نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 18 -4-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4613
حركية التطور وجدل الآتى ([1])
الوعى أشمل من العقل والمعرفة أرحب من العلم
إن ما يطلق عليه ‘العقل’ لم يعد هو أكثر ما يميز الإنسان ليفخر به كل هذا الفخر. الأرجح أن ما نسميه العقل هو ليس إلا بعض ما يتجلى ظاهرا مما يسمح به التواصل الممكن بين البشر، أما عمق الوجود فهو يتمثل أكثر فأكثر فيما يسمى الوعى الذى يشمل عقولنا الكثيرة معا، كما يشمل ما هو أكثر. هذا ما حقق بعضه ما يسمى العلم المعرفي، والعلم المعرفى العصبى خاصة، والتحليل النفسى التركيبى (وليس التحليل النفسى الفروييدى)، كل هذه العلوم تشير إلى أن لنا أكثر من عقل، تتضفر معا، جنبا إلى جنب مع مستويات الوجدان والجسد ليتكون منها الوعى البشرى المتخلق باستمرار.
أعلم أن هذا تكثيف مخل، لكنها إشارة شديدة الأهمية للتنبيه إلى ضرورة تجاوز اختزال الإنسان إلى أنه ‘حيوان عاقل’ أو ‘حيوان ناطق’ أو ‘حيوان مفكر’. هذه التعريفات (بما وراءها من موقف تنظيري) هى التى همشت الجسد وسطّحت دور الغرائز خاصة فى مجال المعرفة والتكامل الجدلى فالتطور.
حتى لا تحل الوسيلة محل الغاية
الجهود البشرية المتواصلة العلمية والممارساتية تجرى ـ دون اتفاق مسبق ـ فى اتجاهات مختلفة، اتجاهات ضامة فى النهاية، إلى ما يبدو أنه يمكن أن يعد بإنقاذ نوعنا من الانقراض ما أمكن ذلك. إن مستقبل الإنسان لن يتوقف على كم الإنجازات الرائعة المتلاحقة، ولا على الإسراع بالحركة فى أى اتجاه، وكل اتجاه، ولا على مدى تمتع أفراد البشر بما يسمى الرفاهية (أو السعادة أحيانا !!)، ولا على إطالة عمر الإنسان فى صحة بدنية متميزة، ولا على كم الأدوات ودقتها التى تتاح للشخص العادي، ولا على تهويمات تصور حرية انطلاقنا (فى كل مجال)، ولا على تنمية مهارات افراد أو جماعات لتحقيق إنجازات نادرة غير مسبوقة (فى الرياضة أو فى أى مهارة كانت)..إلخ. كل هذا غير مرفوض، شريطة أن يكون وسيلة لما يليق بالإنسان، فلا يعيقنا بالتوقف عنده، ولا ينحرف بنا وهو يتعملق فيختزل ما هو أشمل منه.
إننا لن نتطور بدون كل هذا وأيضا إننا لن نتطور بهذا فحسب!!
حركية التطور وجدل الآتى
إنما يتوقف مستقبل الإنسان على مدى استيعاب وعيه لحركية التطور وقوانينه، ثم نجاحه فى كف إعاقتها بانحرافات إنجازاته الجزئية (الاختزالية مثل العقل ـ العلم ـ التكنولوجيا..إلخ)، ثم على مدى قدرته على الإسهام فى دفعها (دفع قوانين التطور) إلى ما هي، وما تعد به.
لا يمكن بداهة أن أقدم أية توصيات مفصلة كافية أو مفيدة فى هذا الصدد، كل ما أستطيع حالا هو تقديم خطوط عريضة يمكن أن تكون ملاحظات لبدايات محتملة، فى اتجاه المحافظة على حركية جدل التطور ثم ليكن ما يكون، ومن ذلك:
1- رفض التسليم لمقدسات شائعة، وألا يقتصر الرفض على مسلمات جامدة تمثلها سلطات ميتة فعلا. لا مفر من أن يمتد الرفض إلى أية مسلمات تقدمها لنا السلطة ـ أية سلطة ـ على أنها مسلمات منتهية، مهما بلغ حسن سمعتها، أو بداهة مشروعيتها، وأيضا مهما افتقدنا بديلا جاهزا لها (أهم مسلمات معروضة الآن مما يحتاج بحثا مبدعا فى اتجاه نقدها فرفضها فتطويرها أو تحديثها أو إبدالها: ما يسمى الديمقراطية وحقوق الإنسان المكتوبة). يشمل ذلك أيضا كثيرا من المسلمات التى تهبط علينا من أنفسنا، ومن افراد حولنا حين نكسل أو نتراجع.
2- تجاوز التقسيمات المرحلية (الاستقطابية عادة) حتى لو كانت قد أدت دورها بنجاح حتى الآن، إذْ يبدو أنها لم تعد قادرة على استيعاب النقلة التطورية الحالية التى تهددنا فعلا بالانقراض إذا نحن لم نستوعبها، والتى ـ فى نفس الوقت ـ تعد بالطفرة إذا نحن تحملنا مسئوليتها. من أشهر ذلك تلك التقسيمات إلى عقل فى مقابل عاطفة، ودين فى مقابل علم، وفن فى مقابل منطق، وجسد فى مقابل روح، كل هذه التقسيمات أصبحت غير مفيدة، وغير حقيقية، بل ومختزلة، ثم معيقة، برغم دورها الرائع حين كانت لازمة لمرحلة ظهورها.
3- مع تجاوز ذلك الاستقطاب إلى جسد وروح، يعود الجسد إلى موقعه المحورى فى التطور، بدءا بدوره المعرفى (الذى استعاد بعضه من خلال العلم المعرفى الحديث)، فيتخلص من كونه مجرد أداة لغيره، أو مجالا لما هو فوقه، أو منفصلا عما يقوم به. الجسد هو وعى حركى مشتمل يتخلق مع، وبما، يقوم به من جنس وحركة ومعرفة وإبداع.
4- إعادة النظر فيما تصورنا أنه نهاية قوانين البقاء، نعيد النظر بشجاعة المهدد بالانقراض فننظر ـ مثلا ـ فى الزعم بأن ‘البقاء للأقوي’ بالمعنى الذى يؤكد على أهمية الأنانية الفردية الدالة على التفوق الظاهر، فنكتشف أنها ليست هى وحدها التى تحافظ على الفرد فالنوع، إن الإيثار هو أيضا غريزة تؤكد أن البقاء للأحرص على صغار (وكبار) نوعه، ولو على حسابه مرحليا. إن الأبحاث الجارية فى هذه المنطقة تعلن بكل وضوح أن ثمة ما يسمى ‘الإيثار البيولوجي’، وإن ثمة ما يسمى ‘تطور التعاون’ (بيولوجيا) وأيضا أن ثمة علاقة وثيقة بين الاخلاق والتطور بالمعنى البقائى والمؤكد لهارمونية الجمال وليس فقط لاستمرارية الوجود المادي. إن مواجهة الإشكالة الداروينية بمزيد من البحث فيها وفى بدائلها جدير بأن يقدم لنا مجالات أرحب للنظر والمراجعة، لعلنا نفيق ونحن نتعرف من جديد على معنى كيف يكون القاتل والمقتول فى النار، للمسلم وغير المسلم.
5- أن يصبح إسهام الوعى فى حركية كل الوظائف (والغرائز) جزءا لا يتجزأ من سلامة تلك الوظيفة أو هذه الغريزة. لا أقصد بحركية الوعى أن نكون واعين (عندنا علم شعورى بـ !) بما يجرى بل إن مثل هذه العقلنة الشعورية يمكن أن تكون وصية على حركية الوظيفة أو الغريزة حتى تشوهها أو تعوقها، وإنما أعنى بالوعى تلك الإحاطة الكلية الغامضة الفعالة بما هو حالة الوجود المشتمل، بما فى ذلك الإسهام الفعلى فى حركية النشاط المعين فى أى اتجاه، والإسهام الإدراكى لكلية التعامل مع المحيط (يستحيل التفصيل هنا بداهة).
6- مع إسهام حضور الوعى بالمعنى السابق فى كل وظيفة (وغريزة) على حدة، ثم فيها مجتمعة، تتضفر الوظائف مع بعضها البعض من عمق معين. إن ذلك إنما يسهم فى تجاوز الاستقطاب الذى أشرنا إليه فى بند ‘2’ حالا. من ذلك كيف يتضفر الجسد مع ما يسمى العقل فى مجال المعرفة، وهذا بعض إنجازات العلم المعرفى الأحدث كما ذكرنا، و أيضا كيف يتضفر التفكير مع برمجة الوجدان، وهذا بعض إنجازات العلم المعرفى العصبي، ومن ذلك أيضا كيف يتضفر الجسد مع الجنس مع العدوان الإيجابى مع المعرفة مع الإيمان وهو بعض ما أظهرته متابعة تطور ”الوظيفة الجنسية من التناسل إلى التواصل”، وأيضا هو بعض ما كشفت عنه “الأسس البيولوجية للإيمان”، وهكذا.
7- ما دام الإنسان يتميز أكثر ما يتميز باكتساب الوعى الفائق المتعدد المستويات فى آن، وأن ذلك لا يكون إنسانيا بحق إلا إذا واكب وتجادل مع وعى إنسان آخر، فى طريقهما معا إلى الوعى بدوائر المحيط حتى الكون الأوسع بلا نهاية، فإن الأمل ينمو ويتجدد مع التطور فى هذا الاتجاه بديلا عن استعمال الآخر لتثبيت حوصلة الذات وتفوقها، وأيضا ربما يكون حضور الوعى الكونى مشتملا وعى الأفراد هو السبيل الأرقى لمرحلة تطور الإنسان المأمولة.
(لم اقدم فى هذه الخطوط العريضة أية إشارة عن علاقة الإنسان مع الطبيعة حتى لا يقتصر مفهوم الطبيعة على المحيط المادى المحدد، أو للإشارة إلى ما يسمى تجنب تلوث الطبيعة..إلخ. إن هذا البعد شديد الأهمية حين تشمل الطبيعة الإنسان “الآخر” امتدادا إلى الوعى الكوني، مرورا بتجلياتهما معا فى كل آن وموقع، وهذا حديث آخر).
وفى ذلك فليتنافس المتنافسون
أتوقف عند هذه المرحلة لإدراكى مدى ما يمكن أن يترتب على التمادى فيها حتى تبدو شطحا حالما أكثر منها وعدا قائما، ثم إننى إذ أقر وأعترف كيف يمكن أن يكون كل هذا الذى تقدم أبعد عن استقبال الشخص العادى (القارئ العادى) إلا أنه أبعد أكثر عن مدى استقبال العالم المتحذلق، ومع ذلك فقد تصورت أنه ـ فى نفس الوقت ـ هو أقرب ما يكون إلى الشخص العادى الذى لم يتشوه وهو الذى كتبت له المقال وأنا على يقين من أنه ينتظره جادا.
إذا كان لنا أن نختبر بعض ما ذهبت إليه هذه الأطروحة فلن يكون ذلك إلا من خلال كل إنجازات العقل والعلم والفن والخبرة الإيمانية الوجودية واحترام دور الجسد والممارسة جميعا، ليس بالإضافة المتجاورة (فن+علم+خبرة+إيمان+جسد.. إلخ)، وإنما بالاستيعاب المشتمل القادر على التجلى المتعدد بلغات مختلفة فى مجالات مختلفة.
إن التنافس الذى أتصور أنه يجرى وسيجرى فى مجال التكامل الواعى (وغير الواعي) نحو تجاوز الحلول الحالية المنهكة (والتى لم تعد رائعة) هو تنافس آخر يحاول استيعاب التاريخ الحيوى الذى هو بداخلنا كله فى انطلاقة التطور التى تعد جهودنا المعرفية والحياتية (وليس فقط العلمية والتقنية) بتحقيقها من خلال وعى مشتمل يتنافس إبداعا فى مجالات أصبحت لا تحتمل الانتظار.
أمران يعتبران بداية طيبة لما أدعو إليه: الأول: ألا نستسلم للمسلمات الحديثة منها والقديمة على حد سواء، حتى لو لم يظهر لها بديل جاهز الآن، والثاني: ألا نكف عن المحاولة عن البحث عن “إبداع” بديل يمكن أن يكون أقدر على استيعاب تاريخنا الواعد بطفرة لاحت معالمها فعلا.
يقينى – أو لعله أملى الذى يبرر استمرارى - يقول:
إنه فى إمكان إنسان اليوم، من خلال التواصل الأحدث والأسرع والمباشر أن يتجاوز سجن المنهج، وجمود السلف، وأوهام السوق، ووصاية السلطة، وغباء الحرب، بمواصلة الإبداع بوعى فائق فى كل المجالات.
ربما.
*****
[1] – أصل عنوان المقالين معا “الصراع ضرورة حياتية والعدوان غريزة بقائية البحث عن الحرب “البديل” مجلة وجهات نظر – أكتوبر 2004