يوميا” الإنسان والتطور
16 – 9 – 2007
حركية “الأسطورة الذاتية” نحو المطلق
(فى سيميائى كويلهو مع إشارة إلى “ابن فطومة”: نجيب محفوظ)
قبل النقد الحالى:
أثناء بحثى فى أوراقى عثرت على هذا العمل النقدى ولم أستطع أن أتذكر ما إذا كان هذا المقال النقدى (المقدمة) قد نشر من قبل أم لا، بحثت فى الموقع، وفى كل الأماكن التى أنشر فيها نقدا: الهلال، ووجهات نظر، أخبار الأدب، فلم أجد أنه نشر .
ترددت قبل أن أنشره فى زاوية “يومياً”، ثم تذكرت أنها ليست إلا “الإنسان التطور”، وقد كانت بداية نشر نشاطى النقدى فيها من أول “وعى آخر، نعيم عطيه” وحتى ليالى ألف ليلة لنجيب محفوظ مروراً بأفيال فتحى غانم ورباعيات جاهين وسرور والخيام…وغيرها
أشفقت على من لم يعرف هذا الجانب من كتابتى، أو الذى لم يعرفنى ابتداء إلا من خلال هذه الزاوية اليومية، لكننى رجحت أن تظل هذه الزاوية صاحبة الفضل فى احتواء نشاطى المتناثر مثلما عملت المجلة الورقية الأم “الإنسان والتطور” طوال ربع قرن.
أحسب أن المقال النقدى الحالى ليس إلا مقدمة لدراسة مقارنة أطول للعملين الأدبين الذيت يتناولهما، لكنى أسارع بنشر المقدمة كما هى، من يدرى ماذا يتم قبل ماذا؟!
****
والآن: إلى كويلهو ومحفوظ
ماهى حكاية “الأسطورة الذاتية” التى تكررت عشرات المرات فى رواية باولو كويلهو “السيميائى” أو “الكيميائى” أو ساحر الصحراْء؟ هل لها علاقة بالأسطورة عامة، وبالدين، وبالتطور، وبالسحر، وبالخرافة، وبالجنون، وبالإيمان، وبالله سبحانه؟ لماذا انتشرت رواية السيميائى التى تتناول ما أسمته “الأسطورة الذاتية” كل هذا الانتشار بكل تلك اللغات؟ لا أظن أن السبب هو تميزها الأدبى الخاص، ولا بساطة الحكى مع ثراء الخيال. أين هى – بمقاييس النقد التقليدية – من مائة عام من العزلة (جارثيا ماركيز) أو العطر (باتريك زوسكوند) أو الحرافيش أو ابن فطومة أو كثير من أحلام النقاهة (محفوظ)؟ رجحتُ أن سبب انتشارها قد يرجع إلى أنها ظهرت فى وقت مناسب (من تطور الإنسان المعاصر، فى الغرب خاصة) لتعلن الاعتراف بمساحة أساسية من الوجود البشرى، كاد العلم المؤساتى ينكرها وهو يصنفها خرافة لا معنى لها، كما راحت المنظومات المنطقية من أعلى تعتبرها ردة دينية بدائية (خصوصية) لا لزوم لها.
الأسطورة تاريخا هى جزء جوهرى من تاريخ تطور الوعى البشرى، وقد قامت بدور رائع فى تشكيل هذا الوعى حتى وصل إلى ما هو عليه، ثم كادت تنال جزاء سنمار بإلغائها أو إنكارها أو تشويهها. لن أعرج إلى تجلياتها طوليا. فلن أناقش – بشكل مباشر– علاقتها التاريخية بما نحن فيه الآن عامة، وما آل إليه الدين خاصة. سوف أكتفى بوضع فرض يمكن من خلاله أن نقرأ كويلهو من موقعه الشخصى، ومن خلال السيميائى معا، مع الإشارة إلى رحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ.
يحمل الإنسان تاريخه البيولوجى والمعرفى (أو إن شئت الدقة: البيولوجى/المعرفى”) بشكل يستحيل إنكاره، ناهيك عن التنكر له، وهو لا يكون جديرا بهذا التاريخ إلا إذا تحمل مسؤوليته ليواصل انطلاقه. وصل الإنسان بعد رحلة طويلة من المعاناة، والقهر، والانتصار، والهزيمة، والفخر، والتحايل، والاستغلال، إلى موقع يسمح لوعيه أن يحيط بعدد من المتناقضات دون تناقض، وذلك فى عملية جدل متصل، لا يعى منها إلا بعض جوانبها بعض الوقت. من ذلك مثلا: إن إنسان اليوم هو شديد التفرد وهو يؤكد نفسه فى ذات مستقلة جدا، مستقلة عن العالم وعن الآخر وعن الكون من حيث المبدأ، وكأن كل فرد قد قرر أنه لكى يكون “ذاته” فلابد أن يكون كونا مستقلا كاملا بلا نقصان[1]، لكنه ليس كذلك، ثم إن كل فرد، وهو كذلك، يجد نفسه – فى نفس الوقت – أنه لا يكون إنسانا إلا بانتمائه إلى نوعه فردا، فأفرادا، فجماعات، فثقافات، فى شبكة من العلاقات لا تنقصها درجة من الوعى. إن ما يجمع هذه الوحدات المستقلة فى شبكة متصلة هو التوجه معا توجها ضاما لا يخل بالذاتية ولا يحرمهما من التواصل لنكون بشرا لا آلهة. هذه المواجهة بين تأكيد التفرد إلى أقصاه، وبين حتمية التواصل فالامتداد إلى ما بعد مداه، هى- فى تقديرى- منبع (ومصب) ما يمكن أن يسمى “الأسطورة الذاتية“، على الأقل كما صورها كويلهو فى رحلة “الشاب”.
حين بالغ الإنسان، لحقبة من الزمن، فى ما شاع تحت اسم “تحقيق الذات” أو “تأكيد الذات”، تنامت فرديته على حساب انتمائه إلى “آخر” من نوعه على ناحية، وإلى الكون على إطلاقه من ناحية أخرى، فراح ينظم حياته بظاهر القوانين والمواثيق ليؤكد حقه فيما أسماه حرية(وتوابعها وبدائلها وتزييفاتها) بأن يعيش كائنا اجتماعيا سياسيا فى حدود ما اتفق عليه من نظم معلنة مكتوبة، على أن يمارس بقيته بطريقة سرية: خاصة فى الحلم أو الخرافة. ثم تمادى العالم الغربى والشمالى بوجه خاص فى تبرير هذه “التسوية” بتعظيم بعض المناهج والأبجديات حتى التقديس: من أول منطق أرسطو حتى أصنام حقوق الإنسان وديانات الديمقراطية المكتوبة والعلم المؤسساتى والفن المهاراتى والتنمية الكمية، ليكن فهذا جيد بشكل ما، لكن أية تسوية تصبح خدعة خطيرة إذا طال عمرها عن فاعلية دورها، فترسخت وكأنها الحل النهائى (تماما مثلما يحدث على أرض فلسطين أو فى فكر فوكوياما وهو يعلن نهاية التاريخ) .
استشعارا بهذا الخطر: تسارع سعى المبدعين من البشر، كل فى مجاله، فى محاولة مراجعة المنهج وتطوير الإبداع أملا فى تجاوز خلاق إلى ما يمكن أن يحافظ على تنامى المسيرة البشرية، بدءا من اختراقات المنهج فى مجال العلم فى توجه نحو علم حقيقى أعمق وأشمل وأكثر انفتاحا، إلى تنشيط دور الشعر فى إحياء حركية اللغة وتخليق الوعى إلى غير ذلك، وكان من البديهى وجود ضحايا ومضاعفات. تظهر بعض هذه المضاعفات على المستوى الفردى فيما يسمى الجنون، وعلى المستوى الجماعاتى والجماعى فى تنويعات حروب الإبادة ومفرقعات الإرهاب.
قرأت كويلهو وروايتيه: الكيميائى، وفيرونيكا تقرر أن تموت، من هذا المنطلق. كويلهو شخصيا عاش الرعب من هذا التنميط والميكنة والإملاء، فرفضها جميعا حتى جُـنَ مكررا ودخل (أو أدخل) مستشفى الأمراض العقلية ثلاث مرات، ثم إنه انضم إلى الهيبيز، فالسحرة، وخرج من كل هذا مبدعا بسيطا جميلا متواضعا، وحين أراد أن يسجل بعض ذلك فى سيرته الذاتية لم يكملها ولم ينشرها (وحسنا فعل)، لكنه أثبتها أروع وأعمق وأبسط فى الكيميائى، وبدرجة أقل فى: “فيرونيكا”، التى بدت لى أكثر سطحية لا أكثر بساطة. غنى عن البيان أن الكاتب المبدع بحق ليس هو ما يكتب، لكنه ليس إلا ما يكتب، كما أن ما يكتبه ليس إلا هو (نؤجل هذه القضية مؤقتا).
“قال الشيخ: أنا ملك سالم.
فسأله الشاب (سانتياجو): لماذا يتحدث ملك إلى راع
كان منزعجا وفى أقصى درجات الحيرة
– هناك عدة أسباب لذلك، لكن فلنقل أهمها، وهو أنك تمكنت من أن تحقق “أسطورتك الذاتية”
ولم يكن الشاب يعرف ما هى “الأسطورة الذاتية”.
– هى ما تمنيتَ دائما أن تفعله، كل منا يعرف فى مستهل شبابه ما هى أسطورته الشخصية ففى تلك المرحلة من العمر يكون كل شىء واضحا وكل شئ ممكنا….ولكن مع مرور الوقت تبدأ قوة غامضة فى محاولة إثبات أسطورته الذاتية “….” هى قوى تبدو سيئة، ولكنها فى الواقع تعلمك كيف تحقق أسطورتك الذاتية، فهى التى تشحذ روحك وإرادتك، لأن هناك حقيقة فى هذا العالم، فأيا كنت ومهما كان ما تفعله، فإنك عندما تريد شيئا بإخلاص، تولد هذه الرغبة فى روح العالم، تلك هى رسالتك على الأرض” ثم “… كل الأشياء هى شئ واحد، وعندما ترغب فى شئ، يتآمر العالم كله ليسمح لك بتحقيق رغبتك”.
هذه البديهية التى أعلنها فى السيميائى “ملك سالم” منذ البداية ظلت تلح على الشاب، لم يعد الكاتب يذكر بطله باسم سنتياجوا بعد ذلك، بل ظل يكنيه بأنه “الشاب”، اللهم إلا فى الخاتمة التى نوجزها فيما يلى:
“كان اسمه سنتياجوا، ووصل إلى الكنيسة المهجورة بينما كان الليل على وشك أن يحل..” وبعد إغفاءة راح يسترجع رحلته، ثم راح يحفر تحت شجرة الجميز التى تترعرع فى موضع الهيكل، ثم يستأنف الحفر فيجد الكنز (فى نفس الموقع الأول الذى شهد حكيه لحلمه سبب كل هذا الترحال).
فلماذا كان كل ما كان و كنزه تحت قدميه من البداية؟
وماذا لو أن الساحر العجوز كان قد دله على ذلك؟
سمع الريح تجيبه: ” لا، فلو أنى أخبرتك لما رأيت الأهرام، وهى آية فى الروعة، ألا ترى ذلك؟”.
لكن كويلهوا ينهى الخاتمة، فالرواية، بأن تأتي الشاب الريح الشرقية من أفريقيا (لم تكن تحمل ريح الصحراء، ولا التهديد بغزو مغربى) . كانت تحمل عطرا يعرفه جيدا، وهى قبلة (من فاطمة) تهادت برقة، بمنتهى الرقة، حتى لمست شفتيه، وابتسم، كانت هى المرة الأولى التى تفعلها”.
بدت لى هذه النهاية تراجعا بشكل ما، خيل لى أن كويلهو – هكذا- قد وضع الصحراء، والغزو على الطرف الآخر من الرقة والحب، مع أن الصحراء والحرب والتهديد والموت والمخاطرة كانت من أهم معالم الطريق إلى “روح العالم”.
هل هذه النهاية الرقيقة الوديعة هى ما يفسر بها كويهلو نهاية رحلته شخصيا : ” حيث آب إلى المعتقدات الكاثوليكية التى آمن بها والداه” (بعد تجربة روحانية عميقة وحادة)؟ مما قد يفسر أيضا نشاط كويهلو شخصيا مؤخرا فى تمويل رعايته للأطفال اللقطاء وكبار السن ..إلخ؟
نجيب محفوظ أنهى رحلة قنديل محمد العنابى (ابن فطومة) بعنوان يقول “البداية” (وليس النهاية) مقارنة بعنوان كويلهو “خاتمة”. محفوظ، نبه فى هذه “البداية” : كيف أن قنديل يزمع أن يواصل رحلته إلى الجبل الآخر
“… ووقفنا أسفله ننظر إلى أعلاه فوجدناه يعلو على السحب ويتحدى الأشواق”.
تنتهى الرحلة ليتركنا محفوظ وكل واحد فينا يشعر أن عليه أن يواصل رحلته فردا فى الممر الضيق الذى لا يتسع لناقة أو جمل (“… وكلكم آتيه يوم القيامة فردا”)، ثم يخطر خاطر على قنديل: أن يسلم دفتر رحلته “…. إلى صاحب القافلة ليسلمه إلى أمه أو إلى أمين دار الحكمة ففيه من المشاهد ما يستحق أن يعرف، بل فيه لمحات عن دار الجبل نفسها تبدد بعض مايخيم علينا من ظلمات، وتحرك الخيال لتصور ما لم يعرف منها بعد” (ربما مما ليس كمثله شىء). وهل فعل محفوظ طوال حياته مبدعا غير ذلك؟
***
محفوظ بدأ رحلة ابن فطومة بعد الوطن، من دار المشرق (الإسلام)، لينتهى إلى ابتغاء وجه الحق تعالى دون تعيين او اغتراب، مرورا بدور الحيرة، فالحلبة، فالأمان، فالغروب. الخوف هو أن يستسهل القارئ أو الناقد ترجمة كل ذلك اختزالا إلى رموز محددة تشير إلى دول شيوعية أو رأسمالية أو شمولية قبلية فالموت أو غير ذلك. ليس من فخر المبدع أو من مهمته، أن يقدم لنا ما نعرف، برموز لا نعرفها ليؤكد لنا ما نعرف دونها (كما أسىء فهم أولاد حارتنا، خيبهم الله)، محفوظ قدم لنا أسطورة قنديل العنابى الذاتية حالة كونها فى جدل مع كل الأنظمة المتاحة على أرض الواقع الآنى، لينتهى وهو يحفزنا أن يحقق كل منا أسطورته الذاتية بكل ما هو متاح، توجها إلى كل ما هو واعد.
عودة إلى كويلهو لأرفض ابتداء بعض ما جاءنى من تعليقات فرحة عن الكيميائى لمجرد أنه ذكر أهرام الجيزة، أو جعل الفيوم مسرحا، أو لما فهمت أنه ترحيب بنظرته الموضوعية الحانية لبعض سلوكيات المسلمين. هذا الموقف أو ذاك هو موقف طيب لكنه لا يمثل الواقع كما جاء على لسان ابن فطومة “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”، لا يمكن أن تقارن طبطبة كويلهو على الإسلام والمسلمين بما غاص إليه محفوظ فى عمق إشكالة التعامل مع قضية الوجود الممتد، بدءا بما وجدنا أنفسنا فيه مسلمين. كويلهو كان مثل سائح أمين يرانا بكرم واحترام، لكن محفوظ راح يضعنا – مسلمين – فى بؤرة أسئلة الوجود، ربما لهذا انتهى كويلهوا كاثوليكيا طيبا، وما زال محفوظ وهو يقترب من المائة [2]، يكدح إلى ربنا كدحا، وكلاهما يدعونا أن نسعى إلى تحقيق أسطورتنا الذاتية (وليس مجرد تحقيق ذواتنا كما يشاع) كل بطريقته، الأمر الذى يحتاج إلى عودة قد تملأ مجلدا.
محفوظ، فى ابن فطومة، تحمل مسئوولية الحيرة الوجودية التى انتهى إليها الإنسان المعاصر، ولم يحلّها بهذا الحل السحرى الذى يفرح به أهل الغرب أكثر منا، فى حين نتمادى نحن فيما يشبهه حتى الخرافة. لو أن محفوظ كان هو كاتب السيميائى وهو فى موقعه مسلما بيننا هنا والآن، إذن لاختفت كل إيجابيات الرواية تحت عنوان الترويج للخرافة وللإيمان بالجان … إلخ،
كويلهو – وهو ابن قومه – راح يقرص أذن ناسه حتى لا يذهب أى منهم بعيدا عن أسطورته الذاتيه، مهما بدت سحرا أو لاحت غامضة. ربما لهذا انتشرت الرواية عندهم.
أما محفوظ فهو يدعو قومه أن يتحمل كل واحد منهم مسؤولية أسطورته الذاتية وهو يبحث كيف يحافظ عليها جدلا مع مختلف الجارى على أرض الواقع الداخلى والخارجى على حد سواء.
****
بقيت كلمة أخيرة حول مضاعفات فشل تحقيق الأسطورة الذاتية، نوجزها فيما يلى :
ماذا لو قبل الواحد منا هذا التحدى بقبول أسطورته الذاتية، ثم تخلت روح العالم عنه، ولم تتآمر لتحقيقها، وفى نفس الوقت لم يعرف كيف يتعامل مع تلك القوى الغامضة التى تعمل على إنكارها لصالح تجليها؟ (أنظر بداية المقال: المقتطف فى حوار الشاب مع الشيخ ملك سالم)
الجواب عاشه كويلهو شخصيا (ما سبقت الإشارة إليه عن مرضه) كما صوره فى روايته “فيرونيكا تقرر أن تموت”. الجواب هو: إن إجهاض هذه المحاولة قد يترتب عليه ليس فقط العدول عنها، وإنما التفسخ أمام زخم حركيتها المتناثرة، أو الانسحاب بعيدا عن المواجهة، فهو الجنون.
لا أعرج إلى جنون كويلهو فأنا لا أعرف عنه شيئا، وهو لا يعيبه أصلا. أكتفى بالوقوف عند جنون فيرونيكا، حيث قدم كويلهو رؤيته للجنون باعتباره تعبيرا رائعا عن رفض النمطية والتكرار واللامعنى (مثل بداية الشاب سنتياجو أيضا)، و فى حين انهزمت فرونيكا، ولو مرحليا‘ فإن سنتياجو الشاب فى السيميائى عملها وانتصر، كما أن فيرونيكا نفسها انتصرت فى النهاية حتى على مرضها الجسدى تماما مثلما انتصر كويلهو شخصيا فى حياته الخاصة.
المفهوم الذى قدمه كويلهو هكذا هو مفهوم جيد للجنون، لكنه ليس كل الجنون، فثم جنون أخطر وأعمق صوره زوسكند فى العطر (مثلا) حين غاص حتى نخاع الدنا DNAمنذ الولادة ,وهو يعلن الانفصال الحاسم عن هارمونية الكون كله، وليس فقط عن البشر فرادى وجماعات، هذا الانفصال عن الكون كله هو الذى يحيل الكيان البشرى نَيْزَكاً غريبا دائرا فى فلكه الخاص بما يمثل الجنون المتأله القاتل، كما صوره زوسكند فى رحلة باتيست جرينوى، فى العطر، ربما كان هذا المستوى من الجنون فى عمق ورعب خطورته هو ما يقابل على أقصى الجانب الإيجابى الآخر ذلك الوجود الرائع الواعد الذى يدعونا محفوظ لمواصلة السعى إليه
فى حين يظل جنون فرونيكا هو الوجه السلبى الذى يقابل رحلة الشاب سنتياجو الناجحة!