“يوميا” الإنسان والتطور
12-10-2007
حـوار بريد الجمعة
عن التواصل والطفولة والبراءة
مقدمة:
مازال الحوار يجرى بين نفس الأصدقاء تقريبا، وهو شئ طيب لأنه يجعل الحوار حواراً، لكنه يقلقنى فى نفس الوقت لأنه لا يساعدنى على التعرف على بقية الذين أكتب لهم، سواء بصفة عامة أم فى هذا الحوار الأسبوعى.
يكتب لى الابن كريم شوقى
– أنا بقيت استنى بريد الجمعة من الجمعة للجمعة، لأنه جميل إن حد كبير يسمع ويرد، يبقى فيه “خد وهات”.
د. يحيى:
شكرا كريم، ولو أنى آمل بعد قليل (أو كثير) أن المسألة تصبح “خد وهات” أكثر فأكثر، لأن حكاية “حد كبير يسمع ويرد” لا تطمئننى كثيرا، مع أننا نحتاج الاثنين معاً طبعا.
وبعـد
أولاً: الخوف من الحب (عن التواصل: بين البشر)
حين كتبت هنا عن صعوبة “التواصل البشرى” بعنوان (“تعرية زيف واغتراب التواصل البشرى” بتاريخ 26-9-2007) كنت فعلا مترددا وخائفا من أن أفتح ملفا لا أستطيع أن أغلقه، وأن أطرح أسئلة ليس عندى لها إجابة، وألوَح بعلاقة أرقى وأبقى تكاد تكون مستحيلة الآن، وقد حاولت أن أهرب فعلاً بعد هذا المقال الأول، لكننى فوجئت أن كل عملى فى مهنتى، ولا أقول أغلب عملى، هو يدور فى هذه المنطقة، وأن معظم كتاباتى شعرا وقصَّا وعلما هى فى هذه المنطقة أيضا، فأى مبرر أخلاقى أو موضوعى يبرر لى الهرب؟ هل لأنى عجزت عن أن أحقق ما أراه، أَفْضَلَ وأبْقَى يحق لى أن أعزف عن قول ما أتصور أنه يوماً ما سيكون؟ ومع ذلك فقد كان الميل الأرجح هو أن أقفل هذا الملف حتى لا تنقلب المسألة كلاما على الورق! ومع ذلك عدلت عن تراجعى كما تشهدون.
حين نشرت مقَالتَىْ الخوف من الحب (7-10 ـ 8-10) تعّرت المسألة أكثر وأصعب، ولقد كنت صريحا منذ البداية حين أنهيت المقال الأول 26-9 بالرد على سؤال وجهته إلى نفسى على لسان القراء:
هل حللت أنت شخصيا هذا الإشكال:
ورددت: “طبعا لا”
ثم أردفت على لسانهم:
– إذاً ماذا
ورددت:
– إذن هذا !
وفى المقال التالى عن “الخوف من الحب” 7-10 أنهيته بإعلان مخاوفى ومحاذيرى بشكلٍ واضح، ويبدو أنها وصلت إلى كثير من الأصدقاء وخاصة د. أسامة عرفة والصديق محمد كامل. أما المقال الثالث 8/10 فقد انهيته أيضا بسؤال يقول:
تُرى هل أصبحت المسألة أسهل أم أصعب؟
ويبدو من تعقيباتك يا د. أسامة أنها أصبحت أصعب.
د. أسامة عرفة:
. . . . صعّبتها علينا يا مولانا، ربنا أمر بالستر
د. يحيى:
بصراحة، نعم، ولا أعتذر، ولا اريد أن أتمادى أيضا، ألا تذكر يا أسامة أننى قلت فى المقال الأول فى سلسلة الخوف من الحب بتاريخ 7/10، أنه: ” قد يترتب على فهمٍ طيبٍ أمين، تقليب غير طيب لعلاقة سلسلة متواضعة، كان يتمنى صاحبها أن تستمر مستورة والسلام. كنت، ومازلت أخشى يا أسامة ألا يصل كلامى إلا إلى عدد قليل على المستوى العقلى، أما على المستوى الواقعى فها أنت تحدد الندرة بوضوحٍ شجاع.
د. أسامة:
… (فعلا) مين ولآ كام واحد حايقدر على ده، أعضاء المجلس الموقر؟ ولا الراجل ولا الست الغلبانة بياعة الفجل على رأس شارعنا …………. وبعدين الطرفين راضيين
د. يحيى:
يا سيدى ربنا يملأها لهم بركة، وهل نحن قلنا حاجة! لكن ماذا أفعل فى حتم الرؤية وضغط الرسالة، ماذا أعمل؟
د. أسامة:
. . . . شويّة عَمَى، على شوية عِشرة، على شويّة مودّة، على شويّة مناكفة، مش هوه ده الإيقاع إللى ممشى الدنيا لحد دلوقتى؟
د. يحيى:
بصراحة مرة أخرى، نعم ونصف، ربنا يستر، لكن الحكاية يا أسامة، وأنه مع مرور الزمن، وإذا لم تكن هذه الشويَّات متجددة “وصابحة” أولا بأول، تنقلب المسألة إلى: شوية تفويت، على شوية تطنيش على شوية برود، على شوية انطفاء، على شوية انسحاب، والذى نبات فيه نصبح فيه وسلامتك وتعيش، لا تضطرنى أن أقول إن هذه هى “دورة حياة الدودة التواصلية”، (مثل دورة حياة دودة البلهارسيا) ثم نحمد الله على الستر. ونتمنى للجيل القادم ما هو أفضل، طيب، ما المانع أن نقدم للجيل القادم بعض معالم بعض محاولاتنا الفاشلة، ليبدأ من حيث انتهينا، نلقى الكرة ملتهبة ناراً، وهم يحولونها إلى طاقة. ألا يجوز؟
د. أسامة:
اقترح عقد ميثاق شرف ابتدائى للحب: مانستأذنشى بعض .. نحترم بعض شوية، التزام شوية مسئولية، .. وبعدين الحب بقى حسب التساهيل
د. يحيى:
أيضا موافق خصوصا حكاية “نحترم بعض”، وأيضا حكاية المسئولية”، أنت تعرف طبعا يا أسامة أن تعريف الحب العلمى هو “رعاية ومسئولية”، وقد أضفت أنا توضيحاً له أنه رعاية “متبادلة” و”تحمل الاختلاف” و“القدرة على الاستمرار“، ولم أضف على أن يشمل: “تجديد العلاقة وإعادة التعاقد“، فزاد الأمر صعوبة، وكان علىّ أن أتراجع، لكن برغم كل ذلك لم أستطع أن أهرب من أن أقدم ما أعرف، حتى لو لم أكن قد نجحت أنا شخصيا فى تحقيقه.
د. أسامة:
(أنا أيضا) .. لا أدرى يقينا لماذا لجأتُ (أنا) إلى كل هذه المراوغة، أو محاولة التملص مما ألقيَتُه فى وعيى، عذرا سيدى على مشاكستك فى محرابك
د. يحيى:
ياعم محراب من؟ ومشاكسة من؟ الحب لا يعرف المحراب، الحب أو محاولة السير فى طريقه يحتاج إلى كل ما نحاوله، وهو يلقى فى وعينا ما يقلِّبنا، وقد يلهمنا إلى حلٍّ ما، يوما ما، خاصة لو بدأنا بحكاية احترام حقيقة تعدد مستويات الوعى، وبالتالى “الاتفاق المتعدد المستويات”. مما يحتاج لإفاضة لاحقة.
د. أسامة:
… أتفق تماما مع رؤية مستويات الوعى، وهيراركيتها (التى جاءت فى المقال “2” عن الخوف من الحب) وسؤالى هو: أليست مستويات الوعى المختلفة فاعلة نشطة بتلقائيتها حتى بدون وعى مستوى الشعور الظاهر.
د. يحيى:
طبعا، وهل يقدر أحد أن يمنع تلقائيتها، سواء وصلت إلى الشعور أم لا، عليك نور يا شيخ
د. أسامة:
…. وأن ما يصل لشعورنا الظاهر أو ما يظهر على شاشة الوعى هذا ليس مجرد تسطيح، وبقية المستويات خارج الحسبة، وإنما فقط هو المحصلة النهائية لتفاعل مستويات الوعى المختلفة فيما بيننا ومع مستويات وعى الآخر سواء وعينا بذلك أم لا.
د. يحيى:
الله يفتح عليك، بالضبط! ولكننى أضيف: “ياليت”!! (يا ريت: من بقك لباب السما)
د. أسامة:
.. هل نحن نعى بكل العمليات التحتية لمستويات التراكيب المخية فى بقية الوظائف الحيوية حتى يكون من الضرورى الوعى بها أثناء التواصل مع الآخر؟
د. يحيى:
طبعا لا، كلامك كله صحيح، حتى العمليات الحركية الظاهرة، تجرى متناسقة دون تدخل شعورى، بل إن التدخل الشعورى يفسدها. يا أخى، ألا تذكر صلاح جاهين “..بس انت لو بصيت لرجليك تقع”.
د. أسامة:
.. علينا (إذن) فى عملية النمو والتربية تغذية هذه المستويات المختلفة، وفتح المسام لها بطريقة غير مباشرة وغير معقلنة، وبلغة أقرب للعادية
د. يحيى:
… أوافقك مائة فى المائة، بل إنك حين قلت “بائعة الفجل على ناصية شارعنا” تصورت أنها أقدر على تحقيق ذلك التواصل المتعدد المستويات. من أى واحد متفذلك منظّرٍ. فى روايتى الجديدة “ملحمة الرحيل والعود” [1] (الجزء الثالث: من ثلاثية المشى على الصراط) توجد شخصية أمية اسمها “وردة” تعد شايا وقهوة ومشاريب فى ركن بجوار مزلقان أبو النمرس، وأظن أننى تعمدت برسم هذه الشخصية أن أقدم نموذجا لتواصل متعدد المستويات، يفوق كل شخصيات الرواية بما فى ذلك المثقفة، والأجنبية، والبرجوازية ….الخ، وربما أُضطر يا أسامة – وكلى أسف – أن أعود لنقد هذه الثلاثية مجتمعة بعد اكتمالها لأنها تدور حول إشكالة التواصل البشرى من ناحية، ثم أظن أنها ترسم سهماً ما لما أود توصيله وأؤجل الحديث عنه من ناحية أخرى.
من أصعب ما يؤلمنى أحيانا يا أسامة أن أضطر لنقد أعمالى الإبداعية بما أسميه “شرح على المتن”، لكن ماذا أفعل بالله عليك والنقد الحقيقى بالنسبة لإبداعى هُسْ هُسْ، دعنا نستمع لصديقنا الطيب “محمد كامل”، وقد بلغه ما نتحدث عنه بطريقته الطيبة الهادئة الأمينة، وهو لم ينف دهشته، التى والحمد لله، لم تصل إلى حد الانزعاج.
محمد كامل:
ياه !! …. يا خبر ابيض، ده الواحد مِنْ جوّه مكشوف قوى، أنا كنت حاسس بغير كده، حسيت بكل ده وأنا بقرأ اليوم (الخوف من الحب 1)
د. يحيى:
والله أنا آسف يا محمد…، يعنى.. ..، ليس تماما، طيب … خلّها: “أنا شاكر يا محمد”
محمد كامل:
.. ومع ذلك يبدو أنها ليست هى ما تميز الفطرة البشرية السليمة، غاية تواصل الإنسان كما أكرمه الله
د. يحيى:
لم أفهم ماذا تعنى بـ “ليست” هى.. “تقصد ماذا”؟ لا القصيدة ولا المقال قدمتا نموذجا لما هى الفطرة البشرية السليمة على ما أذكر، وإنما اليومية كلها كانت تريد أن تعّرى الموجود، أما الفطرة السليمة، التى جاءت الأديان لتنميتها، فقد انقضَّت عليها السلطات الدينية وغير الدينية تفسدها مع سبق الإصرار.
محمد كامل:
… نواميس الدين تنسق صراعاتنا الداخلية، وصراعاتنا الداخلية الأخرى هى ما تساعد على تنفيذ نواميس الدين
د. يحيى:
…اسمح لى أن نؤجل الحوار فى هذه المسألة حتى تظهر جوانب أخرى لها، خصوصا فى هذه المنطقة الصعبة، لكن دعنى أعترف لك أننى فرحت بتعبيرك “أن نواميس الدين تنسق صراعاتنا”، تصور أن النظريات الأحدث للتركيب البشرى تقبل وتعمق صراعاتنا هذه، حتى أصبحت فكرة أن تتجنب الصراع وأن يكون كل همنا هو “حل الصراع” أصبح هذا وذاك تسطيحا خائبا، إن المطلوب هو إعادة فهم طبيعة الصراع وضرورته من منطلق النمو، وأنه ضرورى للحفاظ على الحركة والدفع إلى جدل خلاّق، وكل هذا هو ألف باء قوانين الفطرة التى خلقها الله ليكرمنا بها إذا نحن استوعبناها وكرمناها بما “نُحاوله إليه”، يارب يا محمد تنتظر معنا، وتحاول معنا، ونحن نكمل، من يدرى لعلنا نحصل على شعاع يهدينا للوجهة الصحيحة؟
محمد كامل:
… (أنا) فى انتظار التكملة حتى تتشكل صورة تعليقى جيدا
د. يحيى:
والنبى يا محمد دعك من “تتشكل جيدا”، إن أمانتك وتلقائيتك تكفيان، ألم تلاحظ أنى أحاول من كل جانب، ومع ذلك لم تتشكل الصورة عندى بعد بما يكفى أن أقول إنها جيّدة أو غير ذلك؟
المحاولة والجدية والاستمرار هى زادنا “إليه” يا أخى، تعالى يا محمد نخفف الجرعة قليلا باستدعاء الابن كريم شوقى ليرد على السؤال الذى أنهيتُ به مقالى (الخوف من الحب 1)، حين سألت القراء الزوّار مارأيكم دام فضلكم، وكنت أطلب الرأى فيما إذا كنت أكمل التعرية، أم أخاف على الناس وأتراجع، نسمع كريم.
د. كريم:
حضرتك طلبت رأينا فى أخر المقال.. أنا مش عارف رأينا فى إيه بالظبط: أنا عن نفسى باحب ألعب حب(بس من غير قلة أدب) عشان باخاف من المجتمع وعندى حبة ضمير .. أحسن حاجة فى لعبة الحب إنك وقت ماتعوز تخلع حتخلع ومش حتتعب كتير أو خلينى أقول مش حتتعب خالص .. مرة كنت بالعب حب ولقيتها قلبت جد وتعرضت لتجربة الترك وبادفع الثمن حتى هذه اللحظة .. عشان كده باخاف من الحب الحقيقى طبعا .. إمال حخاف من إيه يعنى !!!
د. يحيى:
بصراحة الله نّور، ثم “برافو” عليها تلك التى قلبتها جد، ثم دفَّعتك ثمن لعبة يظن الرجال أنهم هم الذين يتقنونها وحدهم .. إدفع يا بوكرم، ولو إنه يظهر عليك مازلت آخذا المسألة بروح رياضية، لكن ألمك ظاهر، يمكن تكبر.
كريم:
أنا مصدقك تماما وباحترم اجتهادك أن الحب الذى خلقه الله و الحب المتعدد المستويات بس أنا أخاطر ليه ومين يستاهل أساسا … إللى يحضر العفريت لازم يكون أده .. مش كدا ولا إيه عاوز رأيى؟: “مافيش احسن مالضّحْكِة العيرَةْ، والحب اللى مالوش تسعيرة”.
د. يحيى:
هذا هو الكلام، “واللى عايز الجميلة يدفع مهرها” لكن حكاية “اللى يحضّر العفريت لازم يكون قده” أظرف.
أمّا أن ينتهى رأيك كما انتهت الأغنية، فربما يكون عندك حق الآن، طالما أن هذه هى “البضاعة الحاضرة”، لكن: إبق معنا نحاول،.. من يدرى؟
ثانياً: عن الأطفال والبراءة والفطرة
بعد أن كتبت أسماء شُرَطًا تحت بعضها على عدة أسطر سجلتْ نهاية قصيدة فى “هجاء البراءة” قائلة:
أسماء:
تغوص فى اشتياق
فى الطين والعفن
د. يحيى:
يا أسماء لماذا لم تذكرى النهاية على بعضها “جحافل البشر”، كالدود الجذور، تغوص فى اشتياق، فى الطين والعفن؟ “ياشيخه لقد أزعجتنْى هذه النهاية أكثر من كل صدمة القصيدة، ولكننى مازلت متمسكا بها، صغيراً، كنت اصطاد السمك فى مصرف بلدنا، وكنا نفحت فى الطين (النتن) لنخرج دودة الأرض نجعلها طعما للسنارة، ومازالت الرائحة تزكم أنفى ، وحين كنا نفعل كانت جذور الشجر والأعشاب تقابلنا ، ومن يومها وأنا أصاحب هذه الرائحة وأحترم الجذور ، وأرى جمال ما هو فوق الأرض من زهور وأوراق وشموخ أشجار .. الخ نابعا من هذه الرائحة وتلك الجذور، وألهمنى ذلك أصل الإنسان الرائع وكيف يغوص فى اشتياق هكذا، إن الإنسان حين ينفصل عن هذا الأصل يصبح ماسخا بلا طعم يا شيخه .
أسماء:
لاحول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
لعلى أجد أحلى ما فى الكون براءة الأطفال، ولكن هذه ليست براءة، هذه جريمة .. كلمة براءة فى حد ذاتها تخبرنا أن الدنيا لسه بخير، البراءة للكبير قبل الصغير.
د. يحيى:
بصراحة يا أسماء عندك حق، وكل الذين اعترضوا على قصيدتى هذه “فى هجاء البراءة” عندهم حق. لكن الشعر شعر، ربما قصدتُ أن أمسك بكلمة “البراءة” وأعرّيها (وليس أن أهاجم البراءة نفسها)، لأن هذه الكلمة قد أسئ استعمالها مثل كلمة الحب، وكلمة البراءة حين تفرغ من الفطرة التى تحتويها، تصبح شظية شائكة خبيثه ذات بعد واحد، وتصبح ماسخة، وسلبية، وربما (قاتلة سلبا أيضاً)، واستعمال “كلمة البراءة” على “العمّال على البطّال” يَكْثُر عند الضعفاء والمدّعين الذين بهذا الاستعمال الملتبس يقتلون البراءة الفطرية التى خلقها الله، ويشوهونها،
الفطرة شئ آخر، نحن لابد أن نقبلها كلها بزخمها، ووعودها، وفجورها، وتقواها، وهنا تتاح الفرصة للصراعات التى لا تُحَل بإلغاء أحد شقيها – كما ذكرتُ حالا للصديق محمد كامل- وإنما بدفع بعضها ببعض إلى ما بعدها، وكل ذلك يا أسماء أفتقده ونحن نتحدث عن البراءة الساذجة، فينتهى بنا الحال إلى ذلك الاستعمال السلبى للبراءة ، وهو ما هجوته فى القصيدة، إننا نخنق البراءة الحقيقية (الفطرة)، ببراءة الابتسام المجاملاتى، أو حين نفرض على الأطفال السجن فى منظومات جاهزة وصلبة وجامدة، بقصد حمايتهم أو تقويمهم.
أسماء: (إشارة إلى صداقتى لطفلَىْ قصيدة “العقلة والإصبع”)
… هو حضرتك عاوزنا نفهم إيه من كلمة أحدهما الآن مهندس وزوجته منقبة..
د. يحيى:
يا أسماء ، لماذا لم تكملى “والآخر استشارى جراحة عظام فى انجلترا؟” أنا لا أقصد إلا ما وصلك، أو ربما لا أقصد شيئا، هذين الطفلين (أحمد وعلى) كانا أصدقائى، مثل أحفادى الآن، وكنت قد اعتدت منذ حوالى ثلاثين عاما أن نذهب “نتفسح معاً” (لا أفسِّحهم) وقد اصطحبتهما فى جولتى بميكروباس مع بقية أسرتى الصغيرة سنة 1980، فى تلك الرحلة التى سجلتها مع سيرتى الذاتية فى ترحالاتى الثلاثة (الترحال الأول “الناس والطريق”) ـ (الترحال الثانى “الموت والحنين”) – (الترحال الثالث “ذكر ما لا ينقال”)، وكان آخر لقاءلنا نحن الثلاثة منذ حوالى خمس عشرة عاما فى قهوة (الأمفتريون) فى مصر الجديدة، حين وعدانى “بعزومة” على حسابهما حين يتخرجان، ثم تفرقت السبل، واحد إلى الخليج فإنجلترا فأكبر الشهادات فاستشارى هناك، والآخر فى مصر إلى عمرو خالد، إلى إطلاق اللحية وتنقيب زوجته، وانقطعت صلتى الظاهرة بين هذا وذاك، وإن ظلت المودة باقية، وهما لم يوفيا بوعدهما أبداً حتى الآن. ترى هل هذا يردّ على تساؤلك ؟
لا أظن، أنا أغيظك كما أغظتنى
أنا يا أسماء – غصباً عنك- مازلت طفلا أبحث عن أطفال أصاحبهم وأتعلم منهم ومعهم، أطفال يكبرون دون أن يتنازلوا عن طفولتهم، إنّ كل (أو معظم) أصدقائى الأطفال يتجاوزوننى ويتجاوزون طفولتهم ويشيخون، فأنتقل للجيل التالى، وهكذا.
أصدقائى الأطفال جدا، لم يعودوا أطفالا أصلاً، تركونى طفلا غريبا معك، هل هذا يرضيك؟
أسماء:
آلمتنى جدا هذه الكلمات: “هل رأيتم طفلا يقضم رقبة عصفور وهو يضحك؟”
د. يحيى:
هل آلمتك لأنها حقيقة تريدين إنكارها؟ أم لأنك تألمت للعصفور البرئ براءة الطفل، ولا ذنب له إلا أن هذا الطفل ليس بريئاً تماما كما نحب أن نتصوره أو نصوّره؟ لا نريد أن نخلط بين البراءة، والفطرة، والبدائية، تعالىْ نسمع الإبن أسامة وهو يتساءل..
د. أسامة عرفة:
هل هو الطفل؟ أهى الفطرة؟ فطرة الميلاد قبل أن نطمسها …؟ كل مولود يولد على الفطرة ثم يأتى أبواه فـ ….؟
د. يحيى:
… لماذا لم تُكْمِل يا أسامة؟ هل خشيت على إخواننا أهل الكتاب؟ ماذا لو أكملت..، فأهله يهوّدانه أو ينصرّانه أو يمجسناه (من المجوس) ألم يكن هذا أشجع؟ ثم إنى أعتقد أن الحديث الشريف لايقصد – دينا بذاته – وإنما المقصود هو “يمؤْسِسَانِهْ” (من المؤسسة) أى يجعلونه تابعا لمؤسسة دينية وليس ساعيا إلى الله، وحين انقلب الإسلام أيضا إلى مؤسسة، فيمكن أن نضيف دون أن نحشر ما نضيفه فى الحديث الشريف: أو “يُمَسْلِمَانِه”، هذا يتفق أكثر مع قراءة أمينة للآية الكريمة التى تخاطب الأعراب …قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا “.. المفروض – يا أسامة- أن الأديان جاءت ترعى الفطرة لتنطلق إلى غايتها – وجه الله – إبداعا لذاتها وتعميراً للأرض وتراحما بين خلقه، إن من يحمل مسئولية الفطرة، هو القادر على تنميتها…
د. أسامة:
… هل ما نحتاجه فعلا هو تنميتها أم فقط عدم تلويثها وهى قادرة على إدارة صاحبها
د. يحيى:
بصراحة سؤالك صعب وجيّد يا أسامة، ولكن دعنى أعلن لك مخاوفى من حكاية “الإدارة الذاتية”، لابد لأى كيان مهما بلغ نقاؤه وسلامة أصوله لا بد له: من مساحةٍ، وسماحٍ، ومعالمٍ، وحدودٍ، وقوانينَ حتى يمكن أن يدير أمره بنفسه، ناهيك عن إدارة صاحبه. علينا أن نبحث عن ما يسمح بكل هذه الظروف استلهاما من الأصول فى ظروف الواقع الجارى، وليس تطبيقا للحروف المعجمية الجامدة، وعلينا أن يكون المقياس هو ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض لا ما يُرْضِى المعاجم ويكبّل الفكر.
حين نأخذ كلمة “طفل” نبحث عن معناها فى القاموس، حتى فى قاموس العلوم النفسية، نجد أن لها معنى محددا فى سن محددة، أما حين نقرأها فى سياق تنزيل متكامل واضح الأهداف، جلى التوجه، فقد تلهمنا معان ومعان، سواء ما ذهبتُ إليه فى قراءتى للطفل الذى قتله مولانا الخضر، واختلافه عن الصغار الذى بنى لهم الجدار، أو ما جاء عن أى طفل فى التنزيل أو غيره، إن إشكالة قتل هذا الطفل ظلت تؤرقنى كما قلت فى المقال، حتى اهتديت إلى ما ذكرتُ هناك، لكن تعالى نسمع أولا رأى محمد ابن أخى فى هذه المسألة.
محمد:
لم أقبل تأويلك (لقتل الخضر الطفل أنه قَتْلٌ للطفل الناشز داخلنا)
د. يحيى:
عندك حق
محمد:
لكننى أقبل طلاقة العلم اللّدُنّى الذى أباح للخضر قتل الطفل الذى سيرهق أهله طغيانا وكفرا
د. يحيى:
لعلك لاحظت يا محمد دفاعى عن كل مناهج العلوم والمعرفة دون استثناء، بما فى ذلك العلم اللدنى، وهو مفهوم يحتاج التأنى فى الأخذ به كما يحتاج إلى محكات – ليست تقليدية بالضرورة – يقاس بها. أما وقد جاءت هذه الأقصوصة بذلك فى القرآن الكريم فليس من حقنا أن ننكر ألفاظ الحدث، ولكن من حقنا أن نخاف من سوء تلقى العامة لمغزى رواية الحدث، دون توخى الحذر فى استعمال هذه الخصوصية.
إن فتح الباب للتسليم الغامض الذى يصل إلى قتل طفل لمجرد كشف عبدٍ صالح من خلال علاقته الخاصة بربه أنه سيرهق أبواه كفرا، أقول أن نلقى بذلك فى وعى الناس ثم نقول لهم إياكم أن تعملوا هكذا مثله لأنكم لستم مثل هذا العبد الصالح قد لا يكفى، ومن أدرانا أن قاتلى الأطفال، والكهول، والنساء فى قرى الجزائر، لم يخدعهم من أوهموهم أن عندهم مثل هذا العلم اللدنى، وأن هذا العلم أوحى لهم أنهم بقتلهم كل هؤلاء الأبرياء إنما يفعلون ذلك حتى يَحوُلُوا دون هؤلاء المساكين العزّّل أن يبلغوا عن المجاهدين تجسسا وفتنة، من هنا يأتى الخطر للعامة.
فإذا وصلنى أنا معنى آخر للحَدْث فقرأتُه قراءة أخرى من خلال خبرة الجنون الذى أواجه فيه هياج المخ البدائى “الطفل المتوحش” على كل ما هو إنسانى ناضج، وأرى انفصال هذا المخ عن هارمونية الذات، والكون، ومن ثم إعاقته لأية مسيرة تكامل نحو الكون إلى الله، إذا أنا رأيت أن هذا المخ الطفلى البدائى، أصبح شديد القوة والخطر حتى يستحيل معه أن تتم عملية التكامل، فمن حقى –طبيا- أن اثبّطه حتى أشله (أقتله) بالمهدئات العظيمة (النيورولبتات) ثم أعود لأروضه، وأنا أحييه حتى لا يعود طفلا منفصلاً وإنما جزءاً من كيانٍ نامٍ يتخلق، لا أخفى عليك أن بعض الأطباء-ربما كما تعلم- ممن ليسوا بالضرورة من عباد الله الصالحين، يستعملون هذه النيورولبتات طول الوقت طول العمر، فهو قتل آخر مع سبق الأصرار، دون أمل فى إحياء، لقد رأيت من خلال كل ذلك: احتمال أن يكون المقصود هو “قتل البدائية فينا” إذا هددت بالانفصال، ورفضتْ أن نُزَكّيها (ننميها)، وشئ قريب من هذا، قرأت به طاعة اسماعيل لابراهيم عليهما السلام وهو ينفذ ما أوحى به إليه ربه فى رواية الأضحية، ثم فِدْيته بالأضحية مما لا مجال لتفصيله الآن.
مرة أخرى ليست أخيرة، هذا ليس تفسيرا علميا للنص، أنا ضد خلط الأوراق كما تعلم، وبالذات ضد التفسير العلمى للقرآن،
هذه مجرد وجهة نظر من حقك أن تأخذ بها أو لا تأخذ، ويا حبذا لو لديك وجهة نظر أخرى.
محمد أحمد:
الأرجح (عندى) أنهم (الوالدين) هم الذين سيطغون ويكفرون بسبب ابنهما هذا، وليس العكس، لم يصمد الناس لفتنة الأولاد إلا عباد الله المخلصين.
د. يحيى:
يا محمد يا إبنى أنت ذهبت الناحية الأخرى جدا، الأولاد فتنة فعلا حتى الكفر إذا عبدناهم من دون الله بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن ليس معنى أن يُفْتَن الوالدان عن التوحيد شركاً بأبنائهم أن نقتل هؤلاء الأولاد لكى لا يفتنونهم، ما هذا يا أخى؟! إن تفسيرك يجعل أن “موضوع الشرك” هو المسئول عن شركنا، فإذا كان الموضوع هو الأولاد، فلتتخلص منهم، ما هذا؟ إنك هكذا تتجاوز حتى مبرر القتل العادى للشخص العادى.
ثم دعنى فى النهاية أبلغك تعاطف صديق للحوار معك وهو يطلب منى أن أخفف غلوائى عليك وهو الصديق د. كريم شوقى
د. كريم:
أنا مبسوط أوى بكلام د. محمد أحمد الرخاوى ونفسى، أستاذنا يحيى يخفف عنه شوية فى الردود لأن السبب اللى خلاه يسيب مصر لاستراليا هو غالبا السبب اللى حايمشينى من مصر، وأنا باتفق مع الدكتور محمد إن مصر بلد بنت “……………”
وده رأيى بصراحة وأرجو ما حدش يزعل منى
د. يحيى:
… يا كريم! يا كريم ، لن أقبل شرطك هذا ، أنا من حقى أن أزعل ونصف أنت لا تستطيع لا أنت ولامحمد ولا الجن الأزرق أن يحجر على مشاعرى ، وأنا لا أزعل من أجل مصر ، لأنها لن تستفيد من زعلى شيئا، ويمكنك أن ترجع إلى يومية 7-9-2007 “بدال ما يثور يفِنّ“ وكلها من أولها لآخرها تقول “ما هو لازم إنى أزعل“.
أنا لا أختلف يا كريم مع محمد فيما يراه من اغتراب العلم الغربى والمنهج الغربى وفى نفس الوقت رؤيته للتخلف والجمود والوثنيه فيمن يجمدون الاسلام عندنا فى أصنام فكرهم، ولكن دعنا نؤجل هذا الموضوع إلى الأسبوع القادم وأكتفى الآن بالإشارة لك إلى أن ترجع إلى موضوع كتبته سنة 1999 ونشر فى الأهرام وتجده فى الموقع
ثالثاً: هوامش ضرورية
نبدأ بالدكتور زكى سالم بعد شكره عن رأيه الذى يمدح فيه: “طريقة عرضك للحوار بيننا حول التصوف..”
ثم إنه أردف “… ولعلنا نتمكن من استمرار هذا الحوار المثمر”.
د. يحيى:
طيب يا زكى ربنا يخليك، كيف نتمكن من الاستمرار، وأنت لم تفتح ملف أية قضية جديدة بذاتها، أو تكتب تعليقاً على ما بدا أنه الاختلاف بيننا، أو تعلّمنا بعض ما عندكم مما لم يُثَر أصلاً، أو تشارك بعض المحاورين الذين ساهموا فى فتح ملف التصوف عامة؟ أنا فى انتظارك، أنا وكل مريدى شيخنا غالبا، وذلك فى مسألة التصوف وغير التصوف، أنت الذى كنت تعتبر أن شيخنا هو المتصوف الأكبر، دون أن يعترف هو بذلك، وأيضا ضد إصراره على أن التصوف ليس حلا، باعتبار أن الحل الذى لا يصلح لأغلب الناس، أعنى لكل الناس، ليس حلا.
نحن فى انتظارك
أما عن إشارتك لما نشر فى أخبار الأدب هذا الأسبوع (الماضى) فيما يخص الاستاذ والأوراق، فشكرا لتنبيهى، ولكننى اعتدت ألا أصحح مثل ذلك، والكراسات التى أشار إليها د. جابر عصفور ربما هى الكراسات التى كان يدرب بها الأستاذ يده لاستعادة الكتابة، وقد سلمتها كأصل للأستاذ الدكتور جابر عصفور بصفته رئيس لجنة الحفاظ على تراثه، وأستأذنته فى الاحتفاظ بصورةٍ منها (لعمل دراسة محتملة لاحقا)، وقد أذن لى بذلك ونشر هذا بدقة فى صحيفة الحياة اللندنية منذ شهور، ثم إنه قد كلف أ.د. عماد أبو غازى أمامى بعمل “ميكروفيلم” منها لمن شاء أن يطلع عليها لاحقاً، أما أن هذه الأوراق تحوى آراء الأستاذ فى بعض الشخصيات التى عرفها، فهذا ليس له أى أساس، لا أنا قلته، ولا هذا طابع الأستاذ أصلاً، ولا أظن أن هذا ما قاله د. جابر عصفور مقارنة بما نشره سابقا فى الحياة، وعن نفسى أنا لن أرسل تكذبيا، فأنا لم أعتدْ ذلك وهذا الكلام الذى أنشره فى “الموقع الخاص بى”، هو متاح لمن يشاء، أو إن شئت أنت أن ترسل ما تراه منه ضروريا لمن ترى، فلك كل الحرية أن تفعل ما بدالك.
ثم أنتقل إلى الإشارة إلى ما وصلنا عن مقالاتى عن الأستاذ، فأفيدك يا زكى أنه لم يأتنى غير تعليقك الأول. وتعليق الابن “رامى عادل” الذى أتردد كثيراً فى نقل آرائه حرفيا ربما لفيض طلاقته، لكن دعنى أثبت جانبا مما قال، فله دلالته:
رامى عادل:
…. محفوظ رحل عنا من غير أن يستأذننا، وعتابك (وصلنى معلناً) نهاية علاقتكم المتينة، (ولكن) هل عشتما (معا) كل هذا الحزن والأسى، وهل أعمل مشرطه بداخلك كما تفعل أنت معنا ….، وكأنك تخاطب الموتى .. البعث أين هو وأين نحن منه.
د. يحيى:
لعلك يا رامى تقصد بقولك “عتابى لأستاذنا إذ رحل” دون أن يستأذننا تقصد قصيدتى فى رثائه (“لِمَ قُلْتَها شيخى “كفى” الدستور 6/9/2006) أحسب اننى قلت فيها ما يؤيد رؤيتك، أما مسألة أنه أعمل مشرطة فىّ يعالجنى، فهذا صحيح، وتجدها فى مقال أمس “تحت سفح الهرم” الحلقة الثالثة فى شرف صحبة نجيب محفوظ)، القصيدة بأكملها تجدها فى الموقع، وأنا لا أعتقد أننا – الأستاذ وأنا- عشنا الحزن معاً إلا على أحوال البلد، فقد كانت حكمته ترياقا له ولنا، أما قولى فى القصيدة “عفوا ومن ذا يشفى نفسى حين تختلط الرؤى أو يحتوينى ذلك الحزن الصديق فلا أطيق” فهذا صحيح، وهو يدل على أنه أعمل مشرطه بداخلى فعلا بكل مهارة ومسئولية وحذق، لكننى لا أدعى أننا عشنا معاً الأسى الذى تقصده والحمد لله.
ثم إن علاقتنا المتينة لم تنته حتى بعد رحيله يا أخى، وإلا فما هذا الذى تقرأه الآن وأمس، أليست هى هى علاقتنا المتينة؟ قال رحل قال..؟ من قال هذا؟
أما بقية خطاباتك يا رامى، فأعذرنى أننى لا أستطيع نشرها كلها لأسباب أنت لابد تعلمها وهى التى تجعلنى أضع نقطا كثيرة مكان ما أحذفه من رسائلك، وأضيف كلمات بين أقواس كثيرة هى التى أضعها حتى أستطيع أن ألاحق كلامك وأوصله للناس..
وكل عام وكل المتحاورين – والناس- بخير، ما أمكن ذلك.