسئلة لم أستطع الإجابة على أغلبها مثل:
1- هل هناك فائدة فى هذا الحوار المقالاتى أم انها منظرة عائلية؟
2- هل هناك وجه شبه بين ما كتب باكرا وما كتب لاحقا؟ وهل وجود وجه الشبه يدل على الجمود؟ أم على وضوح الرؤية؟
3- هل ثم مجال لمقارنة منهجية بين هذه الأبعاد بهذا الفارق الزمنى؟
4- هل القضية التى طرحت هكذا – وغير هكذا – لها مكان حاليا فى تطورنا العملى والفكرى والحضارى؟ أم هى لعبة استعراض عضلات المخ؟
5- هل ثم مجال لإسهام آخرين فى هذا الحوار
قبل أن أوضح نظام تقديم حوار اليوم، أود أن اعترف بالفضل لهذه المجلة –الإنسان والتطور- التى ظهرت بالصدفة منذ ربع قرن، ولم تكن توزع إلا بضع مئات كل ثلاثة أشهر، ثم لهذه اليومية التى ظهرت بالورطةوالعناد والتى أثارت كل هذا الجدل .
كل ما فعلته هو أننى قمت بترتيب هذه المقالات (الحوارية) آملاً فى مقارنة، واحتمال التقاط الحوار، مع أقل قدر من التعقيب:
المقال الأول:
8-12-2007
الوحدة والتعدد فى التركيب البشرى
كيف؟ إلى أين؟
محمد يحيى الرخاوى
الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى:
عندما بدأتم – مرة أخرى- فى تناول مسألة تعدد الذوات فى ندواتكم الشهرية بالمقطم، وأعلنت أنا فيها أننى أواجه صعوبة فى تقبل مسألة “تعدد الذوات” هكذا، كنت أكتب لكم ورقة (أسميها هنا الورقة الأولى) لم أنهها إلا الآن للأسف؛ فلم أرسلها، وانتظرت حتى أفهم أكثر. ثم إذا بكم تعيدون طرح الموضوع فى كتابتكم (اليومية !!!) فى موقعكم الإلكترونى، فوجدت نفسى أكتب لكم (الورقة الثانية) حيث أتصور أننى أنجزت بعض خطوة إضافية فى توضيح مكمن صعوبتى، وتحديد تحفظاتى. وها هما الورقتان اللتين سأشرف بقراءتك لهما بكل تأكيد.
الورقة الأولى
الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى
تكرر إلحاحكم على مسألة تعدد الذوات فى النفس البشرية (عامة). ومع كل تكرار أستعيد صعوبة بالغة فى الفهم والاستيعاب، وأستعيد أيضاً لمحات خاطفة من مشاعر الموافقة والتسليم بل والترحيب أحياناً. هذا بينما كان تعبير الصديق حافظ عزيز (ومثله هالة نمًر وغيرهما كُثر) أنه عندما يقرأ كتاباتكم عن تعدد الذوات فكأنه يقرأ من يشرح له كيف أن 1+1=2.
وفى محاولة لفهم منشأ الصعوبة التى أواجهها، وكذلك منشأ لمحات التسليم والراحة هذه، خصوصاً عندما لا يتعلق الأمر بمجال المرض النفسى وعلاجه وأعراضه ومضامينها، أجد عدة عوامل متجاورة، أشير لبعضها كالتالى:
1- إن فرط ثقتكم فى مسألة التعدد وفرط ثقتنا فيكم تدعونا للقبول دون فهم كافٍ، ودون تدقيق مفهومى مناسب لمن أراد للمسألة أن تتحول إلى علم مؤسَّس على وضوح المفاهيم وتعريفها. إلا أن إلحاحكم والتكرار يدعوانى لرد الدعوة إليكم لإعادة النظر فى الصيغة كما تطرحونها وتتواصلون بها، فكأنكم أنفسكم تستشعرون أن ما وصل للغالبية غير كاف لترسيخ اتفاق مقبول أو تواصل منتج.
2- أحياناً أفترض فى شخصى وقدراتى وخبراتى قصوراً هو ما يعجزنى عن الفهم، وأفترض أحياناً أخرى أننى أخاف؛ فأستخدم آلية للدفاع النفسى تمنعنى من الاعتراف بطبيعة التعدد كما تطرحونها بصيغة الذوات، مما يجعلنى أصمت غالباً، فى انتظار الفرج أو النمو. بل أحياناً أخرى، عندما تفرض لحظات التسليم نفسها علىَّ، يصل بى الأمر إلى تصور أن تحفظاتى منبعها عزة بالإثم، وهذه من بين أكثر ما أكره فى البشر وفى نفسى بالطبع.
3- أجدنى أقرب للموافقة عندما تُطرح المسألة بصورة ضمنية، من خلال “ممارسة” لعبة، أو “ممارسة” تواصل علاجى ناجح؛ أو طرحت مفهومياً فى سياق مناقشة مرض نفسى جسيم دون تعميم على غير المريض المحدد، حيث يبدو الأمر سلساً وقريباً. ومَن مالَ للثقة فيكم مالَ للإمساك بهذا السلس القريب حتى ولو دون فهم. إلا أن هذه السلاسة والقرب يستفزان ملكتنا المفهومية، فهما سلاسة وقرب خارج حقل السيطرة المفهومية المعتادة، كما أن غياب الفهم المستقر يجعل هذا السلس القريب يطير بسرعة.
4- أما عندما يتم استخدام الكلام المجرد، المفهومى، المعمم من المرضى على غير المرضى؛ فلا أستطيع إلا أن أقول أنى أصادف الكثير من التأكيدات لفكرة الذوات المتعددة لا يساندها شرح يبرر كونها ذواتاً (إلا فى القليل) ولا تدعمها مشاهدات ذات ثبات علمى متفق عليه. ثبات يربط النتائج بالمقدمات بطريقة تجعل النتائج (“تعدد الذوات”، أو “صيغة” تعدد الذوات) ضرورية. والحق أن إظهار الضرورة من أهم محكات الصدقالتى أثق فيها وأعتمد عليها حين أحسم مسألة تصديق مقولة أو نظرية.
هذه بعض من انفعالات عديدة تمر بى وأنا أتابع إصراركم على توصيل الفكرة. والانفعال، بمعناه اللغوى قبل الاصطلاحى، أقل من رد الفعل الذى أتمناه حواراً فاعلاً. هكذا أطرح عليكم مجموعة من الأسئلة أعتقد أنه سيكون فى محاولتكم الإجابة عليها –إن فعلتم- ترسيخ للفكرة، وإجابة لتساؤلات لا أعتقد أننى الوحيد الذى يسألها، وتسهيلاً لتواصلها بما يمكن أن يفيد منها كما أوقن أنكم تأملون:
1- أحياناً أفكر: لماذا صيغة تعدد الذوات، دون صيغ أخرى أسهل وأقرب وربما تؤدى الوظائف نفسها (إذا كانت تؤدى الوظائف نفسها!!)؟؟ هذا تساؤل صادق يبحث عن إجابة عادلة، وليس استنكاراً لصيغتكم كما قد يتبادر. لماذا تصرون على صيغة جاهزة، وربما تكون اختزالية، لا شارحة ولا مفصلة، لفكرة التعدد، هذا بينما أتصور أن تجليات فكرة التعدد متنوعة أكثر بكثير (وربما لانهائية) من سجنها فى صيغة الذوات؟
2- محك آخر من المحكات التى أعتمد عليها بشدة فى قبول ما أقبل والتشكك فيما عداه (غير محك الضرورة المذكور آنفاً والذى سأعود إليه) هو محك الفائدة. قد لا نفهم ولا نوافق على صدق فكرة بشرحها، بينما يمكن أن نقبلها إذا عرفنا فوائدها أو عرفنا عن فوائدها، تفصيلاً وتعداداً (ودعاية أيضاً): فما فائدة تعدد الذوات (بهذه الصيغة غير الرحبة؟؟ أعتقد أن جهداً إضافياً فى سبيل الشرح والتفصيل وبلورة الفوائد سيضيف إلى أهمية الفكرة وثباتها أو رسوخها، بعيداً عن الاستثناء المتطرف لحالات المرض النفسى الصريح. لا أعتقد أنه يكفى لبيان الفائدة أن تصوغوا رؤيتكم عن الإبداع أو الصحة النفسية أو الوعى فى إشارات مختصرة، هكذا بمفاهيم لا تخلو من إجمال التفاصيل وغموض التعريف وغياب الاتفاق، بل لا تخلو أيضاً من شبهة حمولة قيمية متحيزة، حتى لو وافقكم عليها مريدوكم الذين أظننى واحداً منهم. لا ولا يكفى أيضاً أن تستشهدوا باستجابات هؤلاء المريدين وغيرهم الكلامية فى ألعاب علاجية مصوغة بطريقة موحية وموجِّهة. إن الرحابة التى يوفرها وينشؤها لعب الدراما فى ألعاب الدراما لا تحتاج –بالضرورة- إلى فكرة الذوات المتعددة. نتكلم فى الجلسات العلاجية بالدراما عن أدوار تُلعب فى تفاعل مع كل من “السياق” والكاركتر (الشخصيات، ولكن بالمصطلح الدرامى الأدق والألطف)، ومع ذلك فهى توفر ما يكفى ويفيد من الرحابة ومن التحرر من وطأة الذات المعلنة ومن اللعب بالإمكانات الأخرى. أتوقع ألا يغطى هذا كل ما تريدون تغطيته بكفاءة، ولكن هل فعل مصطلح الذوات ذلك؟
3- وأخيراً: لماذا لا تربطونها –مباشرة ودائماً وفى كل مرة تعرضونها فيها– ببقية عناصر فكركم التطورى خاصة، والذى أعتقد أنه يحمل الكثير من الشواهد التى سوف تقربها من الذهن (على الأقل ذهنى)؟ أتصور أن الحفاظ على هذا الربط، مهما تكرر، سيؤدى إلى إسهام مفيد تبادلياً لكل من المسارين الفكريين (إن كانا اثنين). سأفهم أسهل عندما تتكلمون عن النمر الشكاك المفترس فى داخلى، أو عن الحمار الخدوم حمال القاسية، أو عن السلحفاة البطيئة طويلة العمر أو الثعبان المبتلع الملتصق بالأرض، وبياتهما الشتوى، أو حتى عن الجنين (لا الطفل، هذا الذى أراه دوراً أكثر مما يصلنى ذاتاً داخلية أو كياناً مكتملاً)، وأكاد أدرك الضرورة المجازية/البيولوجية معاً لكل هذه المجازات التطورية الرائعة، والحق -كما أتصور- هو أنها كلها مجازات تستأهل أن تكون كذلك، بينما يصلنى مجاز “الذوات” أضعف وغير ضرورى أو مفيد، تواصلياً على الأقل.
الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى:
دعنى أقول مرة أخرى إن الصياغة كما تقدمونها تحمل صعوبة قد لا تكون ضرورية، وتجريداً ربما يكون مغمضاً أكثر مما ينبغى لنص يقصد إلى الشرح بلغة مفهومية، لا إلى الإبداع بلغة فنية. إلا أنكم قدمتم فى مقالات روزاليوسف خاصة بعضاً من أوضح ما قرأت لكم فى المسألة، خاصة فى سياق حديثكم عن العلاقات بين المحبين أو الأزواج. ولكن هل ما تكلمتم عنه ذوات متعددة، أم أدوار متعددة وربما أيضاً أطوار (التى منها التطور) حاضرة فى تآن، فلماذا صيغة الذوات إذن؟ لماذا لا نتكلم مثلاً عن وظائف متعددة، وربما متناقضة مطلوبة جميعاً من الفرد نفسه، وربما فى الوقت نفسه؟ ماذا أضافت فكرة الكيانات المتعددة أو الذوات المتعددة على فكرة المشاعر المتضاربة والأدوار المتنوعة التى ربما تتناقض ومن ثم تحتمل جدلاً واعداً ورائعاً؟
من أوضح الصياغات التى قرأتها لكم وأفهمتنى (على الرغم من أنها لم تستقر بى على بر القبول المُسَلِّم) كانت صياغتكم فى جريدة روزا اليوسف عن تعدد الذوات فى علاقات المتحابين. فهمت منها ما لم أفهمه من غيرها، وبكل بساطة، فقد كان عرضاً “لتفاصيل” يسهل أن يتعرف عليها “كل” من يعيش علاقته بدرجة من الوعى. إلا أننى لو أردت أن أسمى ما وصفتم لفضلت تسمية “أدوار” عن تسمية “ذوات“. فلماذا لا يكون دورى كأب وكطفل وكعاشق بدلاً من ذات الأب وذات الطفل وذات العاشق. يبدو المدخل التفاعلى الاجتماعى مقبولاً بشكل خاص، فلماذا لا تبدؤون منه للانطلاق نحو ما هو أعصى على التناول بالألفاظ؟ أتوقع إصراركم على رفض مثل هذه الصيغ التى ربما ترونها تبسيطية، ولكننى أعرف أيضاً أننى لم أدرك بعد الضرورة التامة للتفرقة بين المصطلحين والتمسك بفكرة الذوات، فى هذا السياق المتعلق بالأسوياء خاصة.
الورقة الثانية
يبدو أن تحفطى الحدسى، على فكرة تعدد الذوات لا ينصب على مسألة التعدد، بالأحرى فإن التعدد هو ما يكمن وراء ومضات قبولى وتسليمى بل وراحتى المبهمة والتى أشرت إليها فى البداية. إذن يبدو أن تحفظى الحدسى ينصب على مسألة أنها ذوات.
لمصطلح الذات عندى دلالات ضمنية لا أستطيع منها خلاصاً. فالذات الذات أصلاً كيان مفتعل وهش، وغير مستقر الاستقرار الذى يُدَّعى له، هذا بالإضافة إلى أن الذات ورطة أو مقلب (بالمعنى البلدى للمقلب) أو حتى خازوق لبسه الإنسان. لماذا أضيف كيانات/ورطات عديدة مفتعلة وهشة (الذوات) إلى كيان (الذات الواحدة: الأنا المتفردة) هو أصلاً مفتعل وهش ومقلب (إحنا ناقصين!!؟). وكأننى بدلاً من أن أثبت هشاشته وافتعاله وكونه مقلباً إذ يدعى واحدية والتئاماً مفتعلين، وبدلاً من أراجعه لأظهر أنه يتوهم حدوداً لاوجود لها تفصله عن عالم لا نهائى الاحتمالات، أثبت له واحديات (ذواتاً) أخرى، دون أن أتفادى ما يتضمنه هذا من افتعالات وربما مقالب إضافية؛ فلفظ “ذات” يحيل بالضرورة إلى ملتئم فاصل بين أناه ولاأناه، يحيل إلى ما له حدوده وادعاءاته الكاذبة التى تسمح له بادعاء كونه ذاتاً.
أعلم جيداً أن كثيرين من تلاميذكم يقبلون طرحكم قبولاً حقيقياً، إلا أن معظمهم ممن يحتكون بشكل أو بآخر بما هو مرض نفسى (جسيم خاصة)، وربما أيضاً ينطلقون منه لفهم النفس عموماً، والحق أن هذا منطلق طالما استفزنى وتحفظت على أحقيته فى أن تقاس عليه أمور الإنسان بعامة. بالطبع لهذا أسباب ليس هذا مكان الخوض فيها، إلا أن له أيضاً مشروعية ينبغى أن توضع فى الاعتبار.
لماذا يقاس الوجود كله على الوجود الفصامى؟ ألأن التفسخ يظهر التشريح الذى لا نراه دونه؟ أعتقد أن فى هذا القياس قفزات مغالَطة يمكن (ويجب) مراجعتها. إن أهم ما يمكننى المحافظة عليه بتحفظى هذا هو لا نهائية احتمالات التكوين البشرى (فى صحته وإبداعه ومرضه)، وليس لصالح وحدة الذات كما يمكن أن يتصور من يسمعنى أكرر إعلان صعوبة فهمى لتعدد الذوات. هذه اللانهائية يمكن أن يشير إليها وينفى ضدها كل تعدد أو حركة أو جدل أو تفكيك أو خلافه مما قد نعرف ولا نعرف، وليس بالضرورة تعدد الذوات.
الذوات المتعددة يحتاج كل منها لاسم، ولحد، ولفاصل يفصل بين ما تعتبره هذه الذات “أنا” بالنسبة لها وما تعتبره “لاأنا”، وكل ذات تحافظ أيضاً على نفسها وعلى هويتها وعلى بقائها، إلى آخر ما ينبغى أن يتوفر من شروط لكى يسمى أى حضور أو وعى ذاتاً. وهذه شروط أراها قاسية على إمكانات التداخل وإعادة التشكيل وحتى الولادة من جديد لكل حضور داخلى متنازع أو متناوب أو متضام أو متتعتع أو متجادل إلى آخر ما لا آخر له من احتمالات أوقن أننا لا نعرف عنها إلا أقل القليل، حتى لو كنا نخبرها ونحن نسعى لواحدية هى دائما أول هذه الاحتمالات وآخرها وقلبها وغايتها معاً. بل إن الفصل الذى يسمح للذات بترسيم حدودها هو نفسه موضع تساؤل جوهرى، ومع ذلك فلهذا حديث آخر.
المسألة أن استعمال دال “الذوات” يقصر الرؤية والصياغة على أقل كثيراً مما يرام الإشارة إليه.
“الكيانات” – مثلاً- أيضاً لفظ غير كاف، ولكنه لا يحرمنا حرية التفكير فى كل المنظومات الممكنة التى يستعملها الإنسان لتنظيم إدراكاته (أو حتى أبعاضه) ليتمكن من التعامل معها. كما أنه (الكيانات) دال لا يحرمنا من تصور إمكانات حركة وهدم وإعادة تشكيل وجدل وتفكيك وخلافه، على الأقل ليس كما يفعل دال “الذوات”. [تذكرت الآن فقط كيف أن بعض الكتاب بالإنجليزية يستعملون الدال “Construct” على سبيل المثال] .
الكاركتر Character أيضاً يحمل مزية دلالية لا تحملها الذوات، فهو يحيل لمنطقة اللعب (لعب الدور)، هكذا يمكننى أن أتكلم عن فلان بأن له characters أو كاركترات (بالعربية) متناقضة أو متناوبة أو متناغمة، وهكذا ونحن نلعب، ونتعمد اللعب. كما يحق لنا أن نتخلى عن لعبة ونبدأ فى غيرها دائماً، بل يحق لنا أن نخترع كاركترات لم نرها، أو أن يتغير كاركترنا فى الحلم أو فى علاقة، أيضاً إلى ما لا آخر له. وربما نرغب فى أن نزيد الأمر جدية فى شؤون العلاج أو الإبداع أو العمل أو غيرها؛ فليس هناك ما يمنعنا. لا توفر لنا الذات أو الذوات مثل هذا كله، فهى دائماً ما تذكرنى بما هو “أنا”: أنا التى أتمنى أن أجد طريقة تخفف عنى وطأتها.
بل إن الكلمات بدورها يمكن أن تكون تمثيلات لكيانات داخلية (ذات حضور خارجى تواصلى). نعم يمكننى أن أسميها كيانات، ويمكننى أن أتصور للكلمات كاركترات أو طعوماً (جمع “طَعْم”). للكلمات روح، وقديما كتبت عنها أننا “ننفخ فيها ما يتخلق فينا من أرواح / نعجز والعجز فضيلة“. فأين الكلمات بوصفها “كيانات” من “الذوت” بوصفها “أنوات”؟
ثمة ضمنية مهمة للغاية هنا: عندى أن الكلمات محض احتمالات تتحقق فى لحظات مهمة للمعنى، هى ليست كيانات بالمعنى الدائم المستقر، هى لحظات زمنية تتخذ أشكالاً تتحمل البقاء لفترة فى الزمن “بوصفها ذاكرة” وحسب. لماذا لا ينطبق الأمر نفسه على الكيانات التى تسمونها ذواتاً؟ لماذا لا يتم النظر إليها بوصفها محض احتمالات ممكنة من بين احتمالات لانهائية. إن هذا التصوير يعفينى من أن تكون الذوات قائمة وثابتة ومحددة وحاضرة هناك حيث لا أعرف، وهو يعفينى لا لصالح المعرفة، بل لصالح مزيد من الجهل المنفتح ومزيد من رحابة الإمكان.
من هنا، وعلى صعيد الفصام؛ أتصور أن مسار الفصامى – مرة أخرى- لا يصلح كقياس، وخصوصاً فى مسألة الذوات. أتصور أن ما يجعل من تعدد الذوات بارزاً لدى الفصامى هو اختلال فى الحركية الطبيعية لجدل الكيانات (أياً كان نوعها) يجعلها تظهر فى غير موعد ظهورها ولا سياقه، (أى دون أن تتكامل فى شكل تواصلى مقبول واقعى، كما يحدث فى الحلم مثلاً)؛ فتظهر ناقصة، ناكصة، هوجاء ولا تواصلية وبدون ذاكرة أى لا واقعية؛ فالتواصل فى جوهره مؤسس على إدراك الواقع المشترك، وليس على الكلمات التى يمكن أن تكون جدلغة عند الفصامى وتظل كلمات، وإن كانت لاتواصلية، وبلا ذاكرة. بعبارة أخرى: إن الذوات المتعددة لدى الفصامى (أو حتى فى الحلم) لا تكافئ ولا تغطى الاحتمالات اللانهائية لطبيعة الكيانات أو المنطومات الداخلية. بمعنى أن بقاء حالات الذات، التى لا يفترض لها أن تبقى ثابتة دون التئام يجعلها تستحق أن تبقى فى الذاكرة؛ هو عرض مرضى وليس ظاهرة أصلية كما يوحى القياس على الفصام. هكذا يمكن النظر لذوات الفصامى بوصفها ظاهرة استثنائية تجمعت فيها أجزاء مشتتة دون استمرار السعى للالتئام الأوسع للذات الكلية الواحدة، أو مع الذات الكلية الواحدة.
أما فيما عدا هذا، وبعد هذا، فليست لدى تحفظات.
كما أننى أنفى عن نفسى الآن تهمة العزة بالإثم وأنا أعلن أنه ما زالت لدى صعوبات، حتى ولو لم أنف احتمال أن تكون صعوباتى نتيجة تواضع فى الرؤية، أو فى مرحلة النضج، أو الحرية.
وأخيراً أشكركم على تحملكم.
التعقيب:
أرجو يا محمد أن تعذرنى أننى أخرت الرد، وأن ترجع إلى ما كتبتُ قبل ربع قرن (المقالى التالى مباشرة) لترى بنفسك أنه كان عندى نفس تحفظاتك، كما أرجو ألا يجعلك ذلك تتراجع عن مواصلة الحوار، فثم تفصيلات كثيرة تحتاج إيضاحاً وإعادة تناول، كما أن الدعوة عامة.
***
المقال الثانى:
مجلة الإنسان والتطور عدد اكتوبر 1981
الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى
يحيى الرخاوى
دراسة الإنسان شديدة الصعوبة، شديدة الخطر، فهى شديدة الصعوبة منهجا، شديدة الخطر جوهرا وعواقبا، وحين أقول “دراسة الإنسان” فأنا إنما أعنى دراسته
(1) كيانا،
(2) وجوهرا،
(3) وتركيبا،
(4) وسلوكا،
(5) وغاية،
(6) وجزءا من كل إكبر،
ذلك أن إشاعة دراسة الإنسان كانت -ومازالت- تخضع لعوامل أخرى غير حقيقتها:
1- فالإنسان هو الشيء “الممكن دراسته“ اعنى أن الظاهرة الانسانية تختزل الى ما يقع فى قدرة أدوات الدراسة ومدى المنهج المستعمل، فاذا قصر المنهج عن رؤية بعد ما فى الوجود البشرى فلابد أن هذا البعد غير موجود أصلا ضمن الظاهره الانسانية، وهذا موقف متواضع عاجز، ورغم إنه عملى ومنطقى … الا أن الحماس ضاعف من عملية الإنكار هذه حتى أصبح الإنسان مجموعة ظواهر قابلة للقياس والفحص حتى ولو لم يكن كذلك فقط، أو لم يكن كذلك أصلا.
2- ثم تأتى فى الطرف الآخر دراسة الانسان من منطلق محتوياته، الانسان هو مجموع ما يحوى من مخزون وطاقة يحددان سلوكه ومعالمه جميعا، وتخضع دراسة هذا الذى يحتويه هذا الوعاء لإستنتاجات منطقية وعينات محتملة من هذا المحتوي، وتفسيرات رمزية تترجم هذا المحتوى إلى تصور ممكن.
ويتساوى هذان الإتجاهان فى أنهما يجعلان الإنسان مجموعة أجزاء، سواء كانت نتاج جزئيات السلوك، أم تراكمات المحتوي، فهل هو كذلك؟
3- وهنا يقفز إلينا مفهوم كلى شاع منذ الخمسينات، يتناول الإنسان باعتباره “كيانا كليا واعيا وإراديا” وقد سمى أغلب المتدرجين فى هذا الإتجاه باسم شامل غير واضح المعالم وهو ” الاتجاه الإنساني“، واستعملوا لغة عامة أقرب الى لغة الشعر متصورين إنهم بذلك قد تخطوا التجزيء والتفتيت، إلا أنهم فى حماسهم نحو الكلية ضد الجزئية قد تخطوا أيضا إحتمال التعدد أصلا، وأصبح الانسان لديهم وحدة نامية بشكل متصل، وهم لم يبسطوا الأمر لدرجة التسطيح الذى قد يبدو من ظاهر تقديمي، فالانسان عندهم كيان مركب شديد التعقيد والتكثيف بلا أدنى شك، لكن تركيز هذا الاتجاه على كلية ووحدة الإنسان يتخطى بشكل ما إحتمال تعدد تركيبه ووجوده جميعا.
فالإتجاهات الثلاثة قد سلمت بشكل أو بآخر على اعتبار الانسان”وحدة” بشكل أو بآخر، وهذا أمر بديهي، بل وضروري، لأن المترتب عليه هو أمور عملية ووظيفية لا تحتمل غير ذلك، فأى فرد كائنا ما كان وبغض النظر عن “ما هو”، هو يقوم من نومه ويغسل وجهه ويذهب الى عمله ويحيى الناس ويكسب القرش … الى آخره، وعامة النـاس لا تقبل فى أى شخـص كائنا من كـان هـو، (أو “مـا هو”) أن يكون غير ذلك، ولا تستطيع أن تعامله إلا بصفته الواحدية المفردة واذا ما كان الأمر غير ذلك، فإن الدهشة تبدأ، والأحكام تصدر، فاذا كان ”هو” أحيانا “هو”، وأحيانا ليس “هو” وإنما هو آخر، (وفى الحالين فهو واحد مفرد) قيل أنه متقلب أو غريب الأطوار أو ذو وجهيـن (لاحظ أنهم لا يقولون “ذا شخصين”) وقد يتحذلق البعض فيصفونه بالازدواج، فإذا إزدادت الحذلقة وصف بالانفصام وهلم جرا، والوصفان الأخيران يختلطان فى أذهان العامة وعلى ألسنتهم بعضهما ببعض، كما أنهما يعنيان التعدد (أو الازدواج) فى أزمان مختلفة وليس فى نفس الوقت.
فاذا كان الأمر كذلك عند العامة، فهل يكون هو كذلك عند العلماء؟ حتى هذه المرحلة من التقديم يبدو أنه كذلك أيضا عند العلماء، إلا أن المتأمل للغة المستعملة فى بعض النظريات النفسية سوف يكتشف أن الإشارة ظهرت من قديم تشير إلى إحتمال التعدد فى الكيان البشرى فى آن واحد، رغم ظاهر الوحدة والتفرد.
(أ) ويمكن أن نبدأ بالإشارة الى حدس يونج الأعمق لما هو كيان داخلى سواء فى إشارته الى “القناع” (السلوك الخارجي) فى مقابل ” الظل” ( الكيان الداخلي) أو إشارته إلى ” الانيما” فى مقابل ” الأنيمس” (بمعنى وجود الكيان الأنثوى داخل الإنسان الذكر والكيان الذكرى داخل الإنسان الأنثي)، ثم وهو يشير الى النماذج المتوارثة عبر الأجيال، بل عبر الأحياء ” الأركيتايب” Archetypes، كل ذلك إنما يدل على تركيبات تنظيمية متكاملة تمثل كيانات لا أجزاء.
(ب) ثم يأتى بعد ذلك بعض الفكر التحليلى الأحدث ليكلمنا عن ” الأنا الناكص” و” الأنا المضاد للذة” ( المضاد لليبيدو)، و “الأنا اللذى الليبيدى” وكيف أن هذه الكيانات التى هى فى الداخل لها شخصيتها وصفتها وطلباتها و “حضورها” ومظاهرها الصريحة فى الحلم والجنون، ومظاهرها الخفية الرمزية فى العصاب وبعض السواء، وكل ذلك تحت ما يسمى بمدرسة ” العلاقة بالموضوع” Relation Object ، ثم يأتى بعد ذلك ذكر المواضيع الداخلية Internal Object لا لتشير الى محتويات الوعاء الانسانى كجزئيات متجمعة أو ذكريات قابلة للإسترجاع، وإنما لتشير الى الحياة الداخلية الحاوية للموجودات الكيانية التنظيمية، ورغم تسمية هذه المدرسة لهذه المحتويات بالمواضيع الداخلية إلا أن المتعمق فى المعنى المراد سوف يجد إنها إنما تعنى شخوصا بأكملها فى داخلنا، لا مجرد مواضيع، وكيفية تواجد هذه الشخوص فى الداخل لا ينبغى أن تؤخذ بمعنى ” الوعاء والمحتوي” لأن الوعاء هو هو المحتوى كما سنري.
(جـ) وفى ضربة حدس[1] (وهى فى نفس الوقت ضربة حظ، ومأزق وعى) يرى اريك بيرن – صاحب مدرسة التحليل التفاعلاتى – الإنسان أمامه متعددا بشكل واضح ومميز، ويعيد – بتواضع شديد – رسم خريطه الكيان البشرى فى صورة “تثليثية” محددة ( الانا الوالدي، والأنا اليافع- الناضج- والأنا الطفلي)، كيانات وتنظيمات (لا مجرد أجزاء ودوافع وطاقه محكومة وقوي) تتبادل وتتعاون وتتنافر وتتصارع وتتعدد وتنمو (فى بعضها مع بعض) إلى كيانات أكبر فأكبر وهكذا، ويعمل “بيرن” نظرية تركيبية متكاملة تبدأ بالتحليل التركيبى structural Analysis وتمتد الى التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis الذى يعنى ببساطة: أنه ما دام التركيب البشرى متعدد الشخوص، فان التفاعل بين شخص وآخر ليس تفاعلا بين شخص واحد وآخر واحد، بل انه يجرى على مستويات متعددة فى نفس اللحظة وتشير هذه المستويات الى علاقات متبادلة ومتداخلة بين هذه الزحمة من الكيانات بعضها مع بعض، يحدث كل يوم وكل لحظة فى الاحوال العادية فى نفس اللحظة وإن كان لا يظهر على السطح إلا مستوى ظاهر واحد فقط (للناظر غير المدقق طبعا).
وتنتشر هذه النظرية، ويشاع إستعمالها، ثم يساء إستعمالها لأنها تؤخذ من مدخل التبسيط والإختزال، أكثر مما تؤخذ من مدخل التركيب والمسار النموى المعقد.
ولا تكتفى هذه النظرية بالحديث عن هذا “التثليث” للكيان البشري، بل تتحدث- دون وضوح كاف -عما أسمته “وحدات الأنا” Ego units التى يتركب منها الكيان البشري، والناظر المتفحص الى ما يعنى هذا التعبير يكتشف ان هذه الوحدات ليست الا كيانات ( شخوصا) متكاملة متراكمة يتكون منها وبها الوجود البشرى المفرد.
(د) ثم تاتى تطبيقاتى الاكلينيكية الخاصة ( منهجيا: يـمكن أن تسـمى بالفحـص الفينومينولوجى ) لهذا المنطلق، فأواجه “الزحمة” المتناهية داخل التركيب البشرى فى الجنون والحلم والشعر[2] ( خاصة، وفنون أخرى لا مجال للتطرق اليها حاليا)، وكل التجارب القريبة والموازية لهذه الخبرات الانسانية المركبة، وتؤكد لى مشاهداتى ومعايشاتى طبيعة هذا التعدد والتكاثف (وسأعود إلى كيفية ظهور التعدد فى عملية النمو فيما بعد)، وأتبين أن التعلم بالبصم (الطبع) learning by imprinting ليس سوى لصق كيانات جاهزة على الجوهر الانسانى المتلقى النامي، لتستوعب وتمثل assimilated فيما بعد، أو تظل قلقة جاهزة للتعتعة فى الحلم والشعر والجنون وما اليها.
وأكتفى الى هنا بتقديم هذه الإتجاهات التى تعلن هذا المفهوم “الصعب” و”الخطر” لماهية الكيان البشري.
وأعلن فى هذه المجلة نصف المتخصصة عن أهمية هذا المدخل بالنسبة للشخص العادى وعن خطورته معا فأقول:
إن تغير النظرة إلى الإنسان كوحدة إستاتيكية (أو حتى ديناميكية) إلى إعتباره “مجمع شخوص” يمثل موجزا للتاريخ ومحتوى العالم فى آن واحد، خليق بأن يقلب كل الموازين السائدة حاليا عن مفهوم الإنسان ومفهوم الحضارة ومفهوم النمو الفردى ومفهوم التطور البشرى جميعا، وتغيير هذه المفاهيم هو أمر خطير، لكن الأخطر منه هو ما يستتبع تغيير مثل هذه المفاهيم من طبيعة المسيرة البشرية.
وبدءا من التعامل العادى
(أ) ماذا يكون موقف الشخص العادى أمام نفسه؟ صورته لذاته؟ فخره بها؟ تحديده لها؟ لأنه إذا كان “هو” ليس “هو” بل “هم” أو “نحن” فكيف يتحدد أو يتميز؟
(ب) ماذا يكون الموقف من قرار الشخص لنفسه، وإختياره لفعله؟ من الذى اختار ؟ ومن المسئول ؟ (وقد يمتد هذا البعد إمتدادا خطرا ليشمل المسئولية الجنائية…..، تصور!!)
(ج) كيف نعامل بعضنا بعضا، وكيف نتفق ونتحاب ونحن قد أصبحنا “حفلة” موجودات ولسنا إرادة أفراد؟
ويمكن أن نستطرد فى هذه التساؤلات الى ما لا نهاية لنستشعر الخطر الأكبر الذى أدى بعضه الى سوء إستعمال نظرية التحليل التفاعلاتى حتى أصبح المخطيء- كمثال من الحياة العادية – يقول “لعن الله طفلي” (Dam my child) يعنى بذلك أن المسئول عن الخطأ أو التقصير هو ذلك الكيان الطفلى الداخلي، يقول ذلك بدلا من أن يتألم من المسئولية هو ككل ، ويتعلم من الخطأ….وقس على ذلك.
و الآن..
إذا كان القبول بهذا التعدد هو فتح لباب سلبيات لا نعرف الى أين ستؤدى بنا، أفلا يجوز بنا أن ننكره إبتداء؟
وهنا يبدأ الخطر على العلم والمعرفة، حين يصبح الاعتراف بالحقيقة الفعلية أو المحتملة معتمدا على آثارها وليس على حقيقتها الذاتية، فاذا صح أن الكيان البشرى الفرد هو بالضروة عدة شخوص بعضها فى بعض،وصح أن هذا المفهوم هو مفهوم خطر على حدود الذات وعلى تحديد المسئولية فلابد أن حلقة مفقودة تكمن بين هذا الذى صح، وذاك الذى صح بما أن الكائن البشرى قد أثبت بالتاريخ ثبات خطاه نحو التقدم – حتى الآن-، وهنا يبدا البحث الجاد بكل ما يصحبه من معاناة عن تلك الحلقة المفقودة التى بغيرها لابد وأن نعترف باحتمال إنقراض النوع البشري، ذلك لأن الحقائق التى تبدو تدهورية هى إنذارات الانقراض بلا جدال، ما لم تجد لها تفسيرا إيجابيا من عمق آخر.
فما الحل إذا؟
الحل الأسهل هو أن نسارع فندمغ هذا التعدد بالتناثر والجنون وخاصة “جنون الفصام” تحت عناوين عرضية مثل ” فقد أبعاد الذات، وتردد الكيانات، وتساوى التكافؤ” وأمثال هذه التعبيرات التى تشير إلى أن التعدد ما هو إلا مرض بالضرورة؟
ولكن ماذا عن الحلم ؟ هذه الشخوص التى تظهر فى الحلم أليست كيانات متعتعة من الوحدة ظاهره التماسك فى اليقظة؟ أليست هى جزء من تكويننا الداخلى حيث المحتوى هو الوعاء ذاته كما ذكرنا؟
وقد يأتى الرد أنها ليست سوى ذكريات مسجلة قد يسمح لها بالإستعادة بشكل خاص فى غيبوبة الوعى أثناء النوم، لكن الدراسات العميقة والمتأنية تورى ان ” الحلم فعل كيانى “ وليس تكرارا ذهنيا مسطحا، وأنه إعادة خلاقة وليس إستعادة متناثرة، وأن وظيفته تنظيمية ” تمثيلية” assimilative وليست مجرد وظيفة تفريغية ترويحية، فأين نخفى كل هذه المعطيات هربا من مواجهة حقيقة تعددنا؟
ثم يأتى الشعر ليعرى كيان الشاعر (الانسان) الذى يصب وجوده فى ألفاظ لها كيانها الجديد ووظائفها الجديدة. اذ ترسم الصورة الجديدة فى إطار النغم الجديد، يعلن الشاعر هذا التعدد مباشرة ويحاول بكل وسيلة فنيه أن يؤلف بين تراكيبه وشخوصه، فتنطلق من تحت عباءته الكيانات قادمة من كهوف التاريخ، وتناقضات الحاضر، متجهة إلى صنع الولاف الأعلى فى توليد الآلهه فى طريقها الى الاله الواحد الأحد، وليس هذا مجال أمثله أو تفاصيل، إلا أنى أعلن فى هذا الإستطراد أن هذا هو المدخل الأصعب لاستيعاب الشعر واستقبال رسالاته المكثفة، ولكن الذى يهمنا هنا هو دلالة هذا التعدد والتناقض والتكثيف والقدرة على التحول (مثلا) “… التى تجعل من حضور مهيار ذاته نفيا واثباتا، خلقا وتدميرا فى نفس الوقت”[3] وهذا التعدد الذى يشمل الذوات والطبيعة وما بعدها فى حركه ذاتيه نحو إعادة التنظيم وتنظيم اللقاءات فى الكيان المتخلق الجديد… يجدها كل قارئ يقظ شجاع فى كل شعر حقيقي، (ومثال عابر من نفس المقال- خشية الإستطراد- يقول: ” فينيق مت، فينيق ولتبدأ بك الحرائق، لتبدا الشقائق” أو “مزدوج أنا، مثلث”… (نفس الشاعر فى نفس المقال… الخ).
هنا يجدر بنا أن نتوقف لنحل هذا التناقض الظاهر:
1- الانسان متعدد فى كيان ظاهرى واحد.
2-التعدد خطر وقد يفتح أبواب السلبية والتناثر.
3- الانسان مستمر، ويتقدم رغم (1)، (2)
ويبدو أن الحل إنما يكمن فى إعاده النظر فى بعد الزمن، فالإنسان متعدد تركيبا فى بعد زمنى ممتد، وليس فى نفس اللحظة (قد تصل الى جزء من جزء من الثانية) فى نفس المجال الشعوري.
وبعبارة أخري: إن التعدد هو حقيقة تركيبية فاعلة، والتفرد هو ظاهر وحصيلة محددة بوقت بذاته.
ومن هذا المنطلق نعود الى شئ من التجزيئ الذى رفضناه من حيث المبدأ فى بداية المقال، ولكنا نرجع فنقول أنه ليس تجزيئا، بل تعددا وشتان بين التعبيرين، والمنطلقين.
ويصبح التصوير المرحلى فى هذه المنطقة من النقاش كالتالي:
” أنا ..هو ظاهرى الآن، وكل ما ترتب على ما هو هذا …هو مني” وفى نفس الوقف :
”أنا – أيضا – هو ما يمكن أن أكونه بعد لحظة أو بعد دهر من واقع ما هو ” أنا- نحن ” فى حركه دائبه متعددة الأبعاد”
وهذا التحديد من خلال بعد الزمن هو الذى يعطى الذات تحديدا مطلقا لكونها كيانا واحدا مفردا فاعلا شاعرا، وفى نفس الوقت فلا تحديد فى بعد الحركة والمجال متسع لكل إحتمال.
وإنما ينشا الخلل وتدخل السلبية حين تصبح ” اللحظة” هى ” ذات اللحظة” و هى ..هى ” غيرها” فى نفس الوقت.
وقد يحدث فى الظروف سالفة الذكر ( الجنون والحلم والشعر) أن يختفى بعد الزمن أو تتضاءل فاعليته أو تتنحى مؤقتا، فيظهر التعدد على السطح فى آن واحد، اما فى الجنون (الفصام خاصة) فتشل الشخوص المتعددة بعضها بعضا وتتبادل احيانا فى تساو عاجز عن ترجيح كفة أى منها فيكون ناتج العقل صفرا حيث لا يصل الى قرار أبدا (أو يصل الى القرار ونقيضه فى عجز ساكن – قارن بعد ذلك حركة النقائض-).
أما فى الحلم فإن إعادة التنظيم تبدو عشوائية فى ظاهرها ولكنها حركة تظهر الكيانات المتعددة التى قلقلت (بعد اختفاء اللحام الشعوري) فى علاقات جديدة تصنع الحلم، (مع التنبيه أن “ظاهرة” الحلم هى غير الحلم المحكى بعد أن تناولته الذاكرة، الأمر الذى يعرض مادته إلى إعادة التنظيم).
أما فى الشعر، فالتعتعة تتم فى إطار شعورى حين تخف قبضة الوحدة الظاهرة الساكنة عن المحتوى المتعدد، فتتحرك الصور فى تقابل مثير متبادل، وتصاغ فى الشكل الفنى الممكن (ولا يهم ان يخطئ صاحبها الصياغه او يصيب حسب تمكنه من أدواته)، ويصبح التعدد فى مجال الشعور فى هذه الخبره هو الثروة التى تميز بها الشعر عن غيره من لغات التواصل أو التعبير، وهو تعدد قد يأخذ شكل إعادة التنظيم، ولكن الأصالة فيه تبدأ فى مرحلة فعل التوليف بين التناقضات، فتكتسب اللغة دلالات جديدة من واقع الكيان المتكون الجديد، وتصاغ الخبرة الإبداعية كمثال لكيفية صياغة الحياة فى نموها الولافى الصعب.
ننتقل بعد ذلك إلى ضرورة هذا التعدد ومعناه ودوره فى مسيرة النمو البشرى:
فاذا كانت هذه الخبرات التى اوردتها هى عينات صور التعدد فى الكيان البشرى، فما هى الدلاله، وما هو المغزي؟
يبدو أن الانسان اذ يولد يحمل معه تاريخ الحياة والأحياء فى تكاتف منظم وليس فى تلاحم نهائي، وتصبح مسيرته الحياتية هى محاولة تلك الكيانات التى ولد بها، ومن خلال عمليتى ” ملء وبسط” متصلتين تتحرك هذه الكيانات فى علاقات معينة لا مجال هنا لتفصيلها ولكنها تترواح بين التناوب، والتعاون، والسيطرة، والصراع، والإستبعاد، والإزاحة، والتلوث، والمواجهة وأخيرا التوليف (الولاف)، ويتم كل ذلك من خلال النشاطات الحياتيه المتتابعة بما فى ذلك التناوب بين النوم واليقظة، وبما فى ذلك فعل الحلم وابداع الخلق، والذى يهمنا فى هذا البحث المتقدم هو العلاقة الأخيرة حين يعايش الإنسان تعدده ويعيه وعيا نسبيا فيما يسمى أزمات النمو، دون أن يتناثر أو تعجز الكيانات بعضها بعضا كما فى حالة المرض وفى الفصام خاصة، وهذه المعايشة هى التى يمكن أن يكون توضيحها هو الهدف من تقديم هذا البحث للانسان غير المتخصص، لعله باستيعابها يسمح لنفسه فى أوقات خاصة بهذا التعدد الواعى مرحليا، وبالتالى يحتمل تناقضه ويتيح لنفسه فرصة توليف أعلى من المتناقضات المواجهة بعضها بعضا، وقد يكون فى إعلان طبيعتنا البشرية متعددة الشخوص ما يشجعنا – فى مراحل بذاتها – إلى تقبل التناقض فى الآخرين باعتباره حدثا طبيعيا هاما قد يحمل فى ظروف خاصة (أهمها التقبل والوقت الكافي) إمكانية دفع عجلة النمو فى مسارها الطبيعي. وبغض النظر عن تفاصيل علاقات هذه الكيانات ببعضها داخل الوحدة البشرية، الأمر الذى قد نفرد له بحثا خاصا (أو يجده القاريء فى موضع آخر[4] فان تأثير هذا المفهوم على التواجد البشرى وعلى صورة الذات بل وربما على المسار الحضارى لا يمكن إغفاله سلبا وايجابا، وقد حذرنا فى بداية هذا المقال من بعض السلبيات وجدير بنا ان نذكر هنا ما نراه على الجانب الآخر:
1- إن شعورى بالتعدد داخلى يقلل من غرور “الأنا”، فمن أنا إذا كنت لست الا “هم” (قادمين من أجيال سحيقة وأحياء منقرضة)؟ ولست إلا “نحن ” (مبصومين داخلى نتيجة إحتكاكى معهم ومواجهتى لهم وتناقضى فى مقابلهم وعدوانى عليهم ودفاعى عن نفسى من إيذائهم…) ؟ فاذا كان الأمر كذلك، وكنا نتحدث عن الإيجابيات، فلابد أن أكون “أنا ” هو محاولة الولاف المستمر لأصنع الوحدة المؤقتة من جماع هذا التراكم الحي، فى طريقى إلى أن أصبح وحدة كيانية فى كل اكبر، وحسب قدرة الفرد منا على إستيعاب هذا الموقف لحظة بلحظة ومرحله بمرحلة، يكون مساره، وتكون آثار هذا المفهوم سلبا وايجابا
2- فاذا كنت أنا لست الا ” هم.. ونحن ” فى طريقى الى وحدتى البشرية التى هى إحدى كيانات وجود اكبر، فما هو الطريق إلى مزيد من العداوة والتكبر والحكم الفوقى والصراع؟ لقد فهمت أحيانا قول المسيح أنه من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر على أنه من كان منكم ” ليس هو هى تلك الزانية” وذلك بالنظر من بعد معين، أو “من كان منكم لا يحويها داخله” وكأنه يذكرنا بما هو نحن تفويتا علينا لمعركة زائفه تنسينا حقيقة رحلتنا الأصعب، والأخلاق المسيحية بهذه الصورة حين تؤكد على أن نحب أعداءنا لا تصبح، من ذلك البعد الأعمق، أخلاقا مثالية نظرية أو ضد الطبيعة البشرية، بل لعلها تذكرنا بتواضع شديد أن نحب أنفسنا إذ نحب أعداءنا، وأن نحب أعداءنا إذ هم داخلنا (أصلا خارجنا ثم داخلنا- خارجنا… الخ) ولا يمكن أن تكون الصوره هى صورة الإستسلام الخائب من موقع الطفولة المسطحة، ولا شك أن هذا الموقف لا يستطيع أن يقفه إلا شخص شديد النضج عميق الوعي، وقليل ما هم، والا فان الحيل النفسية سوف تأخذ مجراها الى أبعد مدى ويصبح الكبت، وتكوين رد الفعل Reaction Formation هو التفسير الاقرب للإضطرار الى إخفاء العداوة واظهار محبة معطلة وسخيفة تجاه العدو، والفرق دقيق ويقع عادة خارج مجال الرؤيه العادية والأحكام الأخلاقية، ولعل مما يساعدنا على تحديده هو التيقن من تشريف العدو داخلى حقيقة وفعلا، فما هو الا أنا بشكل أو بآخر، حتى لو قتلته فى الخارج فمعركتى لا تنتهى فى الداخل بل لعلها تزيد، لأن هذا ” البصم” المشار اليه انما يزيد ويسهل انطباعه لحظه القتل بالذات (بدأت هذه المشاهدة من تتبع بعض مرضاى الفصاميين وتغيرهم إلى إتجاه ما هو والدهم عقب لحظة الوفاة مباشرة وحضورهم إياها، بما كان يمثله الوالد المتوفى من تما سك وعدوان وتضاد وتناقض وبما كانوا يحملونه من رغبة فى التخلص من الوالد المعتدي)، ولعل فى ذلك ما يفسر أن ” الروح ” تحوم حول قاتلها (انظرما يأتى بعد)، اذا فالمسألة ليست مسألة تمييع المواقف الإنسانية من خلال تصور أن” كله مثل كله” فينتهى الخير والشر، ولكنها مواجهة بحقيقة (وخدعة) التمييز البشرى بين البطل والضحية، بين القاتل والمقتول، بين الشرير والفارس…الخ. والصعوبه التى أجدها فى هذا المقام لتحديد الفرق بين “ضرورة الديالكتيك” “ومسخ التسوية” سوف ألقاها فى كل حين وسأحاول أن أحذر منها دائما أبدا، لأن المسألة ممارسة حياتية وليست ألفاظا وتبريرات وتعريف المفاهيم ومناقشات ذهنية.
3- وما دمت ” أنا ” أحوى الأبيض والأسود معا، أفلا يساعدنى هذا أن أتحملهما بجوار بعضهما بخارجى إذا تيقنت أن خارجي، هو أصل داخلي، وأن داخلى هو الممثل الطبيعى لما هو بالخارج” هل أستطيع أن ” أتحمل التناقض” فى الخارج دون تصنيف الناس ( أو بتعبير أدق: المسارعة الى تصنيف الناس) إلى فريقين على طرفى قطبى التعارض، ورغم أن هذه النقطة تبدو قريبة من سابقتها، إلا ان الإيضاح هنا يرتبط بموقف جديد: ليس فيه دعوة الى حب العدو بالمعنى الأعمق وإنما إلى تحمل التناقض الظاهر فى الآخرين وفى العالم الخارجى لأنه هو هو “أنا” وبغير هذا التحمل سنشطر العالم خارجنا تعسفا وقهرا إلى شطائر نتعامل معها، فتشطرنا بدورها وتلغى بقايانا التى قد تكون أهم ما يدفعنا الى إستكمال المسيرة، وتحمل التناقض يشمل ضمنا تحمل الغموضTolerance of ambiguity لأن التناقض قد يستبعد منطقا، أو حتى فى مرحلة الإدراك وقبل المنطق والتفكير، وحين يستبعد تواجد ” التناقض معا” يغمض الموقف لا محالة، فأما أن نرفضه جميعه تأكيدا لعجزنا، وحماية لقشرتنا المسطحة، وإما أن نضع إحتمالات متفرعة ومتنوعة تشمل كل شئ، بما فى ذلك التناقض، والخلف، والتذبذب، والتراجع وغيرها مجتمعين فى كل لا تختل وحدته باجتماعهم وإنما تتأكد دافعيته وحيويته فى المسيرة المتصلة من خلال هذا التجمع ظاهر التضارب.
4- وعلى ذكر المسيرة، فإن هذا المفهوم (تعدد الكيانات فى الوحدة البشرية) هو القوة الدافعة نحو إستمرار النمو بمعناه الديالكتيكى الحقيقي، ومالم تستقر هذه الكيانات فى معادلة هامدة من “التسوية” أو “التلوث” اللذين يقلبان الوجود البشرى الى نوع من الإستاتيكية المجمدة، أو التكرار المغلق، مالم يحدث هذا فإن القوى الدافعة الناتجة من هذا التعدد النشط هى هى الدافع الحقيقى للنمو (ويمكن تفسير ما يسمى بالغرائز والطاقة تفسيرا أعمق مرتبطا بمفهوم الكثرة الحيوية المكونة للوجود البشري)، ثم أن حكاية الوحدة التى نقيضها داخلها، وأن السلب يخرج من جوف الإيجاب (هيجل) هى التعبير الظاهرى لحقيقة تناقض المحتوى المكون للوحدة بشكلها الظاهري، رغم أن هذا الشكل الظاهر هو الذى يميز هذه الوحدة بالذات، وهو الذى يتعامل – فى لحظة بذاتها- مع الناس والواقع وهو المسئول وهو المخير المختار.. الخ، ولكنه أيضا- فى نفس الوقت- ليس إلا مايحويه وما هو دلالة عليه.
وفى عملية النمو الديالكتيكى المستمر الناتج عن هذه الكثرة المتواجدة “معا” فى الكيان البشري، يخرج الداخل الى حيز الشعور وذلك فى مواقف النمو الحرجة (تسمى أحيانا أزمات النمو (Growth crisis ليصبح أكثر وأكثر فى متناول عملية التوليف المسئولة عن تكوين الوحدة الأعلي، ونفس هذا الأمر انما يحدث بجرعات أخف، وبعيدا عن دائرة الوعى من خلال الحلم بوجه خاص.
5- ومع كل هذا الوعى بحقيقة هذا المفهوم وآثاره لابد أن يعاد النظر فى المرض النفسى وخاصة الذهان، فلا يصبح ظهور الكثرة (الطبيعية) التى تتكون منها الوحدة البشرية هو فى ذاته مرضا يستأهل إسما ولافتة، بل يصبح إعلانا لحقيقة يحب أغلبنا أن يتجاهلها لأسباب مرحلية، وربما آن الأوان أن نعتبر هذا التجاهل خدعة لم يعد لها مبرر كاف، وهذه الحقيقة التى يعلنها المرضى (الذهان النشط خاصة) خليقة بأن تتناول فى إطار إتاحة الفرصة لهذه الكثرة المعراة أن يعاد تنظيمها من خلال احتمال التوليف الأعلي، حتى لايصبح الرعب منها (من الكثرة) دافعا للقضاء على أغلب مكوناتها فورا والى الأبد بالقهر الكيميائى والتسطيح الترميزى سواء بسواء.
وأوقف نفسى قسرا حتى لا أستطرد فى سرد عينات تفصيلية فى الأحوال المرضية[5]
وليسمح لى القارئ و أنا اختتم تقديم هذا المفهوم أن أدعو خياله للمشاركة المتأنية فى تفكير غير مسبوق بحكم نهائي، ونحن نحاول أن نجيب عن تساؤلات خطرت فى بالى إنطلاقا من مفهوم التعدد والكثرة الذى قدمته فى هذا البحث:
1- هل يمكن أن تكون الأرواح والأشباح وربما الشياطين وما إليها) ليست سوى كيانات من صلب كياناتنا المتعددة التى تسقط الى خارج عالمنا فنستقبلها (فكرا أو تجسيدا) من جديد؟ وهل يمكن أن تكون الأرواح ( بما فى ذلك تحضيرها وتصويرها ) ليست سوى كيانات مدمجة فى الوجود البشرى الحي؟ (وما الكيان إلا ترتيب فيزيوكيميائى خاص)، أى أن الجسد الحى هو الشاشة الحاملة لمثل هذه التنظيمات المتبقية من أجيال سابقة، تم بصمها من المواجهه والتفاعل خلال حياتنا أو تم نقلها بالوراثة؟ وفى هذه الحالة يكون من يسمى ” الوسيط” هو كيان حيوى بشرى مرن قادر على التعتعة وإعادة الإحتواء،…الخ…الخ.؟
ولعل من أهم هذه الآثار التى يفسرها هذا الفرض ما قيل عن تصوير الأرواح ( مارلين مونرو بجوار أرثر ميللر بعد وفاتها مثلا) اذ يصبح التفسير بسيطا ما دام التركيب المدمج هو تركيب فيزيوكيميائى قابل للتعتعة. وبالتالى مستعد للتاثير على فيلم حساس، وبالتالى يصبح الجسد الحى صاحب الاتصال والاحتكاك بالشخص الراحل (أو حتى قبل أن يرحل حسب هذا الفرض) هو المجال الحاوى لهذا التنظيم الممثل للشخص المعني.
2- هل يمكن أن نربط بين سعى الإنسان لوجه الله فى عمليه نموه المستمرة، وبين إقترابه من توحيد كياناته المتعددة فى كيان واحد شيئا فشيئا من خلال عمليه التوليف بين كياناته المتناقضة، فنفهم بعمق أكثر بعض مفاهيم التوحيد الصوفيه وبعض مفاهيم التوحيد الالهي، بل وبعض ما أسماه ماسلو “الوجود شبه الالهي” God like existence الذى يصبغ خبرات تحقيق الذات؟
أو هل يمكن مراجعة ” التثليث ” المسيحى ” فى أقنوم واحد” كممثل لمستوى ما من “الكثرة فى الوحدة”؟
ومرة أخرى أوقف نفسى قسرا عن التمادى فى عرض التساؤلات ليكمل القارئ بما وهب من شجاعة التفكير تساؤلاته الخاصة ولا يسارع بالاطمئنان الى إجاباته الخاصة ( ولا إلى إجاباتى بداهة).
التعقيب:
أظن يا محمد يمكن أن تلاحظ أن ما جاء فى هذا المقال يظهر كيف كان حذرى الشديد حين كنت فى سنك، حذرى من نفس ما تحفظتَ عليه ونبهتَ إليه،
أرجو ألا يكون ذلك سببا فى توقفك عن التساؤل، والإضافة، حتى العراك، ما رأيت إلى ذلك سبيلا.
***
المقال الثالث:
مجلة الإنسان والتطور ، عدد يناير 1982
حول طبيعة المعرفة
(المواجهة بين الفطرة والتعلم)
د. محمد يحيى الرخاوى(6
يغامر كاتب هذا المقال بالاقتراب من طبيعة المعرفة بتصور نسق مسبق قابل للجدل والتطور، ويسهم فى قضية المعرفة باجتهاد متواضع، وهو يشعر بمخاطرها الى حد الجنون، وبروعتها الى حد النبوة .
اذ كان الانسان يولد وفى داخله قوة هائلة ترغب فى المعرفة، فهذه محاولة للنظر فى كيفية حصول هذه المعرفة من خلال تطور ما سيطلق عليه فى هذا المقال اسم (المنظومة المعرفية) لتدل على ذلك النظام المتكامل الذى تنظم فيه معارف الفرد، وبدون هذا النظام على أية حال كان(سلبيا أو ايجابيا، مختبئا كان الفرد او مواجها)، فان الفرد يعانى ما قد نطلق عليه قلقا أو توترا أو ضياعا أو ضبابا كما يحلو لكل أن يسمى هذه المعاناة التى تنتج عن تنافر أو تخبط تلك المعارف المفردة بعضها ببعض اذ هى لا تنتظم داخل اطار يجعل ما بينها تكاملا لا تنافرا، تفاعلا لا تخبطا.
وهذا المنظور يفترض ولادة الانسان وبه (منظومة فطرية)، تلك التى ينتظم فيها كيانه قبل أن يحصل من الخارج على أية معرفة جديدة، وفى لحظة حصوله على أول معرفة جديدة يبدأ الفرد فى تخطى تلك المنظومة الفطرية، فاى معرفة جديدة، هى بالضروة لا تنتظم فيها (طالما هى جديدة)، وتزداد المعارف والمعلومات الواردة من الخارج، عندئذ قد تتدخل المراجع الاجتماعية لتحكم أولا كم المعارف الواردة، ثم لتحجر على حركة هذه المعارف فتتجمد فى ظل منظومات الأفراد المرجعيين الخاصة، فتتكون منظومة مأخوذة من تلك المراجع سنطلق عليها هنا اسم (المنظومة المكتسبة)، وهذه تبقى كما هى بلا تحول أو اضافة أو تطور، وغالبا ما تكون هذه المنظومة علامة انحدار عن المنظومة الفطرية والغاء لامكانات المعرفة المصاحبة لها (أو الكامنة فيها)، وهى انحدار لا تطور لأنها تجمد المنظومة الفطرية وتشلها، مع ما قد يوجد فى هذه المنظومة من استعدادات معرفية أو تطورية، وهذا هو حال معظم الناس للأسف.
وعادة اذا ما تخطى الفرد المنظومة الفطرية باكتسابه اى معرفة جديدة، فانه لا يجد سبيلا للرجوع اليها حتى يبدأ من جديد، حيث أن المعارف الجديدة موجودة بالرغم من كل شئ، وهى لا تدخل فى بناء هذه المنظومة، حيث أنه اذا ما تكونت المنظومة المكتسبة المتجمدة، فانه لا سبيل الى التطور بعد ذلك الا بتفككها لاعادة فتح أبواب الاستقبال، وهذا بالطبع لا يحدث الا مع الندرة، ولكن اذا ما حدث فهنا يمكن الخطر كل الخطر( خطر الجنون مثلا) .
والاحتمال البديل عندما يتخطى الفرد تلك المنظومة الفطرية اذ تعجز عن احتواء المعلومات أو المعارف الجديدة الواردة، هو أن تظل المعلومات تتخبط ولا تعرف لها اطارا أو نظاما تنتمى اليه، وهنا تبرز مشكلة الضياع والتوتر أو القلق (أو غيرها من المسميات) التى يحس بها الفرد، فالمعلومات ناقصة وغير مفسرة، أوهى مفردة لا تجد قانونا أو اطارا ينظمها لتنتج كلا أكبر من مجموع الأجزاء، ولست أرى حلا لهذا سوى الاستمرار فى البحث سعيا الى منظومة تنتظم فيها هذه المعارف، فاذا ماوعى الفرد هذا التخبط (أو التنافر) بين تلك المعارف، عاش فيما يسمى بحيرة التساؤل أو جهاد المعرفة، وقد تبلغ هذه الحيرة من الشدة ما يؤدى بصاحبها الى الاضطراب الذى لن يكون مرضيا بالضرورة، اذ هو أخف بكثير من حالة تفكك المنظومة المكتسبة.
وقد يكون نتيجة هذه الحيرة، اذا طالت بلا حل، هو الهروب الى منظومة مكتسبة مبطنة بالمشاركة مع الغالبية، ولكن هذه المنظومة فى الغالب ما تكون أقل استقرار مما لو كانت قد تكونت منذ البداية .
أما الوجه الايجابى المتماسك الذى قد ينتج عن تلك الحيرة فهو ذلك النهم المعرفى الذى قد يغمر الفرد فيفتح أبوابه المعرفية، وهذا النهم وظيفته أن يزيد عدد مفردات المعرفة الجديدة، تلك التى تمثل عناصر بنية المنظومة الجديدة .
ويظل الحال هكذا حتى يكتشف الفرد تلك المنظومة الجديدة التى تختلف مع مجرد الاكتساب ولا تكتفى بمجرد الفطرة، وفى تصورى أنه يكتشفها موجودة بداخله وقد تم بناؤها فعلا، فهو لا يحاول (متعجلا أتمام البناء قبل استيفاء عناصره) أن يصنعها أو يحيكها مستنبطا قوانينا عقلية منطقية مهما كان صدقها فهو صدق جزئى اذا لا ينتمى انتماء أساسيا للنظام الذى يحوى الكل ويرتب التفاعل بين أجزائه، وقد يكون من نتائج عجزه عن الوصول الى تلك القوانين المنطقية الجزئية أن يضطر الى التزييف بالتأويل والبعد عن الواقع كما قد يتضح فيما بعد، المهم أن هذه المنظومة( التى يكتشف تكوينها) من الممكن تسميتها هنا ( المنظومة التطورية).
وتظل هذه المنظومة التطورية مفسرة لمعارف الفرد، ولكن عملية اكتساب المعارف أو المعلومات لا تتوقف، وهنا قد يجد الفرد أن المعلومة الجديدة أو التساؤل الجديد له مكانه المقبول فى المنظومة التطورية الجديدة، سواء أكان هذا بتقبل بناء المنظومة للمعلومة، أو برفضها بمعنى أن المنظومة استطاعت ان تلغى القضية ايجايبا، أو باكتشاف وجود بديل لها بالمنظومة وان لم يكتشفه الفرد الا عندما أثيرت هذه القضيةن أو بغير ذلك من اشكال حل القضايا أو قبول المعلومات حسب نوع هذه القضية أو المعلومة أو التساؤل .
ولكن تبرز هنا قضية غاية فى الأهمية، وهى طريقة قبول هذه المعلومة فى المنظومة، والقضية تتضح عندما نعلم ان الفرد لا يبذل جهدا ذهنيا تفكيريا يحاول به ادخال هذه المعلومة فى المنظومة، اذ لو فعل(وغالبا ما يكون هذا بطرق ملتوية) لكان هذا ــ بشكل ما ــ تجميدا للمنظومة الحاضرة (الجاهزة) لا تغرى بالمخاطرة، فهى كيان قائم (قام) وانتهى الأمر، ولكن لو ان المعلومات أو المفردة المعرفية الجديدة كانت قد وجدت مكانها القائم فى هذه المنظومة ، والذى لم يكن ليحتاج الا أن يعى الفرد أنه موجود، لما واجه الفرد مشكلة التجمد أو اضطر للهرب، فالمنظومة الموجودة لا تزوال قادرة فعلا على الاستيعاب، فالخطأ يكمن فى رفض المعارف أو تأويلها، او تحوير المنظومة القائمة وزيادة مفردات المعرفة وتطويرها ثم اعادة انتظام المعلومات فى بناء جديد سيكون فيما بعد المنظومة التطورية الأرقى .
والمعلومات لا تحور فقط لتدخل فى اطار المنظومة، بل ان المعلومة تستخدم كذلك لتأكيد صحة المنظومة وتقوية تجمدها (فلقد استطاعت أن تحتوى المعلومة الجديدة ولو كانت محورة) وهذا يبرر للفرد عملية التحوير(فيجعله يغض النظر عنها وكأنها لم تحدث)، ويظهر هذا الشكل عند معظم أولئك الذين مع أهل العلم مع أهل السياسة والفكر القائم (وليس التفكير)، وان كان بعضهم لم يصل حتى لمرحلة اكتشاف المنظومة التى ثبت عليها، بل تلقاها وثبت عليها، مثله كمثل من تلقى منظومته الأولية من مراجعه الاجتماعية (الأسرية وما حولها) فهو لم يختلف الا فى اتساع النطاق، فبدلا من المراجع الاجتماعية الضيقة النطاق والافق، اتخذ مراجعا أخرى، دينية كانت أو سياسية أو حتى تاريخية أو غيرها.
أذن فالمقصود بأن المعلومة تجد مكانها فى المنظومة، هو أنه اذا كانت المنظومة بناء متكاملا قائما بذاته، فقد لا يرى الفرد كل مكوناته، ولكنه عندما يواجه بوجود هذه اللبنة( المفردة المعرفية الجديدة) يجدها قائمة فى بناء المنظومة، بل انها قد تكمل له بعض جوانب البناء التى كانت خافية، نجد هذا فى مقابل تحوير وتأويل المفردة المعرفية بالبعد عن الواقع لتدخل فى البناء القائم فعلا .
وقد يحدث أيضا أن يستبعد الفرد المفردات الجديدة اذا لم يجد لها مكانا فى المنظومة المعرفية، فهو يلغى المعلومة من أساسها (وهذا غير تحويرها او تأويلها السابق ذكره)، وان لم يلغها فهو يستبعدها (وهذا فرض افضل أو اكثر واقعية) بحجة أن لا علاقة له بها مثلا، وأصحاب هذا الموقف هم من غير المتحمسين من المنتمين لمنظومة ارتضوها واكتفوا بها، كما أن ذلك هو موقف أصحاب المنظومة الأولية المكتسبة دون تحوير .
كما أن هناك البعض ممن لم يغلق منافذ الاستقبال والمعرفة، وأن كان لا يبحث عنها تنازلا عن القضية بأكملها بسهولة ويسر، فان تكونت بعض الارتباطات المعرفية الجزئية فأهلا بها، وأن لم تتكون فلا داعى، وما عرف قد عرف وما لم يعرف فليس يهم أحدا، وكان الله بالأسرار عليما.
لكن ماذا يحدث للمنظومة القائمة لو أن الفرد المستمر المجاهد (وعفوا للصفات التى فقدت معناها ــ أصحابها ــ) لم يجد للمعلومة الجديدة مكانا بها، اذا واجه هذه الحقيقة فهو سيعلم حتما أنه قد تخطى مرحلة المنظومة الحالية، ولكن المفردات تظل تتكاثر خارج المنظومة السابقة وقد أتصور أن بقاء المنظومة السابقة رغم تخطى الفرد لها ضرورى ومساعد هام على الاستمرار، فوجودها يجعل هناك اساسا، ولو منهتكا، يستند اليه الفرد، وقد تتكون فى هذه المرحلة منظومات مرحلية مساعدة، وهى أرقى بالضرورة، وهى مرحلية اذ هى جزئية، بمعنى أنها احتوت كل المفردات،(وهل يستطيع الوصول لتلك المنظومة الجامعة الا نبى، ومن المفترض بالطبع أن تكون المفردات هائلة عند مثل هذا الشخص صاحب تلك الصفات ــ اللهم احفظناــ)، وهذه المنظومة المرحلية لها نفس وظيفة المنظومة السابقة، وهى الاعانة على التماسك فالاستمرار، وان كانت أكثر حداثة وأقل تهتكا، وبالتالى فهى أكثر فعالية، بل ان تكونها فى حد ذاته مشجع ومطمئن كبير على أن العجلة لم تتوقف، وهذا عامل قد يكون له أثره الكبير فى التخفيف من وطأة اليأس.
والآن، هل من الممكن أن نرى من خلال هذه النظرة ما يمكن أن نعممه ليوضح شيئا عن قفزات ومراحل نمو الأشخاص من منظور نفسى؟
ــ أو هل من الممكن أن ننتبه الى امكان تدخل مفهوم المنظومة العامة(المشتركة)
تدخلا جبارا(وقد يكون عاملا رئيسيا) فى قيام الحضارة؟
ــ أو هل فيها ما يمكن أن يعاد به النظر الى مشكلة التطور البيولوجى؟
التعقيب:
هل لاحظت يا محمد كيف أن أَمَلَكَ فى الربط بين هذا المفهوم وبين البيولوجى، والنمو والتطور، لم يكن غائبا عنى وأنا فى سنك؟
دعنا الآن نختم الملف ببعض الملامح من يوميتين تناولتا الموضوع: يومية 26-11″القشرة والفطرة والتعدد والواحدية”، ويومية 9-12 “تعدد الكيانات وحركية الإبداع”
26-11-2007
المقتطفات الأولى: من يومية
“عن القشرة والفطرة والتعدد والواحدية”
…….
- الفطرة ليست كيانا، أو صفة (أو مكانا) ، ونستطيع أن نحددها الآن فى ألفاظ أدق قائلين : الفطرة هى تفعيل قوانين حركية الوجود،
- وبالتالى تصبح القشرة الساكنة الجاثمة المنفصلة المستْبعِدَةْ لهذا القانون والمانعة للحركة، هى الغطاء الخارجى للذات
- إلا أن نفس هذه القشرة إذا كانت مرنة ومسامية ومتغيرة فإنها تصبح جزءاً لا يتجزأ من الفطرة، بل ومكملة لها (فهى أحد أوجه نفس القانون تكمل حركيتة وتدعم نظامه).
فأين تقع الذوات المتعددة من هذا وذاك؟
v حركية الوجود: لا تتم فى فراغ
v هى تجرى بإيقاع تناوبى تكاملى جدلى ينظم ويوجه منظومات الوجود البشرى المتعددة (فى واحد)
v ممتدا إلى منظومات الوجود الكونى المتصاعدة.
v وبالتالى يصبح تعدد الذوات ليس مجرد حضور متبادل، أو متناوب، أو متنافس، أو متصارع، أو حتى متعاون، وإنما هو وحدات عِمالة الحركية الإيقاعية المتمادية لغايتها بإيقاعها الحيوى طول الوقت.
v إذا ما طغى الكيان الظاهر (فى اليقظة عادة، فهو لايستطيع أن يظل طاغيا أثناء النوم) على كل تعدد مستويات الوجود، كبتاً، أو محواً، أو إزاحة، أو كل ذلك وغيره، فهو هو القشرة بشكل أو بآخر.
v يتم التناوب بين الكيانات فسيولوجيا (فى النوم والحلم) وهو أمر من المستحيل إيقافه، ومع ذلك فنتائجه، لو لم تستوعب الجدل النمائى، ليست عادة إيجابية.
v إن الوعى النسبى بتفعيل قوانين حركية الوجود بقانونها الحيوى والاستعداد لتلقيها، فالاسهام فى حفزها إلى ما تعد به، هو الإبداع فى مختلف تجلياته، بما فى ذلك إبداع الذات على مسار النمو.
v إن انفصال القشرة بعيدا عن حركية قوانين الوجود لدرجة إخفائها، ومحو آثارها (حتى الفسيولوجية) أولا بأول هو الذى يجعل القشرة تبدو نقيض الفطرة وكأنها حلت محلها تماما.
9-12-2007
المقتطف الثانى: من يومية
“تعدد الكيانات وحركية الإبداع”
التعدد هو حركة كيانات أكثر منه كيانات فى حركة!! ياه !! لم أقصد، ولكننى سوف أترك هذا التعبير كما خرج منى هكذا للنقاش، مادام ثم نقاش،
من هنا يأتى مدخلنا إلى “حركية الإبداع” ليس بصفته موهبة نادرة، أو عبقرية متميزة أو ناتج فذ، بل بصفته أرقى أنواع التشكيل المتجدد لمستويات متعددة من الوعى بما تحتويه ويحتويها من كيانات مرنة تسمح بهذا التشكيل فى ناتج أصيل جديد، إن هذا المدخل هو الذى يمكن أن يهدينا إلى الإحاطة بالمعنى الحركى للتعدد من حيث المبدأ.
تساؤلات ختامية:
– هل تعقدت المسألة بذلك أم أنها مَثُلَتْ متحدية تستدعى النظر وإعادة النظر؟
– هل أصبحت الأمور ثقيلة على القارئ العادى، أم أن كون أغلبها نشر فى مجلة دورية منذ ربع قرن يبرر تقديمها بما هى مرة أخرى للقارئ العادى؟
– هل مغامرتنا بنشر هذا الملف سوف يؤدى بنا إلى مزيد من التعمق فى التخصص، أم أنها رؤية عامة مطروحة على كل الناس، تستأهل النظر والمشاركة؟
وتساؤلات أخرى كثيرة
[1] – بدأت هذه الرؤية، ثم هذه النظرية لما بدأ أريك بيرن يعتقد فى حدسة الإكلينيكى وقدرته على الوصول إلى مهنة الجندى القادم للكشف (وكان بيرن أيامها يخدم فى الجيش) دون أن يسأله عليها، وثبت لديه أن هذه القدرة أعلى من مجرد الصدفة، وأنها تحتاج إلى لحظة إستعداد خاص من شخص بذاته وأنه يمكن تنميتها، ثم تسلسلت الرؤى وتعاقب التنظير
[2] – والتصوف، إلا أنى لم أرده هنا لأنه خبرة معقدة تجمع هذه الأطراف جميعا، وهى غير قابلة للدراسة بشكل مباشر بحيث لا يفيد الإستشهاد بها هنا.
[3] – أقنعة الشعر المعاصر: مهيار الدمشقى ( جابر عصفور) مجلة فصول ( يوليو 1981) السنة الأولى المجلد الأول – العدد الرابع.
[4]– Rakhawy، Y. (1981) : seleckted Lectures in psychiatry Dar EI Chad publishers Cairo
[5] – يمكن للقاريء أن يرجع إلى دراسة فى علم السيكوباثولوجى للكاتب، صفحات 26، 32، 37، 52، 124، 224، 569، 740 ، كما يمكن الرجوع لمراجع هذا المقال فى موقعه بالموقع.
[6] – طالب فى السنة الثالثة كلية الآداب – قسم علم نفس – جامعة القاهرة.