نشرت فى الدستور
4-9-2005
… حتى لو كانت تمثيلية ؟
اليوم هو يوم الانتخاب، وعلى آخر النهار يكون قد نجح من نجح، وقد خاب من خاب. ولماذا آخر النهار!؟ كان بيرم التونسى “يلقّح” على الملك فؤاد حين سرت همهمة حول توقيت مولد ولى العهد الأمير فاروق، قال بيرم فى ذلك: “العطفة من قبل النظام مفتوحة والوزة من قبل الفرح مدبوحة”، ليكن ولنتصور أن “النسبة من قبل النظام محطوط والبقرة من قبل الفرح مربوطة”. لتكن النتائج كما نعرف جميعا، وليكن اليوم هو يوم الانتخاب الذى هو ليس بالضرورة يوم الامتحان. كانوا زمان يقولون إن الامتحان هو الذى يكرم المرء فيه أو يهان، لكن أيام الانتخابات التى مارسناها نصف قرن كان المواطن فيها يهان أو يهان، فهل آن الأوان أن يكرم اليوم؟
المرء لا يـُـكرم (مبنى للمجهول) إلا إذا أكرم نفسه. حتى لو زوروها “بالشقلوب” فقللوا نسبة نجاح الناجح لإقناع الخواجات بحسن النية، فإن الفرصة متاحة لأى واحد منا أن يواصل الحفاظ على كرامته ما دام قد اكتشف، ولو بعد خمسين سنة، أنه ما زال يتمتع بما يسمى “كرامة بشرية” وأنها هى المسئولة عن كل هذ الحراك الجارى.
عندنا فى العلاج الجمعى النفسى نقوم بشىء أشبه بالتمثيلية تسمى “مينى دراما”. هى “لعبة”: نطلب فيها من المريض (ومن المعالج أيضا) أن يعبر عن شعور لم يخطر على باله ، مثلا : أنا خائف لدرجة أنى…”، نطلب منه أن يفعل ذلك تمثيلا، وأن يكمل النص كما يشاء. قد يعترض المريض ويقول إنه ليس خائفا، وأن الخوف عيب، وكلام من هذا، فنلح عليه ونرجوه أن يحاول وأن يتذكر أننا نلعب، وأن الحكاية تمثيل فى تمثيل، وأن محمود المليجى أو مصطفى فهمى حين يقوم أى منهم بتمثيل دور الشرير لا يكون شريرا، فيقوم المريض (والمعالج حين يأتى عليه الدور) بتمثيل هذا الدور قائلا مثلا ” أنا خايف جدا لدرجة إنى مش قادر أفكر….” أو “أنا خايف جدا لدرجة إنى عايز استخبى ….” . وهكذا. ثم إنه بعد أن ينتهى التمثيل نسأل الجميع عما وصلهم من التمثيلية، وخاصة عن الفرق بين إنكارهم المبدئى وبين النتيجة التى وصلتهم من هذه المينى دراما، فيقر أغلبهم أنهم استشعروا خوفا حقيقيا، أو أنهم قد شعروا بحقهم فى الخوف، أو بخوفهم من إعلان الخوف ..إلخ.
هل يصلح هذا المثل للقياس عليه ونحن نقيم هذه التمثيلة الانتخابية الكبرى ؟ هل يمكن أن يكون الشعب قد استدرج الحكومة حتى تمثل دور السماح والتغيير، فتكون الحكومة قد اطمأنت إلى أنه لا مانع مادامت النتيجة مضمونة جدا جدا؟ فشاركها الشعب تمثيل أنه يمارس حرية ما، وأنه يمكن أن يختار، وأن من حقه أن يكون مواطنا محترما فى بلد يسمح له بالمشاركة فالمسئولية؟ إن صح كل ذلك، فلنا أن نتوقع أنه بانتهاء اللعبة اليوم قد نكتشف نحن والحكومة أن التمثيل لم يكن تمثيلا تماما؟ وأنه قد حرك فى الحكومة ما غاب عنها غباء أو جهلا أو استعباطا، كما يكون قد حرك فى الناس ما نسيوه تحت عنوان “السلامة أولا”. هل يمكن أن تكون فائدة كل هذا الذى جرى، بغض النظر عن نتيجة اليوم، أن الناس قد تذكروا أن لهم حقوقا، وأن لهم كرامة، وأن لهم قدرة على الصحوة مهما طالت مدة النوم حتى كدنا نحسب النوم غيبوبة؟
الإجابة بالإيجاب على كل هذه الأسئلة واردة ومحتملة، إلا أنها ليست مباشرة ولا جاهزة.
نعم قد نكتشف – ولو من خلال ورطة التمثيل – أننا ما زلنا بشرا نستحق أن نعيش كما خلقنا الله . قد نكتشف من خلال التمثيل المزدوج أن كل ما همّش الناس خمسين عاما لم يكن إلا مساخر لها عمرها الافتراضى الذى قارب الانتهاء. كل هذا وارد ويحتاج منا إلى أن تصل لكل منا رسالة واضحة تقول :
حتى لو اكتشف أى منا من خلال تمثيلية عبيثية أنه “حر” (ولا مؤاخذة) ، فإنه لو تنازل عن حريته من جديد، فهو لا يستحقها. أما كيف يكون ذلك، فوالله العظيم ثلاثا أنا لا أعرف على وجه التحديد.
كل ما أعرفه أن ما جرى يثبت أننا مازلنا بشرا من حقنا أن نعيش أحرارا ونحن نشارك فى تقرير مصيرنا، حتى لو لم نشارك هذه المرة إلا تمثيلا ..
على كل منا أن يبدأ من حيث يستطيع حتى يقابل ربه مكرما كما خلقه.
الحلول الفردية لا قيمة لها، لكن البدايات الفردية هى التى تؤدى فى النهاية إلى الطفرة الجماعية.
الستارة لن تسدل اليوم إلا عن الفصل الأول،
والخروج عن النص مسموح للجميع،
بل مطلوب من الجميع.