يوميا: “الإنسان والتطور”
5 – 10 – 2007
حـوار بريـد الجمعة
تم الشهر الأول (سبتمبر) بالسلامة والستر، وظهرت المعالم، وتعمقت الورطة، ولاحت ملامح الإصرار والاستمرار،
ربنا يسهل .
هذا هو ثالث لقاء نمارس فيه ذلك الحوار “المفتعل”، وسوف نواصل ظلم المشاركين بنفس الطريقة (نقلب الرسالة حوارا دون إعطاء الراسل فرصة الرد إلا لاحقا)، وعلى “المتضرر” أن يطلب صراحة عدم إشراكه بهذه الطريقة، أو أن يسامح ويواصل معنا هكذا، وأمره إلى الله، ما دام الهدف هو إلقاء الضوء بأكثر من طريق من أكثر من مصدر على زوايا ما هو نحن، (مصريين وبشرا) لعلنا نتبين بعض ملامح: “إلى أين”، و”كيف”، “فرض عين” على كل واحد منا دون استثناء (إذا قام به البعض لم يسقط عن الكل).
نقدم حوار اليوم بطريقة جديدة:
قدمنا أولا حوار 14-9- مع محاور واحد (فتح كلام: مع الإبنة أسماء نبيل)، ثم قدمنا الحوار التالى: (الجمعة الذى امتد إلى السبت 21، 22-9) “كل حىٍّ باسمه”، وهكذا كان حوار الجمعة 28 سبتمبر، لكننا اليوم وبعد أن أكرمنا المعقبون بعديد من المداخلات، نجمع الحوار “بحسب الموضوع” لا نسبة إلى الشخص ما أمكن ذلك.
***
والآن: إلى ما هو “كأنه حوار”
يدور الحوار اليوم حول موضوعات: التصوف والفطرة البشرية، و”سر اللعبة” ألعاب نفسية”، و”التواصل البشرى” وتحديث الدين، ثم إبداع المرأة والشخص العادى.
لكن دعونا نبدأ بحوار قصير مع حول فكرة الموقع” من حيث المبدأ. ربما بمناسبة أنتهاء شهر على ظهوره.
المقدمة
I مجهول الاسم ..!
التاريخ 30 / 9 / 2007
بدون اسم: ———
على فكرة يا دكتور يحيى أنا متابعة كل يوم، الحمد لله، ولكن باستخدم حق الصمت شوية إلى أن استوعب الموضوع.
د. يحيى:
… هذا طيب، بدون اسم، سألت نفسى عن عدد قرائنا مثلك مِمّن لا نعرفهم، أشكرك يا سيدتى (يا آنستى)، ربما، يتابع حتى يستوعب هو الأهم، أفضل أن اتصور أنهم كثيرون وكثيرات (طبعا ليس هو نفس العدد الذى يخرج لسانه ونحن نقرأ عدد “زوار الموقع الكترونيا”، والذى مهما أقسم لى الأبناء المسئولون عن الموقع أنه عدد صحيح، لا أستطيع أن أصدقه، إذ يبدو أن نظام “زيارة المواقع” يسمح برصد حركة المرور فى الطريق الصحراوى على أنها “زوار قصر المنتزة بالأسكندرية”!!.
المهم هؤلاء المشاركون الصامتون – يا ابنتى: (سواء كنت سيدتى أم آنستى)، هم الثروة المجهولة التى أرجو أن أساهم فى تشكيلها مع تشكيل نفسى بهم، حتى وهم صامتون، فإذا وجدوا ما يشاركون به علانية، فأهلا، وإلا، فهم الصامتون المستوعبون أصحاب الفضل.
ثم إنى بصراحة: سررت من حكاية “إلى أن استوعب الموضوع”، تصورى أننى أيضا أريد أن استوعب الموضوع مثلك، فالتزامى يوميا يلاحقنى حتى أواصل الورطة “قبل أن استوعب الموضوع”، ثم إننى أخشى لو استوعبت الموضوع أن أتوقف، وساعتها – يا ابنتى – عليك أن تلحقينى.
لعل من وظيفة هذه المحاولة هى أن نستمر فى الاتجاه الصحيح دون أن نستوعب الموضوع تماما، ومن ذا الذى يستطيع أن يستوعب موضوعا ما والدنيا مفتوحة هكذا، والمعرفة بلا حدود، والله وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو سبحانه ليس كمثله شيئاً.
هات ما عندك يا شيخة، أو استوعبى صامتة، فأنت معنا حتى بالرغم منك، ونحن معا نستوعب الموضوع واحدة واحدة:
II– إلهام مانع (د. إلهام مانع)
د. الهام:
أندهشت عندما أدركت طبيعة مشروعك.
د.يحيى:
وأنا مثلك تماما، وإن كان استكمالا لردى السابق على ابنتى “مجهولة الأسم” أحاول أن نتفق أن المهم أن نتأكد من الاتجاه، ونحدد الملامح، ثم نقيم الخطى، لعلنا نتبين طبيعة ما نفعل من واقع أثره إن شاء الله، ربنا يقدرنا.
د. الهام:
تعلمت أن الكثير الكثير ممكن إذا أحسن الإنسان تنظيم وقته، ثم ركز ذهنه على المهمة الواقعة أمامه، كلمة قلتها لى مرة فى مقابلة أجريُتها معك عندما كنت لازلت أعمل فى إذاعة سويسرا العالمية Compartimilization” ” (التقسيم الذهنى) رغم اختلاف الظروف وطبيعة الحديث، لكن المقدرة على هذا التقسيم الذهنى تظل المحك لمن يريد إنجاز الكثير ضمن قيود الزمن الضيقة.
د. يحيى:
تصورى يا إلهام أننى نسيت هذا الحديث تماما، لكن ملاحظتك ذكرّتنى أننى أرد عادة على من يسألنى “كيف تنظم وقتك” بقولى: إننى أسلّم نفسى كل صباح لمن يلحقنى (من داخلى أو خارجى) والذى يسبق له الأولوية، حتى ينتهى يومى وأنا راضٍ، كان الصديق سعد هجرس يداعبنى فى هذه المسألة قائلاً “..لو أنك قمت بنقل ما تكتب نقل مسطرة من مصادر أخرى” لما وجدت وقتاً يكفى، ومع ذلك فأنا لا أفخر بهذا لأننى دائماً أذكر تنبيه طه حسين لضرورة التناسب بين ما نقرأ وما كتب، الحكاية أننى مضطر فى هذه السن أن أورط نفسى مثل هذه الورطات، لأننى بمراجعة مسوداتى شعرت باستحالة أن يقوم بعدى من يلم بما كنت أود توصيله لأهله، أنا أحترم شفقتك، وهى تدفعنى أكثر …
د. الهام:
نعم أشفقت، أشفقت عليك من المهمة. وأنت تدرك حتماً عواقبها.
د.يحيى:
بصراحة: ليس تماماً، أنا لا أدرك عواقبها تماما..
د. الهام:
حكمة تعلمتها: إن من ينطق الكلمة وهو يعنيها، يعرض نفسه لمشاق هو فى غنى عنها
د. يحيى:
صحيح! فهل كتب علينا ألا نعنى ما نقول؟ أم أن نتجنب المشاق ونسكت؟
د. الهام:
(نحن) نحيا فى زمن يستوجب علينا فيه أن نجمّل الكلمة، أو نعدلها، أو نحورها، أو نعجنها بألف “لعل” و”ربما” و”يعنى” قبل أن ننطق بها، خوفاً من ردة الفعل، وردود العقل اليوم كثيرة، تقول لنا ضمناً إن لم يكن جهاراً: إن الكلمة المتضمنة لرأى وفكر حر، تلك التى تخرج عن دوائر الفكر المقبولة “، وتشق لنفسها دائرة مستقلة، يحسن لها أن تصمت. زمن الفكر الصامت.
لكنّكَ قررتَ، وقرارك صعب رغم ذلك، لعلك ستداوينا بالكلمة والفكرة، بعد أن صار المرض علاجاً فى مجتمعاتنا
د. يحيى:
ياه، يا إلهام، صعب صعب أن أتحمل أن تلتقطى كل ذلك مرة واحدة، المرض/الثورة، علاج للاغتراب، والكلمة/الفعل دواء من المرض، أصارحك يا إلهام أننى بعد قراءة تعليقك رحت أبحث فى إنجازاتك المتاحة على “النت”، وما إن قلبت بعضها حتى خفت عليك، دعينى أقرص أذنك، لا أريد منك أن تقوليها “واحدة واحدة”، ولا أن تضمنى رأيك الحر كل هذه اللعلاّت (جمع لعلّ)، والربّمات، كما أنى لا أحذرك من ردّ الفعل، علينا أن نتحمل مسئولية ما نريد توصيله، والمساحة التى نرجو إنارتها، مضروبة فى الزمن اللازم لذلك، وهذا يضطرنا إلى “ضبط الجرعة” مع “حتم الإستمرار” أنا أقرص أذنك لتضبطى الجرعة، لا أكثر
ثم دعينى أكتفى بهذا الآن وأدعو من يشاء إلى التعرف عليك من زيارة قصيرة إلى “سيدنا جوجل” رضى الله عنه، وكما أنى أعتقد اننى سأعود كثيراً إلى ما كتبت –بعد إذنك- لأتعلم منك وأنا أقرص أذنك فى نفس الوقت، لايوجد تناقض، خذى مثلاً: مقالك الأخير “دينك ودينى” 25 يناير 2007 أو مقالك “لنقل لا”، يا شيخة واحدة واحدة فعلاً!!
الموضوع الأول: سر اللعبة
أولاً: (اسمحوا لى أن أحذف هذه الدال “د” قبل اسمى، فكونى دكتورا سواء نسبة إلى مهنتى كطبيب أو نسبة إلى الدكتوراة التى أحملها. ليس هو مايميزنى، على الأقل “هنا والآن” – ثم إنه لايجوز أن أضع قبل اسمى رمزا مهنيا أو علميا، ولا أفعل ذلك مع الضيوف. شكرا).
محمد كامل:
شئ ممتاز جدا – سر اللعبة – وأعتقد أنه عنوان مفصّل جدا، رغم كلمتيه فقط
يحيى:
تصور يا محمد (لاحظت أنى رفعْت الصفات بعد إذنك) أن هذا العنوان هو من أحب ما ابتدعتُ، وهو عنوان ديوانى الأول “سر اللعبة” الذى قدمت من خلاله رؤيتى لتطور الأمراض النفسية (والحياة)، والذى شرحته فى أهم أعمالى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” وتجدهما معا فى الموقع، ثم إنه عنوان البرنامج الذى قدمته فى قناة “النيل الثقافية” والذى أعيد تقديمه هنا مكتوبا (مع فرصة إعادة الاطلاع عليه بالصوت والصورة لمن لم يشاهده) .
محمد كامل:
فى هذه اللعبة قد تم سؤال كل واحد منكم وتم التعقيب
يحيى:
بعد إذنك ، دور السؤال فى اللعبة محدود محدود، ولا يطرح إلا سؤال واحد بعد كل لعبة ” “فيه حد وصل له حاجة جديدة”؟ هذا هو السؤال الوحيد: أما أساس اللعبة فهو “إكمال عبارات محددة بأكبر قدر من التلقائية ..، ثم نرى
محمد كامل:
لكنى كنت أنتظر تفصيل مغزى رد كل واحد منكم خصوصا دور حضرتك عندما (اعترفت أن) “صورتى (قد) تختلف تماما وأوضحت مدى سُمك القناع ….”
يحيى:
يا عم محمد، ربنا يخليك، أنا أريد أن أصحح مقولة شائعة تزعم أننا (نحن الأطباء النفسيين وأمثالنا) نعرف “تفاصيل مغزى كل شئ ، كل رد، كل تصرف، كيف يا أخى بالله عليك؟ “
محمد كامل:
لِمَ لا نمسك شخصا شخصا ونحلل ما قاله بشكل أعمق حتى يتسنى لنا توضيح إشكالة الفهم داخلنا، والتى تحيرنى أنا شخصيا فى أن أحلل هذه الردود لكل واحد منكم .
د. يحيى:
يا خبر !! يا محمد !! إلى هذا الحد ؟ ولكن معك حق، ومعك عذرك، إن الإعلام والأطباء النفسيون والدراما تقدم لنا “مغزى كل شئ” بهذا الحسم الذى أشرت إليه والذى شل تفكيرنا، فأصبحنا كالأوانى المستطرقة، من أين لى، أو لأى ممن هو مثلى أن يعرف “تفاصيل مغزى رد كل واحد..؟ يا شيخ صلّ على النبى، ودعنا نتعلم من الصوفية (والطبيعة الحديثة، والسببية الغائية وغيرها) أقول إنه يستحيل علينا أن نتعرف بشكل نهائى على إشكالة الفهم داخلنا أو خارجنا، خاصة بعد أن فُرض علينا نوع واحد من الفهم، هو – للأسف – الذى يُضِلّنا عن أنفسنا، وعنه سبحانه وتعالى (انظر فقرة حوار التصوف).
وحتى لو قبلنا كل آرائك واقتراحاتك، فما نشر هو لعبة واحدة من عشرة، وأنت قرأت بنفسك نصوص اللعبات التسعة يوم (15/9/2007) وتطلب الآن أن نمسك شخصا شخصا ونحلل ما قال دون أن تنتظر لاستجاباته التسع التى قد يستغرق عرضها شهرين ونصف (مرة كل أسبوع)، ولكنك يمكنك الآن – ولو مؤقتا – أن ترجع إليها مجتمعه فى التسجيل الصوتى المرئى إذا أردت.
أنا لا ألومك، لكن ألوم الأطباء النفسيين والدراما وبرامج الوعظ السطحى والإرشاد الترهيبى لأنها لا تؤدى بنا إلا هذا الربط “السببى” “التفسيرى”،
أكرر قولك: اختلاف الرأى لا يفسد … إلخ
****
أسماء نبيل:
أعتقد أن اللعبة مشاهدة أكثر ثراء من القراءة، لكننى استفدت من التعليقات.
يحيى:
أين أنت يا أسماء، وأنا – طبعا – أعتقد ذلك أيضا، لهذا أشرت برابط للبرنامج كله كلما ورد ذكره، وهو موجود على الموقع “برنامج سر اللعبة”
أسماء:
(طيب) هل نرسل بإجابتنا على الألعاب، أم نحتفظ بها؟
يحيى:
هذا أمر متروك لك تماما، إن أرسلِتها تحاَورْنا، وإن احتفظِت بها، أرجو أن تتحاورى معها بنفسك لنفسك، ولا تسرعى بالفهم أو التفسير.
****
مى:
يا خبر دانا لو سبت نفسى يمكن الناس يستغربونى…
يحيى:
هكذا فقط ؟ (بَسْ كده؟! ماشى)
***
رامى عادل:
يا خبر، دانا لو سبت نفسى يمكن اتجنن بشكل أو بآخر.
لو أعرف ان حد حايستحملنى يمكن (أسيب نفسى) فى ساعتها.
يحيى:
إياك: فى الغالب لن يستحملك أحد، وعليك أن تشارك فى المسئولية من البداية، حتى تتلقى نفسك إذا وقعت إذا ما طلع الذى بدا أنه سيتحملك ليس هو (مش هوّه).
رامى:
اسيب نفسى بتاع إيه د انا حتى مش عايز
يحيى:
أحسن ، (الآن) لحين تستطيع أن تتحمل مسئوليتك أكبر
رامى:
حتى فى الحلم ما أقدرش أسيب نفسى على راحتها لحسن أفوق واصحى.
يحيى:
برضه، احتياطى! (يارب تكون أدركت أننا حتى فى الحلم تنشط إرادتنا)
رامى:
سيب أنت الأول وأنا ساعتها أنا أعيش على راحتى .
يحيى:
فكرّتنى بحكاية التحكيم بين عمرو بن العاص وأبى موسى الأشعرى، لما خلع أبو موسى عليا رضي الله عنه، فثبت عمرو بن العاص معاوية (ولو أنى لا أثق فى التاريخ)
رامى:
أنا مش ممكن اسيب نفسى إلا أما أعرف إنى فى أمان
يحيى:
طبعا، لكن خلّ بالك، عمرك ماستعرف ، المهم تحافظ على الاتجاه الصحيح والأمان يتولد باستمرار
رامى:
اللى مانعنى أسيب نفسى هوا انى مرتاح كده
يحيى:
إبراهيم سعفان يقُرؤك السلام (مسرحية الدبور)
رامى:
لا ياعم أنا لامم نفسى بالعافية ، بس دا مايمنعش إن فى كده مصلحتي.
يحيى:
“ماشى”
رامى:
لازم أعرف أنا فين قبل ما اسيب نفسى ، ما هو برضه أصحاب العقول فى راحة
يحيى:
ياليت
(فى بريد أخر) ليومية “يا خبر أسود دا أنا لو اتجننت ….” 2 أكتوبر 2007
رامى:
ياخبر أسود ، دا أنا لو اتجننت حاترعب ، حاكفر، حاتحبس
يحيى:
بس يا رامى؟!
رامى:
ياخبر أسود ، أنا لو أتجننت ممكن أرجع لورا، انتكس 100مرّة ـ أتفضح أمشى ملط
ربنا يستر
يحيى:
شفت ازاى ؟!
(ثم اقترح رامى – دون توضيح – ألعابا ثلاثة إضافة للعشرة التى لعبناها، وهذا وارد فى العلاج الجمعى، وارد أن أى واحد يقترح لعبة جديدة ، أو يعدّل فى اللعبة المقترحة.
اقتراحات رامى هى .
11- لو ما مفيش قصادى غير إنى أسيب نفسى، أنا (………..أكمل )
12- أنا مضطر اسيب نفسى عشان ………..(أكمل )
13- أنا مضطر اسيب نفسى ومع ذلك ……….(أكمل )
يحيى:
اقتراحاتك طبعا على مسؤليتك يا رامى، وهى على عينى ورأسى، وتدل على أنك التقط الفكرة، وعرفت “سر اللعبة”.
عمرو خالد، والنهضة الدينية
محمد كامل:
أنت تحفزنى على إقرار صحة القول “الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية”، رغم أنى لا أختلف معك نهائيا لما أجد من رأيك صوابا فى أمور كثيرة.
يحيى:
طيب والنبى، لا داعى لــ “نهائيا”، ما دامت الحكاية أنها فى أمور كثيرة وليست كل الأمور، طبعا هذا أفضل ألف مرة.
محمد كامل:
لم أكن أقصد المقارنة بينك وبينه، فأنت رجل علم ورجل ذو مواقف كثيرة، أعتقد أن المقارنة فى حد ذاتها ظالمة للطرفين، فلا يحق القول هل النخلة أطول أم القطار أسرع.
يحيى:
… أنا لست رجل علم بالمعنى الشائع، الذى يشرفنى هو أنى “طالب معرفة”، وعمرو خالد صاحب مواقف غالبا مواقفه أوضح منى جدا، كل ما أريد المحافظة عليه هو “الاتجاه” و”الحركة” و”المراجعة” وأظن هذا ضد حكاية المواقف، حتى أننى هاجمت مرارا حكاية “يحيا الثبات على المبدأ”، نثبت لماذا؟ بأمارة ماذا؟
الثبات الوحيد الذى احترمه هو الثبات فى الحرب، وإن كنت لا أحترم الحرب إلا دفاعا عن النفس (وكل الحروب للأسف، دون استثناء، حتى حرب العراق يزعم مشعلوها أنها دفاع عن النفس، واسم “الدلع أصبح” الحروب الاستباقية!! الله يخيبهم).
أما أن المقارنة ظالمة للطرفين، فأنا أذكرك أنك لم تقارن، وإنما قرّبت بين ما وصلك منى هنا وما وصلك من الأستاذ عمرو هناك، والذى يجمع الاتجاهين – ربما – هو احترام دور الدين فى عالمنا المعاصر وتجنب تهميشه، هو بطريقته “تحديث الاسلام أو تسويقه رشيقا خفيفا”، أما أنا فأظن أنى أنتمى إلىاستلهام النصوص الألهية بدلا من تفسيرها
وربط الإيمان بالفطرة البشرية سعيا إلى وجهه تعالى.
محمد كامل:
لا أعتقد أن هناك شيئا أسمه ألبس الدين لباس الشباب، فالدين قالب ليس بجامد أعنى للعجوز والشباب، وهو قالب فى حد ذاته ولكن يتشكل ولكل أمرئ ما نوى.
يحيى:
لم أقصد بالدين الشبابى أو الدين الدمث أن هناك دين للشباب، ودين للكبار، وإنما قصدت، أن أحذر من تخفيف جرعة حمل الأمانة ترويجا لشكل من أشكال الدين، بديلا عن الانتباه إلى تعميق حركية الإبداع نحو خالق البشر ومنزل الأديان مرورا بأنفسنا فالناس (أدخلى فى عبادى).
محمد كامل:
إذن ما هو الحل وأين القضية.
يحيى:
طبعا أنا لا أملك الحل لكنى معك “نسعى إليه”،
عندى أن الأسلام ليس هو الإيمان، ولا هو محتكر للطريق إلى الحق سبحانه وتعالى، وأن حركية الفطرة السليمة هى تهدينا إلى الإيمان الذى لابد له أن يتجلى فى دين (سلوك) محكم وليس فى دين مغلق، وأن تحديث ألفاظ الدين، وتسهيل الانتماء إليه، وتخفيف جرعة الترهيب دون الترغيب (وهو ما أعتقد أن عمرو خالد يقوم به مشكورا)، كل ذلك طيب، على ألا يكون نهاية المطاف. وبقية الرد ربما تجد بعضها فى فقرة التصوف
ثم هيا بنا نسمع معاً رأيا أخر فى مسألة عمرو أيضا.
***
د. محمد أحمد الرخاوى
محمد:
أوافق على ما ذكرت عن ظاهرة عمرو خالد، وأضيف لها أنها ظاهرة خطيرة جدا، وهو ما اسميه “الإيمان بالوكالة”.
يحيى:
حلوة هذه، “الإيمان بالوكالة”!! ماذا تعنى بالظبط؟
محمد:
أى بدل أن يكدح الناس للوصول إلى الله، يسمعون عمرو خالد، وخالد الجندى، ومبروك عطية، وزكريا جمعة (مع الاعتذار لعادل إمام وشكره فى نفس الوقت).
يحيى:
يا محمد، واحدة، واحده ربنا يخليلك، أيضا حلوه منك “حكاية عادل إمام” هنا
محمد:
.. ظاهرة الارتزاق بالدين على الفضائيات وغير الفضائيات!! هناك مفتٍ لكل مواطن..، على حد علمى أن الأئمة الأربعة حرّموا الارتزاق من الدعوة.
يحيى:
الحمد لله أنهم حرموه، ومع ذلك أنا لا أميل إلى تعميم الاتهام هكذا
محمد:
لا ينفصل أى دين عن أية حياة (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، كل آيات القرآن تربط الإيمان بالعمل الصالح
يحيى:
ياليت، يا محمد هذا كله كلام فى المرمَى، غير الكلام الآخر الذى سوف أتشاجر معك بشأنه بعد قليل.
***
الجزء الثالث: التواصل، وإبداع الشخص العادى، والمرأة
د. أسامة عرفه
أسامة:
يلخص القرآن الكريم العلاقات بين البشر بإيجاز بالغ فيما معناه “يوم لاينفع فيه بيع ولاخُلّة” (بضم الخاء لو سمحتم)
يحيى:
ربما أنا أقرأ هذه الآية الكريمة ليس فقط بالإشارة إلى يوم الإفاقة الكبرى والحساب الأعظم، وإنما أيضا باعتبارها احتمال كل يوم، حين يفيق الذاهلون وهم يكتشفون عبادة البيع (الاستهلاك) واغتراب العلاقات الثنائية المغلقة ” الخُلّة”، لابد أن نعيش احتمال أن يكون “هذا اليوم” ماثلاُ الآن، وكل يوم، إلى أى يوم.
اسامة:
ويضيف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فتحاً رائعا لمستويات التواصل الحقيقى “رجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وافترقا عليه”
يحيى:
توقفت كثيرا يا أسامة عند حرف “فى” (فى الله) ثم توقفت أكثر عند حرف “على” (اجتمعا عليه) ثم توقفت أكثر وأكثر متسائلا وأنا أقول “لنفسى”، نجتمع عليه، مفهوم، لكن كيف نفترق عليه،
فاجتمع لدىّ مفاهيم برنامج الدخول والخروج in-and- out program ومدى اتساع مظلة الحق سبحانه التى تظل هذين الرجلين.(يوم لا ظل إلا ظله، وكل يوم عندى أجد أنه لا ظل إلا ظله)
المهم هذه الحروف “فى” و”على”، وهذه الكلمات: “ظله” و”افترقا” كانت تمثل الأساس فى نقد التواصل الثنائى “وجها لوجه”، فى أطروحة علمية قدمتها فى أكثر من مؤتمر، وأننا لو تأملنا حرف “فى” فى الآية الكريمة بعد النداء للنفس المطمئنة وادخلى “فى عبادى” لاختلف معنى التسكين الذى نكرره ليل نهار، كل هذا يحتاج لعودة مفصلة ويمكن الاطلاع عليها مؤقتا فى موضوع الأسس البيولوجية للإيمان. مع أن عرضه فى شرائح لا أكثر.
د. أسامة عرفة: (نقله لإبداع المرأة)
طب وهى فين بسلامتها
فيه حد حايشها
هوه احنا أوصيا عليها
وكمان ندافع عن حقها فى الابداع
ماتدافع هى عن نفسها إذا حبّت
يحيى:
يا أسامةَ! يا أسامة! أظن أنت تعرف تماما القهر المفروض على كل من المرأة والرجل طول الوقت بكل الوسائل، هذا الرجل المقهور هو نفسه بدلا من أن يوجه رد فعله إلى القاهر الحقيقى (كل أنواع سلطات الاغتراب والاستهلاك) يضع همه فى أن يقهر المرأة، وإذا به يقهر نفسه .
الفرص ليست واحده
المساحة أمام المرأة ضيقة، والأدوات محدودة
يا شيخ حرام عليك! لماذا كل هذا الهجوم؟
أسامة:
إننا بوصايتنا ودفاعنا عنها بدلا منها، نعمق رغبتنا فى استمرار تبعيتها (لنا نحن الرجال)
يحيى:
وجهة نظر لا مفر من احترامها، لكن من يريد أن يدافع معها – لا عنها – يدافع، أنت مالك؟
أسامة:
مع تحياتى واعتذارى لمعظم النساء
واللى عاوزه تبدع تتفضل ماتنتظرش. سماح .
يحيى:
عزومة مراكبية، وهل تتحمّل يا أسامة نتائج ابداعها بحق وحقيق، أليس فى ذلك – بذمتك – ما يهدد ذكورتك ولا مؤاخذة؟
دعنا نسمع صوتا آخر عن إبداع الشخص والغرب، صوتا أنت تعرفه.
د. محمد أحمد الرخاوى
أعيش فى الغرب منذ حوالى 5 سنوات متصلة ولم أر فى ابداع الرجل العادى إلا طقوسات وثنية جديدة منها أصنام التأمين واتباع النموذج دون حركية ابداعية حقيقية .
يحيى:
يا محمد يا ابنى، خفّف، خفف من هذا التعميم، ثم ما صيغة الاستثناء هذه التى تستعملها على العمال على البطال؟ ثم قل لى هل استراليا هى الغرب، نعم هى مجتمع غربى على شرق الدنيا جغرافيا على ما أظن، صحيح أنه هناك أصنام حديثة، لكن الإبداع الغربى على قفا من يحمل عندهم، أم أنهم ليسرفونه منا بعد أن يسقوننا “حاجة أصفرا”.
د. محمد:
طبعا هناك كأى كتلة من البشر فى مكان ما قلة مبدعة حقيقية كادحة باحثة فعلا.
يحيى:
هأنت قلتها
د.محمد:
ليس هناك – مفروض – ما يمنع الإبداع فى الغرب، ولكن طغيان قيمة العدم والكفر بمعنى عدم حمل الأمانة كما ذكرت قبل ذلك فغالبيتهم ذاهبين إلى حجيم يحفرونه بأيديهم بل هم فيه حالا
يحيى:
اسم الله علينا نحن وعلى حوالينا، وعلى ابداعتنا المتدفقة من كل حدب وصوب، وعلى الجنة الخضراء التى نرتع فيها يارب ماتكون عارفا للموال الذى سأذكره لك بعد التحوير
“جَدَعْ عمل مقبحة رايد بها عندى
عملت انا الطيبة شوُفْ فرق دِى من دِى
ولاّ ان كسيت الجدع دا حرير مِنِ الهنْدى
ياكُلْ فى خيرك وعند الناس يِدّم فيكْ
هَلْبَتّ ياعين بعد الشرد، ماتنِذْى
لعلك لم تنس يا محمد أن “هلبَتّ” فى بلدنا يعنى أظن، وأنا أخشى عليك أنك “تأكل فى خيرهم” وليس عندك إلا هذا الذم والتكفير لهم، يا شيخ! يا شيخ!
محمد:
ليس هناك ابداع حقيقى إلا بإيمان حقيقى، ففى نهاية النهايات الإبداع هو عملية كشف الحقائق ثم حكايتها ثم تخليقها خلقا آخر وتبارك الله أحسن الخالقين
يحيى:
مرة أخرى: اسم الله علينا، لا أريد أن أذكرك مرة أخرى بالتوقف طويلا عند حكاية “إبداع حقيقى” و”إيمان حقيقى” وكل تلك التعريفات المتلاحقة هكذا – كل واحد أيا كان، حتى المؤمن بالشيطان، ربما يقول نفس الكلام يا أخى، ياليتك تراجع نفسك وتبْدع بدلا أن نتكلم عن الإبداع بالسلامة.
الجزء الرابع
الصوفية والفطرة والتكوين البشرى
إيمان:
.. لقد وصلنى (من موضوعَىْ الصوفية) ما تقصده رغم بعض الغموض ولكن أود أن اسجل إعجابى بالجزء الخاص بـ:الطفل والفطرة والإيقاع الحيوى” وأيضا حوار الدهشة بين الأخوين.
يحيى:
أرجو أن يكون الغموض هنا هو غموض إيجابى، سواء فى الإرسال أم فى الاسقبال، كلما زدنا توضيحا يا إيمان، وتحديدا، فى هذه المسائل وجدنا أنفسنا نبتعد عن “كلية” المسألة بشكل ما، العجيب يا إيمان أن أحدا ممن كاتبنى لم يربط بين دهشة الطفل، وكَشْف الدهشة (عند الصوفية) إلى وجه الحق تعالى.
أحسن!! ربما لو لربطوا غامت المسألة أكثر.
إيمان:
إن ما وصلنى هو أن حب الله سبحانه يأتى من التأمل فى خلقه وهذا لا يحتاج إلا إلى فطرة يمكن أن تكمن فى براءة الأطفال فيما تضعف هذه الفطرة عند بعض كبار المتصوفين.
د. يحيى:
يا خبر يا خبر! حسبت – ياليت – أننى قرأتك خطأ، أو أن اخطأ مطبعيا قد حذف “لا” قبل تضعف يعنى ” لا تضعف”، ولكن اسمحى لى – كما قلت معك فى سؤالك عن الديمقراطية – أن أؤجل حديثى عن براءة الأطفال، هذه فإن لها، وعليها، ما يحتاج إلى تفاصيل التفاصيل، وسأعود إليها كما وعدتك بشأن بدائل الديمقراطية
إيمان:
أشكرك أنك وعدتنى بالرد على سؤالى عن البديل عن الديمقراطية المشبوهة ولو أننى أشفق على حضرتك من الهجوم عليك ولكننى متشوقة لمعرفة رأيك؟
د.يحيى:
لا عليك يا إيمان، فأنا معتاد، ومازلت عند وعدى، سواء بالنسبة للديمقراطية، أم لبراءة الأطفال هيا معى نستمع لرأى د. أسامة عرفة فى مسألة التصوف هذه.
د. أسامة عرفة:
كثيرا ما كنت أتأمل فى القرآن الكريم متتالية “السمع، والبصر، والفؤاد وأحاول أن اقرأ المدى الإدراكى لكل منهم (بدون استخدام التقنية) فأجدنى أستطيع السمع لمئات الأمتار وأجدنى أستطيع الإبصار لآلآف السنين الضوئية لأبعد نجم يمكن رؤيته ولكن .. عندما أقارن بين مدى السمع ومدى البصر كنت استنتج أن مدى إدراك الفؤاد ممتد امتداداً يكاد يكون لا نهائيا؟
يحيى:
ليكن يا أسامة لحدسك وخيالك حرية كل هذه الحركة وهذا الامتداد، إن كل ما أريد الإشارة إليه – بعد تجنب واضح للتفسير العلمى للقرآن والحديث .. الخ – هو التأكيد على ما أكده العلم المعرفى والتصوف والطبيعة الحديثة معاً وهو (1) تعدد قنوات المعرفة (2) وتنوع لغاتها (3) وإمكانية تضفر هذا وذاك بحركية جدلية لا تنتهى. لا أستطيع أن أضيف أيه تفاصيل، وهذا يكفينى لو قبلناه بحذر كافٍ، حتى لا نقع فى إشكالة الخرافة السلبية دون معرفة، ودون تصوف، فنجد أنفسنا مضطرين للاستغاثة بما هو علم تقليدى مؤسسأتى، حتى تصبح مجرد الدعوة إلى الامتداد المعرفى هى اتهام بالجهل، مع أنها شئ مفيد جدا ، طريقا إلينا إليه سبحانه.
د. أسامة:
إذا كان (هذا) البصر يدرك ما لايدركه السمع، فإن الفؤاد يدرك مالا يدركه البصر حتى يصل إلى إدراك الله عز وجل وصلى الله على محمد حين يعملنا: أعبد الله كأنك تراه … وفى القرآن الكريم ما كذب الفؤاد ما رأى.
يحيى:
اظن أن رؤية الصوفية فى هذا المجال هى أعمق وأكثر تنوعاً، ثم يا أسامة، أنت تستشهد بشكل حاسم، بنصوص ساطعة، قد لا تَمْثُلُ فى وعىٍ آخر بنفس السطوع، وله كل الحق، ما رأيك ننصت معا لصوت آخر على درجة كبيرة من الاختلاف؟
أمل محمود:
(لقد قبلت من مقالك أو بحثك كلا مما يلى)
1- إن كل المطلوب هو قبول فكرة (حقيقة) مستويات الوعى، بدلا من التوقف عند الاستسلام لعقل ظاهر، أو الاستقطاب الفرويدى بين ما هو “شعور” و”لاشعور”
2- إن مستويات الوعى هذه تقابل بشكل أو بآخر: مستويات تعدد الكيانات داخلنا، ومستويات حالات العقل، فى العلم المعرفى، وأنواع العقول على مسار التطور.
3- ليس معنى تحجيم دور العقل أن نتازل عنه، بل أن نتكامل به
4- إن الباب مفتوح لاستخراج كل كنوزنا هذه وغيرها لنترجمها إلى لغة العلوم الأحدث، ليس بمعنى التفسير العلمى لها، ولكن بمعنى الإضافة المعرفية الموازية التى أشرنا إليها أمس
يحيى:
هذا يكفينى فعلاً، وهو ما أردتُه تماما، وهو ما رددت به على الابن أسامة عرفة
أمل:
.. لكننى لم أفهم حكاية “الخضر”، أصلا وقد بحثت وقرأت عنه. ولم أعرف لماذا خرب السفنية حتى لا يأخدها الملك، ولماذا قتل الصبى حتى لايفسد والديه، ولقد تصورت أنها قيم تحتاج وقفه، وخاصة إذا أُخِذتَ بمعناها المباشر.
يحيى:
من حيث المبدأ، معك حق، ولو أنى أختلف معك فى غموض مغزى خرق السفينة لقد كان تحايلا ذكيا لرفع ظلم حاكم غاصب يستولى على أموال بحجة مثل الحجج العصرية التى تستعملها الدولة الآن حين تستولى على ملكية المستضعفين بحجة المصلحة العامة،
أما مسألة قتل طفل مجهول من ناحية ، فى حين حرص مولانا الخضر على الحفاظ على حق طفلين آخرين لأنهما أصحاب الكنز من ناحية أخرى، فهى أمور قد أقلقتنى طويلا، أكثر من خمسين عاما، كيف يقتل طفلا بهذه البساطة، و فى نفس الوقت يرعى حق أطفال آخرين بكل هذه الشهامة، وحين كتبت قصيدتى “فى هجاء البراءة”، حضرنى استلهام خاص يشرح هذه المفارقة، أو خشيت أن أعلنه حتى لا يظن بى أننى أتبع التفسير العلمى للنص الالهى، لكننى مضطر أن أطرحه الآن هكذا:
الطفل بداخلنا إذا انفصل أصبح هو البدائية النشاز بكل قيمها، نشاز لأنها ليست لها علاقة بهارمونية الكون إلى وجه الله، ونحن حين نتيقن من انفصال طفلنا بداخل بلا أمل فى تكامل تام معه، قد نضحى به ونرضى بما تبقى منا دونه اضطراراً. لقد تصورت أن الطفل الذى قتل هو هذا الكيان المنفصل داخلنا الذى يمكن أن يحول دون استمرار النمو نحوه سبحانه، هذا ليس تفسيرا علميا وإنما هو استلهام مواز، وما كان يشغلنى دائما هو: من أين للعامة أن يعرفوا حكاية الطفل داخلنا واحتمال انفصاله وضرورة التخلص من هذا الطفل إذا هدد بطغيان بدائى، أعتذز لك.
يا أمل، ودعينا نكمل بعيدا عن هذا التفسير الخاص الصعب.
أمل:
… أما عن المعنى الصوفى للإيمان فأنا لا أعرفه ولم أخبره؟
يحيى:
ومن ذا الذى عرفه أو خبره، المصيبة أن أغلب الذين يتحدثون عنه – وربما أنا منهم- لم يعرفوه ولم يخبروه، وربما من اعترف مثلك بهذا الجهل هو أفضل من سيل الخطابة التى يغمرنا بها محمد ابن أخى طول الوقت بكل هذه الوثقانية والتعميم والتكفير أحيانا، دون أن يأخذ باله، اللهم إلا باستثناءات خافتة أحيانا.
أمل:
لماذا أطُلق على إيمانى بالحياة، وبكل ما فيها من جمال وقبح أنه إيمان بعقيدة معينه، أو بشئ بذاته (إننى اشعرأحيانا) أن ثَّم تفكيراً تآمريا فى المسألة، دعنى أسميه “التفسير التآمرى للوجود”، وإن اختزال التعقيد والتشابك إلى ما يسميه كل واحد بالأسم الذى يتراءى له من خلال عقيدته وموقفه، هو تبسيط تآمرى بشكل أو بآخر.
يحيى:
… ربما كان التبسيط المبالغ فيه الذى يبدو أحيانا فى أقوال الصوفية، والذى يقلده كثير من الهاربين المغتربين الذين يحسبون أنفسهم صوفية، هو الذى يجعلنا حذرين من تصديقهم بهذه السهولة التى يدعوننا إليها بخطابة عالية الصوت (تقرأين بعضها هنا) .
أمل:
أنا لا أعرف معنى (لما يقولون)، ولماذا أؤمن (بما آمنوا به) ولماذا أحبه، وهو أمر لا يشغلنى أصلاً؟
يحيى:
وهل دعاك أحد لذلك، أنت حرة، وتتحملين مسئولية اختيارك، وهو اختيار له ما يبرره من وجهة نظرك، المهم أن تحسنى الاستماع إلى أى احتمال آخر، كما أطلب منهم أن يحسنوا الاستماع إلى ما تقولين هكذا.
أمل:
إذا كان هذا ما يشغل الناس فهم أحرار فيما يهتمون به؟
يحيى:
وأنت أيضا حرة فيما تهتمين به
أمل:
أما إذا كان التصوف هو ما قلتَه أنتَ فى السطور التى اقتطفتُها من مقالك فى بداية تعقيبى، فهو جيد؟
يحيى:
هذا يكفينى
أمل:
ثم انى لا أهتم فى الوقت الحالى بدراسة هذا الموضوع، فهناك أمور كثيرة أخرى تسترعى انتباهى، مثل وقف القتل، ووقف الدمار، ووقف فناء الحياة على الأرض؟
يحيى:
وأظن أن المتصوف الحقيقى هو الذى لا يتوقف ليردد علينا مفردات تصوفه وهو يدور حول نفسه، بل أنه هو الذى يضع كل همه فيما ذكرت،، من أهداف، وهو يعمق وجوده ووجود الآخرين ليكونوا أقدر فاقدر على مواصلة كل هذا معك ومعنا.
****
هل تسمحين يا أمل أن نعود للدكتور أسامة قبل أن نختم بالدكتور زكى سالم فهو الأكثر منا جميعا إحاطة بهذه المسالة، خصوصا وأنهما يتناولان موضوعى الكسر والعدم كل من زوايته
د. أسامة عرفة
قد يفجر الكسر طاقة كامنة هائلة تحتاج مساحات هائلة من الوعى للاستيعاب وإعادة التشكيل فى علاقات فاعلة جديدة
د. يحيى:
طبعا، وإن كنت قد لمحت فى تعليق الصديق د. زكى سالم الذى سيأتى حالا، وقفة ناقدة أمام فكرة الكسر هذه، فى مقابل فكرة “العدم”، فهل تنتظر يا أسامة حتى أناقشه.
د. أسامة
(سوف أفعل ولكن) لنتأمل معا الطاقة الهائلة الناشئة عن تفتيت نواة الذرة ماذا يمكن أن تفعل بنا؟ وماذا يمكن أن نفعل بها؟ إننا (من خلال الكسر المتوالى هذا) نقترب من قمم؟ الوجود البشرى متفاعلاً مع الكون.
د. يحيى
وهل هذا إلا الإيمان الدائم التوجه كدحا إليه، وهل هذا إلا إبداع الذات فى رحابه دخولا فى عباده .. إن العقل المحدود، والأبجدية المغلقة تحول دون أىٍّ من ذلك، أظن أن هذا بعض ما ألمح عليه الابن محمد أحمد
محمد أحمد:
… أخطر ما يخنقنى فى اليوم مئات المرات، وأنا أعيش فى الغرب، هو هذا الإصرار على الأخذ بهذا الصنم المسمى “العلم العقلى المبرمج” بعد أن نَفَوْا (إلا من رحمَ ربى) فكرة الوجود الآخر والمعرفة المتكاملة وسجنوا أنفسهم فى عبادة صنم العدم (المادة المنسلخة عن أى شئ) فغرقوا فى بركة آسنة من الشقاء الصارخ؟
د. يحيى:
“تانى” يا محمد؟ “تانى”؟!!، العدم الذى تتحدث عنه وتتهم مضيفك (الغربى) صاحب الفضل بأنه غرق بسببه فى بركة آسنة … الخ ليس أبدا هو العدم الذى جاء فى المقتطف الذى قدمته فى مقالى، يا شيخ، نحن بكل ما نقول ونصيح ونكفّر ونلعن، قد نكون أبعد عنه سبحانه بمالا يقاس، ورحم الله شيخنا محمد عبده، وما قاله عند ما زارهم، يا أخى حرام عليك.
محمد:
هذه هى مأساة الغرب والشرق على حد سواء فالأول تصور أنه قادر عليها بعد ما تزَّينت، والآخر احتكر لنفسه جنان السماء وهو غارق فى بركة آسنة من غيبوبة وعى وجمود وموات وانفصام؟
د. يحيى
بِرْكة هنا وبِرْكة هناك!!! لا يا عم، الرائحة لا تطاق، يفتح الله، ثم أننى أرى بركتنا أقذر، ورائحتها أخبث، وحشراتها أكثر سُمِّيه، وفى نفس الوقت أنا معك أن حّلهم ليس هو الحل، أنا أتصَوَّر أننى ما رحت أدعو للبحث فى كنوزنا الصوفية إلا لنبحث عن الحل، ولن نجده جاهزا.
هيا معنا، ونحن نستمع لأحد الاصدقاء المختصين جدا، المحبين جدا د. زكى سالم
د. زكى سالم
… هذه محاولة لتقديم رؤيتى لمعنى العدم، وهو معنى جوهرى فى التصوف الإسلامى والمسيحى والهندى وغيرها
يحيى
أهلا زكى، أنا جعلتك فى الآخر لتعلّمنا وتكون حسن الختام، ثم إنى أشكرك على هذه البداية ذلك لأنه كما تعرف أن الكثيرين من أصدقائنا حتى فى هذا الركن اليومى يتصورون أن التصوف يختص به دين دون الآخر، وأنت بدأْت تذكرنا بهذه الرحابة الطيبة فما هو العدم فى رأيك؟
د. زكى
… العدم هو معجزة التصوف الكبرى، العدم لا يعنى الكسر على الإطلاق
د. يحيى
لا أذكر أننى قلت أن الكسر هو العدم، أنا أعنى دائما بالكسر طاقة التفكيك التى تخطو بنا نحو العدم الخلاّق، وهى خطوة جوهرية فى إعادة التشكيل، فما الخلاف؟
د. زكى
…. العدم هو التخلص من كل أنواع الدعوى (الادعاء) أى يتخلص العبد من أى تصور عن نفسه أو ذاته أو صفاته، فلا قلب ولا عقل ولا نفس ولا حتى جسد
د. يحيى
طيب يا أخى، إذا اتفقنا على نهاية مقولتك، فهل استسمحك تقف معى عند كلمة “التخلص” التى ذكرتها فى البداية!؟ كيف يمكن أن أتخلص من جمودى إلا بالكسر، من أصنامى الحقيقية والوهمية إلا بالكسر، من قشرة أيديولوجتى إلا بالكسر، من سكونى وثباتى إلا بالكسر، من قِنَاعى الظاهرى إلا بالكسر، الكسر يا زكى الكسر هو خطوة جسور نحو تفكيك الخامد الجامد، وهو يستمد طاقته من تسخير طاقة غريزة العدوان لتحريك النمو بدلا من انحرافها لتحقيق العدم، وهذه هى أطروحتى عن “العدوان والإبداع” ثم يأتى العدم: البداية، والعدم الفرصة، العدم لإعادة الولادة، ولتسمه ماشئت، وتصفه بما شئت، لكن أنظر معنا إلى الخطوات المؤدية ومنها الكسر، وليس فقط النفى الذى يبدو لى سلبيا، ولكن أكمل أولا، لو سمحت.
د. زكى
…. يصبح العدم قابلا للتشكل بيد المشيئة الإلهية المتحكمة وحدها فى هذا الوجود المسير
د. يحيى
أخشى ما أخشاه أن يفهم من قولك هذا المعنى السلبى الذى يشاع عن التصوف من كثير ممن يرفضونه أو لا يفهمون حقيقة أبعاده، المشيئة الإلهية التى تشكل العدم لا تنفصل عن المشيئة الإبداعية التى أوصلتنا إلى التلاحم مع المشيئة الإلهية يا أخى، وهذا الإبداع الإيمانى المتجدد هو الذى نشارك فيه بمسئولية بالغة، أنا أعلم مدى غموض ألفاظ المتصوفة على وعى استقبال العامة فلنحذر كما كنا نفعل وأنت تعرض علينا بعض نصوص أبن عربى نتناقش فيها
د. زكى
يقول ابن عربى عن نفسه “أنا العدم الظاهر”
د. يحيى
هل رأيتَ؟ زدْنا تعلّما
د. زكى
(أى) لم تعد له أى ذاتية خاصة، هو حر، هو غير مقيد بشئ، ومن ثم يشكله الحق كيف يشاء وفى هذا المقام العالى لا تتم عملية بناء ولا إعادة بناء
د. يحيى
إيش عرّفك؟ إيش عرفك أنه لا تتم عملية بناء ولا إعادة بناء، ولماذا التعميم؟ وهل العدم عند كل المتصوفة سواء؟ ثم إن هذا كلامك، وأعرف أنك تعنى أبعاده، وتعرف مداه، ولكننى أريد أن اوضح ما وصلنى من أن ابن عربى لا ينكر دوره الفعّال وهو يسلم نفسه عدما ظاهراَ لمشيئة الله، فهو يشارك فى كل ما يجرى، لأنه شخصيا العدم الظاهر، أما العدم الباطن فهو – فى نصّك المقتطف – لم يصرح عنه بشئ، أو لعله صرح فى موقع آخر، والمشاركة التى أعنيها هى إبداع الذات “فى” عباد الرحمن “إليه”، فهى هدم وبناء وفى نفس الوقت، طول الوقت.
د. زكى
الأمر ليس هدما وبناء، ولكنه إفناء الصفات العبودية جميعا فتحل صفات الربوبية جميعا، فهذا “هو” فمن “أنت”؟
د. يحيى
هذا الإفناء وهذا الاحلال، لماذا لا يكون هو هو العدم والبناء لإعادة الولادة، ثم انظر تعبيرك عن الإحلال هكذا، وكأن المسألة كمية استاتكية، مع أنها عندى حركية حيوية (بيولوجية إيقاعية) لا تهدأ إلا لتنبسط فى دورات السعى، مثلما هى فى دورات النمو، مثلما هى فى دورات الإبداع، كل ذلك فى عملية تكامل مستويات الوعى معا إلى ما يتخلق منها، ربما هذا هو ما فهمته من كلامك عن الوعى الفائق.
د. زكى
هذا هو الوعى الفائق حين يدرك عبر حقيقته ويرى أنه عدم لا غير
د. يحيى
بل حين يدرك عبر حقيقته ويرى أنه عدم يتخلّق إليه، وبه طول الوقت فى دورات كَدْحه كدحا
د. زكى
هذا الكلام سيكون ثقيلاً على البعض لدرجة تتطلب أن يعتذر صاحبه، فلتقبلوا أعتذارى
د. يحيى
أما أنا، فكما تعرفننى، لا أعتذر
فقط أنا أكرر قول ميخائيل نعيمة (ربما) “كرمى على درب فيه العنب وفيه الحصرم، فما أعجبك منه فخذه، وما ضرست منه فدعه
وشكراً
***
ملحوظة:
جاءنا تعقيبات طيبة على مقال أمس الجزء الثانى .. فى شرف صحبة نجيب محفوظ
“شيخنا يعود إلى بيته، وتعود إليه – إلينا- ضحكته”
وفضلنا أن نؤجل الحوار حوله إلى الأسبوع القادم
***