الوفد: 7/3/2002
حرافيش الموت.. وفتوات السلطة
هل توجد علاقة بين قطار جحيم الموت الطائر، وهزيمة يونيو، والكارثة الاقتصادية التى نمر بها، والكوارث القادمة التى تنتظر الإعلان (لا قدر الله – لكنّها قادمة) ؟
وهل توجد مفارقة بين هذا الموت فى قطار الفقراء، أو الموت من الجوع، وبين ذلك الموت/الإحياء على الجانب الآخر؟ ذلك الموت الزكى الرائحة التى تمثله وفاء إدريس، ودارين أبو عيشة، وأقرانهما وقريناتهما؟
قبل الإجابة، أو محاولة الإجابة، دعونا نقف برهة حدادا على ضحايانا الأبرياء الفقراء من الحرافيش المصريين المجهولين.
وماذا ينفع الحداد؟ أو التعويض، أو العويل، أو العديد؟ أو الاستقالة؟ أو التحقيق؟ أو التصريحات؟ أو التعازى؟ أو محاكمة المسئولين؟ أو عقاب المقصرين؟ ماذا ينفع كل ذلك إذا كانت الأسباب هى هى، والنظام هو هو، والمسئولون هم هم؟
لعل أبعد الناس عن المسئولية المباشرة- بالمعنى الأعمق- هم الذى استقالوا، أو استجابوا لأوامر إقالتهم. إن نظاما تغيبُ فيه سلطة الدولة، (إلا من جهود رئيسها الذى هو فرد بشر، مهما بلغ إخلاصه، وتعاظمت قدراته)، كما يغيب الخوف من المحاسَبة الشعبية، ومن سلطة القانون، ومن احتمال ترك الكرسى، إن نظاما يغيب فيه كل هذا لا يمكن أن يفرز إلا ما يؤدى إلى مثل هذه الكوارث التى تحدث وكأنها بالصدفة مع أنها نتاج الحتمية البديهية لما يجرى على أرض الواقع.
تبدو الصدفة فى شكل مس كهربائى، أو انفجار بوتاجاز، أو أحداث الأمن المركزى (1986) أو هزيمة الفريق القومى لكرة القدم. لكن الحتمية هى فى القرارات التحتية، والخبطات التفردية، والنظام المتهالك، من أول السماح بمرور سفن إسرائيل سنة 1956 دون الرجوع للشعب، أو حتى إخطاره، حتى التصرف المتخبط فى الأزمة الاقتصادية الراهنة مرورا بنظم التربية والتعليم التى يتم تخطيطها فى المكاتب بعيدا عن نبض الواقع وحقيقة تقييم نتائج الإنجاز. إنه خيط واحد يربط بين التهاون فى السماح بموقد جاز فى قطار متهالك، والتهاون فى حق الناس أن يشاركوا فى قرارات السيادة والكرامة.
كل المصائب التى تبدو طارئة ليست السبب، لكنّها النتيجة لنظام لا يريد أن ينصت، أو يواكب العصر، أو يرسو على بر، ليتمكن هو نفسه من إعادة تقييم، أو تعديل أخطائه.
تجديد أحزان لم تتقادم
إنا لله وإنا إليه راجعون، إنّا للحق سبحانه، وإنا إليه منيبون. الحديث عن الموت، خاصة بعد فترة، ولو أسبوعين أو ثلاثة، يجدد الأحزان. مع أنها مستمرة لا تحتاج تجديدا.
تغيّر ناس مصر، الحزن يزحف على وعينا دون استئذان أو توقف. هذا ليس هو المصرى الجميل إبن النكتة، ولا هو المؤمن الذى أمرُهُ كله خير، إن أصابه شر فصبر فهو خير، وإن أصابه خير فشكر فهو خير. صبر المؤمن ليس استسلاما، وشكر المؤمن ليس كلاما. المصرى كان يضحك حتى على مصائبه، وضحكاته تتراوح بين التفكّه العابر، والتنبيه القارص، والسخرية التى تذبح.
إن ما نعيشه منذ أكثر من عامين، ربما منذ خمسين عاما، لم يعد يسمح لضحكة صافية أن تخرج من القلب. إسأل أى مصرى طيب : متى ضحكتَ آخر مرّة من قلبك؟ فإن كان واعيا صاحيا، فسوف يسترجعك ليتأكد من سؤالك قائلا: مِنْ قلبـِى؟ فإن أصررتَ، فسوف يجيب بالنفى، أو قد يخجل من الإجابة حتى لا ينكّد عليك فيقول “لا أذكر”، وقد يضيف: مَـن الذى يستطيع أن يضحك من قلبه بعد ما صرنا إليه؟
الضحكة لم تعد تخرج من قلوبنا. أحيانا تسهّينا فتخرج متسحبة ثم تنفلت إلى أعلى من أحلامنا مثل ألعاب العيد النارية، ترسم أشكالا في السماء، تنطفئ بمجرد أن تلوّح لنا بفرحة عابرة، تاركة إيانا والـظلام يحيط بالوعى، وبالمستقبل.
يبدو أن صدور ملحق الدغدغة (الزغزغة) مع أهرام الجمعة الأهرام، “أيامنا الحلوة” كان محاولة لعلاج هذا الغم القومى، لكنه للأسف بدا دغدغة (زغزغة) تُـبكى المهموم لا تضحكه.
اعتاد المصرى أن يقول لصاحبه قبل أن يحكى له النكتة الأحدث : هل سمعتَ آخر نكتة؟ كان المصرى قديما يقهقه قبل أن تُـحكى النكتة، أو هو كان يسارع بالرد بقفشة تقول : إنها “بايخة” أو “قديمة” من باب التحدى، قبل أن يسمعها من الحاكى أصلا. يرد نفس هذا المصرى حاليا”على نفس السؤال” سمعت آخر نكتة؟” أنه:”مش عايز أسمعها”.
لا موت لمن لم يعش أصلا :
هناك نكتة فاترة سخيفة، ليست نموذجا مثاليا للنكت المصرية، يزداد فتورها لأن الواقع أصبح أقسى منها. النكتة تقول باختصار- وليعذرنى من يعرفها، فأنا أعيدها رغم سخفها – لدلالتها. تقول النكتة: إن واحدا راح يحكى لصديق له أنه كان فى الخلاء وخرج عليه أسد، ولم يكن هناك أى مهرب، لا شجرة يصعد إليها، ولا سلاح يدافع به عن نفسه، ولا حس لمخلوق آخر يستغيث به، سدّها الحاكى من كل ناحية، حتى سأله صديقه، وماذا فعلتَ؟ قال الحاكى : وماذا كان يمكن أن أفعل؟ أكلني الأسد طبعا، يدهش الصديق السامع وهو يقول: لكنّك ما زلت حيّا !!! فيرد الحاكى: وهل هذه حياة يا غبى؟
المعنى – رغم سخف النكتة – أن الحياة التى نحياها دون كرامة، ودون أمان، ودون نظام، ليست حياة.
قطار الفقر والجحيم
ثم حدث حادث القطار. لا داعي لتكرار وصف الصور التى رحمنى الله بأنى لم أشاهد بعضها إلا فى الصحف (دون التليفزيون). الحادث يقول باختصار:
إن رهطا من أهلـنا قضوا نحبهم فى قطار متهالك (العدد الرسمى قارب الأربعمائة، والعدد الحقيقى يقال إنه فاق الألفين) . القطار، لا يصلح للاستخدام الآدمى، ولا الحيوانى. يبدو أن الركاب من حرافيش المصريين الفقراء قد أذنبوا حين فكّروا أن يفرحوا مع أهلهم فى العيد.الفرحة لم تعد من حقّهم أصلا، ليس لها معنى أو مبرر، ما داموا سيعودون “كما كـُنـْت” – بعد أيام. فلماذا الفرحة، أو من باب أولى : لماذا الحياة. هكذا تكلم القدر، ولا مانع أن يكون هو المسئول ، ونقفل الملف.
“سبّوبة” القدر
“ونحن نبحث وسط تفحم العربات عن موقد الجاز سبوبة القدر، أو سلك الكهرباء العارى، ولا مؤاخذة، دعونا نتساءل: هل عاش هؤلاء الضحايا أصلا؟ مات الفقراء الذين لم يعيشوا أبدا، ماتوا أثناء عودتهم ليشاركوا جثث ذويهم الأحياء بعض نسائم الود والتعاطف لعلّها تعينهم على جر أجسادهم وهى تزحف على الأرض، بالحد الأدنى من التنفّس، لمدة عشرة أشهر أخرى، حتى يحين العيد الصغير، فيركبون نفس القطار، ويُعَرّضون لنفس المصير، وهكذا. ماتوا فبكتهم القلوب الرحيمة وغير الرحيمة، بما فى ذلك قلوب الجناة، فى الأغلب.
حين تـُنتزع الحياة ممن لم يدخلها أصلا، لا يشعر أحد أن ثم حدثا قد حدث، أما حين يموت النجم أو الملك أو الفرعون، تتوقف الأعياد والجمع. حين ماتت الأميرة الرقيقة العاشقة الناعمة”ديانا” كان الذى لا يحزن عليها من شمال النرويج حتى جزر القمُر يُنعت بأنه لا يتمتع بالرقة الإنسانية أمام الموت الذى اختطف ست الحسن والجمال، وحين مات معها السيد دودى الفايد، نال قدرا أقل من الحسرات والتنهدات والترحم العالمى المتمديِن، لكنه كان قدرا أكبر بكثير مما ناله فادى نصر الله الذى استشهد بعده بقليل. والذى ضرب أبـوه الشيخ حسن نصر الله أروع الأمثلة لمعنى شرف الثكل من أجل الحياة، كما يليق بالمؤمنين بالله، وبقضيتهم.
حين مات عبد الحليم حافظ انتحرت الآنسات هنا وهناك، وحين مات جمال عبد الناصر، الْتاع الآمِلون والحالمون والمُسَرنَمُون (السائرون نياما) من خوف يقظةٍ غير محسوبة، بعد أن طالت استكانتهم لأملٍ غير منظور.
ليس عندى اعتراض على الحزن على عزيز يرمز لنا بالأمل أو بالحلم، أو بالوعد، أو حتى بالغيبوبة الاعتمادية، ولن يفيد الضحايا الذىن تفحّموا فى قطار الموت أن يكون حزننا عليهم مثل حزننا على الزعماء والنجوم والجميلات الفاتنات، ولن يخفف من جوع وآلام ذويهم أن تنكس الأعلام ويعلن الحداد الرسمى، أو أن تقتصر الإذاعة والتليفزيون لبضعة أيام على إذاعة ما هو “مارشات عسكرية، وقرآن”(بايخة يا سعيد يا صالح)، والأكثر سخرية من كل هذا هو هذا المبلغ الذى أعطى لكل أسرة ليعلن ثمن الإنسان عندنا، والذى ألحقت به التحسينات المناسبة بإعلان إعفاء أبناء الضحايا من مصاريف الدراسة (المجانية !!!) طول سنى الدراسة (شكرا !!).
تصنيف الموتى باللون، والثراء، والدين
قبل هذا الحادث، تبيّنتُ أن معنى الموت قد تغيّر وتنوّع حتى عند من يزعمون الانتماء إلى حضارة حقوق الإنسان وما شابهها. العالم المتقدم راح يتفاعل مع الموت حسب الجنس واللون والدين. أغلب الشارع الغربى (دع جانبا حكامه) استسلم لإعلامٍٍ مبرمج جعله يتفرج على إزهاق أرواح ضحايانا من الفلسطينيين بشكل لا يفرقه عن متفرجى مصارعة العبيد للوحوش أمام صفوة الرومان. منذ عام وبعض عام وهم يتفرجون على قتلانا من النساء والأطفال بدم بارد، وأحيانا بلومٍ مجرم حين يعايرنا بعضهم بأننا نترك أولادنا يموتون، حتى نستدر بموتهم عطف العالم.
صحيح أن موجة مراجعة بدأت تتزايد الآن عندهم وهم يتبينون الحق رويدا رويدا، ولكن الخوف ألا يكتمل وعيهم بالحقيقة إلا بعد أن يٌـباد أصحاب الحق والأرض جميعا.
الموت : الحقيقة الوحيدة
لعل الموت هو الحقيقة الوحيدة التى يستحيل إنكارها، أو حتى الجدل حولها. الملحد يمكن أن ينكر وجود الله بغباء رخو واستسهال مريح، لكنّه يعجز عن إنكار الموت. الموت حقيقة أرسخ وأوضح من الحياة، كان يمكن لأى واحد منا ألاّ يولد أصلا، ألا يدخل امتحان الحياة من حيث المبدأ، لكن لا يمكن لأى مخلوق – ما دام قد وُجد- إلا أن يموت.
على الرغم من ذلك، فإن الوعى بالموت ليس واردا بشكل إيجابى عند معظم الناس. حتى الذىن يبالغون فى التهويل والترهيب من عذاب القبر، هم يفعلون ذلك لاعتبارات الآخرة، وهذا له دور الترهيب والتذكرة، لكنه ليس كل ما يقوله الموت من حيث أن الوعى به كحقيقة آنية، هو الذى يجعل هذه الحياة : حياة.
الوعى بالموت لا يعنى الاستسلام له أو الأمل فى التعجيل به، الوعى المسئول بالموت هو الذى يبعث فينا قوة الاستمرار إيجابيا. هو الذى يحافظ على كرامتنا فى هذه الحياة. إن الحياة الذليلة الخادعــة ليست حياة أصلا.
أطل علينا الموت فى دراما قطارالتفحم والجحيم فى صورة فقد هذه المئات إلى الألوف من حرافيش المصريين الفقراء، لم يعش أى منهم أكثر من أمله أن يرتدى جلبابا جديدا يوم العيد، أو أن يعطى أمّه ما يسمح لها أن تشترى كيلو ونصف من اللحم الجملى ليلة العيد، أو أن يدفع المصاريف الإضافية لابنه وابنته حتى يستلموا الكراريس قبل أن يعود هو إلى الغربة، يشقى ويعرق، ويا تُرى، حتى العيد القادم.
هذا الفقد الذى بدا كارثة إنسانية بكل ما تعــنى الكارثة، ليس أهم فقدٍ مررنا به أو نمر به، ولا هو أخطر فقد أو أقساه. إن المتابع لما كتب عن الحادث وبعـده، بما فى ذلك ما حدث من استقالات أو إقالات، لا يمكن أن يطمئِـنَ إلى أن المسئولين قد أدركوا معنى ومغزى ما حدث تماما، لا يبدو أن أحدا منهم قد قارن بين هذا الموت وبين موت الفلسطينيين فُرادى كل يوم، كل ساعة (24 شهيدا قضوا نحبهم أثناء كتابة هذا المقال خلال ثمان وأربعين ساعة) لا أظن أيضا أن أحدا من المسئولين قارن بين شهداء قطار الصعيد، وشهداء فلسطين ، وبين الخمسة عشر ألفا الذين استشهدوا فى قطار البشر الزاحف إلى الخلف سيرا على الأقدام فى يونيو 1967، وطبعا لم يتذكر أحد منهم موت عشرات الآلاف فى حفر قناة السويس، أو فى بناء الهرم الأكبر. (ربما مئات الآلاف!!).
أبعاد المسئولية
كان قدماء المصريين يعيشون الوعى بالموت بشكل جعـلهم يبنون كل هذه المقابر الأهرامية، على حساب حياة الأحياء، الذين بنوها. حتى الخلود بعد الموت كان حتى ذلك الحين من نصيب الخاصة فقط،.
بعد هزيمة يونيو، ورغم الاعتراف بالمسئولية، ورغم ظاهر التمسك بالزعيم المعترِف، قامت مظاهرات الطلبة بعد بضعة أشهر تقول “… لا صدقى ولا الغول ، عبد الناصر المسئول”، كان الهتاف يفيد أن النظام هو الذى ينبغى أن يساءَل دون التركيز على فرد أو أفراد ليسوا سوى ترس فى عجلة أكبر، بعضها فقط هو الظاهر فوق السطح. لا يوجد فرد أو سلاح يمكن أن يهزمَ إهمالُه شعبا بأكمله، أو جيشا بكل فِرقه. إن المسئول هو النظام. ثم كان بيان30 مارس، ثم تقرطس بيان 30 مارس (ثم 30 مايو، ثم30 يونيو، ثم 30 كل الشهور…)
تنبيهات سابقة، بلا جدوى
سوف أورد فيما يلى بعض المقتطفات التي سبق لمواطن عادى أن نشرها إما فى مجلة مجهولة أو فى هذه الصحيفة الغراء الواسعة الصدر (الوفد).
كان ثم موقف مواز -دون تشبيه- عقب أحداث الأمن المركزى سنة 1986، وكان لا بد من التحذير من خطورة تسطيح القضية بتقديم كبش فداء (اللواء الوزير أحمد رشدى)، ثم ننسى، فنستمر كما نحن دون هِـزة جذرية كما ينبغى،….إلخ (لم يمكن نشر المقال فى صحيفة قومية أو معارضة فنشر فى مجلة مجهولة، إبراء للذمة، الإنسان والتطور العدد 26، سنة 1986 ص-169-182 ).
فى يوليو سنة 1997، سمحتْ هذه الصحيفة الغراء (الوفد) بنشر خطاب مفتوح موجه للرئيس مباشرة، بعد أحداث السائحين فى الأقصر، مثلما سمحت بمثل ذلك من قبل سنة 1995 عقب نجاة الرئيس مباشرة، حفظه الله وأطال عمره ما أمكن ذلك، جاء فى هذا الخطاب، لنفس المواطن، كاتب هذه السطور، ما أقتطف منه مما نشر بالحرف الواحد (الوفد ؟ نوفمبر 1997) ما يلى:
“….أشفقتُ على سيادتكم تماما حين بادرتم شخصيا بالذهاب إلى هناك (الأقصر) لاكتشاف “التهريج” الأمنى….، مع أنه يمكن أن يُستنتج بواسطة أى عابر سبيل فى شوارع القاهرة”
وقد انتهى الخطاب بسرد بعض المظاهر التى يمكن أن يستنتـِج منها سيادة الرئىس حقيقة الأداء الإدارى والأمنى دون مشقة الذهاب إلى موقع الحادث، ومن ذلك ما جاء بالنص:
“….الأمر- يا سيادة الرئيس – لا يحتاج منك أن تنتقل إلى الأقصر لتعاين بنفسك – بعد الكارثة- مدى التهاون الأمنى، ولا يحتاج منك – كان الله فى عونك – أن تضيع وقتك تحتضن هذه الطفلة السائحة البريئة وتربت على كتف هذا العجوز الأجنبى الطيـب، لا يحتاج الأمر كل ذلك حتى تعرف -سيادة الرئيس – إن كانت هناك “دولة” تسيّر أمورنا أم أن ثم تهريجا يصم آذاننا ويهدد حياتنا؟ ….” إلى أن وجّهت السؤال مباشرة لسيادته آملا أن يتحقق بنفسه:”هل يوجد فى مصر دولة أم لا”؟
هذا، وقد أشلز هذا الخطاب المفتوح على الرئيس بإرسال من ينوب عنه إلى بعض المواقع القريبة (أقرب من الأقصر بكثير) حيث يمكن أن يتبين منها غياب القانون، وغياب الدولة: مثل مجرد الوقوف بجوار إشارة مرور بعض ساعة، أو الجلوس بجوار مكتب – قطاع خاص – على رصيف خارج الشهر العقارى،…. أو لجنة امتحان فى مدرسة إعدادية حيث استشراء ظاهرة الغش الجماعى إلخ.
ثم إن المقال/الخطاب انتهى بمحاولة تفسير ما حدث فى الأقصر على الوجه التالى:
“… إن التفسير الذى أطرحه لما حدث فى الأقصر، وفى ميدان التحرير، وفى غير ذلك من مظاهر وأماكن، إنما يذهب أبعد من كل أسباب التقصير الأمنى، فهو يمتد إلى الدعوة إلى ضرورة فهم أسباب موت الدولة …..”
وأخيرا نبّه الخطاب إلى فشل الحلول الجزئىة من حيث أن الإصلاح “…. لن يتم بزيادة إجراءات الأمن عشوائيا، ولا بتغيير مسئول، ولا بنقل عشرين لواء إلى مصلحة السجون وإدارة المجارى، ولا بإرهاقكم – سيادة الرئيس – بكل هذا المجهود والترحال، وإنما يتم بإعادة تشكيل الدولة خارجنا، ومن ثم ّ داخلنا، وذلك بالتأكيد على وضوح القيم وعمومية الانتماء، وحتم العدل..إلخ…إلخ”
عود على بدء
نفس الكلام بحروفه يمكن أن ينطبق على موقفنا من هذه كارثة القطار وغير القطار. فما فائدة أن نعيد التنبيه والتحذير والتفسير، ما دامت المسألة كلها مازالت تسير كيفما اتفق، ولا أحد يسمع، ولا أحد يرد؟ من خمس سنوات جاء فى نفس الخطاب أن : …”القضية – يا سيادة الرئيس – ليست قضية حسن الألفى أو عبد الحليم موسى أو زكى بدر أو أحمد رشدى أو حسن أبو باشا أو النبوى إسماعيل”
أليس هذا هو نفس الكلام الذى يتردد الآن عن استقالة د. إبراهيم الدميرى، والمهندس أحمد الشيخ؟
شاركت في حوار عن الكارثة فى برنامج “بعيدا عن الرقابة” (أول مارس الجارى) فقرأ علينا مقدم البرنامج النابه سعيد علام تقرير لجنة النقل فى مجلس الشعب ، وهو تقرير مفصّل سابق للحادث (عام 2001، لعله فى ديسمبر) كدت أذهل وأنا أسمع التقرير وكأنه يقرأ نتيجة التحقيق الجارى بعد الحادث. فما فائدة كل هذه المقالات، والتحذيرات، وكل الناس، حتى مجلس الشعب الذى نتهمه بالنوم والموافقات، سبق أن حذّر وأوصى بما ينبغى بمنتهى الوضوح والتفصيل.
حقيقة المشكلة
القضية هى قضية نظام كامل يسير بالقصور الذاتى، وهو مطمئن إلا أن أحدا لن يحاسبه، اللهم إلا إذا تنبه الرئيس بمفرده -وسط مشاغله فى الداخل والخارج،-إلى خطأ هنا أو تجاوز هناك، بعد مصيبة هنا أو كارثة هناك. فهل ننتظر المصائب والكوارث فى كل موقع، ثم نبدأ فى العدو لتنفيذ التوجيهات، وهل يستطيع فرد واحد مهما بلغ إعجاز قدراته، أن يلم بكل ما يجرى لدرجة حماية الأرواح والأموال، والكرامة، ومتابعة التفاصيل فى كل الاختصاصات، فى كل المواقع؟ ثم بفرض إمكان هذا- لست أدرى كيف- إلى متى يمكن أن يستمر ذلك؟
الوقاية الموضوعية
إن الذى يمنع مثل هذه الحوادث، من أول الكوارث الجسيمة السرطانية الجماعية (هزيمة 67)، حتى ما هو مثل كارثة قطار موت الفقراء المعيِّدين على الجانب الآخر، هو أحد أمور ثلاثة :(1) إما دولة عصرية قوية تطبق القانون على كل الناس دون استثناء، من أول قانون المرور حتى قانون التجنيد، وبالتالى يخاف رجل الصيانة كما يخاف أى وزير من مغبة الإهمال. فيطمئن الناس، ويسلموا، ونكسب الحروب0 والسلام معا (2) وإما حس حضارى، يؤكد وجود القيم الحضارىة داخل كل أو معظم أفراد شعب ما، الحاكم منهم والمحكوم على حد سواء، (3) وإما محاسبة دينية ملاحِقَةْ تتمثل فى استعادة الوعى الشعبى الذى يذكرنا أن الله هو المحاسِب الأول “من أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل” وأن “.. الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره”، و أن “.. الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.
ويا حبذا كل ذلك معا.
إن لمطلوب فورا هو البحث عن وسائل إعادة تأسيس دولة تحمل مسئوليتها، تجاه شعب “غُلب غلابه”، وجاع أغلبه، وجهل طلابه، وتسطح علماؤه. واهتز اقتصاده، لكن أفراد هذا الشعب ما زالوا يحاولون باستمرار. رغم تصريحات المسئولين على الناحية الأخرى.
موت هنا وموت هناك
ثم إذا كانت الأرواح بهذا الرخص، (ثلاثة آلاف جنيه مصرى + مصاريف دراسة مجانية، دون الدروس الخصوصية، وكسوة العيد) فلماذا نبخل بهذه الأرواح على حرب التحرير؟ لعل كل روح تصطحب معه خمسة أو عشرة، من أرواح العدو كما يفعل شباب وأطفال وعرائس فلسطين.
إنهم هناك يختارون موتا آخر، موتا مسئولا يشترون به كرامة من يبقى منا حيّا. إنهم يذهبون باختيارهم مصطحبين معهم من تيسر لهم من هؤلاء القتلة المجرمين، مع اختلاف المصير؟
رحم الله الذين رحلوا، هنا وهناك.
وأحيا سبحانه جثث من تبقى، هنا وهناك.
وبارك فى الأحياء ذوى الكرامة. حتى يختاروا الميتة اللائقة، ما أمكن ذلك.